Telegram Web
حين تجد نفسك في غرفتك مرة أخرى، حيث البيانو القديم ينتظر صبرًا، تدرك أنك لم تكن تعزف عليه بقدر ما كنت تعزف على فكرة وجودها. نافذة مفتوحة على المطر، يوم شتائي ثقيل يعبق برائحة الغيوم والمعاطف المبللة، يشكل امتدادًا لتلك اللحظة التي غادرتها لكنها لم تغادرك. تلمس أصابعك مفاتيح البيانو كما لو أنك تلمس حبات المطر التي انتظرتها طويلاً، تلك اللحظة التي تبدو فيها اليد والذاكرة والموسيقى متواطئة ضد الزمن.

أليس ذلك هو الخلود الذي كنت تبحث عنه؟ ليس في الزمن، بل في التداخل بين الماضي والحاضر، في لحظة تفيض بالحياة رغم أنف عبثيتها. ربما كانت يدها مجرد وهم، لكنك، في تلك اللحظة، شعرت بالحب كما لم تشعر به من قبل. ليس الحب الذي يكتمل، بل ذلك الحب الذي يبقى دائمًا بعيدًا، مستحيلًا، لكنه حاضر، يطاردك كظل لا يمكنك الهرب منه.

مع كل نغمة تعزفها، ومع كل قطرة مطر تلمس النافذة، تتلاشى الحدود بين الحاضر والماضي، بين الألم والسعادة. كأن العالم بأسره يتآمر ليضعك في مواجهة هذا الهذيان الجميل، هذا الجنون الذي يمنح الحياة معناها. تنتظر المطر، تنتظر صوتها، تنتظر نفسك، وكأن الانتظار هو الحياة نفسها، حياة مليئة بالوعد الذي لا يأتي أبدًا ولكنه يبرر كل شيء.
في خضم هذا الانتظار، تشعر أن الزمن نفسه صار شريكًا في لعبتك العبثية. ليس مجرد لحظات تتساقط واحدة تلو الأخرى كحبات الرمل في ساعة زجاجية، بل نسيج يتداخل فيه كل شيء: الذكريات، الأحلام، والأحاسيس التي تراودك في كل مرة تذكر تلك الندوب الصغيرة على أصابعها، علامات الحياة التي خاضتها، وكأنها خريطة سرية لنفسك أنت.

تغمض عينيك للحظة. هناك، خلف الجفون المطبقة، تبدأ الصور بالتشكل، متقطعة وغير مكتملة، لكنها حية. ترى شرفة غمرها ضوء شاحب، ترى وجهها هناك، تحاول تمييز ملامحها لكنها تذوب كألوان مائية تتلاشى مع أول لمسة. هل كانت تلك نافذتك، أم نافذتها؟ أم أنها مجرد نافذة لا تنتمي لأي زمان أو مكان، مثل الحلم الذي يرفض الانصياع لقوانين المنطق؟

تتذكر أول مرة أدركت أن صوتها ليس مجرد صوت، بل موسيقى خفية تسحبك نحوها كالموج الذي يلتف حول صخرة عنيدة. كان يومًا شتائيًا أيضًا، لكنها لم تكن مجرد سماء ملبدة بالغيوم. كان هناك دفء لا تفسير له، دفء ينبعث من كلماتها، من حضورها، حتى لو لم تكن حاضرة بجسدها. كانت أصابعك تتلمس الآن، ليس فقط مفاتيح البيانو، بل كل ذكرى اختبأت في زوايا الغرفة.
تبدأ في العزف، ليس على البيانو فحسب، بل على كل شيء حولك: الحنين الذي يطاردك، المطر الذي يهمس بأغنية لا تنتهي، وحتى الغرفة التي تبدو وكأنها تردد صدى أفكارك. الموسيقى تصبح جسدًا يتحرك في الفضاء، تتخللها نبضات من صمت مهيب، كأنك تنتظر كلمة منها تقطع هذا الصمت. لكنها لا تأتي.

ترى نفسك في انعكاس النافذة، وجهك شاحب كضوء النهار في يوم شتائي، لكن عينيك تحملان بريقًا غريبًا. هو بريق الحب، أو ربما الحنين، أو ربما مزيج منهما معًا. تسأل نفسك: هل كانت تستحق كل هذا؟ هل كان من الممكن أن يكون هناك طريق آخر؟ لكن الإجابات لا تأتي، فقط المزيد من الأسئلة التي تذوب في لحنك.

عند هذه النقطة، تدرك أن الزمن ليس عدوك، بل شريكك في هذه الرحلة. أن حبك لها ليس مجرد ذكرى، بل فعل مستمر، يتجدد مع كل نغمة تعزفها، مع كل قطرة مطر تلامس النافذة. وأن الحياة، مهما كانت عبثية أو مؤلمة، تظل حياة مجيدة تستحق أن تعاش، حتى لو كانت مليئة بالانتظار.

ثم، كما يحدث دائمًا، تتلاشى الموسيقى ببطء. لكن في تلك اللحظة، حين يسود الصمت مجددًا، تدرك أنك لم تعد الشخص الذي كنت عليه. ربما لأنك أصبحت جزءًا من هذا الزمن الذي لا ينتهي، أو ربما لأنك، أخيرًا، تعلمت أن تحب الانتظار ذاته، لا ما تنتظره.

في النهاية، تفتح عينيك، تجد الغرفة كما هي، النافذة كما هي، لكنك تعلم أن شيئًا قد تغير. ليست الغرفة، ولا المطر، ولا حتى البيانو. بل أنت.
حسبي الله ونعم الوكيل بس
لا اله الا انت سبحانك إني كنت من الظالمين
أواجه الحياة بسيف من ورق، يبدو وكأنه عبث أمام سطوة الواقع، لكنه يحمل قوة خفية لا يدركها سوى من اعتاد أن يحول الهشاشة إلى مقاومة، والضعف إلى معنى. هذا السيف ليس مجرد أداة، بل امتداد لذاتي، لروحي التي تقاوم بصمت، تكتب على حواف الهاوية تفاصيل معركة أبدية مع الزمن والظروف.

كل ضربة من الرياح، كل تحدٍّ تلقيه الحياة في طريقي، يبدو وكأنه محاولة لتذكيري بحدود وجودي، لكنني أصرّ على الرد، لا بالسلاح الذي يجرح، بل بالكلمات التي ترمم. الورق، برغم هشاشته، يحمل أثقال الماضي، الحاضر، وحتى الأحلام التي لم تتجسد بعد. إنه شاهد على المحاولات، على الأخطاء، وعلى الإصرار الذي يرفض أن يذوب في عاصفة اليأس.

ورقي لا يقطع، لكنه يخلق فجوات في جدار الواقع، يسمح للنور بالتسلل عبره. لا أسعى إلى هزيمة الحياة، بل إلى مرافقتها، إلى تحويل كل صفعة إلى درس، وكل سقوط إلى بداية جديدة. سيفي الهش، الذي يبدو بلا قيمة في عين العالم، هو رمزي الخاص، هو الطريقة التي أواجه بها العبث وأعيد تشكيله، أحوله من شيء بلا معنى إلى قصة أعيشها، أضيفها إلى صفحات وجودي.

وفي كل مرة تهب فيها رياح الحياة، أشعر أن سيفي الورقي يرتجف بين أصابعي، لكنه لا ينكسر. أحمله كأنه امتداد لذكرياتي، لكل ما تركه الزمن في داخلي من آثار باهتة وأحلام متكسرة. كل جرح تركته الأيام على روحي صار حبرًا، وكل لحظة ضعف باتت قصيدة مكتوبة على هذا الورق الهش.
أنا لا أحارب لأنتصر، بل لأبقى. لأثبت لنفسي أنني قادر على الوقوف حتى عندما تبدو الأرض تحت قدمي خاوية. قد لا يرى أحد هذه المعركة، وقد لا يسمع أحد صدى ضرباتي، لكنها هناك، بيني وبين العالم، بيني وبين الصمت الذي يحاول أن يبتلعني.

سيفي من ورق، لكنه يحمل قدرة غريبة على الاحتفاظ بالحياة، على تسجيل اللحظات العابرة التي تفلت منا، على الإمساك بالمعنى وسط العبث. هو هش، لكنه مرن، كأنه يقول لي: "لا بأس أن تكون ضعيفًا، المهم أن تواصل."

وفي نهاية المطاف، ربما لا يتعلق الأمر بالحياة التي أقاتلها، بل بالمعنى الذي أصنعه من هذه المقاومة. ربما الورق لن يصمد طويلاً، وربما سيأتي يوم تتمزق فيه آخر صفحة، لكنني أعلم أنه، حتى في ذلك اليوم، ستظل معركتي شاهدة على شيء واحد: أنني حاولت.

وقد يعتقد البعض أن القتال بسيف من ورق ضرب من الجنون، لكنني أعلم أن القوة ليست في الأداة بل في اليد التي تحملها، وفي القلب الذي يؤمن أن حتى الهشاشة قادرة على الصمود، إن حملتها الإرادة.
Live stream started
توقفتُ عن مقاتلةِ الحياةِ بسيفي الورقي،
أدركتُ أخيرًا أن الريحَ لا تُهزمُ بالكلمات،
وأن الأحلامَ الهشةِ تتكسرُ كأمواجٍ على صخورِ الواقع.

ظننتُ أن حروفي درعٌ يحمي قلبي،
وأن المعاني سلاحٌ يشقُّ طريق الضوء،
لكن الحياة لم تكن معركة،
كانت نهرًا لا يأبهُ لمن يقفُ في مجراهُ أو من يُقاومه.

توقفتُ لأنني سئمتُ الطعنَ في الفراغ،
لأنني رأيتُ سيفي الورقي يحترقُ بين أصابعي،
يتحولُ رمادًا قبل أن يلمسَ صدر العدم.

اليوم، أفتحُ كفي للريح،
لا لأقاتلها، بل لأمضي معها،
لا لأهزمها، بل لأتعلمَ رقصة البقاء.

الحياةُ لا تُحارب، بل تُعاش،
والقوةُ ليست في السيوف، بل في الصبر،
في الانحناءِ كغصنٍ أمام العاصفة،
لا في كسرهِ حين يعاند الريح.

توقفتُ، لا ضعفًا، بل حكمة،
لا خوفًا، بل يقينًا بأن بعض المعارك لا تستحقُ القتال،
وأن السيفَ الحقيقي، لم يكن يومًا من ورق.
Live stream finished (35 minutes)
حسبي الله ونعم الوكيل بس
سُبات سّرمديّ،
أضحت الوحدة أكثر من كونها كوخًا في الغابة، تشبه بيت المرايا، حيثما نظرت أجد انعكاسًا لصورتي، مشوهة، غريبة، ومكررة مرات لا نهائية. كان يمكنني التحرر من كل شيء- إلا منها.
كانت تحاصرني كظل لا يفارق صاحبه، تهمس لي بأصوات لا أنتمي إليها، وتعيد على مسامعي قصصًا كنت أظن أني قد نسيتها. كل زاوية في هذا البيت العاكس كانت تحمل وجهي، لكن ليس كما أعرفه—أكثر شحوبًا، أكثر إرهاقًا، وأكثر غربة.

حاولت أن أشيح بناظري عن تلك الانعكاسات المتكررة، أن أجد نافذة أو بابًا يقودني للخارج، لكن الوحدة لا تمنح مهربًا، بل تلتف حولك كضوء خافت في ممر طويل لا ينتهي. كنت أحاول ألا أنظر، ألا أسمع، ألا أشعر، لكن كل صمت كان يضاعف الضجيج داخلي.

أحيانًا كنت أتوهم أن هناك آخرين معي في هذا البيت، ظلالًا تتحرك على أطراف المرايا، أصواتًا تتردد مثل صدى لا مصدر له. ربما كنت أنا من ينادي، ربما كنت أنا من يجيب.

لكن في النهاية، لم يكن هناك أحد سواي—وسواها.
بدأت أشك في أنني كنت أعيش داخل هذا البيت منذ زمن بعيد، ربما منذ لحظة ولادتي. كيف يمكن للوحدة أن تتسلل إلى العظام بهذا العمق، أن تصبح نسيجًا ممتزجًا بالروح، حتى لا تعود تعرف نفسك بدونها؟

كنت أتحرك بين المرايا بحذر، أخشى أن يخذلني انعكاسي يومًا وأراه يتحرك وحده، دون أن أحركه. هل يمكن أن تخونك صورتك؟ هل يمكن أن تصبح الوحدة شيئًا منفصلًا عنك، ككائن قائم بذاته يراقبك بصمت، ينتظر لحظة ضعف ليبتلعك تمامًا؟

في إحدى الزوايا، لاحظت مرآة مختلفة. كانت مشروخة، خطوط الكسر تمتد في جميع الاتجاهات كأذرع عنكبوت عبثي. اقتربت منها ببطء، رأيت وجهي متشظيًا، كل قطعة تعكس جزءًا مني—عين قلقة، شفاه ترتجف، أنفاس متقطعة.

للمرة الأولى، لم أعد متأكدًا أي الانعكاسات هو أنا.

مددت يدي نحو الزجاج، وعندما لمست سطحه البارد، لمستني يد أخرى من الداخل.
وكم تلمّسْتُ عذرًا كي أواصلهُ
ماذا أقولُ؟ قد استنفدتُ أعذاري!

أأضرب لها في جدار البيتِ مِسمارًا
وأقول لها جِئتُ كي أزور مِسماري؟
واقطع وصالك ما استطعت وعش
على هجري فإني لا أراك تبالي
هي قصة بدأت بحب صادق
وتنوعت يومًا بكل جمال
فقضت ظروف الدهر أن تمضي
بها وبنا بأسوأ منتهى ومآل
أنا لن أجادلك الوفاء فما مضى
قد يستحال رجوعه بجدال
لو أن فيك من الوفاء بقيةٌ
لذكرْتَ أيامًا مضت وليالي
ووَهَبْتُني أسمى خصالك مثلما
أنا قد وهبتك من جميل خصالي
كم قلتُ إنك خيرٌ من عاشرته
فأتيتَ أنت مخيبًا آمالي
"يُريدُها غَادةً حَسنَاءَ فاتنةً
نَحِيلةَ الخَصرِ والأكتافِ والعُنقِ".
إن هذه الأشجان تستولي علينا فجأة، ونحن في قمة سعادتنا؛ فقبل لحظة، يضحك لك كل شيء، وتضحك أنت لكل شيء، وفجأة إذا بغمامة سوداء داكنة تتصاعد من أعماق النفس وتقف حائلًا بين المتعة والحياة. وإذا بها تكون سِتارًا أغبر يفصلنا عن بقية العالم.
وحدها السماء تجمع بيننا. أنظر إليها غالبًا كما لو أني، ومن خلال انعكاس أبعادها الهائلة، سأجد نفسي يومًا أحدّق في عينيك. عيناك الغاليتان الكبيرتان الصافيتان الجميلتان.
"أنَا المُحِبُ الذِي بِالعَهٔد مُلّتَزمٌ
‏أنَا الوَفّيُ لَهُمْ حَتَّىٰ وَإن رَحَلُوا"
2025/03/21 00:33:58
Back to Top
HTML Embed Code: