Telegram Web
[للصائم دعوة لا ترد]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلا يزال الحديث مستمرا عن فضائل الصيام وثمراته.
الفضيلة التاسعة: للصائم دعوة لا ترد.
الدعاء من أفضل العبادة وأحبّها إلى الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (( الدعاء هو العبادة)) وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60].
وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186]. وهذا وعد إلهي مؤكد والله لا يخلف الميعاد.
وقد ذكر الله تعالى هذه الآية بين آيات الصيام:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [سورة البقرة: 183] وآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}[البقرة:187]، وفي ذلك إشارة إلى أهمية الدّعاء عند القيام بهذه الشعيرة، وحريّ بالدّاعي فيها أن يستجاب له كما وعد الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله عن شهر الصوم، شهر رمضان: " لا دعاء فيه إلا مسموع، ولا عمل إلا مرفوع، ولا خير إلا مجموع، ولا ضرر إلا مدفوع".
وهذه الآية الكريمة فيها من اللطائف والإشارات للمتأمّل ما يبهر العقول ويحفّز الهمم في المزيد من التضرع والدعاء، ومن هذه اللطائف:
1- أنها جاءت بين آيات الصيام مشعرة بأن الصيام مظنة الإجابة كما تقدم.
2- أن الله تبارك وتعالى تولّى الإجابة بنفسه العليّة فقال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب..} على خلاف غيرها من الآيات التي أشار الله تعالى فيها إلى الواسطة: {يسألونك عن..}.
3- تقديم القُرْب على الدعاء (فإني قريب) ليطمئن الداعي إلى أنه في مكانة عظمى من المدعو؛ فيطمئن قلبه ويثق بقبول الدعاء، وقد سأل الصحابة.
4- تقديم الإجابة على الدعاء {أجيب دعوة الداعي إذا دعان} مشعر بتحقّق وسرعة الاستجابة.
5- في الآية ثلاثة شروط ونتيجة؛ فإذا حقّق العبد الشروط كانت النتيجة.
أ- أما الشرط الأول ففي قوله تعالى: {إذا دعان} فعلى العبد الدعاء وليوقن بالإجابة كما قال عمر رضي الله عنه: (إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء) يعني: لأن الإجابة مضمونة.
ب- أما الشرط الثاني ففي قوله تعالى: {فليستجيبوا لي} فشرط إجابة الدعاء؛ الاستجابة لله وللرسول قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[الأنفال:24].
ففيها إشارة إلى أن عليكم أن تجيبوا دعوتي ودعوة رسولي حتى أجيب دعاءكم.
ج- الثالث: الإيمان بالله {وليؤمنوا بي} فشرط قبول كل عمل صالح الإيمان بالله تعالى.
د- أما النتيجة ففي قوله تعالى: {لعلهم يرشدون} ولعل هنا للتحقيق. أي: يعدهم تعالى إذا دعوا الله عز وجل واستجابوا وآمنوا أن يحقّق لهم الرشد والفوز والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (( ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)).
وأرجى ما يكون الدعاء في الأوقات الشريفة، وفي أثناء الصيام.
وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين)).
وهذا دليل على أن دعاء الصائم ليس عند الإفطار فقط، بل طيلة صيامه(الصائم حتى يفطر) فيكثر الصائم من الدعاء في أثناء صيامه وعند إفطاره، وبعده.
ومن حديث عبد الله بن أبي مليكة قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن للصائم عند فطره دعوة لا تردّ)).
فالدعاء يكون قبل الإفطار وبعده، لأن كلمة (عند) تشمل الحالتين.
قال ابن أبي مليكة وسمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: (اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي).
وعنه من حديث ابن عمر قال: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: (( ذهب الظمأ وابتلّت العروق وثبت الأجر إن شاء الله)).
وهذا دعاء ورجاء أن ينال بصومه وتعبه الأجر والثواب على تلك العبادة، وفيه استبشار بأنه قد فاز ونال مطلوبه بعد التعب والنّصب بثبوت الأجر من الله تعالى.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها إن هي وافقت ليلة القدر بأن تقول: (( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).
فالصيام الواجب والنفل مظنّة استجابة الدعاء، فعلى الحريص على نجاة نفسه استثمار هذه الشعيرة وكثرة التضرع والانكسار والدعاء بين يدي الله عز وجل، وخاصة في أثناء الصيام الواجب من رمضان المبارك الذي جمع الله فيه بين شرف الزمان وشرف العبادة وتعدد مناسبات الدعاء في أثناء الصيام وعند الإفطار وبعده، وعند القيام والقنوت وختم القرآن وعند السحور، وفي الثلث الآخر من الليل عند النزول الإلهي، وبين الأذان والإقامة، وساعة الجمعة، وغيرها من مواطن مظنة الإجابة.

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا وسائر أعمالنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم، موافقة لسنّة نبيك الكريم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميّتين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[تتمّة الفضيلة التاسعة: للصائم دعوة لا ترد]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاستكمالًا لما يتعلق بالفضيلة السابقة وهي أن للصائم دعوة لا ترد، نقول:
إن إجابة دعوة الداعي متحققة بإذن الله تعالى عند توفر شروطها وانتفاء موانعها، ومن أهمّ شروط القبول:
1- تحقيق التوحيد. فهو شرط صحة لكل عبادة قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}[[الأنبياء:94]. وقال تعالى عن الكافرين: { فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}[غافر:50].
2- صدق التوجه، وحضور القلب، والإخلاص في الدعاء لله تعالى.
3- عدم الاعتداء في الدعاء كسؤال العبد الله ما لا يجوز له أن يسأله. وعدم التكلف في السجع والمبالغات، قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف:55].
4- عدم التلبّس بالحرام، والحرص على الطعام الحلال، ففي الحديث: ((.. وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك". وقال صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه: (( أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)).
5- إحسان الظّن بالله تعالى واليقين بالإجابة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (( ادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة)).
6- عدم الاستعجال، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي".
7- عدم تعليق الدعاء بالمشيئة، لحديث: " إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني..".
وليعلم الداعي أن هذه الإجابة متنوّعة؛ فقد يتحقق عين المطلوب تفضّلاً من الله وكرماً، وقد يتحقق غيره، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث؛ إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يكف عنه من الشر مثلها. قالوا: إذاً نكثر. قال: الله أكثر)).
قال ابن الجوزي رحمه الله: "اعْلَم أَن الله عز وَجل لَا يرد دُعَاء الْمُؤمن، غير أَنه قد تكون الْمصلحَة فِي تَأْخِير الْإِجَابَة، وَقد لَا يكون مَا سَأَلَهُ مصلحَة فِي الْجُمْلَة فيعوضه عَنهُ مَا يصلحه. وَرُبمَا أخّر تعويضه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. فَيَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَلّا يقطع الْمَسْأَلَة لِامْتِنَاع الْإِجَابَة". قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}[البقرة:216]. وهذا في إجابة دعاء المسألة. أمّا دعاء الثناء فهو بإثابة المثني على ثنائه. وهذا الدعاء بنوعيه الطّلبي والثّناء من الأعمال الصالحات والعبادات الجليلة التي يثاب عليها العبد سواء قُبِل الدعاء أو لم يقبل؛ لأنها عبادة، أما القبول فله شأن آخر ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27].
كما ننبه إلى أمر آخر وهو ما أشار إليه الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى، وهو أن الإنسان حين يدعو الله لا يجعل هدفه وغايته هو تحقيق مطلوبه، بل يراعي أن الدعاء عبادة لله تعالى يحتسب الأجر عند الله عليها ... الخ.
ثم إن هناك من الوسائل والأحوال والأزمان والأمكنة ما يكون معيناً على إجابة الدعاء بإذن الله تعالى، دل عليها الشارع الحكيم، وبين أن الإجابة ترجع إلى الأسباب الآتية أو بعضها:
1-الوسيلة: وخير ما يتوسل به إلى الله تعالى الثناء عليه ودعاؤه بأسمائه الحسنى، قال الله عز وجل:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[ سورة الأعراف:180]ومن هذه الأسماء الحسنى؛ الاسم الأعظم موضوع الدراسة.
2-حال الداعي: كالمضطر، وقد قال الله تعالى:{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[النمل:62].
– والمظلوم كما قال النبي  ((.. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))( ).
والمسافر كما قال النبي : ((ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)) ( ).
3-زمان الدعاء: كثلث الليل الآخر من كل ليلة، لما في حديث أبي هريرة، عن النبي  قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»( ).
وكساعة الجمعة: لما ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي  ذكر الجمعة قال: ((فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه الله إياه))( ).
4-مكان الدعاء: وذلك كالمساجد والمشاعر المقدسة؛ كعرفة والمشعر الحرام والجمرتين الصغرى والوسطى وجوف الكعبة والصفا والمروة والملتزم( ).
فهذه وغيرها كثير من الوسائل التي وعد الله عندها إجابة الداعين، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومن المسلمين.
وأكمل الدعاء وأتمه ما اشتمل على أمور ثلاثة:
1-بيان حال المسئول: وهو أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته، ويتوسل إليها بها، ويبين كمال عظمته، وغناه سبحانه وتعالى.
2- بيان حال السائل: وهو أن يتوسل العبد إلى الله تعالى بضعفه وعجزه وحاجته، كأن يقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير؛ ونحو ذلك.
3-بيان الحاجة والمطلوب: وهو الدعاء الطلبي.
قال ابن القيم: (فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل. وهذه عامة أدعية النبي  ، وفي الدعاء الذي علّمه صدِّيق الأمة ذكرُ الأقسام الثلاثة) ويعني به قوله  لأبي بكر حينما قال يا رسول الله؛ علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال : قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ( ).
قال ابن القيم: (فإنه قال في قوله «ظلمت نفسي (ظلماً) كثيراً» وهذا حلا السائل. ثم قال: «وإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت» وهذا حال المسئول، ثم قال: «فاغفر لي» ذكر حاجته ختم الدعاء باسمين من الأسماء الحسنى، تناسب المطلوب وتقتضيه) ( ) والله أعلم.
وسيد الاستغفار الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع هذه الخصال الثلاثة: (( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)). وهذه جمعت الثناء على الله تعالى بتوحيده وتعظيمه وعبودية السائل لمولاه.
وفي قوله: ( أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي) يبيّن حال السائل وضعفه وافتقاره والاعتراف بذنبه.
وفي قوله: (فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) بيان المطلوب مع الختام بالثناء على الله بما هو أهله.
ومثل الدعاء -المتقدم- الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبابكر. فإن فيه بيان حال العبد وضعفه واعترافه بذنبه.
وقوله: (فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) هذا ثناء على الله تعالى بما هو أهله.
وقوله: (فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) فيه جمع بين السؤال الطلبي والثناء.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعد آية: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف:55]. فوائد قيّمة استهلّها بقول الحسن: بين دعوة السّر ودعوة العلانية سبعون ضعفا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت أي ما كانت إلا همسا بينهم وبين ربهم عز وجل؛ وذلك أن الله عز وجل يقول:{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية}.
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها: أنه أعظم إيمانا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي.
ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم ومن رفع صوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى.
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده.
رابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه.
سادسها: - وهو من النكت البديعة جدا - أنه دال على قرب صاحبه للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: { إذ نادى ربه نداء خفيا}.
سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يملّ والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه.
ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات؛ فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولا بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته؛ فيضعف أثر الدعاء.
تاسعها: أنه أعظم النعمة -ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت- ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد؛ ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى ولا يطلع عليه أحد.
عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكر وزيادة.
اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، واختم بالصالحات أعمالنا وآجالنا.
اللهم أفرحنا بتمام الصيام والقيام، ومحو الذنوب والآثام، ودخول جنتك دار السلام، والنظر إلى وجهك الكريم يا ذا الجلال والإكرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلا يزال الحديث مسلسلًا بذكر فضائل الصيام:
الفضيلة العاشرة: أن الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة.
فمن فضائل الصيام أنه يأتي يوم القيامة شفيعاً للعبد، وهذا دليل على فضل الصيام فرضاً كان أو نفلًا، وجاء مقروناً بالقرآن، والصّلة بينهما وثيقة، ولذلك فإنهما يشفعان لصاحبهما يوم القيامة فيشفعان، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعَبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رَبِّ، مَنَعته الطعامَ والشهوات بالنهار، فشفِّعْني فيه، ويقول القرآن: منعته النومَ بالليل، فشَفِّعْني فيه"، قاَل: "فيشفعانِ)).
كما بيّن صلى الله عليه وسلم أن الصيام يحاجّ عن صاحبه ويدافع عنه ويقيه من العذاب في القبر، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الميت ليسمعَ خَفْقَ نِعالهم حين يُوَلُّون عنه مدبرين. فإذا كان مؤمنًا، كانت الصلاة عند رأسه، والزكاةُ عن يمينه، وكان الصيام عن يساره، وكان فِعْلُ الخيرات من الصّدقة والصِّلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتَى من عند رأسه فتقول الصلاة: ما قِبَلي مَدخلٌ. فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قِبَلي مَدخلٌ. فيؤتي عن يساره فيقول الصيام: ما قِبَلي مَدخلٌ. فيؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات من الصَّدقة والصِّلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قِبَلي مدخلٌ. فيقال له: اجلسْ. فيجلسُ)).
الفضيلة الحادية عشرة: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
فمن فضائل الصيام وشرف الصائمين عند الله تعالى أن ما ينتُج عن هذه العبادة من آثار قد تكون مستقبحة عادة عند الناس إلا أنّ الله تعالى لمحبته لهذه العبادة فإنه يحب الأثر المترتب عليها، ويقْلب الرائحة الناتجة عن خلوّ معدة الصائم من الطعام إلى أن تكون عنده تعالى أطيب من ريح المسك، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)).
والخُلوف-بضمّ الخاء واللام-: هو تغيّر رائحة الفم التي تنشأ عادة عند الصائمين نتيجة خلوّ المعدة من الطعام.
فهذا الحديث يدلّ على شرف الصائم ومنزلة الصيام فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقسم وهو الصادق المصدوق على هذا الفضل العظيم للصائم والمنزلة الرفيعة للصيام، حتى إن الشيء المكروه المستخبث عند الناس يكون محبوبا طيباً عند الله؛ لكونه نشأ عن طاعته بالصيام.
وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم في بيان فضل الجهاد في سبيل الله ومنزلة المجاهدين: ((ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون لون دم، والريح ريح مسك)).
ونظرا لشرف الصيام ومنزلته عند الله تعالى فقد جعل هذه الرائحة الزكية سمة وميزة يتميّز بها الصائمون عن غيرهم يوم القيامة، كما تميّزوا بتخصيص باب الريان لدخولهم دون غيرهم. والصوم من أعمال السرّ بين العبد وربّه، فجعل الله تعالى رائحة صومه علامة له يوم القيامة، والعلم عند الله.
قال ابن حبان رحمه الله: "شعار المؤمنين في القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا فرقا بينهم وبين سائر الأمم، وشعارهم في القيامة بصومهم طيب خلوفهم أطيب من ريح المسك ليعرفوا بين ذلك الجمع بذلك العمل، نسأل الله بركة ذلك اليوم".
وهذا الفضل لخلوف فم الصائم لا يعارض مشروعية السواك للصائم قبل الزوال وبعده لحديث عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوّك وهو صائم).
ولم يثبت في كراهة السواك للصائم شيء، والخلوف ليس في محل السواك إنما هو أبخرة المعدة فلا يزيله السواك. ووجود الخلوف ليس مقصودا لذاته ولا مراداً لكنه إن وجد فإنه يكون أطيب عند الله من المسك.
ولذا فليس من المشروع تعمّد وجود الروائح الكريهة، وعدم النظافة للصائم، بل هذا خلاف مقصود الشارع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّ الطِّيب ولا يردّه، ويأمر بالاغتسال والتنظّف والسواك والتطيّب في الجمعة وغيرها، وعند الحاجة لذلك للصائم، ويأمر من أكل شيئا له رائحة كريهة كالثوم والبصل أن يعتزل المسجد.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا وسائر أعمالنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[بشارة نبويّة للصائمين]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لعل من المناسب _أخي الصائم الكريم_ أن نزفّ إليك بِشارتين من نبيّك صلى الله عليه وسلم الذي {لا ينطق عن الهوى}؛ بشارتين نبويّتين أعدّهما الله تعالى للصائمين، يفرحون بها في الدنيا وفي الآخرة، {قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}، والصيام من أعظم أركان الإيمان وشعبه العظام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ((للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه)).
والفرح كما يعبّر عنه أهل الاختصاص: "لذة في القلب بإدراك المحبوب".
وفي هذا الحديث بيان ثوابين جليلين، وأجرين عظيمين للصائمين الذين قاموا بحقوق الصيام وواجباته، سواء كان صيام رمضان أو غيره، أحدهما معجّل في الدنيا، والآخر مؤخّر في الآخرة.
أما المعجّل في الدنيا؛ فهو ما نبّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فرحة عند فطره)، وهذا يشمل فطره اليومي.
كما يشمل فطره الشهري بإتمام صيام الشهر المبارك قال تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلم تشكرون}.
وهذا الفرح على نوعين:
1- فرح جبلي طبيعي، فالإنسان يفرح بالشيء يلائمه، وإذا منع من شيء ثم أذن له فيه فإنه يفرح به، خاصة إذا اشتدت الحاجة إليه كالعطش والجوع للصائم عادة فهو يفرح ويلتذ بفطره لأنه جاء على فاقة، ويؤيد ذلك ما ورد في زيادة عند مسلم بزيادة: ((إذا أفطر فرح بفطره)).
2- فرح إيماني تعبدي، وهو الفرح باستكمال أداء عبادة الصيام لذلك اليوم وذلك الشهر بتمامه من غير نقص فيها وسلامة من العوارض المعيقة عن إتمام الصيام يرجو ثواب الله تعالى.
وهذان الفرحان الإيماني والطبيعي يشير إليهما دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر (ذهب الظمأ وابتلت العروق) وهذا الفرح الطبيعي و(ثبت الأجر إن شاء الله) هذا الفرح الإيماني.
والفطر عبادة، كما أن الصوم عبادة، والعادات تنقلب إلى عبادات بالنية الصالحة، فالصائم مثاب على فطره، يتقرب إلى الله تعالى بتعجيل إفطاره كما حثّ على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بتناول ما أباح الله تعالى له. ويتعجّل بإفطاره لتحقيق مخالفة أهل الكتاب كما حثّ على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر، إن اليهود والنصارى يؤخرون)).
فالمؤمن يتقلب في مراضي الله تعالى في كل أحواله، فكما يمتنع عن الطعام والشراب والشهوة في نهار رمضان امتثالاً لأمر الله تعالى، فكذلك يتناول ما أباحه الله تعالى بعد غروب الشمس امتثالاً وتقرباً إلى الله تعالى قال أبو العالية رحمه الله: (الصائم في عبادة وإن كان نائماً على فراشه).
والناس في هذه المواقف يفترقون؛ فمنهم من يفرح تخلّصاً من العبادة والطاعة كقول ذلك المخذول: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}[النساء:72]؛ فيحمد الله على أن أبعده عن مشاهد القتال تحت راية خير خلق الله؛ فالتوفيق محض لطف الله سبحانه.
ومنهم من يفرح بمنّة الله تعالى عليه بأداء تلك العبادة وتمامها ورجاء ثوابها.
وعلى كلٍّ فالفرح بنوعيه حاصل للصائم عند فطره، وله من الحلاوة في القلب ما لا يعرفها ولا يجدها إلا من هو صائم حقّاً، والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً بيّناً، فمنهم من يجتمع له الفرحان ومنهم من يقتصر على أحدهما، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقد كانت حفصة رضي الله تعالى عنها تقول: (يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي)
فالصائم في ليله ونهاره في عبادة، ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره، فهو في نهاره صائم صابر، وفي ليله طاعم شاكر، وفي الحديث عند الترمذي مرفوعاً: ((الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)) وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)).
فهذا حال المؤمن، يتقلب في أنواع النعم فيحمد الله عليها.
أما الفرح المؤخر؛ وهو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (وفرحة عند لقاء ربه).
وهذه أجلّ وأعظم من الفرحة الصغرى المعجّلة { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا][آل عمران:30] قال تعالى: { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى }[الأعلى:4] وقال تعالى: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [سورة آل عمران: 15].
والمراد بلقاء الله تعالى هنا هو المصير إلى الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، وأعلاه ملاقاة الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، ولذا؛ فهذا الفرح على نوعين أيضاً:
1- إما فرح وسرور بلقاء ربه تعالى وخالقه، وهذا أعلى أمانيه، وأفضل نعيم الجنة أن يرى ربه تبارك وتعالى.
وكيف لا يفرح بذلك وهو الذي طالما دعا ربه: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة).
وقد وعده ربه تبارك وتعالى بأن (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه).
2- وإما فرح وسرور بقبول صومه، وترتب الجزاء الوافر عليه، فيفرح بثواب الله تعالى له ودخوله الجنة من باب الريان الذي طالما أظمأ نهاره وأحيى ليله ابتغاء ما عند الله تعالى.
وكيف لا يفرح وقد غفر الله له ذنوبه وآثامه، وتقبل عبادته، ورضي عنه{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}[التوبة:72]، أي: أكبر من الجنّة.
اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، واختم بالصالحات أعمالنا وآجالنا.
اللهم أفرحنا بتمام الصيام والقيام، ومحو الذنوب والآثام، ودخول جنتك دار السلام، والنظر إلى وجهك الكريم يا ذا الجلال والإكرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[مخالفة أهل الكتاب في شعائر الصوم]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لا زلنا نتنقل بين الفضائل العظيمة والثمار اليانعة لهذه الشعيرة العظيمة وهي الصيام.
الفضيلة الثالثة عشرة: تأكيد مخالفة أهل الكتاب.
من مقاصد الإسلام وأصوله العظيمة مخالفة أهل الكتاب والمشركين؛ لما في ذلك من اعتزاز المسلم بدينه واستقلالية تشريعاته، والنصوص في الأمر بمخالفتهم مستفيضة ومشهورة، منها إخباره صلى الله عليه وسلم على سبيل التحذير: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِراعًا بذِراعٍ، حتّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ والنَّصارى؟ قالَ: فَمَنْ؟)).
فالمُسلم له هُويَّتُه التي تُميِّزُه عن غيرِه، وشَريعتُه التي فضَّلَه اللهُ بها على العالَمِين، وقدْ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَريصًا على بَقاءِ هذا التَّميُّزِ والتَّفضيلِ، ومِن ثَمَّ كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأمُرُ بمُخالَفةِ أهلِ الكِتابِ مِن اليَهودِ والنَّصارَى، ويُحذِّرُ مِن مُتابعتِهم.
وجاء تأكيد ذلك في الشعائر التعبدية المشتركة كالصلاة والحج، ومن ذلك التأكيد على مشروعية مخالفتهم في الصيام أيضاً، ففي مسلم عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ)).
ومعلوم أن أهل الكتاب كان يلزمهم الإمساك عن الطعام والشراب والجماع إذا هم ناموا، فجاء التوجيه النّبوي الحاثّ على أكلة السحور التي تكون عادة بعد الاستيقاظ من النوم وقبيل الإمساك عند طلوع الفجر حين يلزم الإمساك.
وهذا الحديث يدل على مشروعية أكلة السحور؛ وتعليل ذلك بمخالفة أهل الكتاب.
كما جاء أيضاً هذا التعليل وهو مخالفة أهل الكتاب بتأخير السحور وتعجيل الفطر فقال صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر)).
كما جاء الحثّ على تعجيل الفطر لعلّة المخالفة نفسها؛ فقد روى أبو داود وغيره بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((لا يزال الدين ظاهراً ما عجّل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون )).
ولتأكيد مخالفة أهل الكتاب في أكلة السحور فقد أكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله:
- فقال صلى الله عليه وسلم :((تسحروا فإن في السحور بركة )).
وهذه البركة تحصل من عدة جهات:
-منها اتباع السنة.
-ومنها مخالفة أهل الكتاب، فالبركة في مخالفتهم.
-ومنها التقوي على العبادة، وغيرها.
ففيها منافع معنوية وحسية ونفسية.
- وأما فعله صلى الله عليه وسلم فكان يتسحّر قُبيل أذان الفجر، قال أنس رضي الله تعالى عنه: (إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه تسحرا؛ فلما فرغا من سحورهما قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فصلّى، قلنا لأنس : كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة ؟ .قال : قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية).
فعلى المسلم ألّا يفرّط في هذه البركة ولو بشيء يسير؛ بتمرات ولبن، أو تمرات وماء وقد قال صلى الله عليه وسلم :(( نعم سحور المؤمن التمر)).
اللهم تقبل منا الصيام والقيام والصدقات، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميّتين، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[الصيام من أكبر أسباب تحفيز الهمم على البذل والعطاء والجود]
الحمد الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلا يزال الحديث متواصلا عن فضائل الصيام.
الفضيلة الرابعة عشرة: الصيام من أكبر أسباب تحفيز الهمم على البذل والعطاء والجود.
فإن الصيام من أكبر العوامل التي تعين المسلم على التغلّب على الشّحّ، وتساعد على البذل والعطاء والجود. فإضافةً إلى كون الصيام يزيد في الإيمان الدافع إلى السعي إلى ما يقرب إلى الدار الآخرة ونعيمها ويزهد في الدنيا وزخرفها الزائل، فإنه في أثناء صومه يشعر بضعفه وفقره وحاجته إلى مولاه تعالى.
كما يشعر بما يعانيه الفقراء والمحتاجون من الفاقة وقلّة ذات اليد.
فيكون سبباً في مزيد البذل والجود والعطاء، ولذلك عدّه بعض السلف من حِكم الصيام؛ فلما سئل: لم شرع الصيام؟ قال: " ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع".
وجود الله تعالى وكرمه يزداد على العباد في رمضان، وهو يحبّ من عباده أن يجودوا ويتكرموا في هذا الشهر الكريم ليزداد جوده عليهم، والجزاء من جنس العمل.
وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب أروع المثل في جوده وسخائه بكل ما يملك صلى الله عليه وسلم وفي كل الأوقات، فعن أنس بن مالك، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما:(ما رأيت أحدا أنجد، ولا أجود، ولا أشجع، ولا أضوأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذا مما جُبل عليه، عليه الصلاة والسلام، حتى قبل البعثة، قالت خديجة رضي الله تعالى عنها:(كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). قال ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة)).
ويصور لنا ابن القيم رحمه الله تعالى شيئا من جوده وسخائه فيقول: "كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى، ولا يستقله، وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه، قليلا كان أو كثيرا، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة.
وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه.
وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته، فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة، وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا، كما فعل ببعير جابر... وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله، فيخرج ما عنده، ويأمر بالصدقة، ويحض عليها، ويدعو إليها بحاله وقوله، فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء، وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى.
وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف".
وإذا فهمت ما تقدم من أخلاقه ﷺ فينبغي للأمة التأسي به ﷺ في السخاء، والتمسك بالاقتداء به، والإكثار من ذلك في شهر رمضان لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل الكثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم، ولشرف الزمان ومضاعفة أجر العامل، وإدامة الصائمين والقائمين والمتعبدين على طاعتهم، فيكتب لهم مثل أجورهم.
هذا هو هدي رسول الله ﷺ مع الجود والكرم في رمضان، قال الشافعي رحمه الله: " أحبّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان، اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم..".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: " إعانة الفقراء بالإطعام في شهر رمضان من سنن الإسلام".
والجود على الصائمين وأصحاب الحاجات في رمضان يكون سببا في الحصول على مثل أجورهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (( من فطّر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء)).
وهذا يشمل من يدفع قيمة التّفطير، كما يشمل من يقوم بالخدمة والإشراف على ذلك إذا احتسب الأجر.
ومن وفّقه الله للجمع بين القيام وإطعام الطعام فهذا له جزاء خاص من رب العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: (( إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها)) قالوا: لمن يا رسول الله؟. قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام)).
كما أن ملائكة السماء تدعو في كل يوم لكل منفق، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)).
اللهم وفقنا للجود والإحسان، وجُد علينا بفضلك وجودك يا منان.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام والصدقات، اللهم اغفر لنا ولوالدينا..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[تتمّة: الإنفاق والجود في رمضان]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فتقدمت الإشارة إلى الإنفاق والجود في رمضان، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وبيان أن طلاقة اليد بالإحسان وسلامة القلب من الشّحّ والبخل هي بعض آثار الصيام في تهذيب النفس وتنقيتها من سافل الأخلاق، وحثّها على مكارمها.
والإنفاق في سبيل الله تعالى شعيرة عظيمة حثّ عليها ديننا الحنيف في غير ما آية، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى بعض آثاره الدينيّة والدنيويّة.
ومن الآيات التي حثّ الله تعالى فيها على الإنفاق في سبيل الله قوله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ:39].
وقال تعالى في بيان أجر المنفقين وسعة أجورهم وثوابهم ومضاعفتها: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[سورة البقرة: 261] . وقال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:133-134].
بل إن الله تعالى جعل الإنفاق في سبيله من الجهاد الذي قد يُقدّم أحياناً على الجهاد بالنفس في أكثر من آية فقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15].
وجعل الإنفاق في سبيله استقراضاً يستقرضه الله تعالى من عبده، وهو سبحانه وتعالى واهب المال ومالكه، وهو الغني عن خلقه تعالى فيقول تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }[النور:33] وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: 245].
فيستقرض الله من عبده المال الذي آتاه ويعده أن يضاعفه له أضعافاً كثيرة، ثم يهدده إن قصّر في الاستجابة لأمر الله بأن الله يقبض ويبسط، فالأمر بيده وحده وإليه ترجعون.
كما بيّن تعالى أن الإنفاق والجود والكرم طهرة للنفس وتزكية للقلب، وأماناً للمال وتنمية له فقال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[سورة التوبة: 103].
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنفاق سترٌ من النار، ووقاية من عذاب جهنم كما في الحديث الذي رواه الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)).
وفي الإنفاق أيضا تطهير من السيئات ومحو للذنوب والخطيئات، كما في الخبر: ((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)).
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والصدقة برهان)) قال النووي رحمه الله: "معناه الصدقة حجة على إيمان فاعلها فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه".
في مقابل أن الشحّ والبخل من الأخلاق السافلة وسمات المنافقين، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]، وحذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشحّ، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)).
فالصيام والصدقة تزكي النفوس وتطهرها من أدرانها؛ ولذا فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من البخل: (أعوذ بك من الجبن والبخل).
قال حبيش بن مبشر الثقفي: "قعدت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، والناس متوافرون فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلا صالحا بخيلا".
ومن المعلوم أن في المال حقّاً لله تعالى غير الزكاة المفروضة، فقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، فقال بعض العلماء هو حقّ سوى الزكاة من الصدقات وأعمال البر غير المحددة، قال ابن عباس: "هو سوى الصدقة؛ يصل بها رحمه، أو يقري بها ضيفا، أو يحمل بها كلًّا أو يُعِين بها محرومًا".
والجود بالمال على تنوّعه، فليس هو الصورة الوحيدة للجود، فهناك جود بغير المال ويعدّ من الصدقات المتطوع بها، وقد تفوق الجود بالمال أحياناً، فعلى المسلم أن يجود على نفسه بها في رمضان وغيره طلباً لمرضاة الله تعالى والدار الآخرة.
يقول ابن رجب رحمه الله: "والصدقة بغير المال نوعان:
أحدهما: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق، فيكون صدقة عليهم، وربما كان أفضل من الصدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنه دعاء إلى طاعة الله، وكف عن معاصيه، وذلك خير من النفع بالمال، وكذلك تعليم العلم النافع، وإقراء القرآن، وإزالة الأذى عن الطريق، والسعي في جلب النفع للناس، ودفع الأذى عنهم. وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم. ..كما في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة...
والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية: ما نفعه قاصر على فاعله، كأنواع الذكر: من التكبير، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، وكذلك المشي إلى المساجد صدقة".
ولذلك لما شكا فقراء الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا، والنعيم المقيم يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، قال: ((ألا أحدثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين)) قال الراوي:فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثا وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبر أربعا وثلاثين، فرجعت إليه، فقال: ((تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين)).
فمن فضل الله تعالى أن نوّع في أبواب البرّ وأنواع الصدقات ليسهم كل مسلم بما يستطيع من مال أو غيره، وخاصة في هذا الموسم العظيم، موسم المتاجرة مع الله تبارك وتعالى.
اللهم قنا شحّ أنفسنا، وأعنّا على ذكرك وشكرك .
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكّاها.
اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[القرآن في رمضان]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الصّلة والعلاقة بين القرآن ورمضان وصيامه علاقة وثيقة منذ نزوله؛ فقد اختار الله تعالى أفضل وأشرف كتبه -وهو هذا القرآن- فأنزله في أشرف شهر من شهور السنة {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} وفي أشرف ليلة وهي ليلة القدر{إنا أنزلنا في ليلة مباركة} على أشرف خلقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة أشرف ملائكته {نزل به الروح الأمين} على أشرف أمة وهي أمة الإسلام{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143] وبأشرف لسان {بلسان عربي مبين} وكان ابتداؤه في أشرف بقعة في مكة المكرمة.
فجمع الله له الشرف التام فكمل من كل الوجوه ولهذا قال تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[سورة يوسف: 3].
قال نافع رحمه الله: " إن هذا القرآن العظيم، جاء من عند عظيم، فإذا قرأت فلا تشتغلن بغيره، وانظر من تخاطب، وإياك أن تملّ منه أو تؤثر غيره عليه".
وقد سمّاه الله تعالى روحاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}[الشورى: 52] لتوقّف الحياة الحقيقية عليه.
وسمّاه نورا{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى:52] لتوقّف الهداية الحقيقية عليه.
وسمّاه شفاءً{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [سورة فصلت: 44] لتوقّف السلامة والعافية الحقيقية عليه.
ولذا فقد أمر الله تعالى نبيه بتلاوته{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الكهف:27].
وأثنى الله تعالى على المؤمنين التّالين لكتابه وجعله من أفضل الأعمال وأجل القربات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر:29-30]. وخصّ منهم حفظته الذين يحملونه في صدورهم{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49] فمن خصائص هذه الأمة أنها تحمل قرآنها في صدورها على خلاف الكتب الأخرى. فهو محفوظ في الصدور مسطور في الزبور، يسير على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظاً ومعنى{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17].
أما الصلة والعلاقة بين القرآن وبين شهر القرآن(رمضان) فتتجلى في مظاهر وأمور متعددة منها:
1- أن الله تعالى اختار هذا الشهر الكريم لتنزيل كتابه العزيز -كما تقدم- قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة185].
2- واختار تعالى من هذا الشهر ليلة مباركة لتنزل القرآن فيها {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين}[سورة الدخان: 3]، ومن بركة القرآن جعلها الله تعالى أشرف الليالي وأعلاها قدرا وأعظمها أجرا{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[الفجر:1-5]، وقال صلى الله عليه وسلم: (( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
3- وشرع الله تعالى في هذا الشهر المبارك الصيام {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وذلك -والله تعالى أعلم- لما في الصيام من صفاء للفكر وتزكية للنفس ونقاء للقلب؛ فتسمو بذلك النفس وتكون مهيأة، وقابلة لحسن التعامل مع كتاب ربها تدبرا وتعلما وتلذذاً؛ فتقبل إليه بلهف وشوق لتستقي منه منهج حياتها وسبيل عزها ومجدها وسعادتها وطوق نجاتها.
4- ومن هذه العلاقة بين الصيام والقرآن أنهما يشفعان للعبد يوم القيامة فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنها فشفعني فيه، ويقول القرآن أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيُشفَّعان)).
ولذلك فلا غرو أن نجد النبي صلى الله عليه وسلم يعطي القرآن في رمضان مزيد اهتمام وعناية واستحضار. فنبيّنا صلى الله عليه وسلم مع أنه قد ضمن الله تعالى له حفظ كتابه في صدره فقال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئًا.
وقال عز وجل:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[المزمل:16-17]. مع هذه الضمانات والوعد القاطع من الله تعالى إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) وفي الرواية الأخرى: (لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة).
وفي آخر عام -كما قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها-: (عارضه به في العام مرتين، ولا أراني إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهلي لحوقا بي، ونعم السلف أنا لك، فبكيت لذلك).
فظاهر الأحاديث أن هذه المدارسة في كل رمضان منذ نزول القرآن، وأن كلّا منهما يعرض على الآخر، ويتدارسانه عليهما السلام. فما أعظمه من لقاء، يلتقي فيه العظيمان، عظيم الملائكة وعظيم الأنبياء والرسل عليهم السلام لمدارسة أعظم الكتب نزولًا إلى أهل الأرض.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يسمعه من غيره وقال لابن مسعود رضي الله عنه:((اقرأ علي)) قلت: آقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: ((فإني أحب أن أسمعه من غيري)) فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41] قال: «أمسك» فإذا عيناه تذرفان. وعند مسلم: (فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل).
فحريّ بالمسلم أن يقتديَ بنبيّه صلى الله عليه وسلم في الاهتمام بكتاب ربه وخاصة في شهر القرآن، وهو أحوج ما يكون إلى مراجعته ودراسته، وتدبّره وتفهّمه وتثبّت حفظه، والتّقرب إلى الله تعالى بكل حرف يتلوه أو يتعلمه أو يعلمه غيره ويستمع إليه من غيره.
كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)).
كما حثّ صلى الله عليه وسلم على مدارسته، وعمارة بيوت الله تعالى به تلاوةً ومدارسةً فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
وأمر صلى الله عليه وسلم بتعاهده وقال: ((تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها)).
وقد كان هدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى الاشتغال بالقرآن في شهر القرآن لا يشغلهم عنه شاغل في أثناء الصيام وأثناء القيام وفي كل الأحوال، يسمعونه ويستمعون إليه ويتدارسونه ويعلمونه ويتلونه حق تلاوته. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله).
نعم؛ قد علم سلفنا الصالح أن وظيفة رمضان الكبرى هي الاعتناء بالقرآن، والقيام بالقرآن والصيام لما له من أثر في تخليه الذهن للقرآن، سئل الزهري رحمه الله تعالى عن العمل في رمضان فقال: "إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام" وقال عبد الرزاق: "كان الثوريُّ إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على تلاوة القرآن". وحكى ابن عبد الحكم عن مالك أنه إذا دخل رمضانُ، يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن، من المصحف.
ولذلك كان للسلف وصالحي الخلف عناية فائقة في الإكثار من ختمات القرآن، حقّ بلغ ببعضهم أنه يختم في اليوم والليلة بختمة أو ختمتين، وقد رخّص بعض العلماء في أن يختم القرآن في أقل من ثلاث لخصوصية هذا الشهر بالقرآن.
فعلينا استثمار هذا الموسم العظيم وفي كل الأوقات بما يطهّر الله به قلوبنا ويمحو ذنوبنا ويزيد إيماننا، ويرفع درجاتنا، فحياة القلوب إنما هي بالصيام والقيام في الليل بالقرآن.
وعلينا أن نحمد الله على ما خصّنا به من النعم التي لا تحصى، فكثير من إخواننا المسلمين يحفظون القرآن ويضبطون تلاوته أكثر من العرب لكنهم لا يفقهون معانيه لأنهم لايعرفون العربية؛ فيلجؤون إلى كتب الترجمات وليست كحال تذوّق وتدبر وفهم المعاني مباشرة من الألفاظ العربية.
فالحمد لله كما ينبغي لجلالك وعظيم سلطانك، والشكر على جميل إحسانه.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مقتضى الجمع بين النصوص الصحيحة الواردة في تحري ليلة القدر هو تحريها في جميع ليالي العشر وذلك لما يلي :
- لأن الله تعالى قد أخفاها ومن الحكم الظاهره في ذلك للحث على الإكثار من الطاعات تحرياً لها كما أخفى ساعة الجمعه واسمه تعالى الأعظم وغيرها.
-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف آخر أمره في العشر الأخير من رمضان متحرياً لها.
-ولصريح أمره صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان).
-ونصوص التحري في ليالي الوتر فهي إما بحسب ما مضى من ليالي الشهر كما في قوله صلى الله عليه وسلم :(  تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ).
أوبحسب ما بقي كقوله صلى الله عليه وسلم  في البخاري أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم : التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، في سَابِعَةٍ تَبْقَى، في خَامِسَةٍ تَبْقَى ..)
وهذه تختلف باختلاف اكتمال الشهر ونقصه
وعليه فينبغي الاجتهاد في جميع هذه العشر المباركة جعلنا الله وإياكم ممن وفق لقيام ليلة القدر إيماناً واحتسابا
وتقبل منا ومنكم الطاعات
[استقال العشر الأواخر]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
بالأمس القريب كنا نستقبل ونتبادل التّهاني بحلول هذا الشهر المبارك، والآن قد مضى من الشهر الثّلثان ولم يبق منه إلا الثّلث، بل بقي منه أفضله.
فيه ليلة خير من ألف شهر لمن وفّقه الله لقيامها، قال ابن رجب رحمه الله: "لكل زمان فاصل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وكذلك الليل والنهار عموما آخره أفضل من أوله".
وهذه فرصة عظيمة لمن أكرمه الله بإدراك هذا الشهر صحيحاً معافاً، والناس فيه رجلان:
أ- إما محسن فليحمد الله على ذلك، وليجتهد فيما بقي، بل كلما تقدم الشهر فينبغي للمؤمن المزيد من العطاء والاجتهاد، وليحذر أن يكون فتوره في وقت الغنائم، وفي آخر ميدان السباق.
ب- وإما مقصر، فليستغفر الله على تفريطه، وليغتنم الفرصة، فلا زالت سانحة وأبواب الخير مشرعة فالبدار البدار قبل فوات الأوان، والعبرة ليست في تعثر البدايات، وإنما في كمال النهايات، وليحذر من الضعف عن الطاعة، والكسل والفتور عنها؛ فإنها من أمراض القلوب الخطرة.
قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الله جعل شهر رمضان مضمارا للخلق، يستبقون فيه بطاعته لمرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف قوم فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه الفائزون، ويخسر فيه المبطلون".
واجتهاد المسلم في هذه العشر المباركة مع تقصيره في أول الشهر خير من تقصيره في آخره؛ لأن (الأعمال بالخواتيم) كما قال صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أننا الآن مقبلون على زبدة الشهر وخلاصته، وأفضل أيامه ولياليه وهذا يقتضي منا مضاعفة الجهود، والمسابقة إلى كل خير، ومما يعين على ذلك هو الوقوف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة لكل مريد للخير حريص على النجاة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخصّ هذه العشر بأكثر مما كان عليه منذ دخول الشهر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت كل حياته من ليل أو نهار هي لله تعالى، وفي الله ومن أجل الله، يعمرها بأنواع العبادات والقربات لله عز وجل، ولكنه يخصّ بعض الأوقات الشريفة بمزيد فضل وعناية وزيادة جدّ واجتهاد وتنوع في العبادات، فكيف كان حاله صلى الله عليه وسلم إذا أقبلت العشر.
تصف لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حاله في العشر الأواخر فتقول:
- كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
- وتقول رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمّر وشدّ المئزر).
- وتقول رضي الله تعالى عنها كما في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله).
وهذا يدلّ على أن لهذه العشر الأواخر فضيلة، ومزية على غيرها، وقد ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر أربع حالات:
1- (شد مئزره) أي اعتزل نساءه مبالغة في إحياء الليل بالقيام والقرآن والذكر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر، والمعكتف ممنوع من النساء مدة اعتكافه، وقيل: كناية عن شدة جدّه واجتهاده في العبادة، فإن العامل المجتهد يشدّ على وسطه بشيء يعينه على الاجتهاد.
2- (أحيا ليله) أي سهره، فأحياه بالطاعة ولم يمته بالمعصية أو الغفلة والنوم، والمعنى أحياه بالقيام والتلاوة والذكر وسائر أنواع التعبد لله عز وجل.
وأما ما ورد عن النهي عن قيام الليل كله فهذا محمول عند أهل العلم على من داوم عليه جميع ليالي السنة.
وتأمل (أحيا ليله) فهذا هو الإحياء الحقيقي للزمن والعمر والليالي والأيام، لا ما يطلق الناس من إحياء الليل بالطرب والغناء ومزامير الشيطان.
3- (أيقظ أهله) أي زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهم، ومن عنده من أهل بيته يوقظهن ليشاركنه العبادة والطاعة، قالت زينب بنت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي من الشهر عشرة أيام لم يذر أحداً من أهل بيته يطيق القيام إلا أقامه).
وفي هذا بيان لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العشر الأواخر وإعانته أهله وأحب الناس إليه لاغتنام الغنائم. وفيه مشروعية اهتمام الرجل بأهله وأولاده في حثهم على الطاعة وأنواع العبادة ومنها قيام الليل، وفي ذلك أحاديث كثيرة لا يسع المجال لذكرها، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6].
4- ومن خصائص هذه العشر: سنّة الاعتكاف.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: (كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله عز وجل).
والاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله عز وجال، والتفرغ لمناجاته.
والاعتكاف سنّة متبعة ومشروع باتفاق، وقد ذكره الله تعالى في كتابه العزيز {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[البقرة: 125]
وتركه صلى الله عليه وسلم مرة فقضاه في شوال.
واعتكف مرة في العشر الأُوَل ثم الأوسط، ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر، ثم لما تبيّن أنها في العشر الأخير داوم على اعتكافه حتى لحق ربه عز وجل.
وكان يعتكف عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، كما كان جبريل عليه السلام يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن في كل سنة مرة إلا أنه عرض عليه في السنة التي قبض فيها مرتين.
قال الزهري: "عجبا للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل".
وهو من العبادات الضّرورية لصلاح القلب، لأن أكثر ما يفسد القلب الملهيات والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله عز وجل من شهوات المطاعم والمشارب والمناكح وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة وغير ذلك من الصوارف.
فشرع الله تعالى قربات تحمي القلب من غفلة تلك الصوارف.. فشرع الصيام درعاً للقلب يقيه مغبّة الصوارف الشهوانية، وشرع الاعتكاف لحمايته من فضول الصحبة والمخالطة والكلام، والاشتغال بالدنيا وملهياتها، ليسلم للعبد قلبه ويبقى أبيضَ ناصعاً نقياً ليسلم صاحبه { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:88-89] .
5- وخامس هذه الخصال هو تحرّي ليلة القدر في كل ليالي العشر لعله أن ينال الفوز الأبدي لمن وفقه الله تعالى لقيامها، وهذه لها شأن آخر لعله يخصص لها حلقة مستقلة بإذن الله.
اللهم اجعلنا ممن صام هذا الشهر وقامه إيماناً واحتساباً، ووفقنا لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها وخير أيامنا يوم نلقاك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[تحري ليلة القدر]
الحمد لله الذي منّ علينا بمواسم الخيرات، وما تفضل به من جزيل الهبات، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد أفضل البريّات، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسموات وسلّم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
فاستكمالًا للحديث عن خصائص هذه العشر المباركة التي سبق الكلام عليها في الحلقة الماضية. بقي الحديث عن مسك الختام وبدر التّمام، وهو الكلام عن ليلة القدر وما أودع الله تعالى فيها من الهبات والبركات.
والقدْر بمعنى: الشرف والتعظيم، أو بمعنى: التقدير والقضاء، لأنه يقدر الله تعالى فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة، ولذلك قال الله تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [سورة الدخان: 4-5] ولأن للطاعات فيها قدرا عظيماً.
وليلة القدر هي في رمضان؛ لأن الله تعالى أخبرنا أنه أنزل فيها القرآن، وقد أخبرنا تعالى أنه أنزله في رمضان، قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}[القدر:1] وقال عزّ اسمه: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185]؛ فبهذا تعيّن أن تكون في رمضان، وتبتدئ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر{ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5].
وهي في العشر الأواخر من رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)).
وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((تحروا ليلة القدر في الوتر، من العشر الأواخر من رمضان)).
ويحتمل أن تكون في الأشفاع أيضاً لأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)). وهذه تكون في الأشفاع إذا كان الشهر تامّاً، كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد خصّ الله تعالى هذه الليلة بخصائص وفضائل متعددة، تقتضي ألّا يُفرّط المسلم الحريص على نجاة نفسه، ألّا يفرّط دقيقة واحدة منها ليشرف بما فيها من الفضل العظيم.
ومن هذه الفضائل والخصائص العظيمة:
1- أن الله تعالى أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
2- أن الله تعالى يقدر فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة، كما قال تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[سورة الدخان: 4].
3- أن الله تعالى وصفها بأنها مباركة فقال: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين}[سورة الدخان:3] ومن بركتها إنزال هذا القرآن المبارك فيها وكونها خير من ألف شهر.
4- أنها خير من ألف شهر، فالعمل الصالح فيها خير من عملٍ في ألف شهر، وهو ما يعادل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.
5- أن جبريل عليه السلام والملائكة تتنزل فيها، وهم لا يتنزّلون إلا بالخير والبركة والرحمة، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر:4].
6- أنها سلام، لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله، فكم من عبد قد عافاه الله فيها فخرج من ذنوبه في تلك الليلة كيوم ولدته أمّه.
7- أن الله تعالى أنزل في فضلها سورة تُتلى إلى يوم القيامة.
8- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. ومعنى (إيماناً) أي بالله تعالى وبما أعدّه الله من الثواب للقائمين فيها واحتساباً للأجر وطلب الثواب. وهذا فضل عظيم.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتمس الاعتكاف في الليالي التي هي مظنة ليلة القدر. ولذا اعتكف صلى الله عليه وسلم في العشر الوسط، ثم لازم الاعتكاف في العشر الأواخر لمّا تبيّن له أن ليلة القدر فيها.
9- أن من خصائصها أن الله تعالى قد أخفى علمها على العباد.
وذلك تحفيزاً لهم للإكثار من الطاعات في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء، وسائر أعمال البر والقربات. قال الحافظ بن حجر رحمه الله: " قال العلماء الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، وبخلاف لو عيّنت لها ليلة لاقتصر عليها".
ولا ينبغي للمسلم إشغال نفسه بتتبع الرؤى والمنامات والعلامات الدّالة على تلك الليلة، كيف وقد أُخفيت على النبي صلى الله عليه وسلم وأُنسيها فغيره من باب أولى. والعلامات إنما تظهر لمن ظهرت له بعد انقضاء وقتها، ولم يثبت في الأحاديث الدالة على العلامات إلا حديث طلوع الشمس لا شعاع لها، فقد رواه مسلم. وبقيّتها بين ضعيف وموقوف.
إنما الذي يُشرع في ليلة القدر هو الاجتهاد والحرص على عدم التفريط في شيء من أوقاتها بمختلف أنواع العبادات والقرب، ومن ذلك:
1- القيام. مع الإمام أو منفردا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه)). وذهب بعض أهل العلم إلى أن العمل في ليلة القدر إنما هو القيام فقط، وما يلحقه من أعمال، دون سائر الأعمال الأخرى.
ومن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
2- الاعتكاف. وتقدم اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر تحرّياً لليلة القدر.
3- الدعاء والتضرع لله تعالى، والاهتمام بالأدعية المأثورة وجوامع الدعاء فهو أنفع وأقرب للقبول. وقد سألت عائشة رضي الله عنها: إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).
4- العمل الصالح. قال كثير من المفسرين عند آية: {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
فحري بالمسلم الاجتهاد فيها، وقد ورد في الحديث التحذير من التفريط فيها، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم)).
فنسأل الله العليّ العظيم بمنّه وكرمه أن يوفقنا جميعاً لاغتنام هذه الليلة العظيمة، وأن يجعلنا ممن يقومها إيماناً واحتساباً، وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين.
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر وقامه إيماناً واحتساباً، وممن وُفّق لقيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا.
اللهم اجعلنا من السابقين للخيرات، الهاربين من المنكرات، الآمنين في الغرفات، مع الذين أنعمت عليهم ووقَيتهم السيئات.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
2025/03/31 03:41:19
Back to Top
HTML Embed Code: