Telegram Web
حرب غزة.. يوميات ومشاهدات [46]
(وقفات مع آيات)
لا مَفْزع للناس عند حلول المصائب إلا لكتاب ربهم، يستنيرون بنوره، ويهتدون بهداه. وما نزلت بهم نازلة ولا حلَّت بهم مصيبة إلا والـمَخْلص منها في هذا الكتاب المبارك.
قال جل شأنه: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15-16].
وهذه آيات من سورة الأنفال جديرة بالتدبر، ذكر الله فيها ما يجب على أهل الإيمان أن يتأدبوا ويتخلقوا به عند مواجهة عدوهم، فانتظمت أسبابَ النصر وعُدَّة المعركة. فحريٌّ بمن استمسك بها أن ينصره الله ويكسر عدوه، وهي على ما ذكر الإمام النووي في "الأذكار"   -نقلا عن بعض أهل العلم- أجمع شيء في أسباب النصر وأدب القتال.
قال سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال: 45-47].
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا).
هذا أول أسباب النصر: الثبات وعدم الفرار عند اللقاء. وقد ضرب الذي أُنزل عليه القرآن بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الشجاعة والثبات ورباطة الجأش في مواطنَ تنخلع فيها القلوب، وتطيش العقول، كما وقع له في أُحدٍ وحُنينٍ يوم فرَّ عنه كثير من أصحابه (وهم أهل الشجاعة والحرب)؛ لكثرة عدوهم ومفاجأته لهم= فثبت ثبات الجبال الراسيات ينادي على أصحابه يجمعهم ويثبِّتهم، يصدق فيه قول القائل:
على الزَّعازِع والأهوال والباس
لو مادت الأرض يبقى الشامخَ الراسي
ثم ذكر الله ثاني الأسباب فقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فتأملوا كيف لم يأمر سبحانه بالذكر مجردا، بل أمر به مع الكثرة، ثم علق عليه الفلاح. والذكر هنا يشمل الذكر المعروف والدعاء والثناء على الله سبحانه، فكل هذا مطلوب عند المواجهة، وبه يُستمطر النصر والظفَر.
إنه الحصن الحصين، والملاذ الآمن، والاتصال بالقوة التي لا تُغلب، والبراءة من الحول والقوة إلى حول الله تعالى وقوته.
ومن تأمل حال النبيين وذكرَهم ودعاءهم وتكبيرهم واستغاثتهم في قتال عدوهم علم أثر ذلك وشأنه في حصول النصر والكفاية.
وتمضي الآيات في ذكر الأسباب فيقول جل ذكره: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
يأمر الله هنا بطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهي العدة والسلاح الذي من تعرَّى منه لقي العدو حاسرا ذليلا مهينا مخذولا، وينهى في السياق نفسه عن التنارع والاختلاف، ويعلق على حصولهما الفشلَ والضعف وذَهاب القوة.
وتأملوا كيف أمر بطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعقب ذلك بالأمر بالاجتماع والنهي عن التنازع؛ ليُعلم أن الاجتماع المقصود المحمود إنما هو الاجتماع على الحق لا على غيره. [أشار إلى هذا المعنى الشيخُ الطريفي فرج الله عنه في "التفسير والبيان لأحكام القرآن" (3/1418)].
الطاعة والاجتماع قوة وعزة، والمعصية والتنازع والفرقة ذلٌّ وضعف وهوان.
ثم قال سبحانه ذاكرا رابع الأسباب: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
الصبر أعظم ما يحتاجه المقاتل عند لقاء عدوه، "وإذا كان مطلوبا في كل حين، وفي كل حال فهو أشد ما يكون طلبا عند الأزمات والشدائد التي تضيق فيها الصدور، وتَهِن العزائم، وتتزلزل القلوب، ومنها: ساحات القتال ومواجهة الأعداء، فالصبر هنا فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة تحتمها الحرب" [فقه الجهاد (1/668) للشيخ القرضاوي].
قال جل وعلا يحكي عن النبيين وأتباعهم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
ثم خُتمت الآيات بالإشارة إلى آخر الأسباب، وهو الإخلاص وتجنب البطر والرياء.
قال سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
نعم، هذا قتال أهل الإيمان، في سبيل الله وابتغاء وجهه ومرضاته، لا تحركهم الحمية والعصبية، ولا يقاتلون تحت الرايات الجاهلية، ولا يخرجون أشرا ولا بطرا، ولا يبتغون جاها ولا محمدة من أحد، قلوبهم متعلقة بمرضاة ربهم سبحانه، (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) [النساء: 76].
أخرج الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
هذا القتال الذي وعد الله أصحابه بالنصر والتمكين والرفعة في الدنيا والآخرة.
ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، ربنا اجعلنا لك ذكَّارين، لك شكَّارين، لك رهَّابين، لك مِطواعين، لك مخبتين، إليك أوَّاهين منيبين، ربنا تقبل توباتِنا، واغسل حوباتِنا، وأجب دعَواتِنا، وثبِّت حُجَّاتِنا، واهد قلوبنا، واسلل سَخيمة صدورنا.
بسام بن خليل الصفدي
الأربعاء 8 رجب 1446
https://www.tgoop.com/DBasam
من مقروءاتي في الحرب [23]
("المسيحية والسيف" لِلَاس كازاس)
لاس كازاس: راهب ومُطران من أصول برتغالية، ولد في إسبانيا سنة 1474، والده كان مرافقا لكريستوفر كولومبوس في رحلة استكشاف الأمريكتين (الشمالية والجنوبية).
وكان يسكن الأمريكتين في ذاك الوقت عشرات الملايين من الهنود الحمر، عشراتُ الملايين، كأنْ لم يسكن الأرض غيرُهم.
وكانت بداية الاكتشاف سنة 1402، في الوقت الذي كان الإسبان يُعملون السيف في مسلمي الأندلس، وينصبون لهم محاكم التفتيش.
واستمرت حملات الاكتشاف إلى سنة 1541، وتوافد المسيحيون الإسبان وغيرُهم (عساكر ومبشرين) إلى هذه البلاد التي هي أغنى بلاد الله بالذهب، توافد السفاحون سفَّاكو الدماء إلى هذه البلاد النائية الغنية الطيبِ أهلها.
ماذا فعل العساكر والقساوسة مع الهنود الحمر؟
يجيبك لاس كازاس الذي رافق الرحلة من بداياتها، وهو أول راهب يعيَّن في بلاد الهند الغربية التي اجتاحها الإسبان.
مذابح مرعبة تقشعر منها الأبدان. ولو أن الشيطان تمثل بشرا ما تفتَّق ذهنه عن هذا الإجرام الذي مارسه الملوك والقساوسة والعساكر في هذه الشعوب الطيبة المسالمة.
استقبلهم الهنود بالورود فأجرَوا دماءهم أنهارا، ويقدِّر لاس كازاس عدد من قُتل وأُبيد من الهنود الحمر على يد العصابات النصرانية ألفَ مليون، نعم ألف مليون، وأقل ما قيل: مائة وخمسون مليونا.
قرى كاملة تُحرق وتباد وتدمر، "لم يكونوا يقتلون، بل كانوا يتلذذون بالقتل. ولم يكونوا يعذبون ويبطشون، بل كانوا يستمتعون ويطربون لمشهد العذاب والبطش".
لعله لم يحدث في التاريخ أفظعُ من هذا، وليس هذا كلامي، بل كلامهم وشهادتهم.
وهذه أفظع شهادة على وحشية الغرب الظالم الكافر الذي يتبجح ويتطاول علينا بالحقوق والمدنية والديموقراطية والعدالة والحرية.. إلخ هذه المنظومة السافلة المنحطة.
هذه حضارة الرجل الأبيض التي يلهث أراذلُ قومنا خلفها، الحضارة التي قامت على غزو الشعوب وإبادتها وإفنائها واستعمارها، قامت على القتل والظلم والدماء.
أين هذا من حضارتنا التي شيدناها بالعدل والإيمان.
لقد عاش اليهود والنصارى في ممالك الإسلام قرونا متطاولة صينت فيها دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، فلما دالت لهم الدولة انكشفوا عن غدر وخيانة ولؤم وخسة.
لن يحترمنا الغرب إلا إذا كنا لهم أندادا، ولن نكون أندادا إلا بالإيمان والأخذ بأسباب القوة في كل ميدان.
بسام بن خليل الصفدي
الأربعاء 8 رجب 1446
https://www.tgoop.com/DBasam
حرب غزة يوميات ومشاهدات [47]
(الحمد لله)
لقد بات من مكرور الكلام ومُعاده أن الحال التي وصل إليها الناس هنا بلغت مبلغا عظيما لا يَتصور فداحتَه وألمه ومرارته إلا من عاشه وعاينه.
وثمة أنوار تنبعث من قلب هذه الظلمات تُؤنس السائرين في دروب الأشواك، أعظمها وأجلها ما يسري في تلك القلوب الكسيرة الجريحة من الحمد والرضا.
الحمد لله.. لا أحصي كم سمعتها من مكلوم فقد كل شيء، ولم يبق له إلا الله، فحمده وأناب إليه واسترجعه.
الحمد لله.. جرت على لسان الشيخ الكبير الضعيف العاجز وهو يتنقل في مخيمات النزوح لا ملجى له من الله إلا إليه.
الحمد لله.. جرت على لسان الأم الثَّكلى التي فقدت فلذات كبدها فأُفردت وحيدة غريبة في دنيا الظلم والخذلان.
الحمد لله.. جرت على لسان طفل يخرج من براثن الموت وقلب الحمم يبحث عن أهله فإذا الموت تخطفهم لم يُبق منهم أحدا.
الحمد لله.. برهان الإيمان، وميثاق العبودية، وثمن الجنة.
الحمد لله.. مفزع أهل الإيمان، ومنشور ولاية أهل البلاء.
فلان، مات ولدُك. الحمد لله، الله يرحمه.
فلان، هُدم بيتك. الحمد لله، نبنيه إن شاء الله.
فلان، ذهب مالك. الحمد لله، معوضين إن شاء الله.
قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11]. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "هي المصيبات تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلِّم لها ويرضى".
وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ).
ولا أُنكر أن في الناس من يتسخط فما هم بالملائكة ولا المعصومين، لكن الحمد الجاري على الألسنة كثير غالب إن شاء الله.
ولقد سمعتُ من أناس معدودين في عامة الناس ودهمائهم جُملًا من الحمد والرضا واليقين والتوكل والتسليم ما استحقرتُ معه نفسي، ورأيت جماعة من المنسوبين إلى العلم والفضل يضعُفون ويَجْزعون عند أدنى وارد فعلمت أن أمر القلوب إلى الله تعالى، وأنه سبحانه يخفي أسراره في ضَعَفة خلقه وعباده.
فاللهم هب لنا قلوبا شاكرة، وألسنة حامدة، ونفوسا مطمئنة ترضى بقضائك، وتصبر على بلائك، وتقنع بعطائك، وأخلِف لنا في كل غائبة خيرا، اللهم آمين.
بسام بن خليل الصفدي
الخميس 9 رجب 1446
https://www.tgoop.com/DBasam
انتهينا قبل قليل من سماع مناقشة أخي الحبيب الشيخ أبي محمد عماد بن مصباح الداية للدكتوراة في جامعة القرآن الكريم وتأصيل العلوم- السودان، وكانت بعنوان "حاشية القليوبي على شرح متن الغاية والتقريب تحقيقا ودراسة للمسائل التي خالف فيها القليوبي معتمد المذهب من كتاب الجهاد إلى كتاب العتق"، وأجيزت بتقدير (ممتاز) بفضل الله وتوفيقه.
أبارك لأخي وحبيبي أبي محمد حصوله على الدكتوراة، وأسأل الله له دوام التوفيق والسداد، وأن تكون الشهادة معينة له على التحصيل والعلم والإفادة، وأن يجعله في مصافِّ أهل العلم الراسخين الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله.
بشرىٰ ..

نعلن عن فتح باب التسجيل في دورة { صناعة مقدسي } بمستوييها التأصيلي والتخصصي.

وهي دورةٌ يعزز المشترك من خلالها الثوابت المقدسية ، بالإضافة إلىٰ اكتسابه علماً يواجه به شبه اليهود وأباطيلهم.

تبدأ الدورة بتاريخ 18/1/2025م.

رابط التسجيل | https://holyland.academy/

الاستفسار والتواصل عبر البوت | https://www.tgoop.com/Holyland48_bot

#أكاديمية_الأرض_المقدسة
#صناعة_مقدسي
#الدفعة_الثانية
حرب غزة يوميات ومشاهدات [٤٨]
(وصايا للعاملين في القطاع الخيري والإغاثي)
"العمل الخيري جانب أصيل من جوانب الإسلام، بل هو مقصد من مقاصده الأساسية، التي تُوحي بها عقيدتُه، وتَدفع إليها قيَمُه، وتنظِّمها شريعته" [أصول العمل الخيري في الإسلام (ص16) للشيخ القرضاوي].
العمل الخيري والإغاثي باب عظيم من أبواب الأجر، وتعظم الحاجة إليه كلما عظمت حاجات الناس ومصائبهم وآلامهم، كما هو الحال في قطاعنا الحبيب وكثير من بلاد المسلمين.
وهذه جملة من الوصايا والتنبيهات أهمس بها في آذان إخواني الذين انتَدَبوا أو انتُدِبوا لهذا العمل، أكتبها بباعث المحبة والنصح وإرادة الخير، والله من وراء القصد.
1- إخواني الأحبة، أول ما أوصيكم به في عملكم هذا: الإخلاص وإرادة وجه الله والدار الآخرة؛ فإن الإخلاص أصل التوحيد ورأس الأعمال، وعليه تدور رَحى القَبول.
وعملكم هذا على ما فيه من الخير والأجر إلا أنه بابُ فتنة وشهرة وطمع، سقط فيه كثير من الناس. ومن لم يُدم محاسبة نفسه ويُشهدْها هذا المقام العظيم سقط مع الساقطين، وابتلعته أودية الشُّهرة والـمَغنم.
2- وأوصيكم أن تَشهدوا منة الله عليكم في هذه السبيل؛ بأن أقامكم لخدمة الخلق، وإغاثة الملهوف، وكفالة اليتيم، والقيام على الضَّعَفة، والسعي في حاجة الأرامل والمساكين.
واعلموا أن حاجتكم لهؤلاء الضعفة أعظم من حاجتهم إليكم، فهم مادة عملكم لا أجرَ لكم إلا من طريقهم، وإنما أنتم وسطاء بينهم وبين عُمَّال الله من الأغنياء والمحسنين، وهم عيال الله يكفيهم ويغنيهم بكم وبغيركم.
3- الله الله في الرفق واللين، فـ (إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ) [أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها].
حاجات الناس عظيمة، وصاحب الحاجة كما يقولون...، فاحتملوا ما يكون منهم، واصبروا على ما تلقَونه من الأذى، فإنما تبتغون الأجر والثواب من الله.
واعلموا أنه لا يسلك أحد هذه السبيل إلا سَلَقه الناس بألسنتهم. وإرضاءُ الناس غاية لا تُدرَك ولا تُطلَب.
4- المال الذي يصلكم من أهل الخير والإحسان أنتم مؤتمنون عليه، فلا يَحلُّ لكم وضعه في غير موضعه، ولا يحل لكم أن تأخذوا منه أكثر من حاجتكم إن كنتم من أهل الحاجة، ولا يحل لكم أن تُحابوا قراباتِكم وأصحابكم فتعطوهم من غير استحقاق، أو تخصوهم عن الناس.
وإن أطلق صاحبُ المال أيديكم في استعماله وإنفاقه فالتمسوا الأحظَّ للفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات، والأنفع لهم، ولا تبتغوا به سبيلا غير ذلك.
5- لا يتخذنَّ أحدُكم هذا العمل (ولا غيرَه) سلَّما لأطماعه، فيسألَ المحسنين والمنفقين لنفسه، ويهتبلَ أيَّ فرصة للطلب تصريحا أو تلميحا. فالعزيز يسد هذه المنافذ، ويصون نفسه عن تلك المراتع. ومن اعتاد ذلك سقط من عين الله قبل أن يسقط من عيون الناس. ومن ألفت نفسُه الذلَّ هان عليه السؤال.
ومن كانت له حاجة مُلِحَّة فليسأل بالمعروف على قدر حاجته من غير ركون إلى السؤال واستشراف للعطاء، بل يديم السعي ويطرق باب ربه الكريم فيوشك الله أن يكشف ما به.
6- تجنبوا في عملكم كل ما يؤذي الناس ويُحْرجهم ويُذِلهم، نحو التصوير وطول الانتظار ورداءة ما يقدَّم من طعام أو كسوة أو غير ذلك ما أمكنكم.
واعلموا أنه قد يقف على (الطوابير) ويسعى للمساعدات أعزُّ الناس وأعفُّهم، فالبلاء شديد والمحنة عامة، فلا تجمعوا على الناس مرارة الحرمان وسوء المعاملة.
7- قدِّموا الأهمَّ فالأهم، والأحوج فالأحوج. والتمسوا من اشتدت فاقته، وعظمت مصيبته، وسددوا في ذلك وقاربوا؛ فإن الناس ليسوا على درجة واحدة من الفقر والحاجة.
والأمر نفسه يقال في المشاريع الخيرية التي تستهدف عموم الناس.
8- إخواني أصحاب الجمعيات والمؤسسات الخيرية والإغاثية، احرصوا على التنسيق فيما بينكم ما استطعتم؛ فما كل الناس يحسن الوصول إليكم. فابحثوا عن الضَّعَفة الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وأغنوهم وأعفُّوهم وأكرموهم، فإنما نُنصر ونُعزُّ بهم وبأمثالهم.
9- وللجمعيات والمؤسسات كذلك: أوكِلوا أمر المال والمساعدات للأمناء الأتقياء، فإن هذا باب فتنة وقع فيه من وقع، وراقبوهم وحاسبوهم؛ لا تهمة لهم، ولكن قياما بواجب النصيحة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ومِن بعده الخلفاء رضي الله عنهم كانوا يراقبون العمال، وهم من هم.
10- سلوا رحمكم الله عما أشكل عليكم مما يمر بكم من مسائل، ولا تجتهدوا فيما لا علم لكم به، وتتخوَّضوا في أموال الناس بغير حق؛ فإنكم مؤتمنون، والأمانة شديدة. والعلماء بحمد الله متوافرون يسهل سؤالهم والوصول إليهم.
إخواني الأحبة، أنتم على ثغر عظيم مبارك، أسأل الله أن يوفقكم لما فيه الخير، ويعظم لكم الأجر، ويعينكم على حمل هذه الأمانة وأدائها على أكمل الوجوه وأتمها، اللهم آمين.
بسام بن خليل الصفدي
الجمعة 10 رجب
https://www.tgoop.com/DBasam
اثنان أسَرَني نَزْعُهما من القرآن:
عبد الله بَلْقاسم حفظه الله
وعبد العزيز الطريفي فرج الله عنه.
من مقروءاتي في الحرب [24]
("هذه تجرِبتي وهذه شهادتي" لسعيد حَوَّى)
كتابة الناس تجارِبَهم وشهاداتهم شيء مهم جدا، سيما إن تبوَّؤوا مكانة في العلم أو الدعوة أو العمل للإسلام، أو عاشوا مرحلة حرجة من التاريخ، وكلُّ ذلك حاصل لصاحب هذه التجربة والشهادة التي بين يديك.
عاش الشيخ سعيد حوى في الفترة ما بين (1935-1989)، وهي مرحلة مهمة جدا في تاريخ بلاد الشام، وفي تاريخ الحركة الإسلامية فيها على وجه مخصوص.
وانتسب الشيخ لدعوة الإخوان في وقت مبكر، وتدرج فيها حتى وصل إلى مواقع قيادية متقدمة في مدينته حماة وفي عموم بلاد الشام.
وخاض رحمه الله في مسيرته معارك ضارية مع البعثيين، من أهمها ما عُرف بـ (معركة الدستور) سنة 1973 في ظل حكم الطاغية الأسد. وصراع الإسلاميين في الشام على الدستور قديم، لكن هذه المرة ليست كسابقاتها؛ إذْ أراد الأسد محو الإسلام من الدستور بالكلية، وفَرْضَ الكفر والعلمانية على الناس، وتوسيع دائرة نفوذه بحيث تكون البلاد كلها في قبضته.
خاض الناس والعلماء هذه المعركة. ومِن أبرز من صال فيها وجال، وكتب وحذَّر وأنذر: الشيخ سعيد تقبله الله. كتب بيانا وطاف به على علماء الشام واجتمع بهم وجمع التوقيعات عليه، وجَرَت أمور وأحداث تجدها في تضاعيف هذه الشهادة، وعلى إثر ذلك اعتقل الشيخ خمس سنوات (1973-1978).
كتب الشيخ شهادته في آخر عمره قبل وفاته بسنتين، وسطَّر فيها خلاصة حياته العلمية، ورؤيتَه التصحيحية، وتاريخه مع الحركة الإسلامية.
كان رحمه الله مسكونا بالإصلاح، ومهموما بإحياء الشخصية الإسلامية والحركة الإسلامية، لكنه اصطدم بواقع منقسم. وهذا الانقسام أسوأ ما عانى منه الإخوان في سوريا.
وكان يرى الضعف في الجانب الروحي والحركي عند الإخوان، وأنه لا بد من حركة تصحيحية لهذه الأوضاع وغيرها، فتوجه إلى وضع خطة مفصلة لمشروعه في الإصلاح والإحياء، وكل ما كتبه يصب في هذا الاتجاه، فهو واضع منهاج الإخوان في سوريا.
وكان يرى أن العمل الإسلامي ينبغي أن ينطلق على ضوء تفكير إستراتيجي، وقواعد ونظريات متصوَّرة جادة، ويأخذ على الإخوان (العفوية) في عملهم.
ويرى كذلك أهمية العمل السياسي والانتخابي للحركة الإسلامية، وأن ذلك من أسباب نجاحها إن كان على أسس سليمة.
الكتاب كُتب بلغة سهلة -على عادة الشيخ في عامة كتبه- بعيدة عن التعقيد والغموض، وهو كذلك مختصر بعيد عن التطويل والإسهاب، وقد وعد أن يكتب في بعض التفاصيل لكن عاجلته المنية رحمه الله.
نُشر الكتاب عن مكتبة وهبة- القاهرة، ط1- 1407هـ.

بسام بن خليل الصفدي
الأحد 12 رجب 1446
https://www.tgoop.com/DBasam
حرب غزة يوميات ومشاهدات [49]
(إذا كنت في نعمة فَارْعَها)
"في الحرب تعلمنا قيمة النعم.. فشَربة الماء النظيف حُلم، والرغيف الطازج إنجاز، والاستحمام رفاهية، والبيت الصغير -إن لم يُقصَف- أثمن القصور" [رسالة من محب].
كنت من مدة ليست بعيدة أشاهد بعض الوثائقيات والمرئيات عن حال غزة في السنوات الغابرة قبل انتفاضة الــــ 87 وبعدها، وفي أحدها سمعت بائعا يبيع الفاكهة في قلب سوق فراس (أشهر أسواق غزة) ينادي على الجَوَّافة (فاكهة مشهورة عندنا): 7 كيلو جوافة بــ 10 شيكل.
سرح فكري وخاطري فيما نحن فيه اليوم، وفي الغلاء الذي طال كل شيء، وقارنت بين سعر الجوافة قبل خمس وثلاثين سنة وسعرها اليوم. كيلو الجوافة اليوم إن وُجد يصل إلى مائة شيكل (ثلاثين دولارا تقريبا)، فتكون قد زادت عما كانت عليه سبعين ضعفا.
والأسعار قبل الحرب لم تكن بعيدة عما كانت عليه في السنوات الغابرة.
الذي حصل في مَعايش الناس في هذه الحرب شيء مذهل لم يكن يتصوره أحد.
وقد عاش الناس حصارا مريرا في سنوات مضت طال كلَّ شيء، لكنه إذا قورن بهذا الذي هم فيه رأَوه جنة ونعيما.
وتتصارع الآن بين عينيَّ عشرات الأمثلة من حياة الناس ويومياتهم التي تبين هذا وتوضحه، وليس ذلك مقصودا لي.
المعاناة والألم هنا أكبر وأجل من أن تُختزل في سطْر أو سطرين.
والذي أريد أن أَخْلص إليه من هذا: أننا كنا قبل الحرب -مع ما نحن فيه من الحصار- في نعم كثيرة لا نحصيها ولا نلتفت إليها ولا نعرف قدرها.
كنا نذهب إلى مساجدنا ونصلي الجمع والجماعات، وتسترنا بيوتنا وتأوينا بين جنباتها التي لا نَعْدل بها القصور، ونخرج منها متى نشاء ونذهب أين نشاء مُنعَّمين بالأمن والعافية، ويذهب أحدنا إلى السوق فيشتري بمائتي شيكل حاجات بيته من طعام وشراب وخُضَر وفاكهة.
كنا لا نفكر في الكهرباء -مع أنها كانت على الحال الذي ذكرته لكم في مقالة تقدمت-، ولا في الماء -مع شُحِّه-، ولا في الغاز -مع ما يحصل فيه من الانقطاع والغلاء-.
هذا الذي كنا فيه وغيرُه فقدناه كلَّه أو أكثره في أيام يسيرة، وتبدلت الحال، فجاع الناس بعد شِبَع، وخافوا بعد أمن، وتشردوا بعد سَكَن...
ولست أكتب هذا تشكِّيًا ولا تسخطًا عياذا بالله تعالى، إنما أكتبه للاتعاظ والادِّكار.
وأرجو أن يكون هذا الذي نزل بنا تكفيرا لذنوبنا، وإلا فما أعظم تقصيرنا حكومة وجماعات وأفرادا في حق ربنا جل وعلا.
والمصائب إنما تقع ابتلاءً أو عقوبة، فإن كانت الأولى فنسأل الله الصبر والإعانة والتسليم والرضا، وإن كانت الأخرى فنرجو أن تكون جابرة مذكِّرة موقظة لنا مما نحن فيه، وأن تكون عاقبتها إلى خير وفرج وعزة ورفعة.
زوال النعم وسَلْبها عظيم شديد، لا يحتمله أكثر الناس، وقد كان من دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) [أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
فاعتبروا معاشر الإخوة بهذا، واحفظوا نعم الله عليكم وارعَوها واستديموها بالشكر والعبادة والطاعة، وان ابتُليتم بفقدها فاصبروا وتجمَّلوا وأرُوا الله والمؤمنين من أنفسكم خيرا.
وما أحدٌ من خلق الله بمنأى عن هذا الذي أصابنا، وإن كنا لا نرجو لأهلنا وإخواننا المسلمين إلا الخير والعافية، والمرء يعتبر ويتعظ بما يجري للناس حوله.
ومن الدروس العظيمة التي حَفَرتها الحرب في أخاديد النفس: أن أعظم الناس صبرا وتجملا عند الشدائد أبعدهم عن التنعُّم والترفُّه والتأنُّق. ومن لم يعود نفسه وأهله الخشونة والجدَّ لم يقدر على معاناة الأمور واحتمالها.
اللهم انشر علينا رحمتك، وأنزل علينا سكينتك، إلهَنا وخالقنا ورازقنا وناصرنا وسيدنا ومولانا وغاية رغبتنا، نسألك قوة منك لا تبقي فينا ضعفا، وغنًى منك لا يبقي فينا إلى أحد من خلقك فقرا، وعزة منك لا تبقي فينا ذلا، ورحمة منك لا تبقي علينا سخطا، اللهم آمين.
بسام بن خليل الصفدي
الأحد 12 رجب 1446
https://www.tgoop.com/DBasam
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 👇
من مقروءاتي في الحرب [25]
("الرحيق المختوم" للمباركفوري)
لست أذكر أول مرة قرأت فيها كتاب "الرحيق المختوم" لصفي الرحمن المباركفوري، لكني لا أنسى تلك السكينة التي سرت في أَضْلُعي وصَحِبتني من أول الكتاب إلى آخره.
كنت صغيرا يومها، فأحببت الكتاب وتعلقت به، وصرت أعاود قراءته والنظر فيه لـِمَا أجد في نفسي من الراحة والانشراح، وبقي قريبا من يدي وقلبي، فقرأته على جماعة المسجد، ودرَّسته في بعض المعاهد الشرعية عندنا، ولما خرجنا من البيت في الحرب كان ثالث كتاب أحمله بعد "المختصر في التفسير"، و"رياض الصالحين".
"الرحيق المختوم" كتاب مبارك، لا أعلم في زماننا كتابا في السيرة ذاع وانتشر وشرَّق وغرَّب مثله، ولا أعلم كتابا في السيرة انتفع به الناس انتفاعهم به.
ومن توفيق الله لصاحبه اختياره لهذا الاسم (الرحيق المختوم)، والأسماء رزق وتوفيق.
وعلى كثرة ما صنَّف الناس بعده من الكتب، وتأنقوا فيها ووسَّعوا البحث والكلام= فإنه يبقى لهذا الكتاب أَلَقُه وَوَهَجه وسِحره، فما زال يُقرأ ويُدرَس ويُدرَّس في البيوت والمساجد والمعاهد والكليات.
ومما يمتاز به الكتاب: حسنُ سرده وترتيبه وتقسيمه وربطه بين أحداث ووقائع ومراحل السيرة النبوية الشريفة على صاحبها أزكى الصلاة والسلام.
وهو وإن كان الغالب عليه السرد لكنَّك واجدٌ فيه تحقيقاتٍ تاريخيةً مهمة، وتعليقات على الوقائع نافعة، وحِكَما وفوائد قد لا تجدها في غيره. وليس ذلك بالغًا حدَّ الكثرة لكنه مبثوث في تضاعيف الكتاب لا تُخطئه عين القارئ.
وأما تحقيق المرويات فإنه في الجملة لا يخرج عن طريقة أهل الحديث في التوسع في ذلك والتساهل بما لا يتضمن نكارة أو حكما جديدا تستقل به رواية من الروايات، وهذه جادَّة أهل الحديث في السِّير والمغازي والفتن والملاحم والتفسير والترغيب والترهيب، ومن تأمل تصانيفهم في هذه الأبواب والمطالب علم هذا.
وعليه: فإن ما جرى عليه بعض المعاصرين من الفَرْز والتصحيح والتضعيف والتشديد في ذلك لا يجري على طريقة السلف وأهل الحديث.
والكتاب لا يُعتمد عليه في الضبط، فإنه وقعت له أوهام وأخطاء ليست قليلة، فيُتنبَّه لهذا.
وأما طبعاته فقد طُبع طبعات كثيرة جدا، المسروق منها أكثر من المشروع، وطبعاته الأخيرة فيها زيادات وتصويبات على ما في الطبعة القديمة، والطبعة التي بين يديَّ طبعة دار الوفاء- المنصورة، 1425.
بسام بن خليل الصفدي
الاثنين 13 رجب 1446
https://www.tgoop.com/DBasam
2025/02/03 06:48:50
Back to Top
HTML Embed Code: