410
جلسة الصفا
17 ربيع الأول 1446
20 أيلول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
خطر ترك النهي عن المنكر.
بسم الله الرحمن الرحيم
تبين لنا خطر شيوع المنكرات على الأمة والمجتمع وأثرها في هدم الأخلاق والقيم ، وتردِّي المجتمع في الرذائل والقبائح، مما يوجب على كل مسلم يغار على دينه ويحب الخير لبلده والرفعة لأمته، أن ينهض لردع هذه المنكرات ومنع وقوعها لتسلم الأمة من الأوبئة الأخلاقية التي هي أخطر من الأوبئة البدنية .
وما كانت خيرية الأمة إلا لقيامها بهذا الواجب الذي هو واجب كل مسلم كل حسب موقعه ومعرفته، كما سنذكر قريباً .
وقد بين الله تعالى سبب هذه الخيرية في قوله:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)
فإذا أردت أن تنالك هذه الخيرية فعليك أن تقوم بهذا الواجب العظيم.
وفي المقابل: من تخلى عن القيام بهذا الواجب وفي ذهنه أن الأمر لا يعنيه، فليست الخطورة في أنه يخسر هذه الخيرية فقط ، فهذا يبقى أمرا سهلاً أمام خطورةٍ ومصيبةِ ذكرها الله تعالى في قوله:
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)
وذكر الله تعالى سبباً من أسباب إصابتهم بهذه اللعنة، فقال:
(كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)
قال الحافظ ابن كثير : اي كانوا لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمَّهم الله تعالى على ذلك ليحذر أن يُرتكب مثلُ الذي ارتكبوا، فقال تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
وفرق كبير جداً بين الخيرية وبين اللعنة.
والسؤال:
لماذا تصيب اللعنة الذين لا يتناهون عن المنكر مع أنهم لا يفعلون المنكر ؟
والجواب :
لأنهم لم ينهواعن الأعمال المنكرات التي تصيب اللعنة أصحابها، أو رضوا بها، فانجرَّت اللعنة إليهم.
وقد ذكر النبي ﷺ هذه المنكرات التي يُلعن فاعلوها ، فتنجر اللعنة إلى من لا ينكرها :
فمن ذلك قوله ﷺ:
لعن رسول الله ﷺ آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء.
وقولُه:
لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي في الحكم والرائش بينهما.
وقوله:
لعن رسول الله ﷺ شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها.
وقوله ﷺ:
لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
وقوله:
لعن رسول الله ﷺ الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل.
وقوله ﷺ:
لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط . قالها ثلاث مرات.
وقوله ﷺ:
لعن الله من سرق منار الأرض ، او قال : من غير تخوم الأرض(أي لسرقة حقوق الناس).
وقوله ﷺ:
لعن الله من عقَّ والديه.
إلى غير ذلك من الأعمال التي لعن الله تعالى ورسوله ﷺ من يعملونها، وكلها للأسف واقع في عالم المسلمين اليوم.
والذين تصيبهم اللعنة يصيبهم الذل والصغار وتسلط الاعداء .
وذكر النبي ﷺ كيف يتراخى الناس ويتهاونون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يصيبهم ما يصيبهم :
فروى الإمام أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال:
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
. و روى الإمام أحمد عن ابن مسعود كذلك أن رسول الله ﷺ قال:
لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نَهَتْهُم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم . وكان رسول الله ﷺ متكئاً فجلس، فقال: لا و الذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً.
ويعني ذلك: أنه لا يكفي أن تنهى أحداً باللسان، بل يجب أن يكون نهيك عن المنكر موقفاً في حياتك، فترك مشاركتك لصاحب المنكر هو نهي عملي عن المنكر، كأن دُعيت إلى سهرة فيها مشاهدة ما لا يجوز مشاهدته، أو فيها استهزاء بالدين وأهل الدين، أو فيها غيبة ونميمة وخوض في أعراض الناس، أو دُعيت إلى عرس فيه اختلاط ، إلى غير ذلك مما لا يرضاه الله تعالى، فمن نهيك عن المنكر ألا تستجيب لهذه الدعوات، وتعلن من خلال موقفك أنك لا ترضى هذا الأمر الذي لا يرضاه الله تعالى.
جلسة الصفا
17 ربيع الأول 1446
20 أيلول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
خطر ترك النهي عن المنكر.
بسم الله الرحمن الرحيم
تبين لنا خطر شيوع المنكرات على الأمة والمجتمع وأثرها في هدم الأخلاق والقيم ، وتردِّي المجتمع في الرذائل والقبائح، مما يوجب على كل مسلم يغار على دينه ويحب الخير لبلده والرفعة لأمته، أن ينهض لردع هذه المنكرات ومنع وقوعها لتسلم الأمة من الأوبئة الأخلاقية التي هي أخطر من الأوبئة البدنية .
وما كانت خيرية الأمة إلا لقيامها بهذا الواجب الذي هو واجب كل مسلم كل حسب موقعه ومعرفته، كما سنذكر قريباً .
وقد بين الله تعالى سبب هذه الخيرية في قوله:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)
فإذا أردت أن تنالك هذه الخيرية فعليك أن تقوم بهذا الواجب العظيم.
وفي المقابل: من تخلى عن القيام بهذا الواجب وفي ذهنه أن الأمر لا يعنيه، فليست الخطورة في أنه يخسر هذه الخيرية فقط ، فهذا يبقى أمرا سهلاً أمام خطورةٍ ومصيبةِ ذكرها الله تعالى في قوله:
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)
وذكر الله تعالى سبباً من أسباب إصابتهم بهذه اللعنة، فقال:
(كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)
قال الحافظ ابن كثير : اي كانوا لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمَّهم الله تعالى على ذلك ليحذر أن يُرتكب مثلُ الذي ارتكبوا، فقال تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
وفرق كبير جداً بين الخيرية وبين اللعنة.
والسؤال:
لماذا تصيب اللعنة الذين لا يتناهون عن المنكر مع أنهم لا يفعلون المنكر ؟
والجواب :
لأنهم لم ينهواعن الأعمال المنكرات التي تصيب اللعنة أصحابها، أو رضوا بها، فانجرَّت اللعنة إليهم.
وقد ذكر النبي ﷺ هذه المنكرات التي يُلعن فاعلوها ، فتنجر اللعنة إلى من لا ينكرها :
فمن ذلك قوله ﷺ:
لعن رسول الله ﷺ آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء.
وقولُه:
لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي في الحكم والرائش بينهما.
وقوله:
لعن رسول الله ﷺ شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها.
وقوله ﷺ:
لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
وقوله:
لعن رسول الله ﷺ الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل.
وقوله ﷺ:
لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط . قالها ثلاث مرات.
وقوله ﷺ:
لعن الله من سرق منار الأرض ، او قال : من غير تخوم الأرض(أي لسرقة حقوق الناس).
وقوله ﷺ:
لعن الله من عقَّ والديه.
إلى غير ذلك من الأعمال التي لعن الله تعالى ورسوله ﷺ من يعملونها، وكلها للأسف واقع في عالم المسلمين اليوم.
والذين تصيبهم اللعنة يصيبهم الذل والصغار وتسلط الاعداء .
وذكر النبي ﷺ كيف يتراخى الناس ويتهاونون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يصيبهم ما يصيبهم :
فروى الإمام أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال:
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
. و روى الإمام أحمد عن ابن مسعود كذلك أن رسول الله ﷺ قال:
لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نَهَتْهُم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم . وكان رسول الله ﷺ متكئاً فجلس، فقال: لا و الذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً.
ويعني ذلك: أنه لا يكفي أن تنهى أحداً باللسان، بل يجب أن يكون نهيك عن المنكر موقفاً في حياتك، فترك مشاركتك لصاحب المنكر هو نهي عملي عن المنكر، كأن دُعيت إلى سهرة فيها مشاهدة ما لا يجوز مشاهدته، أو فيها استهزاء بالدين وأهل الدين، أو فيها غيبة ونميمة وخوض في أعراض الناس، أو دُعيت إلى عرس فيه اختلاط ، إلى غير ذلك مما لا يرضاه الله تعالى، فمن نهيك عن المنكر ألا تستجيب لهذه الدعوات، وتعلن من خلال موقفك أنك لا ترضى هذا الأمر الذي لا يرضاه الله تعالى.
و روى الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال:
والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتَدْعُنَّه فلا يستجيب لكم .
وقد يُقعد الناس عن القيام بهذا الواجب العظيم فهمٌ خاطئ للآية القرآنية التي يقول الله تعالى فيها: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ)، ويظنون أن معنى تلك الآية أنه لا علاقة لك بغيرك ولا يهمك أمره إنما عليك بنفسك فقط ولا عليك بما يفعله غيرك
وقد تسلل هذا الفهم الخاطئ إلى بعض التابعين، فقام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يبين المعنى الصحيح للآية ويصحح ما أخطأ الناس في فهمه، فقرأ سيدنا أبو بكر هذه الآية ثم قال:
إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا سمعوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمُّهم العقاب.
وأي عقاب أشد من أن تعم الرذائل وتفشو القبائح والفواحش في المجتمع حتى تصل إلى شبابنا وبناتنا، وتغزونا في عقر دورنا، فلا نستطيع أن ننهى أولادنا ولا أن ننصحهم لأنهم تأثرواً تأثراً شديداً بما يرَّوج له أصحاب المبادئ الهدامة، وبما يزينه لهم أصحاب الشهوات الماكرون، وبما يروج له أصحاب المسلسلات والمنصات الاجتماعية الفاجرة.
لذلك أوجب النبي ﷺ على كل مسلم أن يكون حارساً لهذه الشريعة، حارساً لآدابها وقيمها وثوابتها وأخلاقها.
فروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطيالسي وابن منده في "الإيمان" والبيهقي في "السنن الكبرى" وابن عبد البر وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يُغيِّره بيده فليفعل، فإن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
و في هذا الحديث تصنيف للذين ينهون عن المنكر :
فالذي يُغيِّر بيده هو صاحب السلطة، يغيره بقرار منه وبتوقيع منه يُغلق به أماكن الفجور والخنا وأوكار الرذيلة والدعارة.
يُغيره رب العمل في معمله
والمسؤول في دائرته
وربُّ البيت في بيته
وهكذا كل من له سلطة على غيره فهو الذي يغير المنكر بيده، هكذا جاء لفظ الحديث: من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل، وهو صاحب السلطة .
وقد روي عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
ومعناه: يمنع بالسلطان من اقتراف المحارم أكثر مما يمنع بالقرآن، لأن ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن ومناهي القرآن، بل يقدم على المحرمات ولا يبالي، لكن متى علم أن هناك عقوبة من السلطان ارتدع خوفاً من العقوبة السلطانية.
والذي يُغيِّر بلسانه هو العالم العارف الذي يستطيع أن يبين أخطار المنكرات ولديه قدرة على إقناع الناس بما للمنكرات من نتائج وخيمة وعواقب سيئة :
فالطبيب يبين للناس مخاطر شرب الخمر وتعاطي الدخان والأركيلة والمخدرات، ويُبرز لهم بالصور مفاسدها وأضرارها، ويُحذر الناس من الوقوع في الزنا، ويُبيِّن لهم الآثار الخطيرة للفواحش والعلاقات الجنسية غير المشروعة.
والمدرس يشرح لطلابه عواقب الكسل والانصراف عن الدراسة والانشغال عنها بترهات الأمور وتوافه الأشياء من الألعاب السيئة والملهيات الخبيثة، ويبين لهم خطر الاختلاط بين الشباب والفتيات، وما يورثه من تهييج الغرائز والتثبيط عن التفوق والنجاح، ويحذرهم من شرب الدخان الذي ينتشر اليوم بين الشباب والأطفال، نعم هذا من واجبات المدرسين والمعلمين، لأن موقعهم يؤهلهم للنهوض بالطلاب إلى معالي الأمور وأعلى الدرجات ليكونوا بناة لبلادهم ومن أسباب نهضتها ورُقيِّها.
والعالم يبين للناس خاصة ولأصحاب الأعمال والصناعات والتجارات خاصة مخاطر الجشع والطمع وحرمة أكل أموال الناس بالباطل وخطر الغش، وخطر المال الحرام بشكل عام، وفظاعة الظلم في توزيع التركات، وغير ذلك من المفاسد والمنكرات الاجتماعية التي تعرفونها.
والعامي الذي لا سلطة في يديه ولا علم لديه يجب عليه أن يشمئزَّ من المنكرات والرذائل وينكرها بقلبه، وألا يألفها مهما روَّجوا لها، ومهما حاولوا أن يظهروها على أنها أمر عادي، فإنكاره لها بقلبه ونفوره عنها هو من النهي عن المنكر ويكتب له ذلك عند الله تعالى.
فقد روى أبو داود والطبراني عن العُرس بن عَمِيرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ قال:
إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها.
قال الحافظ ابن رجب:
فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها وقدر على إنكارها فلم ينكرها، لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال.
والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتَدْعُنَّه فلا يستجيب لكم .
وقد يُقعد الناس عن القيام بهذا الواجب العظيم فهمٌ خاطئ للآية القرآنية التي يقول الله تعالى فيها: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ)، ويظنون أن معنى تلك الآية أنه لا علاقة لك بغيرك ولا يهمك أمره إنما عليك بنفسك فقط ولا عليك بما يفعله غيرك
وقد تسلل هذا الفهم الخاطئ إلى بعض التابعين، فقام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يبين المعنى الصحيح للآية ويصحح ما أخطأ الناس في فهمه، فقرأ سيدنا أبو بكر هذه الآية ثم قال:
إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا سمعوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمُّهم العقاب.
وأي عقاب أشد من أن تعم الرذائل وتفشو القبائح والفواحش في المجتمع حتى تصل إلى شبابنا وبناتنا، وتغزونا في عقر دورنا، فلا نستطيع أن ننهى أولادنا ولا أن ننصحهم لأنهم تأثرواً تأثراً شديداً بما يرَّوج له أصحاب المبادئ الهدامة، وبما يزينه لهم أصحاب الشهوات الماكرون، وبما يروج له أصحاب المسلسلات والمنصات الاجتماعية الفاجرة.
لذلك أوجب النبي ﷺ على كل مسلم أن يكون حارساً لهذه الشريعة، حارساً لآدابها وقيمها وثوابتها وأخلاقها.
فروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطيالسي وابن منده في "الإيمان" والبيهقي في "السنن الكبرى" وابن عبد البر وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يُغيِّره بيده فليفعل، فإن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
و في هذا الحديث تصنيف للذين ينهون عن المنكر :
فالذي يُغيِّر بيده هو صاحب السلطة، يغيره بقرار منه وبتوقيع منه يُغلق به أماكن الفجور والخنا وأوكار الرذيلة والدعارة.
يُغيره رب العمل في معمله
والمسؤول في دائرته
وربُّ البيت في بيته
وهكذا كل من له سلطة على غيره فهو الذي يغير المنكر بيده، هكذا جاء لفظ الحديث: من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل، وهو صاحب السلطة .
وقد روي عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
ومعناه: يمنع بالسلطان من اقتراف المحارم أكثر مما يمنع بالقرآن، لأن ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن ومناهي القرآن، بل يقدم على المحرمات ولا يبالي، لكن متى علم أن هناك عقوبة من السلطان ارتدع خوفاً من العقوبة السلطانية.
والذي يُغيِّر بلسانه هو العالم العارف الذي يستطيع أن يبين أخطار المنكرات ولديه قدرة على إقناع الناس بما للمنكرات من نتائج وخيمة وعواقب سيئة :
فالطبيب يبين للناس مخاطر شرب الخمر وتعاطي الدخان والأركيلة والمخدرات، ويُبرز لهم بالصور مفاسدها وأضرارها، ويُحذر الناس من الوقوع في الزنا، ويُبيِّن لهم الآثار الخطيرة للفواحش والعلاقات الجنسية غير المشروعة.
والمدرس يشرح لطلابه عواقب الكسل والانصراف عن الدراسة والانشغال عنها بترهات الأمور وتوافه الأشياء من الألعاب السيئة والملهيات الخبيثة، ويبين لهم خطر الاختلاط بين الشباب والفتيات، وما يورثه من تهييج الغرائز والتثبيط عن التفوق والنجاح، ويحذرهم من شرب الدخان الذي ينتشر اليوم بين الشباب والأطفال، نعم هذا من واجبات المدرسين والمعلمين، لأن موقعهم يؤهلهم للنهوض بالطلاب إلى معالي الأمور وأعلى الدرجات ليكونوا بناة لبلادهم ومن أسباب نهضتها ورُقيِّها.
والعالم يبين للناس خاصة ولأصحاب الأعمال والصناعات والتجارات خاصة مخاطر الجشع والطمع وحرمة أكل أموال الناس بالباطل وخطر الغش، وخطر المال الحرام بشكل عام، وفظاعة الظلم في توزيع التركات، وغير ذلك من المفاسد والمنكرات الاجتماعية التي تعرفونها.
والعامي الذي لا سلطة في يديه ولا علم لديه يجب عليه أن يشمئزَّ من المنكرات والرذائل وينكرها بقلبه، وألا يألفها مهما روَّجوا لها، ومهما حاولوا أن يظهروها على أنها أمر عادي، فإنكاره لها بقلبه ونفوره عنها هو من النهي عن المنكر ويكتب له ذلك عند الله تعالى.
فقد روى أبو داود والطبراني عن العُرس بن عَمِيرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ قال:
إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها.
قال الحافظ ابن رجب:
فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها وقدر على إنكارها فلم ينكرها، لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال.
فتبيَّن بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال، وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة.
وسنتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى عن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضوابطه وأصوله.
اللهم ثبتنا على دين نبيك محمد ﷺ ، يارب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
وسنتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى عن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضوابطه وأصوله.
اللهم ثبتنا على دين نبيك محمد ﷺ ، يارب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
411
جلسة الصفا
24 ربيع الأول 1446
27 أيلول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر*
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثنا في الدروس الماضية عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره العظيم في سلامة الأمة والمجتمع من الآفات والطامات والشذوذات، فكما تسعى وزارة الصحة والأطباء إلى مقاومة الأمراض والأوباء التي تصيب الأبدان، أوجب الله تعالى مقاومة الرذائل والقبائح والفواحش التي تصيب الأخلاق وتسبب تردي المجتمع وانهيار القيم وانحسار الفضائل.
والسؤال:
كيف ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هي الطريقة الشرعية المثلى للقيام بهذا الواجب.؟
قد يسبق إلى الذهن ، بسبب ممارسات سابقة، أن يكون ذلك بالشدة والقسوة والتوبيخ والتقريع أو السبِّ والشتم ونحو ذلك، وهذا كله عين الخطأ وعين الجهل بالطريقة التي شرعها الله تعالى ورسخها سيدنا محمد ﷺ.
فالذي شرعه الله تعالى وأكده النبي ﷺ ومارسه الأنبياء والمرسلون والدعاة إلى الله تعالى، هو أن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف يجب أن يكون بالرفق واللطف واللين
وقد بيَّن الله تعالى المنهج القويم في ذلك في قوله تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
وحين أرسل الله تعالى سيِّدينا موسى وهارون إلى فرعون ليدعواه إلى الله تعالى، وليدع ما كان عليه من ظلم وطغيان وصل فيه إلى حد أن قال: ( أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى)، وقال: ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) ومع هذا، قال الله تعالى لموسى وهارون:
(اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ )
قال الحافظ ابن كثير:
هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون وهو في غاية العتو والاستكبار ،وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عندما قرأ قوله تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا) :
يامن يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه.
وقال الطاهر ابن عاشور:
واللين من شعار الدعوة إلى الحق، قال تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى: (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ)
وقوله:
(وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ)
إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى.
وقال الألوسي:
وفي الآية دليل على استحباب إلانة القول للظالم عند وعظه.
وهذا الرفق واللين في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي انتهجه سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه ونهيه عن عبادة الأوثان، فخاطب أباه بأرق العبارات وألطف الكلمات مع أن أباه عابد وثن، ونقل الله تعالى لنا خطاب سيدنا إبراهيم لأبيه، لأن فيه بيان المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال الزمخشري:
حين أراد إبراهيم أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع، رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وجل إذ أوحى إليه: يا إبراهيم إنك خليلي حسِّن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار.
ولنصغ إلى خطاب سيدنا إبراهيم أباه، لنتلمس ما فيه من رفق ولين ، ولنتعرف إلى هذا التدرج المنطقي في الخطاب، والتسلسل الرائع في الأفكار ، والأسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله عز وجل :
قال الله تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)
افتتح سيدنا إبراهيم عليه السلام خطابه أباه بندائه مع أنه حاضر أمامه، لاستحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه، وخاطبه بهذه الكلمة الرقيقة، (يا أبت) لم يقل: يا أبي، فلفظ أبت فيه تحبب وتودد وتلطف، وسأله هذا السؤال ليحمله على التفكير بحقيقة ما يعبده، لم يبدأ خطابه بالتوبيخ والتشنيع على رأيه واعتقاده، وإنما سأله عن سبب عبادته وعمله لينتبه هو إلى خطئه عندما يتأمل في عمله، فحينئذ يفطن بفساد اعتقاده .
وابتدأ سيدنا إبراهيم بالحجة الراجعة إلى الحس، إذ قال له: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ)، أي لا يسمع ثناءك عليه عند عبادتك له، ولا يسمع دعاءك ولا جؤارك، ولا يبصر خشوعك ولا خضوعك أمامه، فهذه حجة محسوسة .
ثم أتبعها بقوله: (وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، أي لا يستطيع أن يجلب لك نفعاً ولا أن يدفع عنك ضراً.
جلسة الصفا
24 ربيع الأول 1446
27 أيلول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر*
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثنا في الدروس الماضية عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره العظيم في سلامة الأمة والمجتمع من الآفات والطامات والشذوذات، فكما تسعى وزارة الصحة والأطباء إلى مقاومة الأمراض والأوباء التي تصيب الأبدان، أوجب الله تعالى مقاومة الرذائل والقبائح والفواحش التي تصيب الأخلاق وتسبب تردي المجتمع وانهيار القيم وانحسار الفضائل.
والسؤال:
كيف ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هي الطريقة الشرعية المثلى للقيام بهذا الواجب.؟
قد يسبق إلى الذهن ، بسبب ممارسات سابقة، أن يكون ذلك بالشدة والقسوة والتوبيخ والتقريع أو السبِّ والشتم ونحو ذلك، وهذا كله عين الخطأ وعين الجهل بالطريقة التي شرعها الله تعالى ورسخها سيدنا محمد ﷺ.
فالذي شرعه الله تعالى وأكده النبي ﷺ ومارسه الأنبياء والمرسلون والدعاة إلى الله تعالى، هو أن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف يجب أن يكون بالرفق واللطف واللين
وقد بيَّن الله تعالى المنهج القويم في ذلك في قوله تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
وحين أرسل الله تعالى سيِّدينا موسى وهارون إلى فرعون ليدعواه إلى الله تعالى، وليدع ما كان عليه من ظلم وطغيان وصل فيه إلى حد أن قال: ( أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى)، وقال: ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) ومع هذا، قال الله تعالى لموسى وهارون:
(اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ )
قال الحافظ ابن كثير:
هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون وهو في غاية العتو والاستكبار ،وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عندما قرأ قوله تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا) :
يامن يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه.
وقال الطاهر ابن عاشور:
واللين من شعار الدعوة إلى الحق، قال تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى: (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ)
وقوله:
(وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ)
إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى.
وقال الألوسي:
وفي الآية دليل على استحباب إلانة القول للظالم عند وعظه.
وهذا الرفق واللين في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي انتهجه سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه ونهيه عن عبادة الأوثان، فخاطب أباه بأرق العبارات وألطف الكلمات مع أن أباه عابد وثن، ونقل الله تعالى لنا خطاب سيدنا إبراهيم لأبيه، لأن فيه بيان المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال الزمخشري:
حين أراد إبراهيم أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع، رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وجل إذ أوحى إليه: يا إبراهيم إنك خليلي حسِّن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار.
ولنصغ إلى خطاب سيدنا إبراهيم أباه، لنتلمس ما فيه من رفق ولين ، ولنتعرف إلى هذا التدرج المنطقي في الخطاب، والتسلسل الرائع في الأفكار ، والأسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله عز وجل :
قال الله تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)
افتتح سيدنا إبراهيم عليه السلام خطابه أباه بندائه مع أنه حاضر أمامه، لاستحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه، وخاطبه بهذه الكلمة الرقيقة، (يا أبت) لم يقل: يا أبي، فلفظ أبت فيه تحبب وتودد وتلطف، وسأله هذا السؤال ليحمله على التفكير بحقيقة ما يعبده، لم يبدأ خطابه بالتوبيخ والتشنيع على رأيه واعتقاده، وإنما سأله عن سبب عبادته وعمله لينتبه هو إلى خطئه عندما يتأمل في عمله، فحينئذ يفطن بفساد اعتقاده .
وابتدأ سيدنا إبراهيم بالحجة الراجعة إلى الحس، إذ قال له: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ)، أي لا يسمع ثناءك عليه عند عبادتك له، ولا يسمع دعاءك ولا جؤارك، ولا يبصر خشوعك ولا خضوعك أمامه، فهذه حجة محسوسة .
ثم أتبعها بقوله: (وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، أي لا يستطيع أن يجلب لك نفعاً ولا أن يدفع عنك ضراً.
قال أبو السعود:
لقد سلك إبراهيم عليه السلام في دعوته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل،لئلا يركب متن المكابرة والعناد، حيث طلب منه علة عبادته بما يستخف به عقل كل عاقل ويأبى الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم،
ثم انتقل سيدنا إبراهيم إلى بيان الذي حمله على دعوة أبيه، فقال له:
(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)
يعني وإن كنت من صلبك وترى أني أصغر منك لأني ولدك، فقد اطلعت من العلم من الله تعالى على ما لم تعلمه أنت
قال الزمخشري:
ولم يصف أباه بالجهل المفرط ولا وصف نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال له: إن معي طائفة من العلم وشيئاً منه ليس معك، وذلك علمُ الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه .
فقد أبرز إبراهيم عليه السلام نفسه في صورة رفيق له، أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق، فاستماله برفق حيث قال له: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)
أي مستقيما منجيا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والهلاك.
ثم ثبطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أن هذا الصنم مع خلوه من النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة للشيطان لأن الشيطان هو الآمر به، فقال له:
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا)
فإن عبادتك للأصنام عبادة للشيطان، إذ هو الذي يسوِّلها لك ويغريك عليها، وهذا الشيطان الذي تعبده هو مستعصي على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم، ولا ريب أن المطيع للعاصي عاصي مثله .
ثم حذره من سوء عاقبة ما هو عليه من عبادة الشيطان، فقال له:
(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)
قال الزمخشري:
ربَّع عليه بتخويفه من سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال، ومع ذلك لم يخلُ ذلك من حسن الأدب فهو لم يصرح بأن العقاب لاحق له وأن العذاب لاصق به قطعاً، ولكنه قال: إني أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ، ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أخطر من العذاب، وذلك بقوله: فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ، أي قريبا له في اللعن المخلد.
ولما أطلع سيدنا إبراهيم أباه على خطأ ما هو فيه وهدم بالحجج القاطعة هذه العقيدة الفاسدة وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه أبوه بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فقال له: (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ) ، لم يقابله بيا بني مقابل يا أبت، ثم قال: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)
أول كلمة قالها والد إبراهيم لولده: لَأَرْجُمَنَّكَ ، وكان من المتوقع مقابل هذا الكلام اللطيف الحسن أن يعتذر عن الاستجابة له ، ويطلب منه ألا يسترسل في نصحه له ، بل قال له: لَأَرْجُمَنَّكَ .
وهذا ما قاله قوم نوح لسيدنا نوح عليه السلام:
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)
وكما قال أصحاب القرية لرسلهم:
(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
وكما قال فرعون للسحرة الذين آمنوا:
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)
ومع كل هذا التهديد من والد إبراهيم لولده إبراهيم بالرجم ، قال له إبراهيم :
(سَلَامٌ عَلَيْكَ) ، أي ستسلم مني، ستسلم من خطابي من سيئ القول وسيئ الفعل
ومن كل مكروه .
ثم قال له : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، يعني : لا أزال أدعو لك بالهداية والمغفرة وأن يهديك الله للإسلام الذي تحصل به المغفرة،
لقد قابل إبراهيم السيئة بالحسنة، وهذا دأب الصالحين، الذين قال الله تعالى عنهم:
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)
قال ابن كثير:
قد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له اسماعيل واسحاق في قوله في سورة إبراهيم :
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)
ثم لما بين الله تعالى له أنه بقي عدواً لله، أقلع عن ذلك ورجع، قال تعالى:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)
لقد سلك إبراهيم عليه السلام في دعوته أحسن منهاج وأقوم سبيل، واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل،لئلا يركب متن المكابرة والعناد، حيث طلب منه علة عبادته بما يستخف به عقل كل عاقل ويأبى الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم،
ثم انتقل سيدنا إبراهيم إلى بيان الذي حمله على دعوة أبيه، فقال له:
(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)
يعني وإن كنت من صلبك وترى أني أصغر منك لأني ولدك، فقد اطلعت من العلم من الله تعالى على ما لم تعلمه أنت
قال الزمخشري:
ولم يصف أباه بالجهل المفرط ولا وصف نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال له: إن معي طائفة من العلم وشيئاً منه ليس معك، وذلك علمُ الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه .
فقد أبرز إبراهيم عليه السلام نفسه في صورة رفيق له، أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق، فاستماله برفق حيث قال له: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)
أي مستقيما منجيا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والهلاك.
ثم ثبطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أن هذا الصنم مع خلوه من النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة للشيطان لأن الشيطان هو الآمر به، فقال له:
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا)
فإن عبادتك للأصنام عبادة للشيطان، إذ هو الذي يسوِّلها لك ويغريك عليها، وهذا الشيطان الذي تعبده هو مستعصي على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم، ولا ريب أن المطيع للعاصي عاصي مثله .
ثم حذره من سوء عاقبة ما هو عليه من عبادة الشيطان، فقال له:
(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)
قال الزمخشري:
ربَّع عليه بتخويفه من سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال، ومع ذلك لم يخلُ ذلك من حسن الأدب فهو لم يصرح بأن العقاب لاحق له وأن العذاب لاصق به قطعاً، ولكنه قال: إني أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ، ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أخطر من العذاب، وذلك بقوله: فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ، أي قريبا له في اللعن المخلد.
ولما أطلع سيدنا إبراهيم أباه على خطأ ما هو فيه وهدم بالحجج القاطعة هذه العقيدة الفاسدة وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه أبوه بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فقال له: (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ) ، لم يقابله بيا بني مقابل يا أبت، ثم قال: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)
أول كلمة قالها والد إبراهيم لولده: لَأَرْجُمَنَّكَ ، وكان من المتوقع مقابل هذا الكلام اللطيف الحسن أن يعتذر عن الاستجابة له ، ويطلب منه ألا يسترسل في نصحه له ، بل قال له: لَأَرْجُمَنَّكَ .
وهذا ما قاله قوم نوح لسيدنا نوح عليه السلام:
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)
وكما قال أصحاب القرية لرسلهم:
(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
وكما قال فرعون للسحرة الذين آمنوا:
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)
ومع كل هذا التهديد من والد إبراهيم لولده إبراهيم بالرجم ، قال له إبراهيم :
(سَلَامٌ عَلَيْكَ) ، أي ستسلم مني، ستسلم من خطابي من سيئ القول وسيئ الفعل
ومن كل مكروه .
ثم قال له : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، يعني : لا أزال أدعو لك بالهداية والمغفرة وأن يهديك الله للإسلام الذي تحصل به المغفرة،
لقد قابل إبراهيم السيئة بالحسنة، وهذا دأب الصالحين، الذين قال الله تعالى عنهم:
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)
قال ابن كثير:
قد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له اسماعيل واسحاق في قوله في سورة إبراهيم :
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)
ثم لما بين الله تعالى له أنه بقي عدواً لله، أقلع عن ذلك ورجع، قال تعالى:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)
وما قص الله تعالى علينا قصة سيدنا إبراهيم وحواره مع أبيه إلا لنقتدي ولنتأسَّى به كيف ندعو إلى الله سبحانه وتعالى، فقد قال تعالى:
(قدْ كَانَت لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم)
وأكد ذلك فقال:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر)
ونتابع الموضوع في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
اللهم ثبتنا على دين نبيك محمد ﷺ ، يارب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
(قدْ كَانَت لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم)
وأكد ذلك فقال:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر)
ونتابع الموضوع في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
اللهم ثبتنا على دين نبيك محمد ﷺ ، يارب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
جلسة الصفا
15 رجب 1437
22 نيسان 2016
لفضيلة الشيخ♦️
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸
💥 بعنوان
*(6-2) من كواشف الكبر*
*التأثير الإيجابي للشكر* (17)
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرنا في الدرس الماضي أن شكر من أحسن إليك و صنع معك معروفاً أو دفع عنك مكروهاً، واجب شرعي وعقلي، وهذا الواجب لا يتأبَّى عنه إلا المتكبر، المتكبر يثقل على لسانه كلمات الشكر التي تؤدي حقَّ من صنع معه معروفاً، إذ يظن أن شكر الآخرين ضعفٌ منه، ولا شك أن ظنه هذا وهمٌ منه، فقد اتفق العقلاء على مدح من يشكر المعروف وعلى ذمِّ من يتركه، وقالوا: مقابلة الإحسان بالإحسان ومقابلة المعروف بالشكران من كمال عقل الإنسان وطهارة نفسه وسلامة ذوقه.
فالعاقل لا تستريح نفسه ولا يهدأ ضميره إلا إذا قام بما يفرضه عليه واجب الشكر وزيادة، وهذا ما قرره الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى:
*هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ*
وقال العلماء: وما أكَّد المولى سبحانه وتعالى لنا في أداء واجب الشكر له عز وجل، إلا ليمكِّن في أنفسنا هذه الصفة الحميدة صفة الشكر، فنعممها على كل متفضل ونؤديها لكل محسن مهما كانت درجة إحسانه بسيطة، ومهما كانت الخدمة التي قدمها لك متواضعة، وقلنا أنه للتأكيد على هذا الواجب ربط النبي ﷺ بين شكر الله وشكر الناس، فبيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن شكر الله تعالى وهو المنعم المتفضل حقيقة لا يتم إلا بشكر الناس الذين سخرهم الله لك وجرت النعمة على أيديهم وذلك في قوله ﷺ الذي يجب أن نحفظه ونردده لنلتزم به: *لا يشكر الله من لا يشكر الناس* ، فهذا ربط عضوي بين شكر الناس وشكر الله سبحانه و تعالى، ومرَّ معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان الرائد في ذلك وكان القدوة العظمى في هذا الأمر وفي كل المكارم، وقد علَّمنا عليه الصلاة والسلام بأفعاله وخطابه كيف كان هو ﷺ يشكر من قدَّم له خدمة أو صنع له معروفاً وهو رسول الله ﷺ.
والذي نريد أن نقوله اليوم، أنه من المدهش والرائع أن ما أكَّدته شريعة الإسلام من هذا الأدب الرفيع وهذا الذوق المرهف، قد اكتشف العلماء اليوم أسراره وآثاره الرائعة في حياة الفرد وحياة الأسرة وحياة المجتمع بشكل عام، ولا تزال العلوم الحديثة تكتشف ما تشتمل عليه هذه الشريعة في أحكامها وتوجيهاتها وأدبياتها من روعة وجمال وكمال، لكي تشكروا الله على نعمة الإسلام ونعمة هذه الشريعة التي كلما تعمقت الناس في العلوم اكتشفوا مزيداً من الجوانب المضيئة في هذه الشريعة.
ولقد اكتشف علماء النفس في قضية الشكر التي أكَّد عليها ربنا سبحانه وتعالى أولاً، وأكَّد عليها بعد ذلك سيدنا محمد ﷺ ، اكتشفوا ما لقضية الشكر من قوة إيجابية عجيبة في نفسية الشاكر أولاً وفي نفسية من قُدِّم له الشكر ثانياً، بل أصبح الشكر والامتنان فناً يُدرَّس وينال حالياً قدراً كبيراً من الاهتمام ضمن ما يسمى علم النفس الإيجابي الذي يجعل الإنسان في عمله أكثر نجاحاً واستقراراً وسعادة، فقد بدأ علماء النفس بدراسة الامتنان والشكر وبيان أثره الإيجابي في حياة الإنسان وصحته، وقالوا: إن الامتنان وإظهار تعبيرات الامتنان للآخرين يرتبط بزيادة مستويات السعادة والطاقة الجسدية والتفاؤل والتعاطف.
قال عالم النفس الأمريكي البروفيسور روبرت ايموند، وهو مدرس بجامعة كاليفورنيا ورئيس تحرير مجلة "علم النفس الإيجابي" ، هذا الرجل أصدر كتاباً شهيراً بعنوان *" شكراً، كيف يمكن لممارسة الامتنان أن يجعلك أكثر سعادة"* ، وسرد في هذا الكتاب كثيراً من النتائج العملية الواقعية للشكر وذكر ما للاعتراف بالجميل في التعامل مع الآخرين من آثارٍ في إحداث تغيير إيجابي في الحياة من الصحة والسعادة والاستمتاع بالحياة، وهذه النتائج التي وصل إليها عززها بأمثلة من التاريخ والفلسفة والدين.
وألَّف هذا البروفيسور مع طبيب نفسي آخر كتاب بعنوان "علم نفس الامتنان"، هذان البروفيسوران ذكرا في الدراسات والتجارب التي أكّدت أن الأفراد الذين حافظوا على ممارسات الامتنان بشكل منتظم كانت لديهم نتائج أفضل بكثير على مقاييس السعادة، وحصلوا على معدلات أكبر من الطاقة الإيجابية والإحساس المرتفع بالشعور بالتواصل مع الآخرين.
هذا ما قاله الباحثون في علم النفس الذي له اليوم اهتمامات كبيرة في عالم الغرب، قال الباحثون إن الشكر له قوة هائلة في علاج المشاكل، وهذا الأمر نلمسه في أرض الواقع، فمهما كان بينك وبين أي إنسان مشكلة مستعصية، فبكلمات طيبة من الشكر والوفاء تمحو كل ما بينك وبينه، وقالوا أن الشكر له قوة هائلة في علاج المشاكل، لأن قدرتك على مواجهة الصعاب وحل المشاكل المستعصية تتعلق بمدى امتنانك وشكرك للآخرين على ما يقدمونه لك.
15 رجب 1437
22 نيسان 2016
لفضيلة الشيخ♦️
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸
💥 بعنوان
*(6-2) من كواشف الكبر*
*التأثير الإيجابي للشكر* (17)
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرنا في الدرس الماضي أن شكر من أحسن إليك و صنع معك معروفاً أو دفع عنك مكروهاً، واجب شرعي وعقلي، وهذا الواجب لا يتأبَّى عنه إلا المتكبر، المتكبر يثقل على لسانه كلمات الشكر التي تؤدي حقَّ من صنع معه معروفاً، إذ يظن أن شكر الآخرين ضعفٌ منه، ولا شك أن ظنه هذا وهمٌ منه، فقد اتفق العقلاء على مدح من يشكر المعروف وعلى ذمِّ من يتركه، وقالوا: مقابلة الإحسان بالإحسان ومقابلة المعروف بالشكران من كمال عقل الإنسان وطهارة نفسه وسلامة ذوقه.
فالعاقل لا تستريح نفسه ولا يهدأ ضميره إلا إذا قام بما يفرضه عليه واجب الشكر وزيادة، وهذا ما قرره الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى:
*هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ*
وقال العلماء: وما أكَّد المولى سبحانه وتعالى لنا في أداء واجب الشكر له عز وجل، إلا ليمكِّن في أنفسنا هذه الصفة الحميدة صفة الشكر، فنعممها على كل متفضل ونؤديها لكل محسن مهما كانت درجة إحسانه بسيطة، ومهما كانت الخدمة التي قدمها لك متواضعة، وقلنا أنه للتأكيد على هذا الواجب ربط النبي ﷺ بين شكر الله وشكر الناس، فبيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن شكر الله تعالى وهو المنعم المتفضل حقيقة لا يتم إلا بشكر الناس الذين سخرهم الله لك وجرت النعمة على أيديهم وذلك في قوله ﷺ الذي يجب أن نحفظه ونردده لنلتزم به: *لا يشكر الله من لا يشكر الناس* ، فهذا ربط عضوي بين شكر الناس وشكر الله سبحانه و تعالى، ومرَّ معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان الرائد في ذلك وكان القدوة العظمى في هذا الأمر وفي كل المكارم، وقد علَّمنا عليه الصلاة والسلام بأفعاله وخطابه كيف كان هو ﷺ يشكر من قدَّم له خدمة أو صنع له معروفاً وهو رسول الله ﷺ.
والذي نريد أن نقوله اليوم، أنه من المدهش والرائع أن ما أكَّدته شريعة الإسلام من هذا الأدب الرفيع وهذا الذوق المرهف، قد اكتشف العلماء اليوم أسراره وآثاره الرائعة في حياة الفرد وحياة الأسرة وحياة المجتمع بشكل عام، ولا تزال العلوم الحديثة تكتشف ما تشتمل عليه هذه الشريعة في أحكامها وتوجيهاتها وأدبياتها من روعة وجمال وكمال، لكي تشكروا الله على نعمة الإسلام ونعمة هذه الشريعة التي كلما تعمقت الناس في العلوم اكتشفوا مزيداً من الجوانب المضيئة في هذه الشريعة.
ولقد اكتشف علماء النفس في قضية الشكر التي أكَّد عليها ربنا سبحانه وتعالى أولاً، وأكَّد عليها بعد ذلك سيدنا محمد ﷺ ، اكتشفوا ما لقضية الشكر من قوة إيجابية عجيبة في نفسية الشاكر أولاً وفي نفسية من قُدِّم له الشكر ثانياً، بل أصبح الشكر والامتنان فناً يُدرَّس وينال حالياً قدراً كبيراً من الاهتمام ضمن ما يسمى علم النفس الإيجابي الذي يجعل الإنسان في عمله أكثر نجاحاً واستقراراً وسعادة، فقد بدأ علماء النفس بدراسة الامتنان والشكر وبيان أثره الإيجابي في حياة الإنسان وصحته، وقالوا: إن الامتنان وإظهار تعبيرات الامتنان للآخرين يرتبط بزيادة مستويات السعادة والطاقة الجسدية والتفاؤل والتعاطف.
قال عالم النفس الأمريكي البروفيسور روبرت ايموند، وهو مدرس بجامعة كاليفورنيا ورئيس تحرير مجلة "علم النفس الإيجابي" ، هذا الرجل أصدر كتاباً شهيراً بعنوان *" شكراً، كيف يمكن لممارسة الامتنان أن يجعلك أكثر سعادة"* ، وسرد في هذا الكتاب كثيراً من النتائج العملية الواقعية للشكر وذكر ما للاعتراف بالجميل في التعامل مع الآخرين من آثارٍ في إحداث تغيير إيجابي في الحياة من الصحة والسعادة والاستمتاع بالحياة، وهذه النتائج التي وصل إليها عززها بأمثلة من التاريخ والفلسفة والدين.
وألَّف هذا البروفيسور مع طبيب نفسي آخر كتاب بعنوان "علم نفس الامتنان"، هذان البروفيسوران ذكرا في الدراسات والتجارب التي أكّدت أن الأفراد الذين حافظوا على ممارسات الامتنان بشكل منتظم كانت لديهم نتائج أفضل بكثير على مقاييس السعادة، وحصلوا على معدلات أكبر من الطاقة الإيجابية والإحساس المرتفع بالشعور بالتواصل مع الآخرين.
هذا ما قاله الباحثون في علم النفس الذي له اليوم اهتمامات كبيرة في عالم الغرب، قال الباحثون إن الشكر له قوة هائلة في علاج المشاكل، وهذا الأمر نلمسه في أرض الواقع، فمهما كان بينك وبين أي إنسان مشكلة مستعصية، فبكلمات طيبة من الشكر والوفاء تمحو كل ما بينك وبينه، وقالوا أن الشكر له قوة هائلة في علاج المشاكل، لأن قدرتك على مواجهة الصعاب وحل المشاكل المستعصية تتعلق بمدى امتنانك وشكرك للآخرين على ما يقدمونه لك.
وقال علماء النفس: عندما يقدم لك شخص ما خدمة، يجب أن تشكره وتعبر له عن فرحك وسرورك بهذه الخدمة، وقالوا: وهذا لن ينقص من قدرك شيئاً لأن بعض الناس يعتقدون أن شكر الآخرين هو ضعف، فعلى العكس تماماً هو قوة وطاقة تجد أثرها في نجاحك في المستقبل.
كما تكلم العلماء عن آلية عمل الشكر وعلاقتها بالعقل الباطن، وكيف تدفع إلى العمل أكثر.
والملفت للنظر كذلك، بعد أن تكلموا عن الشكر وقوته الهائلة وطاقاته الإيجابية وتواصلك مع الآخرين، أولوا أهمية كبرى للشكر الذي ينبغي أن يكون متبادلاً بين الزوجين لما له من أثرٍ عظيم في تماسك الأسرة وتنامي علاقات المودة بين أقطاب الأسرة، قالوا: على صعيد العلاقات الزوجية فإن شكر الزوجين كل منهما للآخر له أثرٌ كبير في حل المشكلات وتنشيط العلاقات وتعميق التواصل، وقالوا بإمكاننا أن نسيطر على المشكلات ونحاصرها بإتقان فن الشكر وممارسته، وقالوا: كلمات بسيطة يقولها الزوج لزوجته كل يوم يشكرها ويشعرها بقيمة عملها ويقدِّرُ لها جهودها في البيت وفي تربية الأولاد، تكون سبباً في درء الكثير من المشاكل وجلب الكثير من السعادة وقالوا: إنها قوة الشكر.
والبروفيسور تود كاشدان أستاذ علم النفس في جامعة ميسن في ولاية فيرجينيا الأمريكية قال:
*إن النساء اللواتي يشكرن أزواجهن يكنَّ أكثر سعادة ويعشن عمراً أجمل*.
ودكتور آخر هو جون غريت وهو طبيب نفسي وكاتب ومؤلف أمريكي يعيش في كاليفورنيا، ألَّف سنة 1992 كتاباً أشتهر عالمياً وبيع منه أكثر من خمسين مليون نسخة وتُرجم إلى كثير من لغات العالم، هذا الكتاب اسمه *"الرجال من المريخ والنساء من الزهرة"*، هذا الكتاب يُعتبر دليلاً لفهم طبيعة الرجل والمرأة، وأكد هذا الطبيب على أهمية الشكر في حياة الإنسان الناجح، وأن الزوجة التي تشكر زوجها على ما يقوم به، فإن هذا الشكر يحفزه للقيام بمزيد من الإبداعات والنجاح، فالامتنان يقدم لك المزيد من الدعم والقوة.
ونقول أن ما توصل إليه العلماء اليوم وأثبتوه من خلال دراساتهم هو الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ومارسه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، فقد رأينا كيف أن النبي ﷺ كان يثني على زوجاته، والثناء على الزوجة أو على أحد هو نوع من الشكر، لأن الشكر دعاءٌ أو ثناءٌ والنبي عليه الصلاة والسلام كان الرائد في هذا وسيرته حافلة بذلك، فقد أثنى على السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها فقال ﷺ:
*فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام*
ولما سُئل عليه الصلاة والسلام: أي الناس أحب إليك؟، قال: عائشة، قيل له من الرجال، قال: أبوها.
وقال لها يوماً، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم:
يا عائش (وهي كلمة ترخيم تقال تحبباً)، قال: *يا عائش، هذا جبريل يُقرئك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى يا رسول الله*.
وقال لها: إني لأعلم إن كنت عليَّ راضية أو كنت عليَّ غضبى، فقالت: ومن أين تعرف ذلك؟!، قال: أما إذا كنت عليَّ راضية تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنت عليَّ غضبى تقولين: لا وربِّ إبراهيم، فقالت: أجل، والله يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك.
وأثنى النبي عليه الصلاة والسلام على السيدة زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، فروى الإمام مسلم أن رسول اللهﷺ قال:
*أسرعكنَّ لحاقاً بي أطولكنَّ يداً، أي أكثركنَّ إنفاقاً*
وكانت زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها هي أسرع نساء النبي ﷺ لحاقاً به، كانت تعمل وتتصدق رضي الله تعالى عنها.
وأثنى على السيدة صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها، أبوها حيي بن أخطب وهو يهودي، لما قالت لها السيدة حفصة رضي الله تعالى عنها(فيما يجري من كلام الضرائر): إنك بنت يهودي، فبكت السيدة صفية، دخل النبي عليه الصلاة والسلام إليها وهي تبكي، فقال: ما يُبكيك؟، قالت: قالت لي حفصة: إنني بنت يهودي، فقال عليها ﷺ جبراً لخاطرهاً ومثنياً عليها: إنك لابنة نبي(سيدنا موسى)، وإن عمك نبي(سيدنا هارون)، وزوجك نبي، ففيم تفتخر عليك؟؟!!.
وكما ذكرنا في الدرس الماضي أنه كان النبي ﷺ يثني على السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها بعد وفاتها بسنوات، وكيف ذكر ما قدمت له من خدمة وما بذلت له من معروف فقال: قد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدَّقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء، وكان عليه الصلاة والسلام إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة.
ثمَّ النبي عليه الصلاة والسلام حثَّ الرجال على إرساء العلاقة مع زوجاتهم فقال في أحاديث كثيرة ﷺ:
*خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي*
وفي مقدمة هذه الخيرية أيها الزوج، أن تقدِّرَ ما تقوم به زوجتك وتشكرها عليه.
وفي الوقت ذاته، حثَّ الزوجات على شكر أزواجهن لما يبذلونه ويقدمونه لأسرهم من جهدٍ وتعبٍ ومال، وقد جاء حثِّ النساء على شكر أزواجهن بصورة تهديد مخيف، فقال عليه الصلاة والسلام:
*لا ينظر الله إلى امرأةٍ لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه*
كما تكلم العلماء عن آلية عمل الشكر وعلاقتها بالعقل الباطن، وكيف تدفع إلى العمل أكثر.
والملفت للنظر كذلك، بعد أن تكلموا عن الشكر وقوته الهائلة وطاقاته الإيجابية وتواصلك مع الآخرين، أولوا أهمية كبرى للشكر الذي ينبغي أن يكون متبادلاً بين الزوجين لما له من أثرٍ عظيم في تماسك الأسرة وتنامي علاقات المودة بين أقطاب الأسرة، قالوا: على صعيد العلاقات الزوجية فإن شكر الزوجين كل منهما للآخر له أثرٌ كبير في حل المشكلات وتنشيط العلاقات وتعميق التواصل، وقالوا بإمكاننا أن نسيطر على المشكلات ونحاصرها بإتقان فن الشكر وممارسته، وقالوا: كلمات بسيطة يقولها الزوج لزوجته كل يوم يشكرها ويشعرها بقيمة عملها ويقدِّرُ لها جهودها في البيت وفي تربية الأولاد، تكون سبباً في درء الكثير من المشاكل وجلب الكثير من السعادة وقالوا: إنها قوة الشكر.
والبروفيسور تود كاشدان أستاذ علم النفس في جامعة ميسن في ولاية فيرجينيا الأمريكية قال:
*إن النساء اللواتي يشكرن أزواجهن يكنَّ أكثر سعادة ويعشن عمراً أجمل*.
ودكتور آخر هو جون غريت وهو طبيب نفسي وكاتب ومؤلف أمريكي يعيش في كاليفورنيا، ألَّف سنة 1992 كتاباً أشتهر عالمياً وبيع منه أكثر من خمسين مليون نسخة وتُرجم إلى كثير من لغات العالم، هذا الكتاب اسمه *"الرجال من المريخ والنساء من الزهرة"*، هذا الكتاب يُعتبر دليلاً لفهم طبيعة الرجل والمرأة، وأكد هذا الطبيب على أهمية الشكر في حياة الإنسان الناجح، وأن الزوجة التي تشكر زوجها على ما يقوم به، فإن هذا الشكر يحفزه للقيام بمزيد من الإبداعات والنجاح، فالامتنان يقدم لك المزيد من الدعم والقوة.
ونقول أن ما توصل إليه العلماء اليوم وأثبتوه من خلال دراساتهم هو الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ومارسه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، فقد رأينا كيف أن النبي ﷺ كان يثني على زوجاته، والثناء على الزوجة أو على أحد هو نوع من الشكر، لأن الشكر دعاءٌ أو ثناءٌ والنبي عليه الصلاة والسلام كان الرائد في هذا وسيرته حافلة بذلك، فقد أثنى على السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها فقال ﷺ:
*فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام*
ولما سُئل عليه الصلاة والسلام: أي الناس أحب إليك؟، قال: عائشة، قيل له من الرجال، قال: أبوها.
وقال لها يوماً، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم:
يا عائش (وهي كلمة ترخيم تقال تحبباً)، قال: *يا عائش، هذا جبريل يُقرئك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى يا رسول الله*.
وقال لها: إني لأعلم إن كنت عليَّ راضية أو كنت عليَّ غضبى، فقالت: ومن أين تعرف ذلك؟!، قال: أما إذا كنت عليَّ راضية تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنت عليَّ غضبى تقولين: لا وربِّ إبراهيم، فقالت: أجل، والله يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك.
وأثنى النبي عليه الصلاة والسلام على السيدة زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، فروى الإمام مسلم أن رسول اللهﷺ قال:
*أسرعكنَّ لحاقاً بي أطولكنَّ يداً، أي أكثركنَّ إنفاقاً*
وكانت زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها هي أسرع نساء النبي ﷺ لحاقاً به، كانت تعمل وتتصدق رضي الله تعالى عنها.
وأثنى على السيدة صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها، أبوها حيي بن أخطب وهو يهودي، لما قالت لها السيدة حفصة رضي الله تعالى عنها(فيما يجري من كلام الضرائر): إنك بنت يهودي، فبكت السيدة صفية، دخل النبي عليه الصلاة والسلام إليها وهي تبكي، فقال: ما يُبكيك؟، قالت: قالت لي حفصة: إنني بنت يهودي، فقال عليها ﷺ جبراً لخاطرهاً ومثنياً عليها: إنك لابنة نبي(سيدنا موسى)، وإن عمك نبي(سيدنا هارون)، وزوجك نبي، ففيم تفتخر عليك؟؟!!.
وكما ذكرنا في الدرس الماضي أنه كان النبي ﷺ يثني على السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها بعد وفاتها بسنوات، وكيف ذكر ما قدمت له من خدمة وما بذلت له من معروف فقال: قد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدَّقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء، وكان عليه الصلاة والسلام إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة.
ثمَّ النبي عليه الصلاة والسلام حثَّ الرجال على إرساء العلاقة مع زوجاتهم فقال في أحاديث كثيرة ﷺ:
*خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي*
وفي مقدمة هذه الخيرية أيها الزوج، أن تقدِّرَ ما تقوم به زوجتك وتشكرها عليه.
وفي الوقت ذاته، حثَّ الزوجات على شكر أزواجهن لما يبذلونه ويقدمونه لأسرهم من جهدٍ وتعبٍ ومال، وقد جاء حثِّ النساء على شكر أزواجهن بصورة تهديد مخيف، فقال عليه الصلاة والسلام:
*لا ينظر الله إلى امرأةٍ لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه*
قال العلماء: الحياة الزوجية قائمة على الأخذ والعطاء وعلى تبادل المنافع، فلا يستطيع أحد الزوجين أن يستغني عن الآخر، والتعاون في الأسرة سرُّ نجاحها واستقرارها، والإنسان بطبعه يُحبُ أن يُشكر عند القيام بعمل طيبٍ أو تضحية أو موقف، فكل المواقف التي يقدمها أحد الزوجين للآخر، ينبغي أن يسمع ما يقابلها من كلمة شكرٍ أو مدحٍ أو دعاء، قالوا: الشكر يعطي للحياة الزوجية معنى الاستقرار والاستمرار، كلام جميل ذكره هؤلاء العلماء وهو تطبيق عملي لما ورد في أدبياتنا وفي شريعة الإسلام، نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليها.
لقد عرفنا كيف تؤثر كلمات الشكر التي يؤديها الأزواج لبعضهم على هدوء الحياة الزوجية واستقرارها، بل يمكن أن تعالج تلك الكلمات الطيبة البسيطة الكثير من المشكلات، فقط حين يشعر شريك حياتك أنك تقدِّر ما يقوم به وتشكره عليه، لذلك قالوا: لا داعي للكبر وللأنفة، لا داعي للاستعلاء على الشكر والعرفان بالجميل لأن ذلك خسارته كبيرة، لكن للشكر وكلمات الامتنان أرباحها عظيمة.
إن كلمة *شكراً* ، كلمة *جزاك الله خيراً* ، كلمة *سلمت يداك* ، كلمة *بارك الله فيك* ، كلمة *عوض الله عليك* ، وغيرها من الكلمات، كلمات صغيرة ولكن أثرها كبير وهي دالة على خلق كريم، فالذي يشكر دليل خلق وأدب وذوق ومعدن كريم، وهذا الخلق له دلالات ونتائج عظيمة، يكفي أنه عبادة لله تعالى، لأنَّ شكرك للناس هو شكر لله تعالى أولاً، ثانياً وهو طريقك إلى قلوب الناس وامتلاك مشاعرهم وقلوبهم.
لذلك فلنتعلم خلق الشكر ولنعزز أدب الشكر في نفوسنا وأدب الامتنان، ولنعوِّد عليه ألسنتنا، أي خدمة يقدمها إنسان لك، قل له: شكراً، قل له: جزاك الله خيراً مهما كانت بسيطة، إذا كنت في الطريق وفتح لك المجال لسيارتك أن تمر، قل له: جزاك الله خيراً، فلنتعوَّد على هذه الكلمات ولتكن ألسنتنا مرنة وطريَّة، ولا نثقل ألسنتنا بهذه الكلمات التي نخسر بها كثيراً بالأنفة والكبر والاستعلاء، وينبغي أن نعلم هذا لأبنائنا ونعزز هذا في أولادنا، ونعزز هذه الثقافة الإسلامية التي جاءت بها شريعتنا منذ أكثر من أربعة عشر قرناً كما عرفنا، قبل أن يتكلم بها علماء النفس اليوم، ويقولوا: أنها علم النفس الإيجابي، لنعيش حياة الطمأنينة والاستقرار، وتنامي مشاعر المحبة والمودة، هذا من الأمر الهام جداً، قال بعض الحكماء:
*من قصرت يداه عن المكافأة فليُطِل لسانه بالشكر*
اشكر من قدم لك معروفاً خيرا براً، فيكون بذلك لك الخير، وتحصل أنت على نتائجها الإيجابية وطاقته الهائلة، وكما سماه علماء النفس *قوة الشكر* .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رب العالمين
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لقد عرفنا كيف تؤثر كلمات الشكر التي يؤديها الأزواج لبعضهم على هدوء الحياة الزوجية واستقرارها، بل يمكن أن تعالج تلك الكلمات الطيبة البسيطة الكثير من المشكلات، فقط حين يشعر شريك حياتك أنك تقدِّر ما يقوم به وتشكره عليه، لذلك قالوا: لا داعي للكبر وللأنفة، لا داعي للاستعلاء على الشكر والعرفان بالجميل لأن ذلك خسارته كبيرة، لكن للشكر وكلمات الامتنان أرباحها عظيمة.
إن كلمة *شكراً* ، كلمة *جزاك الله خيراً* ، كلمة *سلمت يداك* ، كلمة *بارك الله فيك* ، كلمة *عوض الله عليك* ، وغيرها من الكلمات، كلمات صغيرة ولكن أثرها كبير وهي دالة على خلق كريم، فالذي يشكر دليل خلق وأدب وذوق ومعدن كريم، وهذا الخلق له دلالات ونتائج عظيمة، يكفي أنه عبادة لله تعالى، لأنَّ شكرك للناس هو شكر لله تعالى أولاً، ثانياً وهو طريقك إلى قلوب الناس وامتلاك مشاعرهم وقلوبهم.
لذلك فلنتعلم خلق الشكر ولنعزز أدب الشكر في نفوسنا وأدب الامتنان، ولنعوِّد عليه ألسنتنا، أي خدمة يقدمها إنسان لك، قل له: شكراً، قل له: جزاك الله خيراً مهما كانت بسيطة، إذا كنت في الطريق وفتح لك المجال لسيارتك أن تمر، قل له: جزاك الله خيراً، فلنتعوَّد على هذه الكلمات ولتكن ألسنتنا مرنة وطريَّة، ولا نثقل ألسنتنا بهذه الكلمات التي نخسر بها كثيراً بالأنفة والكبر والاستعلاء، وينبغي أن نعلم هذا لأبنائنا ونعزز هذا في أولادنا، ونعزز هذه الثقافة الإسلامية التي جاءت بها شريعتنا منذ أكثر من أربعة عشر قرناً كما عرفنا، قبل أن يتكلم بها علماء النفس اليوم، ويقولوا: أنها علم النفس الإيجابي، لنعيش حياة الطمأنينة والاستقرار، وتنامي مشاعر المحبة والمودة، هذا من الأمر الهام جداً، قال بعض الحكماء:
*من قصرت يداه عن المكافأة فليُطِل لسانه بالشكر*
اشكر من قدم لك معروفاً خيرا براً، فيكون بذلك لك الخير، وتحصل أنت على نتائجها الإيجابية وطاقته الهائلة، وكما سماه علماء النفس *قوة الشكر* .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رب العالمين
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
412
جلسة الصفا
1 ربيع الآخر 1446
4 تشرين الأول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*كيفية التعامل مع الأبوين*
بسم الله الرحمن الرحيم
مرَّ معنا في الدرس الماضي كيف أن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين وعظ أباه ودعاه إلى عبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، خاطبه بأرق العبارات وألطف الكلمات، وابتدأ كل جملة قالها له بقوله: (يا أبت)، بهذه الكلمة الرقيقة التي تثير المشاعر وتحرك العواطف، ولمَّا قابله أبوه بالغلظة والفظاظة وقال له: لأرجمنَّك، لم يقابله سيدنا إبراهيم بمثل ذلك، بل ثبت على رفقه ولطفه ولين خطابه، وقال له: سلام عليك، ووعده أن يدعو له فقال له: سأستغفر لك ربي .
فإذا كانت مخاطبة الأب الكافر عابد الوثن بهذا الخطاب الحسن والأسلوب الرائع ، فكيف ينبغي أن تكون مخاطبة الأب المؤمن والأم المؤمنة؟؟.
هذا ما يدعونا إلى أن نقف عند هذه المسألة المهمة والقضية الشرعية في التعامل مع الوالدين .
ويكفي لبيان أهمية حسن العلاقة مع الوالدين، أن الله تعالى قرن البر بالوالدين والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده ، فقال تعالى:
(واعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
وقال:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
وقال:
(أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)
وكان هذا الأمر الإلهي بالإحسان إلى الوالدين موجهاً إلى جميع الأمم، فقد قال سبحانه وتعالى:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
ثم جاءت وصية خاصة بالوالدين في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم.
فقال تعالى:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)
وقال:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين)
وقال:
(وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَٰانًا)
وذكَّر الله تعالى الحيثيات التي من خلالها أوجب على المرء الإحسان إلى والديه، فذكر منها معاناة الأم وما تحملته من آلام في تربية ولدها وما صبرت فيه على إطعامه وسقايته وإزالة الأذى عنه، فقال تعالى:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)
وقال:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)
إنها مدة مديدة والأم تقوم بخدمة ولدها على أحسن وجه، لا يقر لها عين ولا يهدأ لها بال إلا إذا رأت طفلها شبعان ريان معافى نظيفا سالما من الأذى، لا همَّ لديها أعظم من اهتمامها بولدها، ولا سعادة عندها إلا بسعادة ولدها.
فهل يليق بولدها إذا اشتدَّ عوده وبلغ أشده أن يقابلها بالغلظة والفظاظة وقبيح الأقوال والأفعال وقلة الاهتمام وقلة الاحترام؟؟!!
أيجوز للعاقل أن ينسى المعروف ويتنكر للجميل؟؟!!.
وأي جميل، جميل أنقذه من الهلاك والضياع، فلولا عطف الأم وحنانها وحضانتها لولدها الرضيع الذي لا قوة لديه، ولا يستطيع أن يتدبر شؤون نفسه من طعام وشراب ورفع أذى، لولا ذلك لمات الولد ولم تستمر به الحياة .
لذلك كانت وصية الله تعالى الخالق العظيم بالوالدين عموما وبالأم خصوصاً، وصية حاسمة صارمة مؤكدة تأكيدا ليس له مثيل.
وبلغت وصية الله تعالى بالوالدين ولو كانا كافرين، بل ولو كانا يسعيان جاهدين في ردِّ ابنهما عن دين الإسلام، فلا يطعهما في ذلك، ولا يكون ذلك مسوغاً لأن يسيء معاملتهما أو يؤذيهما، فقال تعالى:
(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا)
أي إن حرص الوالدان كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ومع ذلك لا يمنعنك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، فقال تعالى :
(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)
اي ولو كانا كافرين عاصيين.
لذلك لما قدمت أم أسماء بنت أبي بكر الصديق وكانت مشركة، على ابنتها أسماء وهي راغبة في أن تصلها ابنتها، سألت أسماء النبي ﷺ فقالت له:
يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة، أفاصل أمي؟، فقال لها النبي ﷺ: نعم صلي أمك.
روى حديثها الإمام البخاري ومسلم وغيرهما.
واشتدت وصية الله تعالى بالوالدين عند كبر سنِّهِما واشتداد حاجتهما إلى ولدهما، فقال تعالى:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)
أي : لا تسمعهما قولا سيئاً، ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول.
ونسأل:
لماذا نهى الله تعالى عن أن يتضجر الولد من أبويه وأن يتلفَّظ بكلمة أُف؟؟
والجواب:
لأن الوالد عندما يكبر ويشيخ قد تصدر منه تصرفات أو طلبات بسبب كبر السن تدعو إلى التضجر منه، ففي هذه الحالة ومع وجود ما قد يدعو إلى الضجر والتململ، منع الله تعالى الولد أن يظهر الضجر لوالديه ويقول لهما هذه الكلمة القبيحة التي هي _ ولو كانت قليلة بحروفها _ مؤلمة بمعناها وأثرها على النفس، ولها وقع جارح
جلسة الصفا
1 ربيع الآخر 1446
4 تشرين الأول 2024
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*كيفية التعامل مع الأبوين*
بسم الله الرحمن الرحيم
مرَّ معنا في الدرس الماضي كيف أن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين وعظ أباه ودعاه إلى عبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، خاطبه بأرق العبارات وألطف الكلمات، وابتدأ كل جملة قالها له بقوله: (يا أبت)، بهذه الكلمة الرقيقة التي تثير المشاعر وتحرك العواطف، ولمَّا قابله أبوه بالغلظة والفظاظة وقال له: لأرجمنَّك، لم يقابله سيدنا إبراهيم بمثل ذلك، بل ثبت على رفقه ولطفه ولين خطابه، وقال له: سلام عليك، ووعده أن يدعو له فقال له: سأستغفر لك ربي .
فإذا كانت مخاطبة الأب الكافر عابد الوثن بهذا الخطاب الحسن والأسلوب الرائع ، فكيف ينبغي أن تكون مخاطبة الأب المؤمن والأم المؤمنة؟؟.
هذا ما يدعونا إلى أن نقف عند هذه المسألة المهمة والقضية الشرعية في التعامل مع الوالدين .
ويكفي لبيان أهمية حسن العلاقة مع الوالدين، أن الله تعالى قرن البر بالوالدين والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده ، فقال تعالى:
(واعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
وقال:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
وقال:
(أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)
وكان هذا الأمر الإلهي بالإحسان إلى الوالدين موجهاً إلى جميع الأمم، فقد قال سبحانه وتعالى:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
ثم جاءت وصية خاصة بالوالدين في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم.
فقال تعالى:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)
وقال:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين)
وقال:
(وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَٰانًا)
وذكَّر الله تعالى الحيثيات التي من خلالها أوجب على المرء الإحسان إلى والديه، فذكر منها معاناة الأم وما تحملته من آلام في تربية ولدها وما صبرت فيه على إطعامه وسقايته وإزالة الأذى عنه، فقال تعالى:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)
وقال:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)
إنها مدة مديدة والأم تقوم بخدمة ولدها على أحسن وجه، لا يقر لها عين ولا يهدأ لها بال إلا إذا رأت طفلها شبعان ريان معافى نظيفا سالما من الأذى، لا همَّ لديها أعظم من اهتمامها بولدها، ولا سعادة عندها إلا بسعادة ولدها.
فهل يليق بولدها إذا اشتدَّ عوده وبلغ أشده أن يقابلها بالغلظة والفظاظة وقبيح الأقوال والأفعال وقلة الاهتمام وقلة الاحترام؟؟!!
أيجوز للعاقل أن ينسى المعروف ويتنكر للجميل؟؟!!.
وأي جميل، جميل أنقذه من الهلاك والضياع، فلولا عطف الأم وحنانها وحضانتها لولدها الرضيع الذي لا قوة لديه، ولا يستطيع أن يتدبر شؤون نفسه من طعام وشراب ورفع أذى، لولا ذلك لمات الولد ولم تستمر به الحياة .
لذلك كانت وصية الله تعالى الخالق العظيم بالوالدين عموما وبالأم خصوصاً، وصية حاسمة صارمة مؤكدة تأكيدا ليس له مثيل.
وبلغت وصية الله تعالى بالوالدين ولو كانا كافرين، بل ولو كانا يسعيان جاهدين في ردِّ ابنهما عن دين الإسلام، فلا يطعهما في ذلك، ولا يكون ذلك مسوغاً لأن يسيء معاملتهما أو يؤذيهما، فقال تعالى:
(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا)
أي إن حرص الوالدان كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ومع ذلك لا يمنعنك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، فقال تعالى :
(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)
اي ولو كانا كافرين عاصيين.
لذلك لما قدمت أم أسماء بنت أبي بكر الصديق وكانت مشركة، على ابنتها أسماء وهي راغبة في أن تصلها ابنتها، سألت أسماء النبي ﷺ فقالت له:
يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة، أفاصل أمي؟، فقال لها النبي ﷺ: نعم صلي أمك.
روى حديثها الإمام البخاري ومسلم وغيرهما.
واشتدت وصية الله تعالى بالوالدين عند كبر سنِّهِما واشتداد حاجتهما إلى ولدهما، فقال تعالى:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)
أي : لا تسمعهما قولا سيئاً، ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول.
ونسأل:
لماذا نهى الله تعالى عن أن يتضجر الولد من أبويه وأن يتلفَّظ بكلمة أُف؟؟
والجواب:
لأن الوالد عندما يكبر ويشيخ قد تصدر منه تصرفات أو طلبات بسبب كبر السن تدعو إلى التضجر منه، ففي هذه الحالة ومع وجود ما قد يدعو إلى الضجر والتململ، منع الله تعالى الولد أن يظهر الضجر لوالديه ويقول لهما هذه الكلمة القبيحة التي هي _ ولو كانت قليلة بحروفها _ مؤلمة بمعناها وأثرها على النفس، ولها وقع جارح
في القلب والمشاعر.
ولم يكتف البيان الإلهي بالتحذير والمنع من القول السيئ ، بل أمر الولد أن يقول لأبويه كلاماً كريماً لطيفاً رفيقاً يجبر الخاطر ويسر المشاعر، فقال تعالى:
(وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا)
والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه، يعني يتخيَّر لوالديه أرقَّ الكلمات وأجمل الألفاظ والعبارات.
ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعاً يبلغ حد الذُّل لهما لإزالة وحشة نفوسهما فقال تعالى:
(واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)
تأملوا في قوله تعالى:
(جَنَاحَ الذُّلِّ)، إذ يفيد أن الذلَّ للوالدين والتواضع لهما جناحٌ يرتقي به الإنسان ويعلو، لأن وظيفة الجناح أن يعلو بصاحبه، فالتذلُّل للوالدين هو رفعةٌ وشرفٌ وعزٌ للولد، وهو ذلُّ رحمة لهما قال تعالى: (جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.)
أما التكبُّر عليهما وعقوقهما، فهو مذلة ومهانة وصغار للولد، لذا جاء التعبير القرآني بهذا التصوير الرائع لبيان أن أعظم حالات الإنسان وأرفعها هي في بره لوالديه، وإحسانه وتواضعه لهما.
وهذه بعض صور التذلل للوالدين عند السلف الصالح:
قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما:
كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل للسيِّد الفظ الغليظ.
وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بن جاهمة السَّلمي أن جاهمة جاء إلى النبي ﷺ فقال:
يا رسول الله، أردت الغزو وجئتك أستشيرك، فقال النبي ﷺ: فهل لك من أم؟، قال: نعم، فقال: الزمها فإن الجنة عند رجليها.
وروى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه شهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، فسأل ابن عمر: إني لها بعيرها المذلل، أتراني جزيتُها؟، فقال ابن عمر: لا، ولا بزفرة واحدة . يعني مما يعرض للمرأة عند الولادة.
وقال سعيد بن عامر: بات أخي يصلي، وبتُّ أغمز قدم أمي، وما أحبُّ أن ليلتي بليلته.
وعن عبد الله بن عون أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.
وكان محمد بن سيرين إذا اشترى لوالدته ثوباً اشترى أليَنَ ما يجد، فإذا كان يوم عيد صبغ لها ثيابها، وما رفع صوته عليها، فكان يكلمها كالمصغي إليها، ومن رآه عند أمه ظنَّ أن به مرضاً من خفض كلامه عندها.
وكان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه: ضعي قدمك على خدي.
ومع كل هذا الإحسان والبر واللين لا يكون الولد قد قام بحق والديه كاملاً تاماً مرحبا، لذا أمرالله تعالى الولد أن يلجأ بالدعاء أن يجزيهما عنه خير الجزاء، وان يرحمهما من عنده ، فقال تعالى:
(وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى
وقد انتقل إلى هذا الدعاء انتقالاً بديعاً من قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)
، فقال بعد ذلك مباشرة:
(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
و في الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب، لأن الله تعالى أذن فيه، ويؤيد ذلك حديث النبي ﷺ: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم بثَّه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له.
فقوله تعالى: (كما ربياني صغيراً،) بمعنى التعليل، أي كما ربياني ورحماني بتربيتهما، والتربية تكملة للوجود وحفظ للوجود، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة.
والأمر يقتضي الوجوب .
وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط، وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله ودعائه، قال سفيان بن عيينة: إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل.
قال بعض الصحابة الكرام: ترك الدعاء للوالدين يُضيِّق العيش على الولد.
اللهم أكرمنا بِبِرِّ والدينا والإحسان إليهما يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.
ولم يكتف البيان الإلهي بالتحذير والمنع من القول السيئ ، بل أمر الولد أن يقول لأبويه كلاماً كريماً لطيفاً رفيقاً يجبر الخاطر ويسر المشاعر، فقال تعالى:
(وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا)
والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه، يعني يتخيَّر لوالديه أرقَّ الكلمات وأجمل الألفاظ والعبارات.
ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعاً يبلغ حد الذُّل لهما لإزالة وحشة نفوسهما فقال تعالى:
(واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)
تأملوا في قوله تعالى:
(جَنَاحَ الذُّلِّ)، إذ يفيد أن الذلَّ للوالدين والتواضع لهما جناحٌ يرتقي به الإنسان ويعلو، لأن وظيفة الجناح أن يعلو بصاحبه، فالتذلُّل للوالدين هو رفعةٌ وشرفٌ وعزٌ للولد، وهو ذلُّ رحمة لهما قال تعالى: (جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.)
أما التكبُّر عليهما وعقوقهما، فهو مذلة ومهانة وصغار للولد، لذا جاء التعبير القرآني بهذا التصوير الرائع لبيان أن أعظم حالات الإنسان وأرفعها هي في بره لوالديه، وإحسانه وتواضعه لهما.
وهذه بعض صور التذلل للوالدين عند السلف الصالح:
قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما:
كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل للسيِّد الفظ الغليظ.
وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بن جاهمة السَّلمي أن جاهمة جاء إلى النبي ﷺ فقال:
يا رسول الله، أردت الغزو وجئتك أستشيرك، فقال النبي ﷺ: فهل لك من أم؟، قال: نعم، فقال: الزمها فإن الجنة عند رجليها.
وروى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه شهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، فسأل ابن عمر: إني لها بعيرها المذلل، أتراني جزيتُها؟، فقال ابن عمر: لا، ولا بزفرة واحدة . يعني مما يعرض للمرأة عند الولادة.
وقال سعيد بن عامر: بات أخي يصلي، وبتُّ أغمز قدم أمي، وما أحبُّ أن ليلتي بليلته.
وعن عبد الله بن عون أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.
وكان محمد بن سيرين إذا اشترى لوالدته ثوباً اشترى أليَنَ ما يجد، فإذا كان يوم عيد صبغ لها ثيابها، وما رفع صوته عليها، فكان يكلمها كالمصغي إليها، ومن رآه عند أمه ظنَّ أن به مرضاً من خفض كلامه عندها.
وكان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه: ضعي قدمك على خدي.
ومع كل هذا الإحسان والبر واللين لا يكون الولد قد قام بحق والديه كاملاً تاماً مرحبا، لذا أمرالله تعالى الولد أن يلجأ بالدعاء أن يجزيهما عنه خير الجزاء، وان يرحمهما من عنده ، فقال تعالى:
(وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى
وقد انتقل إلى هذا الدعاء انتقالاً بديعاً من قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)
، فقال بعد ذلك مباشرة:
(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
و في الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب، لأن الله تعالى أذن فيه، ويؤيد ذلك حديث النبي ﷺ: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم بثَّه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له.
فقوله تعالى: (كما ربياني صغيراً،) بمعنى التعليل، أي كما ربياني ورحماني بتربيتهما، والتربية تكملة للوجود وحفظ للوجود، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة.
والأمر يقتضي الوجوب .
وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط، وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله ودعائه، قال سفيان بن عيينة: إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل.
قال بعض الصحابة الكرام: ترك الدعاء للوالدين يُضيِّق العيش على الولد.
اللهم أكرمنا بِبِرِّ والدينا والإحسان إليهما يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
و الحمد لله رب العالمين.