423
جلسة الصفا
18 جمادى الآخرة 1446
20 كانون الأول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*كيف نحافظ على النصر*
بسم الله الرحمن الرحيم
أكرمنا الله تعالى بهذا الفتح المبين، وهذا الانفراج الكبير والنصر المؤزر، لقد كان إنجازاً عظيماً بفضل الله تعالى وإحسانه و إنعامه، وحصل ما كان يحبه الجميع ويرجونه ويتطلعون إليه، كما قال تعالى:
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
والحفاظ على هذا الإنجاز العظيم أصعب من الوصول إليه، فقد يصل الإنسان إلى القمة ولكن المهم هو الثبات عليها.
والسؤال:
كيف يمكن الحفاظ على هذا الإنجاز وعلى هذه المَكْرُمَة الربانية؟؟.
والجواب:
في قوله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا
وفي قوله تعالى:
وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
فهذه الآيات الكريمة تُبيِّن أن السبيل إلى ضمان بقاء هذا الفتح وهذا النصر واستمراره، إنما هو وحدة الكلمة ورصِّ الصفوف و ألا تفرقنا الأهواء والنزوات، ففي مثل هذه الظروف يحلو لبعض الناس أن يتسلق على هذه المنجزات، أو كما يقال يركب الموجة، ويريد أن يجد لنفسه موقعاً فيها ولو لم يبذل شيئا ما في سبيل تحقيقها، فالخطر العظيم هو أن تتلاعب بنا الأهواء أو تستعبدنا النزوات، وأن نقدم المصالح الخاصة على المصالح العامة، وألا نلتزم بفقه الأولويات، وأن يحرص كل منا على مكاسب فردية ضيقة دون الهمِّ الأعظم في بناء الدولة.
إن وحدة الكلمة اليوم هي من أهم ما يجب أن نعمل عليه ونحرص عليه، وننبذ الأنانية والأثرة ونخالف هوى النفوس التي من شأنها أن تصيب الجماعة بالتفرق والتمزق، فيخسروا لا سمح الله ما أكرمهم الله تعالى به، بعد بذل هذه الجهود العظيمة المديدة التي استغرقت سنوات عديدة.
ولنا في التاريخ عبرة وعظة يجب أن نعتبر بها، وقد أمرنا الله تعالى أن نعتبر بما جرى لمن كان قبلنا، فقال:
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ
فلو سألنا أنفسنا ما سبب الهزيمة التي وقعت للمسلمين يوم أحد، فباستعراض وقائع الغزوة نجد أن الذي حل بهم هو أولاً تفرق الكلمة، فقد أمر القائد كتيبته التي كانت على جبل الرماة أن يلزموه ولا يغادروه امتثالاً لأمر النبي ﷺ ، ولكنهم عصوا أمره وطمعوا في الغنائم و عصوا أمر قائدهم فغادروا الجبل، فانتهز خالد بن الوليد، وكان قائد جيش المشركين، هذه الغرَّة من المسلمين فأتاهم من خلفهم وكرَّ عليهم حتى بادروا بالفرار وانهزموا، وثبت مع النبي ﷺ القليل، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة آل عمران:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ
لقد حددت هذه الآية عوامل الهزيمة بعد النصر وذلك في قول الله تعالى:
(فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ).
قال الإمام الرازي في تفسيره:
أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر.
فالتنازع وتفرق الكلمة والحرص على الغنائم كان سبب الهزيمة التي لحقت بالجميع.
وفي التاريخ أمثلة عديدة على أن التفرق والحمية الجاهلية كانت وراء سقوط الدول، قال الدكتور شوقي أبو خليل في كتابه "عوامل النصر والهزيمة":
إن العنصرية التي دعا الإسلام إلى نبذها والتي عادت للظهور أيام الأمويين كانت من أسباب سقوط دولتهم وهزيمتهم أمام العباسيين، فقد أخذ التعصب للعرب آنذاك يظهر على الألسنة وفي النتاج الفكري، ولمَسَ الفُرسُ هذا التعصب في عدم المساواة بينهم وبين العرب، ثم ذكر الدكتور أمثلة منها هزائم المسلمين التي أنهت حكمهم فى الأندلس، فبعد العز والمجد والقوة والمنعة والازدهار، سقطت الأندلس تحت مطارق التنازع والتفرق والشهوة إلى السلطة والاستقواء بالأعداء.
ومن المقرر في الدين، أن من أعظم مقاصد الإسلام إنما هو التآلف بين المسلمين، وأن تكون كلمتهم واحدة، وألا تتفرق بهم الأهواء والعصبية وألا تمزقهم الخلافات والنزاعات فيكونون لقمة سائغة لأعدائهم لذلك لا يجوز أن يكون الاختلاف فيما بينهم في الآراء و الأفكار والمذاهب سبباً لتفرقهم وتنازعهم، فالاختلاف أمر طبيعي، وهو من طبيعة البشر، ولا يزالون مختلفين فيما بينهم في أفكارهم وآرائهم كما اختلفت ألسنتهم وألوانهم.
لذلك عليهم مهما اختلفت مذاهبهم وتنوعت آراؤهم أن يبقوا ضمن الدائرة الكبرى التي تجمعهم، وهي دائرة الإسلام، فالإسلام هو التسمية الشاملة التي تجمع ولا تفرِّق، والتي سمانا بها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى في سورة الحج:
جلسة الصفا
18 جمادى الآخرة 1446
20 كانون الأول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*كيف نحافظ على النصر*
بسم الله الرحمن الرحيم
أكرمنا الله تعالى بهذا الفتح المبين، وهذا الانفراج الكبير والنصر المؤزر، لقد كان إنجازاً عظيماً بفضل الله تعالى وإحسانه و إنعامه، وحصل ما كان يحبه الجميع ويرجونه ويتطلعون إليه، كما قال تعالى:
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
والحفاظ على هذا الإنجاز العظيم أصعب من الوصول إليه، فقد يصل الإنسان إلى القمة ولكن المهم هو الثبات عليها.
والسؤال:
كيف يمكن الحفاظ على هذا الإنجاز وعلى هذه المَكْرُمَة الربانية؟؟.
والجواب:
في قوله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا
وفي قوله تعالى:
وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
فهذه الآيات الكريمة تُبيِّن أن السبيل إلى ضمان بقاء هذا الفتح وهذا النصر واستمراره، إنما هو وحدة الكلمة ورصِّ الصفوف و ألا تفرقنا الأهواء والنزوات، ففي مثل هذه الظروف يحلو لبعض الناس أن يتسلق على هذه المنجزات، أو كما يقال يركب الموجة، ويريد أن يجد لنفسه موقعاً فيها ولو لم يبذل شيئا ما في سبيل تحقيقها، فالخطر العظيم هو أن تتلاعب بنا الأهواء أو تستعبدنا النزوات، وأن نقدم المصالح الخاصة على المصالح العامة، وألا نلتزم بفقه الأولويات، وأن يحرص كل منا على مكاسب فردية ضيقة دون الهمِّ الأعظم في بناء الدولة.
إن وحدة الكلمة اليوم هي من أهم ما يجب أن نعمل عليه ونحرص عليه، وننبذ الأنانية والأثرة ونخالف هوى النفوس التي من شأنها أن تصيب الجماعة بالتفرق والتمزق، فيخسروا لا سمح الله ما أكرمهم الله تعالى به، بعد بذل هذه الجهود العظيمة المديدة التي استغرقت سنوات عديدة.
ولنا في التاريخ عبرة وعظة يجب أن نعتبر بها، وقد أمرنا الله تعالى أن نعتبر بما جرى لمن كان قبلنا، فقال:
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ
فلو سألنا أنفسنا ما سبب الهزيمة التي وقعت للمسلمين يوم أحد، فباستعراض وقائع الغزوة نجد أن الذي حل بهم هو أولاً تفرق الكلمة، فقد أمر القائد كتيبته التي كانت على جبل الرماة أن يلزموه ولا يغادروه امتثالاً لأمر النبي ﷺ ، ولكنهم عصوا أمره وطمعوا في الغنائم و عصوا أمر قائدهم فغادروا الجبل، فانتهز خالد بن الوليد، وكان قائد جيش المشركين، هذه الغرَّة من المسلمين فأتاهم من خلفهم وكرَّ عليهم حتى بادروا بالفرار وانهزموا، وثبت مع النبي ﷺ القليل، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة آل عمران:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ
لقد حددت هذه الآية عوامل الهزيمة بعد النصر وذلك في قول الله تعالى:
(فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ).
قال الإمام الرازي في تفسيره:
أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر.
فالتنازع وتفرق الكلمة والحرص على الغنائم كان سبب الهزيمة التي لحقت بالجميع.
وفي التاريخ أمثلة عديدة على أن التفرق والحمية الجاهلية كانت وراء سقوط الدول، قال الدكتور شوقي أبو خليل في كتابه "عوامل النصر والهزيمة":
إن العنصرية التي دعا الإسلام إلى نبذها والتي عادت للظهور أيام الأمويين كانت من أسباب سقوط دولتهم وهزيمتهم أمام العباسيين، فقد أخذ التعصب للعرب آنذاك يظهر على الألسنة وفي النتاج الفكري، ولمَسَ الفُرسُ هذا التعصب في عدم المساواة بينهم وبين العرب، ثم ذكر الدكتور أمثلة منها هزائم المسلمين التي أنهت حكمهم فى الأندلس، فبعد العز والمجد والقوة والمنعة والازدهار، سقطت الأندلس تحت مطارق التنازع والتفرق والشهوة إلى السلطة والاستقواء بالأعداء.
ومن المقرر في الدين، أن من أعظم مقاصد الإسلام إنما هو التآلف بين المسلمين، وأن تكون كلمتهم واحدة، وألا تتفرق بهم الأهواء والعصبية وألا تمزقهم الخلافات والنزاعات فيكونون لقمة سائغة لأعدائهم لذلك لا يجوز أن يكون الاختلاف فيما بينهم في الآراء و الأفكار والمذاهب سبباً لتفرقهم وتنازعهم، فالاختلاف أمر طبيعي، وهو من طبيعة البشر، ولا يزالون مختلفين فيما بينهم في أفكارهم وآرائهم كما اختلفت ألسنتهم وألوانهم.
لذلك عليهم مهما اختلفت مذاهبهم وتنوعت آراؤهم أن يبقوا ضمن الدائرة الكبرى التي تجمعهم، وهي دائرة الإسلام، فالإسلام هو التسمية الشاملة التي تجمع ولا تفرِّق، والتي سمانا بها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى في سورة الحج:
مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ.
ومن المفارقات اللطيفة أن اختلاف الآراء والأفكار لا يكون بين شخص وآخر فقط بل قد يكون بين الشخص وبين نفسه، فيختلف فكره من زمن لآخر، ويغير بعض آرائه السالفة التي كان يظنها لا تتغيَّر، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
*إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلا كفَّرت عن يميني و أتيت الذي هو خير*
وقد يختلف الحكم في قضية واحدة بين نبيين كريمين، كما حصل مع سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام، فقد اجتهدا في الحكم على قضية واحدة، واختلفا في الحكم والرأي، وذكر الله تعالى هذه القضية في قوله عز وجل:
وَ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78)ففَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم اختلفوا في كثير من العلل النفسية، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن بإسناديهما إلى شقيق بن سلمة قال: كنت جالساً مع أبي مسعود الأنصاري وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم، فقال أبو مسعود لعمار بن ياسر: ما رأيت منك شيئاً منذ صحبتَ النبي ﷺ ، أعيبَ عندي من إسراعك في هذا الأمر(يقصد متابعته لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في موقفه و في خروجه معه فى موقعة الجمل)، فقال عمار بن ياسر: يا أبا مسعود، وما رأيت منك ومن صاحبك هذا منذ صحبتما النبي ﷺ أعيبَ عندي من إبطائكما عن هذا الأمر.
ثم قال أبو مسعود وكان موسراً: يا غلام هاتِ حُلَّتين، فأعطى إحداهما أبا موسى والأخرى عماراً، و قال: روحا فيها إلى الجمعة.
فعمار بن ياسر كان يرى رأي علي بن أبي طالب، وأبو مسعود وأبو موسى كانا لا يريان رأيه، ومع اختلاف رأييهما واجتهاديهما بقيت الإخوة بينهم والمودة والمحبة.
إن أعداء الأمة المتربصين بها لا ينفذون إلى الأمة ليُعملوا فيها سهامهم إلا من خلال تفرق أفرادها ونزاعاتهم وخصوماتهم، والتاريخ حافل بالأدلة والشواهد على أن قوة الأعداء إنما تكون بسبب ضعف الأمة وتنازعهم.
وفي وثيقة محفوظة بالمركز العام للوثائق بلندن ورد تقرير وزير المستعمرات البريطانية لرئيس حكومته بتاريخ 9/1/1938 يقول فيه:
إن الحرب علَّمَتْنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية البريطانية أن تحذره وتحاربه، إن سياستنا تهدف دائماً وأبداً إلى منع التضامن بين المسلمين، ويجب أن تبقى سياستنا كذلك.
وفعلاً هذا الذي انتهجوه وسلكوه.
كانوا يشجعون الفرق الضالة كالقاديانية هم زرعوها وسقوها ولا يزالون إلى اليوم يدعمونها، هم زرعوا هذا الكيان الغاصب المدعو إسرائيل في بلادنا لبثِّ التفرقة بين أفراد الأمة، و سياستهم أصلاً هي سياسة التفرقة وهي سياسة الشيطان، فقد قال تعالى:
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
معنى ذلك أن كل من يريد أن يزرع الكراهية ويوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين هو شيطان، وكل من يسعى إلى تفريق الكلمة وشقِّ الصف هو شيطان بتعريف الله عز وجل.
والله تعالى حذرنا في آيات عديدة من التفرق والاختلاف فقال تعالى:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ
وقال:
إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ
وقال:
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
قال الإمام الرازي:
اعلم أن المراد من الآية الحثُّ على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وألا يتفرقوا فيه.
قال القاضي عياض:
والألفة إحدى فرائض الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الإسلام.
نقل الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري أحد أصحاب الإمام الشافعي، أنه قال: ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ثم لقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
علَّق الإمام الذهبي على هذا بقوله:
هذا يدلُّ على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون.
والواجب اليوم ألا تفرقنا التصنيفات بين صوفي وسلفي ومتشدد ومعتدل، فلكل واحد شأنه فيما يذهب إليه، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على أن يتابعه فيما يراه ويعتقده، ولا يجوز أن يسخر أحد من أخيه أو يحط من شأنه، أو يحتقر آرائه، أو يبغي عليه.
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم وهم خير الأمة، فما خاصم أحد منهم أحداً، ولا عادى أحدٌ منهم أحداً.
ومن المفارقات اللطيفة أن اختلاف الآراء والأفكار لا يكون بين شخص وآخر فقط بل قد يكون بين الشخص وبين نفسه، فيختلف فكره من زمن لآخر، ويغير بعض آرائه السالفة التي كان يظنها لا تتغيَّر، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
*إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلا كفَّرت عن يميني و أتيت الذي هو خير*
وقد يختلف الحكم في قضية واحدة بين نبيين كريمين، كما حصل مع سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام، فقد اجتهدا في الحكم على قضية واحدة، واختلفا في الحكم والرأي، وذكر الله تعالى هذه القضية في قوله عز وجل:
وَ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78)ففَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم اختلفوا في كثير من العلل النفسية، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن بإسناديهما إلى شقيق بن سلمة قال: كنت جالساً مع أبي مسعود الأنصاري وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم، فقال أبو مسعود لعمار بن ياسر: ما رأيت منك شيئاً منذ صحبتَ النبي ﷺ ، أعيبَ عندي من إسراعك في هذا الأمر(يقصد متابعته لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في موقفه و في خروجه معه فى موقعة الجمل)، فقال عمار بن ياسر: يا أبا مسعود، وما رأيت منك ومن صاحبك هذا منذ صحبتما النبي ﷺ أعيبَ عندي من إبطائكما عن هذا الأمر.
ثم قال أبو مسعود وكان موسراً: يا غلام هاتِ حُلَّتين، فأعطى إحداهما أبا موسى والأخرى عماراً، و قال: روحا فيها إلى الجمعة.
فعمار بن ياسر كان يرى رأي علي بن أبي طالب، وأبو مسعود وأبو موسى كانا لا يريان رأيه، ومع اختلاف رأييهما واجتهاديهما بقيت الإخوة بينهم والمودة والمحبة.
إن أعداء الأمة المتربصين بها لا ينفذون إلى الأمة ليُعملوا فيها سهامهم إلا من خلال تفرق أفرادها ونزاعاتهم وخصوماتهم، والتاريخ حافل بالأدلة والشواهد على أن قوة الأعداء إنما تكون بسبب ضعف الأمة وتنازعهم.
وفي وثيقة محفوظة بالمركز العام للوثائق بلندن ورد تقرير وزير المستعمرات البريطانية لرئيس حكومته بتاريخ 9/1/1938 يقول فيه:
إن الحرب علَّمَتْنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية البريطانية أن تحذره وتحاربه، إن سياستنا تهدف دائماً وأبداً إلى منع التضامن بين المسلمين، ويجب أن تبقى سياستنا كذلك.
وفعلاً هذا الذي انتهجوه وسلكوه.
كانوا يشجعون الفرق الضالة كالقاديانية هم زرعوها وسقوها ولا يزالون إلى اليوم يدعمونها، هم زرعوا هذا الكيان الغاصب المدعو إسرائيل في بلادنا لبثِّ التفرقة بين أفراد الأمة، و سياستهم أصلاً هي سياسة التفرقة وهي سياسة الشيطان، فقد قال تعالى:
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
معنى ذلك أن كل من يريد أن يزرع الكراهية ويوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين هو شيطان، وكل من يسعى إلى تفريق الكلمة وشقِّ الصف هو شيطان بتعريف الله عز وجل.
والله تعالى حذرنا في آيات عديدة من التفرق والاختلاف فقال تعالى:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ
وقال:
إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ
وقال:
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
قال الإمام الرازي:
اعلم أن المراد من الآية الحثُّ على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وألا يتفرقوا فيه.
قال القاضي عياض:
والألفة إحدى فرائض الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الإسلام.
نقل الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري أحد أصحاب الإمام الشافعي، أنه قال: ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ثم لقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
علَّق الإمام الذهبي على هذا بقوله:
هذا يدلُّ على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون.
والواجب اليوم ألا تفرقنا التصنيفات بين صوفي وسلفي ومتشدد ومعتدل، فلكل واحد شأنه فيما يذهب إليه، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على أن يتابعه فيما يراه ويعتقده، ولا يجوز أن يسخر أحد من أخيه أو يحط من شأنه، أو يحتقر آرائه، أو يبغي عليه.
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم وهم خير الأمة، فما خاصم أحد منهم أحداً، ولا عادى أحدٌ منهم أحداً.
وقد اتفق الصحابة الكرام - في مسائل تنازعوا فيها - على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث، وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد ﷺ ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة.
يجب أن نلتزم أمر النبي ﷺ حين أمرنا ألا نذكر صفة أو قيداً سوى كلمة الإسلام الجامعة، فروى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم من حديث الحارث بن الحارث الأشعري أن رسول الله ﷺ قال:
فادعوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله.
وفي رواية:
فادعوا المسلمين بما سماهم الله، المسلمون المؤمنون عباد الله.
أي لا تجعلوا مع ذلك صفة أخرى ولا قيداً آخر.
وقد قال ﷺ:
من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخْفِروا الله في ذمته.
اللهم اجمع شملنا وألِّف بين قلوبنا وأتمَّ نعمتك علينا واختم لنا بخير يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
يجب أن نلتزم أمر النبي ﷺ حين أمرنا ألا نذكر صفة أو قيداً سوى كلمة الإسلام الجامعة، فروى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم من حديث الحارث بن الحارث الأشعري أن رسول الله ﷺ قال:
فادعوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله.
وفي رواية:
فادعوا المسلمين بما سماهم الله، المسلمون المؤمنون عباد الله.
أي لا تجعلوا مع ذلك صفة أخرى ولا قيداً آخر.
وقد قال ﷺ:
من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخْفِروا الله في ذمته.
اللهم اجمع شملنا وألِّف بين قلوبنا وأتمَّ نعمتك علينا واختم لنا بخير يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
424
جلسة الصفا
25 جمادى الآخرة 1446
27 كانون الأول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*البغي أنواعه وعواقبه*
بسم الله الرحمن الرحيم
كنا نقول دائماً: الله أكبر على كل من طغى وبغى وتجبَّر، يعني أن الله تعالى قادر على رد بغيه وطغيانه وتجبره، وقادر على أن يقمعه وينتقم منه، كما قال تعالى عن فرعون وجنوده:
*وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ (10) ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ (11) فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ *(14)
وهذه الآية وغيرها تشير إلى أن فرعون لم ينفرد بالبغي والطغيان، وهذا الذي كان في النظام البائد، كان البغي والطغيان منتشراً من رأس النظام إلى الأذناب والأزلام والسجانين، فقد انكشف للناس أنهم فعلوا من فظائع التعذيب ووحشيته ما تشيب لهوله سود النواصي، وتتقطع له الأكباد وتقشعر منه الأبدان، وما لا يتصور في الخيال ولا يخطر على بال، فحقت عليهم جميعاً كلمة العذاب، ولحق بهم الوبال والنكال جزاء ظلمهم وطغيانهم وبغيهم، كما قال تعالى عن فرعون وجنوده:
*وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ*
ولكلمة بغي في اللغة العربية معانٍ عديدة، منها معنى الطلب، كقوله تعالى: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) والبغية: الحاجة، إلى غير ذلك من المعاني.
والمراد بالبغي هنا: التعدي والظلم، وهو ما كان عليه فرعون وأمثاله ونظراؤه.
ويأتي البغي بمعنى الاستطالة على الناس والتكبر عليهم وكل ما جاء في وصف فرعون ينطبق على المخلوع الفار، وهو المراد بقوله تعالى:
*قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ*
وذكر الله تعالى مثلا لهذا البغي من التكبر والاستطالة على الخلق بقارون، فقال تعالى:
*إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ*
قال الألوسي:
فبغى عليهم أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم، وطلب ما ليس حقَّه، بغى عليهم معتداً بثروته الفلكية متعاظماً بماله الكثير الوفير.
وقولهم له: (لا تفرح) أي فرح البطر والكبر والزهو، وهو المفرط المذموم.
ثم قالوا له:
*وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ*
فردَّ عليهم بما أوتي من صلف و كبر وبغي، ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي)
فردَّ الله تعالى عليه فقال:
*أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ*
ثم أمعن قارون في بغيه وتكبره واستطالته (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) فما أمهله الله تعالى هنا فقال:
*فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ*
وفي هذه الآية ما يشير إلى أن الله تعالى قد يعجل لمن بغى العقوبة في الدنيا، ويؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم*.
وقطيعة الرحم من صور البغي وهو من ذكر الخاص بعد العام.
وروى الإمام الترمذي وابن ماجه من حديث السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها:
*أسرع الخير ثواباً البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم.*
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال:
لو بغى جبل على جبل لدكَّ الباغي.
ومن البغي نقض المرء ما عاهد عليه الله ووعد به من نفسه أن يكون شاكراً لله ملتزماً بشرعه، فذكر الله تعالى هذا النوع من البغي في قوله عز وجل:
*هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي
جلسة الصفا
25 جمادى الآخرة 1446
27 كانون الأول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*البغي أنواعه وعواقبه*
بسم الله الرحمن الرحيم
كنا نقول دائماً: الله أكبر على كل من طغى وبغى وتجبَّر، يعني أن الله تعالى قادر على رد بغيه وطغيانه وتجبره، وقادر على أن يقمعه وينتقم منه، كما قال تعالى عن فرعون وجنوده:
*وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ (10) ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ (11) فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ *(14)
وهذه الآية وغيرها تشير إلى أن فرعون لم ينفرد بالبغي والطغيان، وهذا الذي كان في النظام البائد، كان البغي والطغيان منتشراً من رأس النظام إلى الأذناب والأزلام والسجانين، فقد انكشف للناس أنهم فعلوا من فظائع التعذيب ووحشيته ما تشيب لهوله سود النواصي، وتتقطع له الأكباد وتقشعر منه الأبدان، وما لا يتصور في الخيال ولا يخطر على بال، فحقت عليهم جميعاً كلمة العذاب، ولحق بهم الوبال والنكال جزاء ظلمهم وطغيانهم وبغيهم، كما قال تعالى عن فرعون وجنوده:
*وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ*
ولكلمة بغي في اللغة العربية معانٍ عديدة، منها معنى الطلب، كقوله تعالى: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) والبغية: الحاجة، إلى غير ذلك من المعاني.
والمراد بالبغي هنا: التعدي والظلم، وهو ما كان عليه فرعون وأمثاله ونظراؤه.
ويأتي البغي بمعنى الاستطالة على الناس والتكبر عليهم وكل ما جاء في وصف فرعون ينطبق على المخلوع الفار، وهو المراد بقوله تعالى:
*قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ*
وذكر الله تعالى مثلا لهذا البغي من التكبر والاستطالة على الخلق بقارون، فقال تعالى:
*إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ*
قال الألوسي:
فبغى عليهم أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم، وطلب ما ليس حقَّه، بغى عليهم معتداً بثروته الفلكية متعاظماً بماله الكثير الوفير.
وقولهم له: (لا تفرح) أي فرح البطر والكبر والزهو، وهو المفرط المذموم.
ثم قالوا له:
*وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ*
فردَّ عليهم بما أوتي من صلف و كبر وبغي، ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي)
فردَّ الله تعالى عليه فقال:
*أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ*
ثم أمعن قارون في بغيه وتكبره واستطالته (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) فما أمهله الله تعالى هنا فقال:
*فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ*
وفي هذه الآية ما يشير إلى أن الله تعالى قد يعجل لمن بغى العقوبة في الدنيا، ويؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم*.
وقطيعة الرحم من صور البغي وهو من ذكر الخاص بعد العام.
وروى الإمام الترمذي وابن ماجه من حديث السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها:
*أسرع الخير ثواباً البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم.*
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال:
لو بغى جبل على جبل لدكَّ الباغي.
ومن البغي نقض المرء ما عاهد عليه الله ووعد به من نفسه أن يكون شاكراً لله ملتزماً بشرعه، فذكر الله تعالى هذا النوع من البغي في قوله عز وجل:
*هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*
فهؤلاء لما جاءهم الموج من كل مكان واعتقدوا اعتقاداً راجحاً أنهم هلكوا بإحاطة الموج بهم من كل جانب، دعوا الله مخلصين له الدين قائلين: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي نقسم لك يا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة أو العاصفة لنكونن لك من جماعة المؤمنين الشاكرين لنعمائك لا نكفر منها شيئاً ولا نشرك بك أحداً، ولكنهم لما أنجاهم الله، إذا هم نكسوا على رؤوسهم إذا هم يبغون في الأرض، إذا هي الفجائية أي إذا هم يفاجئون الناس في الأرض التي هبطوا إليها بالبغي عليهم بالظلم والعدوان والإفساد يمعنون في ذلك ويصرون عليه، وقوله (بِغَيْرِ الْحَقِّ) صفة كاشفة للواقع للتذكير بقبحه وسوء حال أهله.
وما أعظم قول الله تعالى تعقيباً على بغيهم وعدوانهم وظلمهم، حين قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ)، وهذا التفات إلى مخاطبة البغاة أينما كانوا وفي أي زمان وجدوا يقول لهم: أيها الضالون عن رشدهم، كفاكم بغياً على المستضعفين منكم وغرورا بكبريائكم وقوتكم، إنما بغيكم في الحقيقة على أنفسكم، لأن عاقبة وباله عائدة عليكم، ولأن من تبغون عليهم هم من قومكم ومن أبناء جنسكم، أما قالوا: على الباغي تدور الدوائر، عاجلاً أم آجلاً وفي هذه الآية أن الله تعالى يرجع ضرر الباغي على نفسه لكي يعتبر البغاة والظالمون وقد أخرج الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
لا تبغِ ولا تكن باغياً، فإن الله يقول: إنما بغيكم على أنفسكم.
وروي عن محمد بن كعب القرظي، وعن مكحول الدمشقي قال:
ثلاث خصال من كن فيه فهي راجعة على صاحبها: البغي والمكر والنكث، ثم قرأ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ
وقرأ:
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
وقرأ:
فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ
قال صاحب تفسير المنار:
وقائع التاريخ تفسر لنا أن البغي وهو من أخص ضروب الظلم للناس يرجع إلى فاعله، ذلك بأنه سبب من أقوى أسباب العداوة والبغضاء بين الأفراد وإيقاد نيران الفتن والثورات في الأقوام، فالفرد الذي يبغي على مثله يخلق له بغيُه عدواً أو أعداء ممن يبغي عليهم وممن يكرهون البغي وأهله، فوجود الأعداء والمبغضين ضرب من ضروب العقوبة، وإن لم يستطيعوا إيذاء الباغي لعجزهم، فكيف إذا قدروا وفعلوا وهو الغالب، وأما بغي الملوك والحكام على الأقوام والشعوب، فأهون عاقبته عداوتهم والطعن عليهم، وقد تُفضي إلى اغتيال أشخاصهم أو إلى ثلِّ عروشهم والقضاء على حكمهم بثورة من الشعب تستبدل بها عرشاً بعرش أو نوعاً من الحكم بنوع آخر، إلى آخر ما قال.
ومن البغي الاعتداء على حقوق الآخرين واقتطاع شيء منها أو اغتصابها، من ذلك ما قصه الله علينا في القرآن الكريم، فقال تعالى:
*وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ*
أَكْفِلْنِيهَا (هبها لي).
أي أظهر في الكلام عزة واشتد عليَّ وتطاول، فقال سيدنا داود:
*لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ*ۗ
ومن البغي إتهام الآخرين والافتراء عليهم بما ليس فيهم، وقد حلا لبعض الناس في هذه الأوقات، أن يقوموا بتصفية الحسابات بينهم وبين من يعادونهم أو يختلفون معهم، فيلصقون بهم من التهم وخاصة السياسية منها، ما هم منها براء وذلك للتشفي منهم، فليتق الله هؤلاء الأشخاص وليكفوا عن الافتراء وإلصاق التهم التي تثير العداوات، و تلحق بالمفترى عليهم أضرارا جسيمة مادية ومعنوية، وعلى الذين يعلقون على ذلك أن يكفوا عن تعليقاتهم التي تصب الزيت على النار لزيادة الاشتعال والفتنة.
ومن البغي نشر الأخبار الكاذبة التي تشعل الفتن وتثير البعض الذي قد يثور دون التحقق من صحة هذه الأخبار التي ما نشرت إلا من أجل الفتنة والإثارة، ولا يجوز لمن ورده خبر ما أن يسارع إلى نشره دون التحقق من مصداقيته، بل الواجب محو كل خبر يثير فتنة ويخلق مشكلة.
فهؤلاء لما جاءهم الموج من كل مكان واعتقدوا اعتقاداً راجحاً أنهم هلكوا بإحاطة الموج بهم من كل جانب، دعوا الله مخلصين له الدين قائلين: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي نقسم لك يا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة أو العاصفة لنكونن لك من جماعة المؤمنين الشاكرين لنعمائك لا نكفر منها شيئاً ولا نشرك بك أحداً، ولكنهم لما أنجاهم الله، إذا هم نكسوا على رؤوسهم إذا هم يبغون في الأرض، إذا هي الفجائية أي إذا هم يفاجئون الناس في الأرض التي هبطوا إليها بالبغي عليهم بالظلم والعدوان والإفساد يمعنون في ذلك ويصرون عليه، وقوله (بِغَيْرِ الْحَقِّ) صفة كاشفة للواقع للتذكير بقبحه وسوء حال أهله.
وما أعظم قول الله تعالى تعقيباً على بغيهم وعدوانهم وظلمهم، حين قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ)، وهذا التفات إلى مخاطبة البغاة أينما كانوا وفي أي زمان وجدوا يقول لهم: أيها الضالون عن رشدهم، كفاكم بغياً على المستضعفين منكم وغرورا بكبريائكم وقوتكم، إنما بغيكم في الحقيقة على أنفسكم، لأن عاقبة وباله عائدة عليكم، ولأن من تبغون عليهم هم من قومكم ومن أبناء جنسكم، أما قالوا: على الباغي تدور الدوائر، عاجلاً أم آجلاً وفي هذه الآية أن الله تعالى يرجع ضرر الباغي على نفسه لكي يعتبر البغاة والظالمون وقد أخرج الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
لا تبغِ ولا تكن باغياً، فإن الله يقول: إنما بغيكم على أنفسكم.
وروي عن محمد بن كعب القرظي، وعن مكحول الدمشقي قال:
ثلاث خصال من كن فيه فهي راجعة على صاحبها: البغي والمكر والنكث، ثم قرأ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ
وقرأ:
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
وقرأ:
فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ
قال صاحب تفسير المنار:
وقائع التاريخ تفسر لنا أن البغي وهو من أخص ضروب الظلم للناس يرجع إلى فاعله، ذلك بأنه سبب من أقوى أسباب العداوة والبغضاء بين الأفراد وإيقاد نيران الفتن والثورات في الأقوام، فالفرد الذي يبغي على مثله يخلق له بغيُه عدواً أو أعداء ممن يبغي عليهم وممن يكرهون البغي وأهله، فوجود الأعداء والمبغضين ضرب من ضروب العقوبة، وإن لم يستطيعوا إيذاء الباغي لعجزهم، فكيف إذا قدروا وفعلوا وهو الغالب، وأما بغي الملوك والحكام على الأقوام والشعوب، فأهون عاقبته عداوتهم والطعن عليهم، وقد تُفضي إلى اغتيال أشخاصهم أو إلى ثلِّ عروشهم والقضاء على حكمهم بثورة من الشعب تستبدل بها عرشاً بعرش أو نوعاً من الحكم بنوع آخر، إلى آخر ما قال.
ومن البغي الاعتداء على حقوق الآخرين واقتطاع شيء منها أو اغتصابها، من ذلك ما قصه الله علينا في القرآن الكريم، فقال تعالى:
*وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ*
أَكْفِلْنِيهَا (هبها لي).
أي أظهر في الكلام عزة واشتد عليَّ وتطاول، فقال سيدنا داود:
*لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ*ۗ
ومن البغي إتهام الآخرين والافتراء عليهم بما ليس فيهم، وقد حلا لبعض الناس في هذه الأوقات، أن يقوموا بتصفية الحسابات بينهم وبين من يعادونهم أو يختلفون معهم، فيلصقون بهم من التهم وخاصة السياسية منها، ما هم منها براء وذلك للتشفي منهم، فليتق الله هؤلاء الأشخاص وليكفوا عن الافتراء وإلصاق التهم التي تثير العداوات، و تلحق بالمفترى عليهم أضرارا جسيمة مادية ومعنوية، وعلى الذين يعلقون على ذلك أن يكفوا عن تعليقاتهم التي تصب الزيت على النار لزيادة الاشتعال والفتنة.
ومن البغي نشر الأخبار الكاذبة التي تشعل الفتن وتثير البعض الذي قد يثور دون التحقق من صحة هذه الأخبار التي ما نشرت إلا من أجل الفتنة والإثارة، ولا يجوز لمن ورده خبر ما أن يسارع إلى نشره دون التحقق من مصداقيته، بل الواجب محو كل خبر يثير فتنة ويخلق مشكلة.
ومن البغي الفظيع الشنيع نشر ما يثير الطائفية بين أفراد الأمة وأبناء الوطن الواحد، ولما يتبع إثارة النعرات الطائفية من خصومات ونزاعات قد يؤدي إلى الاقتتال وسفك الدماء.
نحن في سورية وفي بلد الشام ومن قديم الزمان، كنا لا نعرف هذا التصنيف الطائفي، وأهل السنة في سورية مسالمون لجميع الطوائف متعايشون معهم يتعاملون مع الجميع دون تفريق بينهم، بينهم شراكات تجارية وعلاقات اجتماعية، المسلم يعيش مع المسيحي بسلام ووئام، حتى إن أولادنا لا يعرفون معنى أسماء الطوائف الأخرى بصرف النظر عن تسمياتها، لأننا كنا لا نتداول ذلك على الإطلاق، كنا سوريين نعيش في سورية دولة المواطنة لجميع أفرادها، وليس لطائفة أو فئة الحق بهذا الوطن دون غيرها من الطوائف والفئات، فكل من يعزف على وتر الطائفية إنما هو باغٍ وظالمٍ ومعتدٍ، لا يريد لوطننا الاستقرار والازدهار ولا لشعبنا الطمأنينة والأمان.
وهناك صور اجتماعية تُعَدُّ من صور البغي الذي لا يجوز كذلك:
فإلقاء الأوساخ والقاذورات في الطريق من البغي والاعتداء على الحق العام، ولذلك فإن الإمام البخاري في كتابه الأدب المفرد وعندما ذكر باب البغي، جعل من صوره إلقاء الأذى في الطريق، فأورد حديث النبي ﷺ:
*الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها وأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق*.
وذلك ليُشير أن إلقاء الأذى في الطريق هو من البغي.
حتى أن من البغي تجاوز الإشارة الحمراء لأنه اعتداء على حق الغير، ولأن فيه تعرضاً لوقوع حوادث لا تحمد عقباها.
فكل إخلال بالنظام العام هو من البغي لأنه يخلق الفوضى والاضطراب.
ومن البغي، التاجر الذي يربح الربح الفاحش، لأنه تعدى الربح المعقول والمقبول، أو يحتكر المواد الضرورية التي يحتاجها الناس.
والطبيب والحرفي الذي يأخذ أجرة فاحشة ولا سماحة لديه ولا رحمة لديه.
ومن البغي إيذاء الرجل لزوجته وإيذاء المرأة لزوجها، وهذا يحتاج إلى بحث مفصل نذكره في وقت آخر إن شاء الله تعالى، قال تعالى:
*فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا*
لذلك حرم الله تعالى البغي بجميع صوره وأنواعه وذلك في آية جامعة جمعت أصول الشريعة، فقال تعالى:
*إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*
وهذه الآية تحتاج إلى وقفة كذلك، لعل ذلك يكون في وقت آخر إن شاء الله تعالى.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نَظلم أو أن نُظلم.
اللهم انصرنا على من بغى علينا يا رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
نحن في سورية وفي بلد الشام ومن قديم الزمان، كنا لا نعرف هذا التصنيف الطائفي، وأهل السنة في سورية مسالمون لجميع الطوائف متعايشون معهم يتعاملون مع الجميع دون تفريق بينهم، بينهم شراكات تجارية وعلاقات اجتماعية، المسلم يعيش مع المسيحي بسلام ووئام، حتى إن أولادنا لا يعرفون معنى أسماء الطوائف الأخرى بصرف النظر عن تسمياتها، لأننا كنا لا نتداول ذلك على الإطلاق، كنا سوريين نعيش في سورية دولة المواطنة لجميع أفرادها، وليس لطائفة أو فئة الحق بهذا الوطن دون غيرها من الطوائف والفئات، فكل من يعزف على وتر الطائفية إنما هو باغٍ وظالمٍ ومعتدٍ، لا يريد لوطننا الاستقرار والازدهار ولا لشعبنا الطمأنينة والأمان.
وهناك صور اجتماعية تُعَدُّ من صور البغي الذي لا يجوز كذلك:
فإلقاء الأوساخ والقاذورات في الطريق من البغي والاعتداء على الحق العام، ولذلك فإن الإمام البخاري في كتابه الأدب المفرد وعندما ذكر باب البغي، جعل من صوره إلقاء الأذى في الطريق، فأورد حديث النبي ﷺ:
*الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها وأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق*.
وذلك ليُشير أن إلقاء الأذى في الطريق هو من البغي.
حتى أن من البغي تجاوز الإشارة الحمراء لأنه اعتداء على حق الغير، ولأن فيه تعرضاً لوقوع حوادث لا تحمد عقباها.
فكل إخلال بالنظام العام هو من البغي لأنه يخلق الفوضى والاضطراب.
ومن البغي، التاجر الذي يربح الربح الفاحش، لأنه تعدى الربح المعقول والمقبول، أو يحتكر المواد الضرورية التي يحتاجها الناس.
والطبيب والحرفي الذي يأخذ أجرة فاحشة ولا سماحة لديه ولا رحمة لديه.
ومن البغي إيذاء الرجل لزوجته وإيذاء المرأة لزوجها، وهذا يحتاج إلى بحث مفصل نذكره في وقت آخر إن شاء الله تعالى، قال تعالى:
*فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا*
لذلك حرم الله تعالى البغي بجميع صوره وأنواعه وذلك في آية جامعة جمعت أصول الشريعة، فقال تعالى:
*إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*
وهذه الآية تحتاج إلى وقفة كذلك، لعل ذلك يكون في وقت آخر إن شاء الله تعالى.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نَظلم أو أن نُظلم.
اللهم انصرنا على من بغى علينا يا رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
425
جلسة الصفا
3 رجب 1446
3 كانون الثاني 2025
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*عمر بن عبد العزيز رائد العدل والإصلاح*
بسم الله الرحمن الرحيم
نتكلم اليوم عن أحد رموز و رواد العدل والإصلاح ممن تميَّز وتألَّق وكان له أثر عظيم في السياسة والمجتمع، هذا الذي قيل فيه إنه خامس الخلفاء الراشدين، لأنه سار على نهجهم واقتفى أثرهم واقتدى بهديهم، إنه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وقد وصفه الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، فقال: الإمام الحافظ العلَّامة المجتهد الزاهد العابد السيد أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص القرشي الأموي المدني الخليفة الزاهد الراشد.
كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين رحمة الله تعالى عليه.
أمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يعني ينتهي نسبه من جهة أمه إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ولذلك كنَّى نفسه أبا حفص وهي كنية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
كان على جانب كبير من العلم لذلك وصفه الإمام الذهبي بأنه العلامة المجتهد، وقد روى عن كثيرين من الحفاظ والمحدثين من التابعين، وروى عنه كذلك خلق كثير.
قال عمر بن ميمون: كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة.
وقال أيضاً: أتينا عمر بن عبد العزيز ونحن نرى أنه يحتاج إلينا، فما كنا معه إلا تلامذة.
قال الإمام الزهري: سمرت مع عمر بن عبد العزيز ليلة فحدَّثته، فقال لي: كل ما حدثتَه الليلة فقد سمعتُه، ولكنك حفظتَ ونسينا.
قال الإمام الذهبي في وصفه:
قد كان هذا الرجلُ حسن الخَلْق والخُلُق، كان كاملَ العقل حسن السمت، جيد السياسة، حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أوَّاهاً منيباً،قانتاً لله، حنيفاً زاهداً مع الخلافة، ناطقاً بالحق مع قلة المعين وكثرة الأمراء الظلمة الذين مَلُّوه وكرهوا محاققته لهم ونقصه أعطياتهم وأخذه كثيراً مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين.
ومن فهمه وفقهه وعَدْلِه أنه لما قدم المدينة والياً عليها جمع فقهاء المدينة، وقال لهم: إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل ظلامة فأُحَرِّجُ بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني، فجزوه خيراً وافترقوا.
ولرجاحة عقله وورعه كان يستشيره الخليفة سليمان بن عبد الملك، فإنه لما وُلِّيَ الخلافة قال لعمر بن عبد العزيز: يا أبا حفص، إنا وُلِّينا ما قد ترى، فما رأيت من مصلحة العامة فمُرْ به، فكان من ذلك عزل كل عمال الحجاج، وأقيمت الصلوات في أوقاتها بعدما كانت تؤخر عن وقتها، مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها، فقيل: إن سليمان بن عبد الملك حج، فرأى الخلائق في عرفة، فقال لعمر: أما ترى هذا الخلق الذي لا يُحصي عددهم إلا الله، فقال عمر: هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غداً خصماؤك، يعني: إن ظلمتهم ولم تعدل فيهم ولم تعطهم حقوقهم ولم يكونوا في محل اهتمامك ورعايتك، فبكى سليمان بكاءً شديداً.
أرأيتم كيف أنه نصح له ولم يتملَّقه ولم يُثْنِ عليه بما ليس فيه، بل حذَّره من الحساب يوم القيامة؟.
قال الإمام الذهبي معلقاً:
كان عمر بن عبد العزيز لسليمان وزير صدق، وهذا أمر مهم جداً، ومن أسباب عدل الحاكم وصحة أحكامه وقراراته، أن يكون له بطانة صالحة ناصحة لا يشيرون عليه إلا بما فيه مصلحة العامة، ولا يكون همهم مكاسبهم وأمورهم الخاصة.
ولما وُلِّيَ عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب الناس، فقال:
لست بخير أحد منكم، ولكني أثقلكم حملاً.
وقال له أحد مرافقيه: مالي أراك مغتما؟، فقال: لمثل ما أنا فيه فليغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه، غير كاتب إليَّ فيه ولا طالبه مني.
يعني يريد أن يوصل إلى جميع الناس حقوقهم من غير أن يطلبوها منه.
وحين وُلِّيَ الخلافة جاءه أصحاب مراكب الخلافة يسألونه العلوفة ورزق خدمها، يعني في تعبيرنا المعاصر: جاءه سائقوا سيارات الخلافة يسألونه الوقود لها ورواتب سائقيها، فقال عمر بن عبد العزيز للموظف المسؤول: ابعث بها إلى أمصار الشام يبيعونها، واجعل أثمانها في مال الله، تكفيني بغلتي هذه الشهباء.
ولما وُلِّيَ الخلافة بكى، فقال له رجل: كيف حبُّك للدنيا والدرهم؟ قال: لا أحبه، قال: إذن لا تخف، فإن الله سيعينك.
ولما ولي الخلافة كذلك خير امرأته - وهي فاطمة بنت عبد الملك بن مروان ، قيل فيها: بنت الخليفة والخليفة جدها، أخت الخلائف والخليفة زوجها- بين أن تقيم في منزلها وعلى حالها، وأعلمها أنه قد شغل بما في عنقه عن النساء، وبين أن تلحق بمنزل أبيها، فبكت، و بكت جواريها.
جلسة الصفا
3 رجب 1446
3 كانون الثاني 2025
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*عمر بن عبد العزيز رائد العدل والإصلاح*
بسم الله الرحمن الرحيم
نتكلم اليوم عن أحد رموز و رواد العدل والإصلاح ممن تميَّز وتألَّق وكان له أثر عظيم في السياسة والمجتمع، هذا الذي قيل فيه إنه خامس الخلفاء الراشدين، لأنه سار على نهجهم واقتفى أثرهم واقتدى بهديهم، إنه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وقد وصفه الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، فقال: الإمام الحافظ العلَّامة المجتهد الزاهد العابد السيد أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص القرشي الأموي المدني الخليفة الزاهد الراشد.
كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين رحمة الله تعالى عليه.
أمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يعني ينتهي نسبه من جهة أمه إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ولذلك كنَّى نفسه أبا حفص وهي كنية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
كان على جانب كبير من العلم لذلك وصفه الإمام الذهبي بأنه العلامة المجتهد، وقد روى عن كثيرين من الحفاظ والمحدثين من التابعين، وروى عنه كذلك خلق كثير.
قال عمر بن ميمون: كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة.
وقال أيضاً: أتينا عمر بن عبد العزيز ونحن نرى أنه يحتاج إلينا، فما كنا معه إلا تلامذة.
قال الإمام الزهري: سمرت مع عمر بن عبد العزيز ليلة فحدَّثته، فقال لي: كل ما حدثتَه الليلة فقد سمعتُه، ولكنك حفظتَ ونسينا.
قال الإمام الذهبي في وصفه:
قد كان هذا الرجلُ حسن الخَلْق والخُلُق، كان كاملَ العقل حسن السمت، جيد السياسة، حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أوَّاهاً منيباً،قانتاً لله، حنيفاً زاهداً مع الخلافة، ناطقاً بالحق مع قلة المعين وكثرة الأمراء الظلمة الذين مَلُّوه وكرهوا محاققته لهم ونقصه أعطياتهم وأخذه كثيراً مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين.
ومن فهمه وفقهه وعَدْلِه أنه لما قدم المدينة والياً عليها جمع فقهاء المدينة، وقال لهم: إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل ظلامة فأُحَرِّجُ بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني، فجزوه خيراً وافترقوا.
ولرجاحة عقله وورعه كان يستشيره الخليفة سليمان بن عبد الملك، فإنه لما وُلِّيَ الخلافة قال لعمر بن عبد العزيز: يا أبا حفص، إنا وُلِّينا ما قد ترى، فما رأيت من مصلحة العامة فمُرْ به، فكان من ذلك عزل كل عمال الحجاج، وأقيمت الصلوات في أوقاتها بعدما كانت تؤخر عن وقتها، مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها، فقيل: إن سليمان بن عبد الملك حج، فرأى الخلائق في عرفة، فقال لعمر: أما ترى هذا الخلق الذي لا يُحصي عددهم إلا الله، فقال عمر: هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غداً خصماؤك، يعني: إن ظلمتهم ولم تعدل فيهم ولم تعطهم حقوقهم ولم يكونوا في محل اهتمامك ورعايتك، فبكى سليمان بكاءً شديداً.
أرأيتم كيف أنه نصح له ولم يتملَّقه ولم يُثْنِ عليه بما ليس فيه، بل حذَّره من الحساب يوم القيامة؟.
قال الإمام الذهبي معلقاً:
كان عمر بن عبد العزيز لسليمان وزير صدق، وهذا أمر مهم جداً، ومن أسباب عدل الحاكم وصحة أحكامه وقراراته، أن يكون له بطانة صالحة ناصحة لا يشيرون عليه إلا بما فيه مصلحة العامة، ولا يكون همهم مكاسبهم وأمورهم الخاصة.
ولما وُلِّيَ عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب الناس، فقال:
لست بخير أحد منكم، ولكني أثقلكم حملاً.
وقال له أحد مرافقيه: مالي أراك مغتما؟، فقال: لمثل ما أنا فيه فليغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه، غير كاتب إليَّ فيه ولا طالبه مني.
يعني يريد أن يوصل إلى جميع الناس حقوقهم من غير أن يطلبوها منه.
وحين وُلِّيَ الخلافة جاءه أصحاب مراكب الخلافة يسألونه العلوفة ورزق خدمها، يعني في تعبيرنا المعاصر: جاءه سائقوا سيارات الخلافة يسألونه الوقود لها ورواتب سائقيها، فقال عمر بن عبد العزيز للموظف المسؤول: ابعث بها إلى أمصار الشام يبيعونها، واجعل أثمانها في مال الله، تكفيني بغلتي هذه الشهباء.
ولما وُلِّيَ الخلافة بكى، فقال له رجل: كيف حبُّك للدنيا والدرهم؟ قال: لا أحبه، قال: إذن لا تخف، فإن الله سيعينك.
ولما ولي الخلافة كذلك خير امرأته - وهي فاطمة بنت عبد الملك بن مروان ، قيل فيها: بنت الخليفة والخليفة جدها، أخت الخلائف والخليفة زوجها- بين أن تقيم في منزلها وعلى حالها، وأعلمها أنه قد شغل بما في عنقه عن النساء، وبين أن تلحق بمنزل أبيها، فبكت، و بكت جواريها.
قال عطاء بن أبي رباح:حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه، فإذا هو في مصلاه، يده على خده سائلة دموعه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألشيء حدث؟، فقال: يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد ﷺ ، فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، فخشيت ألا تثبت لي حجة، فرحمت نفسي فبكيت.
قال الإمام الأوزاعي:
إن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد؟ فقال له رجل منهم: لم تعرض علينا ما لا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟، إني لأعلم أنه يصير إلى بلى، و إني أكره أن تدنسوه علي بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني، وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم؟، هيهات هيهات، فقالوا له: لم، أما لنا قرابة؟أما لنا حق؟، قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء.
يقول الأوزاعي :
كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رسالة فيها:
أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما ينفعه والسلام.
وكتب إلى رجل آخر:
إنك إن استشعرت ذكر الموت ليلك ونهارك، بَغُضَ إليك كل فان، وحُبِّبَ إليك كل باق، والسلام.
وقال الأوزاعي أيضاً:
كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه ثلاثاً، ثم عاقبه كراهية أن يعجل في أول غضبه.
حدث سعيد بن سويد:
أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك لو لبست، فقال عمر: أفضل القصد عند الجدة(عند الغنى)، وأفضل العفو عند المقدرة.
رووا عنه أن نفقته كانت كل يوم درهمين.
وقد قال لامرأته يوماً: عندك درهم أشتري به عنباً؟ قالت: لا، قال: فعندك فلوس؟ قالت: لا، أنت أمير المؤمنين ولا تقدر على درهم؟؟!، فقال لها: هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم.
وعن ورعه، ذكر عمر بن مهاجر: أن عمر بن عبد العزيز كان تسرج عليه الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ أطفأها وأسرج عليه سراجه.
ولذلك، ولهذا الزهد العظيم قال مالك بن دينار: الناس يقولون عني: زاهد؟!!، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها.
قال مكحول الشامي: لو حلفت لصدقت، ما رأيت أزهد ولا أخوف لله تعالى من عمر بن عبد العزيز.
قال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز: حدثني، فحدثته، فبكى بكاءً شديداً، فقلت: لو علمت لحدثتك ألين منه، فقال: إنا نأكل العدس وهي كما علمت، مرقة للقلب مغزرة للدمعة، مذلة للجسد.
دخل عليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إن من قبلك كانت الخلافة زيناً لهم، وأنت زين الخلافة، فأعرض عنه.
وقال له رجل آخر: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فقال عمر: بل جزى الله الإسلام عني خيراً.
قال عمرو بن مهاجر: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحاً، فأهدى له رجل من أهل بيته تفاحاً، فقال: ما أطيب ريحه وأحسنه، ثم قال: ارفعه يا غلام للذي أتى به، وقل له: إن هديتك وقعت عندنا بحيث تحب، فقال له: يا أمير المؤمنين إن الذي بعث إليك بالتفاح ابن عمك ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن رسول الله ﷺ كان يأكل الهدية، فقال له: ويحك إن الهدية كانت له هدية، وهي اليوم لنا رشوة.
ومن تواضعه العجيب ما ذكره رجاء بن حيوة(وهو الذي أشار إلى سليمان بن عبد الملك أن يكون عمر بن عبد العزيز هو الخليفة بعده) ، وهو من البطانة الصالحة قال لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : ما أكمل مروءة أبيك، سمرت عنده، فعشي (تعطل)السراج، وإلى جانبه خادم نام، قلت: ألا أنبهه؟ قال: لا، دعه، قلت: أنا أقوم، قال: ليس من مروءة الرجل استخدامه ضيفه، فقام عمر إلى إناء الزيت، وأصلح السراج، ثم رجع فقال: قمت و أنا عمر بن عبد العزيز و رجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
قيل له: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتاً، دُفِنْتَ في موضع القبر الرابع مع رسول الله ﷺ ، قال: والله لأن يعذبني الله بغير النار، أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أُراني لذلك أهلاً.
قال سفيان بن عيينة: قلت لعبد العزيز بن عمر: ما آخر ما تكلم به أبوك؟ قال: كان له من الولد أنا وعبد الله وعاصم وإبراهيم، وكنا أغيلمة، فجئنا كالمسلمين عليه والمودعين له، فقيل له: تركت ولدك ليس لهم مال، ولم توؤهم إلى أحد، فقال: ما كنت لأعطيهم ما ليس لهم، وما كنت لآخذ حقاً هو لهم، وإن وليي الله فيهم الذي يتولى الصالحين، وفي كتاب "البداية والنهاية" إنه قال: هم بين رجلين، إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أترك له على ما يستعين به لمعصية الله تعالى.
قال الإمام الأوزاعي:
إن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد؟ فقال له رجل منهم: لم تعرض علينا ما لا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟، إني لأعلم أنه يصير إلى بلى، و إني أكره أن تدنسوه علي بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني، وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم؟، هيهات هيهات، فقالوا له: لم، أما لنا قرابة؟أما لنا حق؟، قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء.
يقول الأوزاعي :
كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رسالة فيها:
أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما ينفعه والسلام.
وكتب إلى رجل آخر:
إنك إن استشعرت ذكر الموت ليلك ونهارك، بَغُضَ إليك كل فان، وحُبِّبَ إليك كل باق، والسلام.
وقال الأوزاعي أيضاً:
كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه ثلاثاً، ثم عاقبه كراهية أن يعجل في أول غضبه.
حدث سعيد بن سويد:
أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك لو لبست، فقال عمر: أفضل القصد عند الجدة(عند الغنى)، وأفضل العفو عند المقدرة.
رووا عنه أن نفقته كانت كل يوم درهمين.
وقد قال لامرأته يوماً: عندك درهم أشتري به عنباً؟ قالت: لا، قال: فعندك فلوس؟ قالت: لا، أنت أمير المؤمنين ولا تقدر على درهم؟؟!، فقال لها: هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم.
وعن ورعه، ذكر عمر بن مهاجر: أن عمر بن عبد العزيز كان تسرج عليه الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ أطفأها وأسرج عليه سراجه.
ولذلك، ولهذا الزهد العظيم قال مالك بن دينار: الناس يقولون عني: زاهد؟!!، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها.
قال مكحول الشامي: لو حلفت لصدقت، ما رأيت أزهد ولا أخوف لله تعالى من عمر بن عبد العزيز.
قال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز: حدثني، فحدثته، فبكى بكاءً شديداً، فقلت: لو علمت لحدثتك ألين منه، فقال: إنا نأكل العدس وهي كما علمت، مرقة للقلب مغزرة للدمعة، مذلة للجسد.
دخل عليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إن من قبلك كانت الخلافة زيناً لهم، وأنت زين الخلافة، فأعرض عنه.
وقال له رجل آخر: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فقال عمر: بل جزى الله الإسلام عني خيراً.
قال عمرو بن مهاجر: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحاً، فأهدى له رجل من أهل بيته تفاحاً، فقال: ما أطيب ريحه وأحسنه، ثم قال: ارفعه يا غلام للذي أتى به، وقل له: إن هديتك وقعت عندنا بحيث تحب، فقال له: يا أمير المؤمنين إن الذي بعث إليك بالتفاح ابن عمك ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن رسول الله ﷺ كان يأكل الهدية، فقال له: ويحك إن الهدية كانت له هدية، وهي اليوم لنا رشوة.
ومن تواضعه العجيب ما ذكره رجاء بن حيوة(وهو الذي أشار إلى سليمان بن عبد الملك أن يكون عمر بن عبد العزيز هو الخليفة بعده) ، وهو من البطانة الصالحة قال لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : ما أكمل مروءة أبيك، سمرت عنده، فعشي (تعطل)السراج، وإلى جانبه خادم نام، قلت: ألا أنبهه؟ قال: لا، دعه، قلت: أنا أقوم، قال: ليس من مروءة الرجل استخدامه ضيفه، فقام عمر إلى إناء الزيت، وأصلح السراج، ثم رجع فقال: قمت و أنا عمر بن عبد العزيز و رجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
قيل له: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتاً، دُفِنْتَ في موضع القبر الرابع مع رسول الله ﷺ ، قال: والله لأن يعذبني الله بغير النار، أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أُراني لذلك أهلاً.
قال سفيان بن عيينة: قلت لعبد العزيز بن عمر: ما آخر ما تكلم به أبوك؟ قال: كان له من الولد أنا وعبد الله وعاصم وإبراهيم، وكنا أغيلمة، فجئنا كالمسلمين عليه والمودعين له، فقيل له: تركت ولدك ليس لهم مال، ولم توؤهم إلى أحد، فقال: ما كنت لأعطيهم ما ليس لهم، وما كنت لآخذ حقاً هو لهم، وإن وليي الله فيهم الذي يتولى الصالحين، وفي كتاب "البداية والنهاية" إنه قال: هم بين رجلين، إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أترك له على ما يستعين به لمعصية الله تعالى.
تقول زوجته فاطمة بنت عبد الملك: كنت أسمعه في مرضه يقول: اللهم أخف عليهم أمري ولو ساعة، قلت له: ألا أخرج عنك، قال: أخرجي، فخرجت، فجعلت أسمعه يقول:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وأخذ يرددها مراراً، ثم هدأ الصوت، فدخلوا عليه فوجدوه قد قبض، وقد أقبل بوجهه على القبلة،ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينيه.
لما جاء نعيه إلى الحسن البصري قال: مات خير الناس.
مات عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة في شهر رجب سنة إحدى ومئة في معرة النعمان، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك، وعاش تسعاً وثلاثين سنة ونصف، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر.
فرحمه الله تعالى وجعله في عليين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وأخذ يرددها مراراً، ثم هدأ الصوت، فدخلوا عليه فوجدوه قد قبض، وقد أقبل بوجهه على القبلة،ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينيه.
لما جاء نعيه إلى الحسن البصري قال: مات خير الناس.
مات عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة في شهر رجب سنة إحدى ومئة في معرة النعمان، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك، وعاش تسعاً وثلاثين سنة ونصف، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر.
فرحمه الله تعالى وجعله في عليين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
💥هام جدا 💥
للتعميم والمشاركة في جميع وسائل التواصل الاجتماعي
للتعميم والمشاركة في جميع وسائل التواصل الاجتماعي
426
جلسة الصفا
10 رجب 1446
10 كانون الثاني 2025
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
الشيخ سارية الرفاعي
الرجل الذي افتقدناه
بسم الله الرحمن الرحيم
خسرنا في هذا الأسبوع قامة كبيرة في العلم والعمل والدعوة والتربية وأعمال الخير المتنوعة، ترك آثاراً عظيمة طيبة في هذه المجالات كلها، ألا وهو فضيلة الشيخ سارية الرفاعي رحمه الله تعالى.
والذي ينبغي أن نعرفه، لنُرَبِّي أولادنا وشبابنا على مثاله ليكونوا بنائين للبلاد نافعين للعباد، هو أن نعلم كيف نشأ هذا الرجل وكيف صنع هذا الصنع ورُبِّيَ هذه التربية العالية حتى كان منه ما كان.
ولد الشيخ سارية الرفاعي سنة 1948م لأسرة علمية مرموقة، وهو ابن الشيخ الكبير العلامة عبد الكريم الرفاعي صاحب النهضات العلمية والنشاطات الدعوية في جامع زيد بن ثابت الذي امتد أثره إلى عديد من المساجد في دمشق وريف دمشق، والذي سنفرد له ترجمة وافية بإذن الله تعالى.
نشأ الشيخ سارية في كنف والده وتحت رعايته وبتوجيهاته وإرشاداته، وأخذ عنه العلوم الشرعية والعربية وعن كبار تلاميذه في مسجد زيد بن ثابت، ثم انتسب إلى معهد الجمعية الغراء في مراحله الدراسية كلها، ودخل الثانوية الشرعية التابعة لها، فتتلمذ على كبار العلماء فيها إلى أن نال الشهادة الثانوية منها عام 1966 م.
وكان من شيوخه في هذا المعهد كبار العلماء الذين أثروا علومه ومعارفه في شتى فنون العلم، منهم الشيخ محمد كريم راجح في مادة التفسير، والشيخ عبد الرزاق الحمصي في مادة الفقه الشافعي والشيخ نايف العباس في مادتي التاريخ والسيرة النبوية، والشيخ خالد الراوي في مادة اللغة العربية، والشيخ سعيد الطنطاوي، شقيق الشيخ علي الطنطاوي، في مواد الكيمياء والفيزياء والإعلام، والشيخ محمد صالح فرفور في مادتي البلاغة والخطابة، وقرأ كذلك على مفتي سورية آنئذٍ الشيخ الطبيب أبي اليسر عابدين الفقه الحنفي، ومغني اللبيب في النحو.
كما أدرك طبقة عالية من علماء الشام وجالسهم، كالشيخ أبي الخير الميداني والشيخ إبراهيم الغلاييني والسيد مكي الكتاني والشيخ حسن حبنكة والشيخ عبد الوهاب الحافظ المعروف بدبس وزيت وغيرهم.
وهذا يُشير إلى أنك إذا أردت أن يكون ولدك كبيراً في العلم والمعرفة أو كبيراً في الصناعة أو في أي مجال من مجالات الحياة، فينبغي أن تضعه منذ نعومة أظفاره عند الكبار في العلم والتربية والصناعة، لأن الكبير ينتج كبيراً، ولأن العظيم ينتج عظيماً، ولأن البطل ينتج بطلاً، أما الذين هم محدودو المعرفة قليلو الخبرة، فإنهم لا يمكنهم صنع رجال كبار لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك.
وأعظم الأمثلة على الإطلاق هو سيدنا محمد ﷺ الذي تناهت إليه العظمة البشرية، فقد ربى أعظم رجال في التاريخ وهم صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم، والذين كل واحد منهم هو أمة وحده، والذين قادوا الإنسانية إلى ذروة عزها ومجدها وحضارتها.
ولم يكتف الشيخ سارية بما حصَّله من هؤلاء العلماء الكبار، فقد كان نهمه إلى العلم يدفعه إلى أن ينهل المزيد منه، فسافر عام 1966 إلى مصر، والتحق بالأزهر الشريف وتخرج في كلية أصول الدين عام 1971م، ثم حصل على درجة الماجستير في التفسير عام 1977م، وقد تتلمذ في الأزهر على كبار علمائه المشهود لهم بالأستاذية والتمكن في العلم مثل الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الذي كان عميداً لكلية أصول الدين والشيخ عبد الغني عبد الخالق وغيرهم.
وكان قد تسلَّم وظيفة الإمامة والخطابة في مسجد زيد بن ثابت بعد وفاة والده الشيخ عبد الكريم الرفاعي عام 1973م.
كما تم تعيينه مدرساً في دائرة الإفتاء العام منذ عام 1973.
وكان في عام 1965 قد أرسله والده الشيخ عبد الكريم بطلب من الشيخ بشير الشلاح رحمه الله تعالى، الذي كان رئيس لجنة بناء جامع القصور، أرسله إلى جامع القصور في منطقة التجارة ليكون إماماً فيه، فأسَّس في الجامع بالإضافة إلى إمامته عملاً دعوياً مباركاً، وأنشأ حلقات علمية من الشباب مع ثلَّة من إخوانه ولم يتجاوز السابعة عشرة من عمره.
إن نشوءه في كنف والده الداعية المربي، جعل حب الدعوة يسري في دمه، وصارت هدفاً من أهدافه ومن طموحاته و أمنياته.
ولما رجع إلى جامع زيد عقب وفاة والده تابع كذلك نشاط والده في التعليم والتربية والدعوة فتوسعت لديه الحلقات العلمية، وازداد إقبال الشباب على المسجد وأخذ يضمهم إلى حلقات العلم في الفقه وأصوله والعقيدة والتفسير والحديث واللغة العربية وغيرها، وكان يضع كل طالب فيما يناسبه من المستوى العلمي، فثمة حلقات للعمال، وأخرى لطلاب المدارس، وغيرها للجامعيين، وهكذا، بالإضافة إلى الدرس العام الذي خلَف فيه أباه والذي كان يوم الثلاثاء بين المغرب والعشاء.
جلسة الصفا
10 رجب 1446
10 كانون الثاني 2025
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
الشيخ سارية الرفاعي
الرجل الذي افتقدناه
بسم الله الرحمن الرحيم
خسرنا في هذا الأسبوع قامة كبيرة في العلم والعمل والدعوة والتربية وأعمال الخير المتنوعة، ترك آثاراً عظيمة طيبة في هذه المجالات كلها، ألا وهو فضيلة الشيخ سارية الرفاعي رحمه الله تعالى.
والذي ينبغي أن نعرفه، لنُرَبِّي أولادنا وشبابنا على مثاله ليكونوا بنائين للبلاد نافعين للعباد، هو أن نعلم كيف نشأ هذا الرجل وكيف صنع هذا الصنع ورُبِّيَ هذه التربية العالية حتى كان منه ما كان.
ولد الشيخ سارية الرفاعي سنة 1948م لأسرة علمية مرموقة، وهو ابن الشيخ الكبير العلامة عبد الكريم الرفاعي صاحب النهضات العلمية والنشاطات الدعوية في جامع زيد بن ثابت الذي امتد أثره إلى عديد من المساجد في دمشق وريف دمشق، والذي سنفرد له ترجمة وافية بإذن الله تعالى.
نشأ الشيخ سارية في كنف والده وتحت رعايته وبتوجيهاته وإرشاداته، وأخذ عنه العلوم الشرعية والعربية وعن كبار تلاميذه في مسجد زيد بن ثابت، ثم انتسب إلى معهد الجمعية الغراء في مراحله الدراسية كلها، ودخل الثانوية الشرعية التابعة لها، فتتلمذ على كبار العلماء فيها إلى أن نال الشهادة الثانوية منها عام 1966 م.
وكان من شيوخه في هذا المعهد كبار العلماء الذين أثروا علومه ومعارفه في شتى فنون العلم، منهم الشيخ محمد كريم راجح في مادة التفسير، والشيخ عبد الرزاق الحمصي في مادة الفقه الشافعي والشيخ نايف العباس في مادتي التاريخ والسيرة النبوية، والشيخ خالد الراوي في مادة اللغة العربية، والشيخ سعيد الطنطاوي، شقيق الشيخ علي الطنطاوي، في مواد الكيمياء والفيزياء والإعلام، والشيخ محمد صالح فرفور في مادتي البلاغة والخطابة، وقرأ كذلك على مفتي سورية آنئذٍ الشيخ الطبيب أبي اليسر عابدين الفقه الحنفي، ومغني اللبيب في النحو.
كما أدرك طبقة عالية من علماء الشام وجالسهم، كالشيخ أبي الخير الميداني والشيخ إبراهيم الغلاييني والسيد مكي الكتاني والشيخ حسن حبنكة والشيخ عبد الوهاب الحافظ المعروف بدبس وزيت وغيرهم.
وهذا يُشير إلى أنك إذا أردت أن يكون ولدك كبيراً في العلم والمعرفة أو كبيراً في الصناعة أو في أي مجال من مجالات الحياة، فينبغي أن تضعه منذ نعومة أظفاره عند الكبار في العلم والتربية والصناعة، لأن الكبير ينتج كبيراً، ولأن العظيم ينتج عظيماً، ولأن البطل ينتج بطلاً، أما الذين هم محدودو المعرفة قليلو الخبرة، فإنهم لا يمكنهم صنع رجال كبار لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك.
وأعظم الأمثلة على الإطلاق هو سيدنا محمد ﷺ الذي تناهت إليه العظمة البشرية، فقد ربى أعظم رجال في التاريخ وهم صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم، والذين كل واحد منهم هو أمة وحده، والذين قادوا الإنسانية إلى ذروة عزها ومجدها وحضارتها.
ولم يكتف الشيخ سارية بما حصَّله من هؤلاء العلماء الكبار، فقد كان نهمه إلى العلم يدفعه إلى أن ينهل المزيد منه، فسافر عام 1966 إلى مصر، والتحق بالأزهر الشريف وتخرج في كلية أصول الدين عام 1971م، ثم حصل على درجة الماجستير في التفسير عام 1977م، وقد تتلمذ في الأزهر على كبار علمائه المشهود لهم بالأستاذية والتمكن في العلم مثل الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الذي كان عميداً لكلية أصول الدين والشيخ عبد الغني عبد الخالق وغيرهم.
وكان قد تسلَّم وظيفة الإمامة والخطابة في مسجد زيد بن ثابت بعد وفاة والده الشيخ عبد الكريم الرفاعي عام 1973م.
كما تم تعيينه مدرساً في دائرة الإفتاء العام منذ عام 1973.
وكان في عام 1965 قد أرسله والده الشيخ عبد الكريم بطلب من الشيخ بشير الشلاح رحمه الله تعالى، الذي كان رئيس لجنة بناء جامع القصور، أرسله إلى جامع القصور في منطقة التجارة ليكون إماماً فيه، فأسَّس في الجامع بالإضافة إلى إمامته عملاً دعوياً مباركاً، وأنشأ حلقات علمية من الشباب مع ثلَّة من إخوانه ولم يتجاوز السابعة عشرة من عمره.
إن نشوءه في كنف والده الداعية المربي، جعل حب الدعوة يسري في دمه، وصارت هدفاً من أهدافه ومن طموحاته و أمنياته.
ولما رجع إلى جامع زيد عقب وفاة والده تابع كذلك نشاط والده في التعليم والتربية والدعوة فتوسعت لديه الحلقات العلمية، وازداد إقبال الشباب على المسجد وأخذ يضمهم إلى حلقات العلم في الفقه وأصوله والعقيدة والتفسير والحديث واللغة العربية وغيرها، وكان يضع كل طالب فيما يناسبه من المستوى العلمي، فثمة حلقات للعمال، وأخرى لطلاب المدارس، وغيرها للجامعيين، وهكذا، بالإضافة إلى الدرس العام الذي خلَف فيه أباه والذي كان يوم الثلاثاء بين المغرب والعشاء.
وفي عام 1981 هاجر الشيخ من دمشق إلى المدينة المنورة وذلك إثر تعرضه إلى ضغوطات من النظام، واغتنم وجوده في المدينة المنورة فجالس هناك ثلة من العلماء والصالحين كالشيخ أحمد عبد العزيز الشَّنْقيطي والشيخ محمد نمر الخطيب وغيرهم.
وبقي في مهجره ثلاث عشرة سنة حيث رجع إلى دمشق عام 1993، وتسلم مرة أخرى منصب الإمامة والخطابة في مسجد زيد بن ثابت، ثم ازداد نشاط الأعمال العلمية والدعوية في المسجد بصحبة ثلة من إخوانه وطلابه، حيث كان الشيخ حركة لا تهدأ في بث العلم وتأسيس الحلقات العلمية، وفي عام 1994 قام الشيخ بتوسيع المسجد بجهود بعض التجار الأبرار، وأسس فيه معهد الفرقان للإناث.
وبالإضافة إلى نشاطه العلمي والتربوي والدعوي كانت نفسه تتوق إلى أعمال الخير و البر وقد كان قلبه رقيقاً يتألم لأحوال الفقراء والمساكين، فهداه تفكيره إلى تأسيس جمعية صارت من أهم الجمعيات في دمشق وهي جمعية حفظ النعمة، هذه الجمعية الرائدة التي كان لها نشاط في مجالات عديدة مما يتصل بحاجات الفقراء والمساكين من الغذاء إلى الكساء، إلى الدواء إلى الأثاث، وذلك حسب ما يلي:
فقد بدأت انطلاقة هذه الجمعية عام 2003 م على إعلان مشروع الغذاء، الذي كان يهدف إلى جمع ما يفضل من الطعام في المناسبات والولائم، ليتم استصلاحه وإعادة ترتيبه، وتقديمه من جديد للفقراء والمحتاجين, وهكذا تُحفظ النعمة ويُكفى المحتاجون، ثم تطوَّر الأمر إلى إعداد مطبخ كبير يصنع فيه الطعام ويوزع على الأسر الفقيرة.
وفي عام 2004 أُعلن عن مشروع الكساء، حيث تُجمع الألبسة الفائضة عن الحاجة وتوزَّع إلى أولي الحاجة، ثم توسَّع المشروع إلى إعطاء الملابس الجديدة من المصانع، ثم تطوَّر تطوراً آخر فصارت هنالك ورشات خاصة للخياطة، حيث يتبرع التجار بالأقمشة ويُصار إلى خياطتها وتوزيعها.
وفي عام 2005 أُعلن عن مشروع الدواء لجمع الأدوية الصالحة وفرزها والاستفادة منها.
وفي عام 2006 أُعلن عن مشروع الأثاث وذلك لخدمة الشباب الفقراء المقبلين على الزواج لتجهيز بيوتهم بما يحتاجون إليه من أثاث ونحوه.
وفي عام 2007 أُعلن عن مشروع التميُّز في كفالة اليتيم، بهدف كفالة الأيتام ماليًّا وتوجيههم تربويًّا وأخلاقيًّا ومتابعتهم دراسياً، مع العناية كذلك بالأمهات الأرامل، وقد تمت رعاية ما يزيد على ثلاثين ألف يتيم في دمشق وريفها.
لقد كان فكر الشيخ سارية رحمه الله تعالى فكراً مبدعاً ولَّاداً، فكان في كل عام تتولَّد معه فكرة جديدة رائدة في مشروع حفظ النعمة، كل ذلك بسبب شدة اهتمامه بتأمين حاجات الفقراء.
وفي الحقيقة أن هذا هو ما يهمُّ المؤمن الصادق، فالمؤمن ينطبق عليه قول النبي ﷺ:
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر.
المؤمن الصادق لا يصدر عنه إلا الخير للأمة جمعاء، يحب لهم الأمان والعافية والكفاية، همه واهتمامه في سد حاجاتهم والقيام بشؤونهم وأن يراهم سعداء ترتسم بسمة الرضا والسرور على وجوههم، لأنه يحب الخير لهم جميعاً، يذكرنا هذا بقول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه:
إني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به وما لي به سائمة، و إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلِّي لا أقاضي إليه أبداً.
هذه هي طبيعة المؤمن وأخلاقه، يحب الخير للأمة ويفرح أن يعمها الخير والفضل، وغير المؤمن لا يحب إلا نفسه ولا يحرص إلا على ملء جيبه وثروته وماله.
المؤمن يقدم مصلحة الأمة العامة على مصلحته الخاصة، وغير المؤمن لا يهمه إلا مصلحته الشخصية الخاصة.
المؤمن يضع نفسه في خدمة الأمة، وغير المؤمن يريد أن يضع الأمة في خدمته.
المؤمن ينفق من جيبه وماله ليسعد الناس، وغير المؤمن يأخذ من جيوب الناس وأموالهم ليَسْعَد هو وأسرته.
ولمزيد من التأسيس العلمي والترسيخ المعرفي أسس الشيخ سارية مكتب التحقيق والتأليف، حيث قام المكتب بإعداد منهج للدورات الصيفية في المساجد تحت عنوان "الثقافة الإسلامية" لعدة مستويات.
وأسس مركز زيد بن ثابت للقيام بأنشطة علمية ودعوية وإعلامية، وكان من أنشطة المركز إطلاق قناة الدعوة الفضائية التي قام النظام البائد آنذاك بإغلاقها بعد مضي أشهر معدودة على إطلاقها.
وكان للشيخ سارية عمله التجاري الخاص به ليأكل من عمل يده، فبدأ بالعمل مبكراً في تجارة الكتب، فكان يشتري الكتب من مصر ويبيعها في الشام، ثم أسس مكتبة الغزالي للطباعة والنشر قبالة مسجد زيد بن ثابت عام 1969م التي أصدرت العديد من الكتب والدراسات العلمية والأدبية والثقافية.
وفي بداية الحراك الثوري عام 2011، وقف الشيخ سارية ضد النظام فيما كان يرتكبه من فظائع وأعلن من على منبره إنكاره لما يقوم به من اقتحام المدن وغير ذلك، ثم اضطرته الظروف إلى مغادرة البلاد في عام 2012، حيث هاجر أولاً إلى مصر، وأقام في القاهرة أكثر من عام لم يفتر فيه عن العمل والبذل، إذ كانت له مساهمات تعليمية مجتمعية بإنشاء المدارس وإرسال المعونات إلى
وبقي في مهجره ثلاث عشرة سنة حيث رجع إلى دمشق عام 1993، وتسلم مرة أخرى منصب الإمامة والخطابة في مسجد زيد بن ثابت، ثم ازداد نشاط الأعمال العلمية والدعوية في المسجد بصحبة ثلة من إخوانه وطلابه، حيث كان الشيخ حركة لا تهدأ في بث العلم وتأسيس الحلقات العلمية، وفي عام 1994 قام الشيخ بتوسيع المسجد بجهود بعض التجار الأبرار، وأسس فيه معهد الفرقان للإناث.
وبالإضافة إلى نشاطه العلمي والتربوي والدعوي كانت نفسه تتوق إلى أعمال الخير و البر وقد كان قلبه رقيقاً يتألم لأحوال الفقراء والمساكين، فهداه تفكيره إلى تأسيس جمعية صارت من أهم الجمعيات في دمشق وهي جمعية حفظ النعمة، هذه الجمعية الرائدة التي كان لها نشاط في مجالات عديدة مما يتصل بحاجات الفقراء والمساكين من الغذاء إلى الكساء، إلى الدواء إلى الأثاث، وذلك حسب ما يلي:
فقد بدأت انطلاقة هذه الجمعية عام 2003 م على إعلان مشروع الغذاء، الذي كان يهدف إلى جمع ما يفضل من الطعام في المناسبات والولائم، ليتم استصلاحه وإعادة ترتيبه، وتقديمه من جديد للفقراء والمحتاجين, وهكذا تُحفظ النعمة ويُكفى المحتاجون، ثم تطوَّر الأمر إلى إعداد مطبخ كبير يصنع فيه الطعام ويوزع على الأسر الفقيرة.
وفي عام 2004 أُعلن عن مشروع الكساء، حيث تُجمع الألبسة الفائضة عن الحاجة وتوزَّع إلى أولي الحاجة، ثم توسَّع المشروع إلى إعطاء الملابس الجديدة من المصانع، ثم تطوَّر تطوراً آخر فصارت هنالك ورشات خاصة للخياطة، حيث يتبرع التجار بالأقمشة ويُصار إلى خياطتها وتوزيعها.
وفي عام 2005 أُعلن عن مشروع الدواء لجمع الأدوية الصالحة وفرزها والاستفادة منها.
وفي عام 2006 أُعلن عن مشروع الأثاث وذلك لخدمة الشباب الفقراء المقبلين على الزواج لتجهيز بيوتهم بما يحتاجون إليه من أثاث ونحوه.
وفي عام 2007 أُعلن عن مشروع التميُّز في كفالة اليتيم، بهدف كفالة الأيتام ماليًّا وتوجيههم تربويًّا وأخلاقيًّا ومتابعتهم دراسياً، مع العناية كذلك بالأمهات الأرامل، وقد تمت رعاية ما يزيد على ثلاثين ألف يتيم في دمشق وريفها.
لقد كان فكر الشيخ سارية رحمه الله تعالى فكراً مبدعاً ولَّاداً، فكان في كل عام تتولَّد معه فكرة جديدة رائدة في مشروع حفظ النعمة، كل ذلك بسبب شدة اهتمامه بتأمين حاجات الفقراء.
وفي الحقيقة أن هذا هو ما يهمُّ المؤمن الصادق، فالمؤمن ينطبق عليه قول النبي ﷺ:
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر.
المؤمن الصادق لا يصدر عنه إلا الخير للأمة جمعاء، يحب لهم الأمان والعافية والكفاية، همه واهتمامه في سد حاجاتهم والقيام بشؤونهم وأن يراهم سعداء ترتسم بسمة الرضا والسرور على وجوههم، لأنه يحب الخير لهم جميعاً، يذكرنا هذا بقول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه:
إني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به وما لي به سائمة، و إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلِّي لا أقاضي إليه أبداً.
هذه هي طبيعة المؤمن وأخلاقه، يحب الخير للأمة ويفرح أن يعمها الخير والفضل، وغير المؤمن لا يحب إلا نفسه ولا يحرص إلا على ملء جيبه وثروته وماله.
المؤمن يقدم مصلحة الأمة العامة على مصلحته الخاصة، وغير المؤمن لا يهمه إلا مصلحته الشخصية الخاصة.
المؤمن يضع نفسه في خدمة الأمة، وغير المؤمن يريد أن يضع الأمة في خدمته.
المؤمن ينفق من جيبه وماله ليسعد الناس، وغير المؤمن يأخذ من جيوب الناس وأموالهم ليَسْعَد هو وأسرته.
ولمزيد من التأسيس العلمي والترسيخ المعرفي أسس الشيخ سارية مكتب التحقيق والتأليف، حيث قام المكتب بإعداد منهج للدورات الصيفية في المساجد تحت عنوان "الثقافة الإسلامية" لعدة مستويات.
وأسس مركز زيد بن ثابت للقيام بأنشطة علمية ودعوية وإعلامية، وكان من أنشطة المركز إطلاق قناة الدعوة الفضائية التي قام النظام البائد آنذاك بإغلاقها بعد مضي أشهر معدودة على إطلاقها.
وكان للشيخ سارية عمله التجاري الخاص به ليأكل من عمل يده، فبدأ بالعمل مبكراً في تجارة الكتب، فكان يشتري الكتب من مصر ويبيعها في الشام، ثم أسس مكتبة الغزالي للطباعة والنشر قبالة مسجد زيد بن ثابت عام 1969م التي أصدرت العديد من الكتب والدراسات العلمية والأدبية والثقافية.
وفي بداية الحراك الثوري عام 2011، وقف الشيخ سارية ضد النظام فيما كان يرتكبه من فظائع وأعلن من على منبره إنكاره لما يقوم به من اقتحام المدن وغير ذلك، ثم اضطرته الظروف إلى مغادرة البلاد في عام 2012، حيث هاجر أولاً إلى مصر، وأقام في القاهرة أكثر من عام لم يفتر فيه عن العمل والبذل، إذ كانت له مساهمات تعليمية مجتمعية بإنشاء المدارس وإرسال المعونات إلى
مخيَّمات اللاجئين.
وفي عام 2013 انتقل إلى تركيا واستقر في اسطنبول، وأخذ بإقامة الدروس العلمية والدعوية وتأسيس عدد من المجالس الإسلامية.
وفي الحقيقة أن الذين كانوا ضد النظام في تلك الفترة عدد كبير، منهم من أعلن ومنهم من أسرَّ خشية بطش النظام ومنهم من هاجر و سافر، ومنهم من لم تسمح ظروفه أو اقتضت المصلحة أن يبقى في البلاد، ولم يكن من الشيخ سارية ولا من أخيه الشيخ أسامة الرفاعي لوم أو انتقاد لمن بقي في البلد، بل على العكس من ذلك، كان منهم الثناء والدعاء لمن بقي في البلد يتابع المسيرة العلمية والواجب الدعوي في التوجيه والإرشاد، وكم وصلنا منهم ثناء على الجهود التي يبذلها الإخوة الدعاة هنا ودعاؤهم لهم بالتوفيق، وكانوا يسمونهم: المرابطين ويدعون لهم بالثبات والقبول.
وفي الحقيقة فقد أعطوا بذلك درساً بليغاً في أنه لا ينبغي أن يلوم من هاجر من لم يهاجر، ولا يصفه بعبارات التخاذل أو الخنوع للنظام وغير ذلك مما قد نسمعه من بعض الإخوة العائدين من الشمال.
لقد أكرمنا الله تعالى بهذا الفتح المبين وبهذا العهد الجديد، فالواجب علينا لحماية هذا الإنجاز العظيم، أن نكون يداً واحدة وعلى قلب رجل واحد، وأن نطوي خلافات الماضي، ونجتمع على كلمة واحدة، وهو ما يأمرنا به الله سبحانه وتعالى لنحافظ على هذا النصر المؤزر، وهو القائل:
وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
وإن اجتماع الكلمة وطي الخلافات هو من شكر هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها علينا، والله يسعدنا ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
لقد كان الشيخ سارية رحمه الله تعالى على جانب كبير من الصلاح والعبادة، كان كثير الذكر وتلاوة القرآن الكريم.
كان لطيف المعشر حسن الخلق، دائم الابتسامة ليِّن الجانب رقيق القلب، كريماً مضيافاً محباً للإصلاح بين الناس، يأنس به من يزوره وتترك زيارته في النفس أثراً طيباً وذكرى حسنة.
وكان مع ذلك صابراً محتسباً، راضياً بقضاء الله وقدره، ففي عام 2014 أصيب بجلطة دماغية أدت إلى شلل الطرف الأيسر منه، أقعده عن الحركة مدة عشر سنوات، لكن نشط قلمه هذه الفترة، فدوَّن مذكراته العلمية والدعوية والسياسية في جزئين وألَّف رسالة لطيفة سماها الأربعون السنية في ثلاثيات الأحاديث النبوية، وغيرها من الرسائل النافعة.
وفي السادس من شهر رجب من هذا العام 1446 هجرية والموافق للسادس من كانون الثاني لعام 2025 م فاضت روحه إلى باريها، وانتقلت إلى جوار ربها.
فاللهم أحسن وفادته عليك، و أكرم نزله واغفر له، وارفع درجته في عليين.
ولقد كانت جنازته الحاشدة التي امتلأ بها الجامع الأموي على سعته ورحابته دليلاً عملياً على أن الأمة تحب علماءها، بل كانت استفتاءً شعبياً على أن الأمة تحب الإسلام وتريد الإسلام، لأن في الإسلام كل ما تصبو إليه النفس من الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وتشجيع المواهب وتقديم أصحاب الكفاءات على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم ومعاملة الناس على أساس المواطنة بين جميع أفراد الأمة دون تمييز بينهم، إلى آخر ما في الشريعة من مزايا وفضائل ومكارم.
نسأل الله تعالى أن يعوض المسلمين خيراً، ويجعل الخير في أولاده وذريته وطلابه.
اللهم أُأْجرنا في مصيبتنا وعوضنا خيراً منها يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
وفي عام 2013 انتقل إلى تركيا واستقر في اسطنبول، وأخذ بإقامة الدروس العلمية والدعوية وتأسيس عدد من المجالس الإسلامية.
وفي الحقيقة أن الذين كانوا ضد النظام في تلك الفترة عدد كبير، منهم من أعلن ومنهم من أسرَّ خشية بطش النظام ومنهم من هاجر و سافر، ومنهم من لم تسمح ظروفه أو اقتضت المصلحة أن يبقى في البلاد، ولم يكن من الشيخ سارية ولا من أخيه الشيخ أسامة الرفاعي لوم أو انتقاد لمن بقي في البلد، بل على العكس من ذلك، كان منهم الثناء والدعاء لمن بقي في البلد يتابع المسيرة العلمية والواجب الدعوي في التوجيه والإرشاد، وكم وصلنا منهم ثناء على الجهود التي يبذلها الإخوة الدعاة هنا ودعاؤهم لهم بالتوفيق، وكانوا يسمونهم: المرابطين ويدعون لهم بالثبات والقبول.
وفي الحقيقة فقد أعطوا بذلك درساً بليغاً في أنه لا ينبغي أن يلوم من هاجر من لم يهاجر، ولا يصفه بعبارات التخاذل أو الخنوع للنظام وغير ذلك مما قد نسمعه من بعض الإخوة العائدين من الشمال.
لقد أكرمنا الله تعالى بهذا الفتح المبين وبهذا العهد الجديد، فالواجب علينا لحماية هذا الإنجاز العظيم، أن نكون يداً واحدة وعلى قلب رجل واحد، وأن نطوي خلافات الماضي، ونجتمع على كلمة واحدة، وهو ما يأمرنا به الله سبحانه وتعالى لنحافظ على هذا النصر المؤزر، وهو القائل:
وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
وإن اجتماع الكلمة وطي الخلافات هو من شكر هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها علينا، والله يسعدنا ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
لقد كان الشيخ سارية رحمه الله تعالى على جانب كبير من الصلاح والعبادة، كان كثير الذكر وتلاوة القرآن الكريم.
كان لطيف المعشر حسن الخلق، دائم الابتسامة ليِّن الجانب رقيق القلب، كريماً مضيافاً محباً للإصلاح بين الناس، يأنس به من يزوره وتترك زيارته في النفس أثراً طيباً وذكرى حسنة.
وكان مع ذلك صابراً محتسباً، راضياً بقضاء الله وقدره، ففي عام 2014 أصيب بجلطة دماغية أدت إلى شلل الطرف الأيسر منه، أقعده عن الحركة مدة عشر سنوات، لكن نشط قلمه هذه الفترة، فدوَّن مذكراته العلمية والدعوية والسياسية في جزئين وألَّف رسالة لطيفة سماها الأربعون السنية في ثلاثيات الأحاديث النبوية، وغيرها من الرسائل النافعة.
وفي السادس من شهر رجب من هذا العام 1446 هجرية والموافق للسادس من كانون الثاني لعام 2025 م فاضت روحه إلى باريها، وانتقلت إلى جوار ربها.
فاللهم أحسن وفادته عليك، و أكرم نزله واغفر له، وارفع درجته في عليين.
ولقد كانت جنازته الحاشدة التي امتلأ بها الجامع الأموي على سعته ورحابته دليلاً عملياً على أن الأمة تحب علماءها، بل كانت استفتاءً شعبياً على أن الأمة تحب الإسلام وتريد الإسلام، لأن في الإسلام كل ما تصبو إليه النفس من الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وتشجيع المواهب وتقديم أصحاب الكفاءات على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم ومعاملة الناس على أساس المواطنة بين جميع أفراد الأمة دون تمييز بينهم، إلى آخر ما في الشريعة من مزايا وفضائل ومكارم.
نسأل الله تعالى أن يعوض المسلمين خيراً، ويجعل الخير في أولاده وذريته وطلابه.
اللهم أُأْجرنا في مصيبتنا وعوضنا خيراً منها يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.