Telegram Web
تشغل الرأي العام الفرنسي حاليًا قضيتان.
الأولى هي محاكمة رجل يدعى دومينيك بيليكو (67 سنة)، بدأت قضيته عام 2020 عندما قُبض عليه وهو يلتقط صورًا من تحت التنانير في أحد مراكز التسوق. أثناء تفتيش منزله والبحث في حاسوبه الشخصي عن صور أخرى متعلقة بهذه الهواية، اكتشفت الشرطة هواية أكثر انحرافًا: عشرات الفيديوهات التي تظهر زوجته وهي فاقدة للوعي أثناء مضاجعة رجال لها بحضور زوجها.
خلال عشر سنوات، كانت الزوجة تتعرض للاغتصاب دون أن تكون على علم أو تشعر بما يحدث، باستثناء بعض الصداع والتعب اللذين عجز الأطباء عن تفسيرهما. كان الزوج شديد الحرص على أدق التفاصيل، ويجيد التلاعب النفسي بها حتى لا تشعر بشيء. كان يتعرف على "الضيف" المناسب عبر الإنترنت، ثم يدعوه إلى البيت وفق بروتوكول محدد: يجب أن يركن سيارته بعيدًا عن المنزل، وألا يستخدم أي عطر، وأن ينسحب فورًا عند ظهور أدنى حركة من الزوجة. تمكنت الشرطة من الوصول إلى 51 متهمًا من أصل 90.

القضية الثانية تتعلق بتقديم بعض النساء شهادات عن تعرضهن للاعتداء الجنسي من قبل كاهن محبوب لدى الفرنسيين، سواء كانوا مسيحيين أو غير مسيحيين، ويدعى "آبي بيار"، الذي توفي عام 2007. وقد اعترف بابا الفاتيكان بأن الكنيسة كانت على علم بذلك منذ عام 1959 على الأقل، ووصف الأب بيار بأنه "خاطئ فظيع".

الغرض من ذكر هاتين القضيتين ليس إسعاد من يفرحون بكل ما يثبت الانحطاط الفرنسي أو الغربي، بل للوقوف عند نظرة المعاصرين إلى "الإنسان". هؤلاء يتصورون أن من يقدم على مثل هذه الأفعال هو بالضرورة "وحش" غير آدمي، وكأن ما فعله الزوج أو الكاهن فعل غير إنساني بطبيعته. هذا الأمر يعبر عن رغبة دائمة لدى المعاصرين في تبرئة الإنسانية من الشر (الإنسانوية) وغلق أي نقاش حول ذلك بوصف كل من يحيد بالوحش (لا تقلقوا، هذا وحش وليس إنسان)، في حين أن ما قاموا به فعل إنساني بحت ولا يتعارض مع الجوانب الخيرة لديهم.
هذه التناقضات تسبب ارتباكًا ذهنيًا لدى أبناء عصرهم الذين لا يستوعبون اجتماع ما يبدو لهم تناقضات أخلاقية في شخص واحد. بالنسبة لهم، الإنسان إما أن يكون شبه ملاك مع أخطاء بسيطة (حسب قاعدة "أنت حر ما لم تضر")، أو ملاكًا طاهرًا إذا كان ضحية، وما لم يكن أحدا منهما فهو "وحش" لا بد أن يقصى من الإنسانية. في حين أن السياق التقليدي وغير الحداثي يرى أن الشر أصيل في الإنسان مثله مثل الخير وربما أكثر منه، لأجل هذا يلح على وضع الحدود والقيود التي ينظر إليها أبناء عصرهم على أنها "المؤامرة" ومصدر الشر في الإنسان، فإذا حررنا الإنسان من هذه القيود فإنه سيبدع وسيحسن الاختيار حتما، فيتحول المجتمع إلى مجتمع مثالي، الأفراد فيه عقلاء وأحرار وتساوون كما هو في أذهانهم، ثم يصابون بالدهشة عندما يكتشفون أنهم قد حرروا الوحوش - والحماقة - أكثر من الملائكة، فتجدهم بعد ذلك يحاولون اكتشاف العجلة من جديد بأصعب الطرق.

ذلك الزوج كان شخصًا عاديًا جدًا، وزوجًا وأبًا مهتمًا بأسرته (في أغلب الوقت على الأقل)، بحيث لم يشك فيه حتى أقرب الناس إليه. ضيوفه أغلبهم أناس عاديون مثل الذين قد تصادفهم كل يوم، مهندسون، وصيادلة، وآباء. أما الأب بيار، فقد كرس حياته للأعمال الخيرية ومساعدة المشردين واللاجئين، وكأنه النسخة الفرنسية من الأم تيريزا (التي ظهرت لها أيضًا جوانب أخرى بعد موتها). ورمز الشر بالنسبة للمعاصرين كان فنانا مرهف الإحساس، محبا للموسيقى، ومعروفا بعطفه على الحيوانات، فهل كل هؤلاء هم وحوش أم هم بكل بساطة: بشر؟
هل سمعت من قبل عن مقاتل يحارب من أجل الدفاع عن درعه؟
منذ سنوات وروسيا تضغط على مالك تطبيق تلغرام، "بافل دوروف"، ليرفع السرية عن بيانات المستخدمين في تطبيقاته، لكن كل ما حققته لا يقارن بسرعة وفعالية الغرب (فرنسا) في إخضاع دوروف لضغوطه. وذلك على الرغم من أن روسيا تقدم دائمًا كبلد لا يكترث بالحريات ويستخدم طرقًا عنيفة ضد مواطنيه مثل التصفية الجسدية، مقابل الغرب، أرض الحريات واحترام الخصوصية.

ما يميز الدول الغربية والمتقدمة عمومًا عن غيرها ليس اتساع مجال الحريات لديها، بل قدرتها على تحقيق نفس أهداف غيرها (القمع) بشكل أكثر فعالية من خلال استخدام أقل قدر من العنف. فالدول لا تستخدم العنف كهواية سادية، بل كوسيلة لتحقيق أهدافها، وكلما احتاجت الدولة لاستخدام المزيد من العنف ولتشديد العقوبات، كان ذلك مؤشرًا على فقدانها السيطرة على مواطنيها. لذلك، فإن الدول المتقدمة لا تحتاج إلى العنف إلا في مجالات ضيقة، لأنها تسيطر بشكل كامل على حياة الأفراد من خلال التكنولوجيا، والتمدن على حساب الريف، والتحكم في الوسائل التعليمية والإعلامية والثقافية، والهندسة الاجتماعية. والأهم من ذلك كله هو دولة الرفاه الاقتصادي التي تجعل حياة الأفراد أكثر سهولة مقابل تقليص استقلاليتهم تجاه من يسيطر عليها. نجد هذا حتى في العلاقات الدولية، حيث تستخدم المعونات كأدوات هيمنة وابتزاز. المثال الأوضح على هذا هو الصين، التي تحولت خلال عقود قليلة من دولة تفرط في استخدام العنف إلى دولة رفاه تملك تكنولوجيا عالية تمكنها من التحكم في كل جوانب حياة المواطنين. يكفي أن تخصم بعض النقاط من الأفراد الذين لا يتصرفون وفقًا لما تريده حتى تردعهم، فمجرد حرمان أحدهم من ركوب القطارات، على سبيل المثال، كافٍ لتحويل حياته المدنية إلى جحيم دون الحاجة إلى دهسه بالدبابة كما كان يحدث في الماضي.

هذا لا يمنع وجود متمردين على المنظومة، لكنهم في الغالب مجرد ذئاب وحيدة ومنعزلة يمكن التحكم في مدى تأثيرها على الكتلة الرئيسية التي تُعطى من خلال الانتخابات وتعدد وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وحرية الاستهلاك والمتعة، إحساسًا بأنها كانت حرة في الاختيار، في حين أنها لم تختر سوى من بين ما هو متاح لها.
لمن يحب هذا النوع من التشبيهات، الأمر مثل دور الأب والأم. الأب أكثر قسوة وشدة في التعامل مع الابن، لكنه يترك دائما مسافة معه تتيح للابن أن يستقل بذاته، في حين أن الأم تغرق الابن بالرعاية والحنان، لكن هذا يرافقه تحكم تام بشؤون الابن إلى أدق التفاصيل.

قد يُقال: ما المشكلة في هذا؟ يا ليت العالم كله كذلك لنستمتع ونعيش حياة سهلة!

في الحقيقة، لا مشكلة في هذا، فما قلناه إلى الآن هو وصف لحال وليس حكم، لأن أغلب البشر لا يريدون سوى ذلك، ولا يتحدثون عن الحريات، بما في ذلك الحريات السياسية، إلا لأنهم يعتقدون أنها ستزيد من متعتهم ورفاهيتهم. أما الحرية كالتي تحدث عنها مثلا سيوران فهي ليست من بين خياراتهم: «حاول أن تكون حرًا وستموت جوعا»، ولن يتغير هذا أبدا إلا لدى من يتوهم أن الطبيعة البشرية قابلة للتغيير. ولو كان بمقدور كل دول العالم الحديثة، مهما كان توجهها الأيديولوجي، أن تتحكم في مواطنيها كما تفعل الدول المتقدمة، لما ترددت في ذلك للحظة، فهي لا تتمنى سوى ذلك. وسيكون مواطنوها أسعد الناس بها (بعض دول الخليج مثال على ذلك)، لكنها عاجزة اقتصاديًا وتكنولوجيًا عن تحقيق ذلك، فتجدها تستعمل قمع الفقراء: العنف.
المشكلة تكمن في تسمية الأشياء بغير مسمياتها، لأن مشكلة أغلب مدّعي الحريات ليست في القمع بغية سلب الإرادة، بل في وسائل القمع، هل هي عنيفة أم لا، ولأي غرض تُستخدم؟ في حين أن القمع يُعرف بنتائجه لا بوسائله.


« التقليص التدريجي للحرّيات لدى بعض الشعوب هو ناتج عن شيخوختها بنفس القدر عمّا هو ناتج عن النظم السياسية الديكتاتورية، على الرغم من بعض مظاهر التحلّل والإباحية التي قد توهم هذه الشعوب بامتلاك الحرية. هذا التقليص في الحريات يشكّل أحد الأعراض المنذرة بمجيء مرحلة الانحطاط، التي لم تستطع أي حضارة في العالم أن تنجو منها حتى الآن
— غوستاف لوبون.
مثل المنشار الكهربائي، إما أن تمسكه بيد واثقة أو تتركه، أما اليد المترددة فلن تقطع سوى أصابعها.
لماذا لم يفعلوا ذلك؟ لأنه يعني إمكانية دخول الحزب في الحرب الحقيقية، الأمر الذي لم يكن مناسبا لإسرائيل في ذلك الوقت بسبب معارك غزة. لهذا نقول أن الحزب ضيع على نفسه الوقت المناسب لدخول الحرب.
وقع حزب الله في خطأين قاتلين لأي حركة "مقاومة":

- ترك القرار النهائي بيد جهة أخرى، بغض النظر عن درجة قربها أو تحالفها، وفي حالة الحزب نتحدث عن إيران.
- تبني سلوك وتنظيم الجيوش النظامية، وهو الفخ الذي وقع فيه الحزب على ما يبدو بسبب الحرب السورية.
منذ 7 أكتوبر، لم يكن لدى تلك الدولة سوى هدف واحد، وهو استعادة صورة الردع أمام البعيد قبل القريب. الردع هو أهم ما تملكه هذه الدولة، لأنها، بخلاف كل دول العالم، لا تملك جذورًا ديموغرافية أو تاريخية على الأرض التي تقوم عليها سوى بعض القصص التوراتية البائدة. من أجل هذا، قامت بتسوية غزة بالأرض حرفيًا، لكن كل ما فعلته حتى الآن لاستعادة صورة الردع لا يُقارن بما حققته للأسف خلال بضعة أسابيع في لبنان. حالة النشوة لدى أولئك الناس والتطبيل في الإعلام الغربي ليس لها مثيل منذ 1967، خاصة من ناحية العمل الاستخباراتي الذي تضرر كثيرًا في 7 أكتوبر. ومثل حرب 67، يعود الفضل الأول في ذلك إلى صورة النمر من ورق للعدو (حزب الله) التي غذتها تلك الدولة قبل غيرها، لهذا تعشق خطاب الجعجعة وتدميرها، وهي سياسة يتبعها الغرب عموما الذي يميل دائما إلى المبالغة في قوة أعداءه من أجل ضمان أقصى حد من الحشد داخليا وتعظيم صورة النصر لاحقا، وهو فخ يقع فيه كثيرا خصوم الغرب الذين يتوهمون أحيانا القوة لديهم أكثر من اللازم، وكذلك بالنسبة لضعف الغرب. (منشور سابق تحدث عن هذا)
Forwarded from حسّ سليم
من مميزات الغرب التي يحسد عليها أحيانا، والتي نقع كثيرا في فخ تصديقها، مبالغته الشديدة في تقدير الواقع الحالي والمخاطر المستقبلية وقوة خصومه، الأمر الذي يمنحه يقظة جيدة أمام ما يحدث أو ما سيحدث. طبعا ينبغي أن لا يؤخذ الغرب هنا ككتلة واحدة لها نفس الاهتمامات بنفس تعريف الخطر والعدو، بل كتيارات مختلفة كل واحدة منها لها تصوراتها، لكن الذي يجمعها كلها، خاصة بعد تراجع الأمال التقدمية، هو أسلوب التخويف والتهويل –هذا أفضل أسلوب لحشد الناس– بحيث يعتقد كل تيار وكأن العدو/الخطر الوجودي (النهاية) على الأبواب وأن المسألة مسألة وقت بتاريخ محدد في كثير من الأحيان، فيقال مثلا بحلول سنة 2050 (مثلا) سيصبح مناخ الأرض غير صالح للحياة أو أن المهاجرين يصبحون هم الأغلبية أو أن الدولة الفلانية غير الغربية ستصبح رقم واحد في العالم …إلخ، مع العلم أنه قد تجد نفس التقديرات قبل 25 أو 50 سنة عن سنة 2025 مثلا أو قبلها سنة 2000. أو تجدهم مثلا يبالغون كثيرا في قوة العدو (قد يكون عدو داخلي مثل الباطرياركية) الذي قد يكون أضعف من أن يشكل خطرا داهما، ومع ذلك يتعاملون معه وكأنه البعبع الذي يوشك أن يلتهمهم. هذا لا يعني أن هذه التقديرات خاطئة تماما، لكنها تحمل دائما جرعة مبالغ في حجمها أو في زمانها.

هذه النزعة نحو نبوءات نهاية العالم بتواريخ محددة ليست جديدة على الغرب بل عمرها ألفين سنة. منذ ميلاد المسيح إلى اليوم يمكنك أن تجد عشرات النبوءات والتواريخ ليوم القيامة، ولأن العلمنة لا تزيل ثقافة عمرها ألفين سنة بجرة قلم فإنها تظل راسخة في اللاوعي، فتجد نفس الأسلوب ما يزال على حاله، صحيح أنه لم يعد يؤمن بيوم القيامة بالمعنى الديني لها لكنه ما يزال دائما يترقب قدومها أو كما قالت إحداهن في إحدى البرامج السياسية: نشعر أن هناك شيئا ما سيقع علينا في أي لحظة، لكننا لا ندري ما هو.

المؤسف بالنسبة لنا هو أننا كثيرا ما نبالغ في تصديق هذه الهيستيريا التي تصيب الغرب في تقديره للواقع والمستقبل ولقوة خصومه (مرة أخرى حسب اختلاف التوجه) لأنها تناسب ما نتمناه ونغفل عن كونها آلية دفاعية لحشد الناس وليست مجرد رأي موضوعي حتى لو كان صحيحا جزئيا.

ملاحظة: إذا كنت تريد أن تقول أن هذا التهويل نجده لدى كل الأمم فأنت لم تكتشف الماء الساخن، طبعا هناك كل شيء ونقيضه لدى الجميع، لكن الحديث هنا عن النسبة والتركيز.
من المعروف عن السياسة الصينية أنها حتى سنوات قريبة كانت تتبع إستراتيجية مستمدة من التقاليد الصينية القديمة، توصي بتجنب المواجهة قبل اكتمال جميع عناصر القوة، بما في ذلك تجنب الجعجعة وتوزيع التهديدات يمينا وشمالا لتجنب لفت الأنظار، وقد أثبتت هذه السياسة نجاحها إلى حد كبير.
في المقابل، يتبع الغرب إستراتيجية الإحتواء ومحاولة استباق خطر التهديدات المحتملة من خلال منع اكتمال عناصر قوة المنافسين قبل أن تصبح تهديدًا حقيقيًا، وذلك من خلال تضخيم قوتهم وإظهار الخوف منهم، وربما منحهم بعض الانتصارات البسيطة هنا وهناك من أجل استدراجهم وحشد الجبهة الداخلية. هذا الأمر قد يدفع بعض الخصوم إلى الغرور والاستهانة بالغرب، مما يجعلهم يتصورون أنهم قادرون فعلاً على المواجهة، ليجدوا أنفسهم في النهاية واقعين في فخ عدم الجاهزية أثناء المواجهة الحقيقية.
عندما تجد الخطاب والتحليلات السياسية الغربية تتحدث عنك بطريقة قد تشعرك بالفخر، فالواجب عليك أن تشعر بالريبة بدل ذلك.
وكأنه هدف التعادل في الوقت الضائع، والمباراة تتجه نحو ضربات الترجيح.
بعد مراجعة فكرية عميقة تقرر تحويل القناة إلى إذاعة "صوت طهران" (على وزن صوت القاهرة) إرضاءً لبعض المتابعين، منذ الغد سنبدأ المنشورات بـ: هنا طهران.
14 أفريل
Forwarded from حسّ سليم
من يدعون أنها مسرحية صنفين، صنف المطبعين بفخر وهؤلاء لا يمكنك فهم سيكولوجيتهم إلا من خلال مثال العا**ة التي ترمي بقية النساء بالنفاق والعـ** المتخفي (أحيانا هذا صحيح) لتبدو في النهاية هي الصادقة وصاحبة المبدأ، هذا السلوك لا بد منه بالنسبة لهذا الصنف للحفاظ على نوع من الاستقرار النفسي. ونوع ثان ضد التطبيع بصدق وفي نفس الوقت ضد ما فعلته إيران بالمنطقة فاختلطت الأمور عليه لرؤيته العالم على أنه إما أبيض أو أسود.

ندع جانبا الصنف الأول، أنت الذي يعتقد أنها مسرحية ومجرد تمثيلية وضد التطبيع حقا، من تعتقد أنهم يخدعون بهذه التمثيلية، هل يخدعون الصنف الأول أم يحاولون خداعك أنت؟ وإن كنت أنت المستهدف بهذه الخدعة فمن أجل ماذا؟ ما الذي يضيفه موقفك ومعك 200 مليون آخرين في الواقع؟

هذه الحنكة الشعبوية سببها أن الناس لا تستوعب أنه في العلاقات الدولية ليس هناك فريق للخير يضم كل الأخيار مقابل فريق للشر يضم كل الأشرار، وبالتالي يكون الصراع بين شرين أو عدوين لهم هو أمر مستحيل، وإن حدث فهو مجرد خدعة بصرية حتى وإن كان لا يدري أحد ما الجدوى منها. يضاف إلى هذا وهم شعبوي يجعل الناس تعطي نفسها أهمية أكثر مما تستحق، سواءً في المسائل الوطنية أو الدولية يعتقد هؤلاء أن الحكومات الوطنية والأجنبية ترتعد خوفا من موقف الرأي العام وكل ما تفعله هو من أجل إلهائه وخداعه حتى لا يستيقظ ويبطش بها.

هذا لا ينفي أنه قد تجري أحيانا تمثيليات حتى بين أشد الدول عداوة في ما بينها، لكن ليس بمنطق المقاهي بل الذي يحدث هو تنسيق محدود لغاية مشتركة، وإيران بمشروعها التوسعي الحالي في المنطقة لا يسعها إلا أن تصطدم بإسرائيل بغض النظر عن طبيعة النظام، وتركيا كذلك لو فكرت في مد نفوذها مرة أخرى في المنطقة كما حاولت في وقت من الأوقات، ستصطدم بإيران وإسرائيل بلا شك، وكذلك أي دولة ذات طموح إمبراطوري ومهما كان شكل أيديولوجيتها.

خلاصة الكلام، وحتى تريح رأسك من البحث في نوايا الدول، أنظر لما يحدث على أنه دائما رغبة في تحقيق مصالح وطنية، قد لا يكون هذا دقيقا دائما، لكن في غالب الأحيان الأمر كذلك، وما تفعله إيران أو السعودية أو الأردن أو مصر كله بدافع المصلحة الوطنية أولا، قد تختلف في تقدير تلك المصلحة وتعتبر أن السياسة المتبعة خاطئة، لكن ما يحدث ليس من باب الرغبة في العمالة لأحد لدى البعض، وليس من باب الطهارة الثورية لدى البعض الآخر، كلهم على استعداد لفعل أي شيء لتحقيق ما يعتبرونه مصالح وطنية في إطار الممكن والمتاح أمامهم، وقد فعلوا ذلك كلهم في وقت من الأوقات بما في ذلك مدعي الطهارة منهم. هذا لا يعني تبني موقف عدمي تتساوى فيه كل المواقف بل تبني موقف مبني على فهم الواقع كما هو لا على أوهام، فتختار مساندة فريق ما وأنت غير مهتم بصدقه أو كذبه بل تنظر إلى أين توجهه مصالحه.
القصد من هذا المنشور أن ضربة اليوم كانت قوية وأعادت الأمور إلى نوع من التعادل، مع التنبيه إلى أن القادم سيكون أكثر خطورة (ضربات الترجيح). لكن البعض لا يفهم سوى بالملعقة.
وقبل فترة كانت ملتزمة بقواعد الاشتباك مع الحزب. قصة الثيران الثلاث حرفيا.
« يصرخ المعتدي: "إنهم يذبحونني!" حيلة قديمة قدم موسى. »

— لويس-فرديناند سيلين (1937)
عندما قتل جساس كليب، فرح بذلك كثير من قومه من بني شيبان، لأن كليبًا أذلهم وضيّق عليهم معيشتهم إلى حد تجويعهم. لكن ذلك أدى إلى نشوب حرب دامت 40 سنة، أسرف فيها المهلهل في القتل حتى كاد يُبيد بني شيبان وأحلافهم من بكر، الأمر الذي جعل كثيرًا ممن ابتهجوا بقتل كليب في البداية ينقلبون على فعل جساس، ويضعون كل اللوم عليه بوصفه السبب في مآسيهم، لا على ما فعله كليب ثم أخوه المهلهل ببني شيبان وبني بكر عمومًا. وتناسوا بذلك أنهم فرحوا أشد الفرح بفعل جساس يوم وقوعه، وأي واحد منهم كان يمكن أن يكون هو جساس، لأنهم كانوا متفقين على أن ذلك هو المخرج الوحيد وفق المعطيات المتوفرة آنذاك، بعد أن أغلق كليب كل باب للحل وأصر على رأيه. ولا أحد منهم كان يتصور أو يخطر على باله أن المهلهل سيشترط بعد ذلك عودة أخيه حيًا.

لكن أن يأتي شيباني مكلوم بعد زمن، مدفوعًا بعواطفه التي يمكن تفهمها من خلال العواطف أيضًا، لجعل قرار جساس يبدو غير عقلاني في لحظته، وهو كان موافقًا له، فهذا حكم بأثر رجعي يستطيع حتى الأطفال استنتاجه. وحتى جساس كان سيفكر ألف مرة قبل الإقدام على ذلك لو كانت لديه كرة سحرية تخبره بالمستقبل، خاصة وأنه هو نفسه قُتل في بدايات الحرب. وهناك طبعًا المتذاكي الذي سيتظاهر وكأنه لم يكن سعيدًا وموافقًا يوم مقتل كليب. وللأسف، لم تكن توجد وقتها مواقع تواصل تسجل ما قاله الجميع في ذلك اليوم ما لم يحذفوه. بالإضافة طبعًا إلى البكري الذي كان ضد جساس منذ البداية، ليس لأنه كان يخشى العواقب كما يحب أن يُظهر نفسه، بل لأنه كان راضيًا بحياة قومه وضد قتل كليب في حد ذاته مهما كانت التبعات.

بعد 40 سنة، انتصر البكريون وانتهت الحرب بتفرق التغلبيين ورحيلهم عن الديار (كان يمكن ألا يحدث هذا وتكون النهاية مأساوية لبكر). السؤال هنا: ما هي النتيجة الحقيقية في هذه القصة، وما هو رأي الأجيال التي وُلدت بعد الحرب؟ هل سيكون: يا ليت جساسًا لم يفعل فعلته، أم من الجيد أنه فعل ذلك وإلا كنا الآن نعيش في ذل وجوع تحت حكم التغلبيين؟

إذًا، هناك دائمًا معضلة في تعامل البشر مع الماضي، إذ يحكمون على أحداث وقرارات معينة من خلال نتائجها فقط (وقد تكون النتائج غير نهائية) لا من خلال سياقها أيضًا، وكأن أحدهم كان يقينًا سيفعل غير الذي تم فعله. وإذا كان موافقًا في الأساس ثم انقلب (تغيير الرأي والاعتراف بالخطأ ليس عيبًا، العيب في التنصل منه)، فهو إما مكلوم يفضفض أو ثرثار يستسهل التذاكي. وفي كل الأحوال، لا جدوى من رأيهما لأن الذي حدث قد حدث ولا يمكن العودة عنه.

هذا لا يعني أنه لا توجد قرارات خاطئة في التاريخ أو لا ينبغي الحكم عليها بالخطأ، لكن يجب الاعتدال في الحكم وفهم الظروف. وإلا، فإنه من السهل على أي أحد القول بأن نابليون والرسام الألماني مغامران أحمقان قد أخطآ في غزو روسيا بعد أن تبينت النتائج، ومن السهل الحكم على مديري إنتل ونوكيا وكوداك بأنهم حمقى غير مغامرين لأنهم رفضوا تبني أفكار كانت تبدو مخاطرها عالية.
الملعقة:
فكرة المنشور السابق تتلخص في التالي:
– لا تحكم على قرار ما من خلال النتائج فقط (ركز جيدا مع "فقط").
– لا تحكم على قرار ما دون فهم سياقه وما هو متاح في لحظته.
– لا توافق قرارا ما ثم تأتي بعد ذلك لتتنصل منه، وكأنك كنت ستفعل غير الذي كان (في بعض المواقف يعتبر هذا نفاق).
– إن كنت في الأساس غير مهتم بقضية ما فلا قيمة لأحكامك، هو مجرد تذاكي أو إدعاء للطهارة.
– كل ما سبق لا يعني أن ظروف أي قرار تنفي عنه الخطأ، لكن الظروف توضح لما إتخذ صاحب القرار ذلك القرار.
– لا أحد يستطيع التحكم في مجرى التاريخ، فأفضل قرار في وقته قد يتحول إلى أسوء قرار، وأسوء قرار في وقته قد يتحول إلى أفضل قرار، والأمثلة على هذا من التاريخ لا تنتهي.
2024/10/21 05:21:23
Back to Top
HTML Embed Code: