tgoop.com/al_sabeel/7700
Last Update:
وهم الراحة
عصرنا هذا هو عصر السهولة، ويقولون أيضا هو عصر السرعة، وعصر السيولة، وعصر جيل رقائق الثلج، وجيل الورق، وغير ذلك. هذه مقولات صارت تجري على كل لسان، ونرجح أن يوافق عليها معظم الناس، إذ إنا صرنا نلاحظ تكاثر مطالب التسهيل والتخفيف في كل شيء في الحياة المعاصرة.
طلبة العلم عزفوا منذ زمن عن قراءة الكتب التراثية استثقالا للغتها العالية، ثم صاروا بعد ذلك يشتكون من طول الكتب المعاصرة، ثم صرنا نسمعهم يلحّون في طلب الملخصات والمختصرات، واقتصروا عليها في المذاكرة وتحصيل الشهادات، وحتى المقالات العلمية لم يعودوا يصبرون على قراءتها، وكذلك الأبحاث والدراسات حتى لو كانت قصيرة.
وأما عامة الناس في عصر المعلومات والخوارزميات فقد ملّوا كل مكتوب، ويمّموا وجوههم نحو المرئيات والمصوّرات لما في الصورة من حيوية وبهجة، لكنهم سرعان ما بدأوا يتبرمون بالمقاطع الطويلة، فشرعوا إلى مطالبة صناع المحتوى بالاختصار، وألحّوا عليهم بألا تتجاوز مقاطعهم العشر دقائق، وهؤلاء هم أصحاب الهمة العالية، أما غيرهم فقد جعل الحد الأقصى في مقاطع الخمس دقائق، والباقي وجد كفايته في مقاطع الدقيقة والدقيقتين.
وهكذا الحال في سائر المجالات: فهذا الذي يجري وراء الثراء السريع، وذاك الذي يريد أن يتعلم لغة جديدة في ثلاثة أيام، وآخر يريد أن يتجاوز سنوات الدراسة الجامعية وما فيها من جهد وعناء، فيقرر البدء بمشروعه الخاص سيرا على خطى الأغنياء من المشاهير من أمثال ماسْك وغيتس وجوبز وغيرهم.
لقد توهمنا أن المجد يُنال بالراحة، وأنه يمكن صعود الجبال بالرقود في ظلال الأشجار. ولقد توهمنا أن المشقة والتعب يمكن تفاديهما بذكاء، إذا عثرنا على الطريقة السحرية التي غابت عن القدماء.
ولعلك تسأل: ما هو المطلوب؟ هل تريدنا أن نسعى إلى المشقة بأرجلنا، ونطلب العناء بأنفسنا؟
إنا لا نقول إن المشقة مما ينبغي أن يُسعى إليها، لكنها مفسدة ملازمة لكل مصلحة، وخسارة متلبسة بكل فائدة، وكلفة مجبولة بكل واجب، وألم معجون بكل لذة.
بل إن المشقة لا بد حاضرة في كل سعي دنيوي وأخروي {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، حتى النشوة الإيمانية لا يذوقها إلا من يكابد الزهد والترك، والقرآن لا يذوق حلاوته إلا من عانى في مسالك الطلب وكابد مشقة العمل.
فليس هناك مكاسب سريعة تدوم، ولا مكاسب كبرى -سواء دنيوية أو أخروية- لا تتطلب أن تتصبب في طلبها عرقا أو تنزف دما، وما سوى ذلك أوهام لا يشعر بها المرء إلا عند الانكسار والفشل، أو بعد الرحيل.
وما المباحات التي أنعم الله بها على الإنسان، ومختلف أساليب الهزل والمرح والترويح عن النفس سوى فسحة يستعين بها الإنسان ليطرد الملل، ويتقوى بها على متابعة المسير في تحقيق الغايات من وجوده في الحياة الدنيا. وبالتأكيد فإن اختصار مغزى الحياة والأعمال اليومية في الترويح والترفيه، وسجن الإنسان نفسه في قمقمها، طلبًا للراحة، وهمٌ ضخمٌ عاقبته مشقةٌ عظيمةٌ، تفوق كل ما يكابده العاملون والكادحون من متاعب وآلام.
المزيد في جديد مقالات السبيل: "الوهم وصناعة الألم" بقلم رضوان الداوود
https://bit.ly/3UWYnGf
BY السبيل
Share with your friend now:
tgoop.com/al_sabeel/7700