Telegram Web
تجلية استدلال حنبلي في زيارة النساء للقبور

قال الشيخ منصور بعدما ذكر سنية زيارة القبور في الروض : "(إلا لنساء) ؛ فتكره لهن زيارتها ، غير قبره ﷺ وقبر صاحبيه رضي الله عنهما ؛ روى أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة (أن رسول الله ﷺ لعن زوارات القبور)".

وهذا استدلال يشكل من جهة ورورد اللعن في الحديث ، ولا يتأتى ذلك في غير المحرم ، وربما تُوهِّم أن دلالة اللعن يمكن أن تصرف إلى الكراهة عند الحنابلة ، وليس كذلك ، فإن رتبة دلالة اللعن المقررة في علم الأصول أعظم ثبوتا في الشرع من هذا الفرع ، ولا يصح أن ينسب ذلك إلى فقيه حتى تضيق وجوه الجواب في عادة الكلام ، ثم لا يكون ذلك سائغًا منه أيضًا.

وإنما يشكل هذا الاستدلال عند الوقوف على مختصر القول¹ ، وترك جمع كلام شراح المذهب واستيعابه ، قال الشيخ الموفق لما ذكر الروايات في المسألة :

"والثانية : يكره ؛ لقول النبي ﷺ : (لعن الله زوارات القبور) ، هذا حديث صحيح ، فلما زال التحريم بالنسخ ؛ بقيت الكراهية".

[الكافي (٢/ ٨١)]

فكلام الشيخ الموفق يبين أن دلالة اللعن زالت بالنسخ ، وليس أنها صرفت إلى وجه محتمل قد تفيده - وهو الكراهة - ، ويزيد بيان ذلك قوله في موضع أبسط بعدما ذكر هذا الحديث من حجج الكراهة :

"وهذا خاص في النساء ، والنهي المنسوخ كان عاما للرجال والنساء ، ويحتمل أنه كان خاصا للرجال ، ويحتمل أيضا كون الخبر في لعن زوارات القبور ، بعد أمر الرجال بزيارتها ، فقد دار بين الحظر والإباحة ، فأقل أحواله الكراهة".

[المغني (٣/ ٥٢٣)]

فهذا بيِّن في أن وجه الاستدلال هو الاحتياط للتردد في إحكام النص ونسخه ، فثبتت الكراهة لأجل هذا الاحتمال ، إذ هي أخف شأنا من التحريم ، فيمكن أن تثبت له ، وليس الوجه أن دلالة اللعن نفسها محتملة ، وما قاله الشيخ الموفق جاء في الشرح الكبير وشرح الزركشي أيضًا.

هذا الوجه الذي عليه الأكثر ، وهو على القول بصحة الحديث الذي صرحوا به ، وعلى القول بضعفه كما جاء عن أحمد - في التمهيد (٣/ ٢٣٤) - ، فيمكن أن يقال نحو ما تقدم ، وهو القول بالكراهة احتياطا للشك في صحة الحديث الذي لا يثبت معه التحريم.

وثم وجه آخر يقال في هذا الحديث مع تصحيحه ، وهو حمله على غير مطلق الزيارة ، قال الشيخ منصور :

"(فإن عُلم أنه يقع منهن محرم ؛ حرمت) زيارتهن القبور ، وعليه يحمل قوله ﷺ : (لعن الله زوارات القبور)".

[كشاف القناع (٤/ ٢٤٤)]

وهذا خارج بحث الاستدلال بالحديث على الكراهة ، فهو كما لو استُدل به على التحريم مطلقا ، وهي الرواية الأخرى في المذهب ، وهذا دليلها كما في المبدع (٣/ ٢١٢) ط ركائز ، وشرح ابن النجار للمنتهى (٣/ ١٣١).

وعلى كل حال ، فالاستدلال بهذا الحديث على التحريم في فرعي إسراج القبور واتخاذها مساجد في محله من كتب المذهب = دال على أن مفاد الحديث هو التحريم عندهم ، وأن الاستدلال به على الكراهة مبني على أمر من خارج ، لا على نفس الحديث ، فلا يصح توهم غير هذا ، والله أعلم.

____
¹ وقد وقع نحو هذا الاختصار في كلام القاضي في شرح الخرقي (ص : ١٩٢) ت رسالة علمية ، وابن البناء في شرحه للخرقي أيضا (٢/ ٥٠٧) ، وابن المنجَّى في الممتع (١/ ٦٥٧).

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
قال الحافظ أبو بكر الأثرم :

"قلت يومًا ونحن عند أبي عبيد في مسألة ، فقال بعض من حضر : من قال هذا ؟

فقلت : من ليس في شرق ولا غرب أكبر منه ، أحمد بن حنبل !

فقال أبو عبيد : صدق".

صنف الحافظ أبو محمد الخلال (ت : ٤٣٩ هـ) في فضائل أحمد ، وقد فقد هذا التصنيف ، ولم يبق منه إلا هذه الورقة في أحد المجاميع بالظاهرية ، وفيها هذه الحكاية التي صدق فيها الأثرم وبر.
(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)

بيَّن ربنا أن أصل الاعتبار في الأعمال بتقواه سبحانه ، وإذا كان كذلك فمن نكت الآية أن من اتقى الله فغلط سبيل التقوى وظن ما ليس بتقوى كذلك = فإنه مأجور على نيته ، لأن الله يناله التقوى من عباده.

ومنه يعلم أن التحسر والتألم على الالتزام بفتوى مفتٍ في فعل واجب أو ترك محرم بعد تبين خطئها ، وأن الأمر كان دون رتبة الحتم = أدب سوء ، وأن جزع العبد من ذلك ، ولهَجَه بأنه قد خُدِع ، وأنه لم يعد من المفتين على ثقة = من الخصال الذميمة.

فإنه إن كان صادقًا في الالتزام طاعة لله ؛ فلا يضره ألا يوافق ذلك واقع الأمر ، وهذا المعنى قد جاء في الصحيح في حديث المتصدق على سارق وزانية وبغي ، إذ قيل له : (أما صدقتك فقد قُبِلت).

وقد كان سادة هذه الأمة من الصحابة على خلاف هذا الأدب السوء ، وكان لا يشغلهم في العمل غير رضا الرب سبحانه ، حتى يبلغ بهم أن يهتموا لأعمالهم السالفة بعد نسخ الأحكام ، فيسألون عنها خشية أن يكون ربنا قد سخطها ، كما في خبر تحويل القبلة وتحريم الخمر.

فيا بعد ما بين الأدبين ، سلك الله بنا سبيل المحسنين من خلقه ، والمرضيين من عباده.

#الفهم_المعطى
تقدم بعض الشركات والمواقع خدمة البيع بالتقسيط ، ويكون في شروط العقد غرامة في حال تأخر المشتري عن دفع الأقساط مثل الذي يظهر هنا.

وهذه الصورة من ربا الجاهلية الذي حرمه الله ، فلا يجوز للمسلم أن يدخل في هذا العقد ، ولو نوى تجنب التأخر.

فإن الوعيد في شأن الربا واقع على نفس العقد قبل بذله ، إذ جاء في الصحيح عن النبي ﷺ لعنُ كاتب الربا وشاهديه مع آكله وموكله ، وعمل هؤلاء يكون عند العقد لا البذل.
للمصيبة حين تقع حرارة في النفس تحرقها ، فكأنما تصير النفس بها قدرا تئز ، لا سكون لها حتى تفور ببعض ما فيها ، ليخف عنها بعض ما تجد.

ومن أكثر ما يتسلط به الشيطان على ذي المصيبة أن يريه في التسخط راحةً من هذا الألم المحرق ، فيخيل له أن كلمة حانقة يلقيها ستنفس عنه ، وأن صرخة يمد بها صوته مورثة زفيرا باردا ، وأن عتبا على ربه كاتب القدر راجعٌ له بصاع من ارتياح وهناء.

والمؤمن إذ يعلم ذلك ، وأن الشيطان متقو في هذا التسلط بحاجة النفس إلى الهرب من حرارة البلاء = يوطن نفسه على الصبر ، ويتعاهدها بالمران عليه ، حتى إذا حانت ساعته حضره المدد الرحماني ، فثبت وحبس ما بنفسه ولم يجزع.

ثم كان في بذله لذلك الحبس وترك التسخط = برهان صدق على محبته لربه ، وإيثاره لرضاه حين تقرب له بحبس ما يؤلمه في نفسه ، فيحبه ربه ، ويرفع منزلته ، ثم يعطيه من الرضا البارد ما يوقن به أن ما تركه من التسخط = لم تكن فيه راحته كما سوَّل الكاذب.

وهذا المقام مقام عال لا يبلغه العبد ما لم يصحبه توفيق ومجاهدة ، وقد حُدثِّت عن رجل تحفظه سجادة الصف الأول ، ثم مسه مرض ألزمه فراشه ، فكان يقول لبعض زواره (ليش يا رب ؟!) ، فمكن الشيطان من نفسه ، غفر الله له.

وشهدت رجلا لم يعرف بكبير طاعة ابتلي ، فلم يُسمع منه غير الحمد ، وقد كان نساؤه يبكين حوله وقد عجز عن الكلام ، فيشير لهن بحمد الله ، وكثر حمده حتى كان ولده يتلقون العزاء فيه بالحمد.

أبكي المكارمَ فيك لا أبكي الذي ..
ودَّعْتُ يُنصِتُ سورةَ الأعرافِ

أبكي ندى يدكِ الكريمةِ قابضٌ ..
كفَّيْ تخبِّرني رضاكَ الضافي

فتَكَ الخبيثُ بجسمهِ لكنه ..
لم يحْجُزِ الحمدَ الكثيرَ الوافي

لله درُّكَ من مُشيرٍ ناهيًا ..
لنسائهِ عن كثرةِ التَذْرافِ

وتُشِيرُ بالحمد الذي هو أهلُ من ..
أولاك بالأفضال ليس تُكافِي

أورثتَ حمدَ الربِّ منك بنيكَ لم ..
يتسخطوا ، أنعِمْ بذي الأوصافِ

جعلنا الله من أهل الصبر ، وعافانا من البلاء ، وسلك بنا سبيل الصالحين.
قال الحافظ البرزالي في تأريخه لحوادث سنة ٧٠٧ هـ :
"وفي شوال شكى شيخ الصوفية بالقاهرة كريم الدين الآملي وابن عطاء وجماعة نحو الخمس مئة ، من الشيخ تقيّ الدين ابن تيميّة وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة ، فردّوا الأمر في ذلك إلى الحاكم الشافعي.

وعُقِد له مجلس ، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء ، فلم يثبت شيء منها ، لكنه اعترف أنه قال : لا ‌يستغاث بالنبي ﷺ استغاثةً بمعنى العبادة ، ولكن يتوسّل به.

فبعض الحاضرين قال : (ليس في هذا شيء) ، ورأى قاضي القضاة بدر الدين أن هذا إساءة أدب ، وعنّفه على ذلك".

[المقتفي (٣/ ٣٧٩)]

وقد زعم بعض الناس أن في هذه الواقعة رجوعًا من أبي العباس عن الحكم بشركية الاستغاثة بغير الله ، وأنه عاد إلى موافقة مخالفيه ، وكونِ ما ذكروه = من الاستغاثة الجائزة ، لأنه قيد الاستغاثة الممنوعة بما كان عبادة (وهي عندهم ما صاحبه اعتقاد الربوبية).

وتأمل النقل دال على بطلان هذا الزعم ، فإن أبا العباس يقرر أنه لا يستغاث إلا بالله ، ومحل هذا هو الاستغاثة الخاصة ، لا ما كان على وجه التسبب العادي (كاستغاثة الإسرائيلي بموسى عليه السلام).

فلأجل هذا قيَّد كلامه منبها لذلك فقال : "استغاثة بمعنى العبادة" ، ليكون الكلام محترزا فيه عن صورة التسبب العادي ، لا سيما وأن من الشبه الشائعة في المسألة الاعتراضُ بجواز الاستغاثة العادية.

ولم يقصد أبو العباس بالقيد المذكور الرجوعَ إلى قول من يحصر الشرك فيما صاحبه اعتقاد الربوبية ، وذلك ظاهر من جواب كبير القضاة بدر الدين ابن جماعة في القصة ، فإنه لم يرض بكلامه وعده إساءة ، وهذا لا يعقل إن كان الشيخ قد رجع إلى قوله ، لأن النزاع عندئذ لا معنى له ، ولِم ينكر ابن جماعة كلامه وهو دال على ما ذكره الزاعم من رجوعه ؟!

إلا أن يقال : محل النزاع بين الشيخ ومعارضيه في كفر من استغاث بغير الله معتقدًا فيه الربوبية ، فهل يصح أن يكون معنى الكلام عند المخالفين يجوز أن يُعبَد النبي ﷺ (بالمعنى الذي لا يختلف فيه أحد في هذه المسألة ، وهو الوصف بالربوبية أو نية العبادة) ؟! هل يمكن هذا هو جواب ابن جماعة ، أو جواب أحد ممن يدعي الإسلام أصلا ؟!

ثم يدل على بطلان هذا الفهم أيضًا أن الشيخ لم يزل يقرر شركية الاستغاثة بغير الله بنفس عباراته المعروفة عنه في تصانيف كتبها بعد هذا العام (٧٠٧ هـ) ، ومن أشهر ما قرر فيه ذلك منها : رده على البكري ، وقاعدة جليلة في التوسل¹ ، ورده على الإخنائي.

وكذلك بقاء الشيخ بعد هذه المدة زمنًا طويلا دون أن يحكى ذلك عنه مع خطر التراجع في هذه المسألة ، وكذلك موافقة تلاميذه له في ذلك ، ومن أخصهم في هذا الحافظ ابن عبد الهادي الذي تتلمذ عليه بعد هذه الواقعة ، وقد كانت سنه وقتها دون الرابعة.

ـــ
¹ وفيه بين أبو العباس مراده بالتوسل والاستشفاع الذي جوزه في تتمة جوابه للقوم ، وبسط الكلام بسطا حسنا هو أدل على قوله من هذه الكلمة المجملة.
من أحسن ما تؤتاه في العلم ألا تغرك الزخارف والشقاشق ، ولا تخدعك الصور عن الحقائق ، ولا الألقاب عن المعاني ، ولا يخلب لبك مبتدَع الاصطلاحات ورنين القول ، ولا يعظم في نفسك قدر الرسوم ، فتصير كلِفا بها عمِيًّا عن التحقيق.

واعلم أن لكل قوم هوى يولعون به ، ورسوما يلذ لهم التمطق بها ، والشيطان يدخل على كل من بابه ، فطائفة تولع بذكر (نص الأصحاب على كذا ، وقرره العلامة فلان الدين في حاشية كذا).

وطائفة تولع بذكر (القول بالموجب ، والسند اللمي ، ومنع الصغرى ، والشكل الثالث).

وثالثة تولع بذكر (روح الشريعة ، وفهم المقاصد ، ونبذ الجمود على الظاهر ، ومواكبة العصر بالتجديد).

ورابعة تولع بذكر (المنهج العلمي ، والبحث التاريخي ، وتنزيه العلم عن الأدلجة).

وطائفة تولع بذكر (طريقة السلف والأئمة المتقدمين ، وموافقة السنة ، وحراسة العقيدة).

إلى ما يشاء الله من حيل الشيطان التي يتخذها سلما ، والتي ينجيك منها دوام المحاسبة في الخلوة ، وسؤال الربِّ التوفيق ، ومعاودة النظر وصدق التأمل ، وأطر النفس على قبول الحق من المخالف.

وأنت تفقه إن شاء الله أن القصد ذم الاشتغال بهذه الحلى دون سبر الحقائق واختبارها ، لا ذم نفس هذا الألفاظ ، فإن منها ما هو شريف.

#ملامح_من_منهج_العلم
قال ابن القيم رحمه الله في كلام له عن الرضا بالله :

"فكثير من الناس يرضى به ربا فلا يبغي ربا سواه ، لكنه لا يرضى به وحده وليا ، بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلى الله.

... وكثير من الناس يبتغي غيره حكما ، يتحاكم إليه ويخاصم إليه ، ويرضى بحكمه.

وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد : أن لا يتخذ سواه ربا ، ولا إلها ، ولا غيره حكما".

[مدارج السالكين (٢/ ٤٩٣)]

وهذا يدل على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام (ربوبية وإلهية وحاكمية) ، وهذا تقسيم كغيره من التقاسيم التي يذكرها بعض العلماء في هذا الباب.

ومن حسن الفهم إنزال مسألة التقسيم هذه منزلتَها العائدة إلى الاصطلاح ، فإنه قلما تخلو طائفة من تقسيم يخصها ، ولا يكاد يدل تقسيم على حق أو باطل من حيث كونه تقسيما ، وقد يتفق اثنان على تقسيم ويعتقد كل منهما بطلان قول مخالفه.
قال ابن القيسراني (ت : ٥٠٧ هـ) :

"ولما دخلت بغداد في أول رحلتي إليها ، وذلك في سنة سبع وستين وأربع مئة ، كنت مع جماعة من طلاب الحديث في بعض المساجد ننتظر شيخا ، فوقف علينا أبو الحسن أحمد بن الحسن المقرئ وكيل القضاة ببغداذ ، فقال : (يا أصحاب الحديث اسمعوا ما أقول لكم).

فأنصتنا إليه ، فقال : (كتاب الدارقطني في الأفراد غير مرتب ، فمن قدر منكم على ترتيبه أفاد واستفاد).

فوقع إذ ذاك في نفسي ترتيبه ، إلى أن سهل الله عز وجل ذلك في سنة خمس مئة ، فحصلت نسخة بخط أبي الحسن علي بن محمد الميداني الحافظ ، نقلها من خط الدارقطني ، وقابلها به ، فاستخرت الله عز وجل ، ورتبته على ترتيب الأطراف ، ليكون فائدةً لكل من عرض له حديث أراد معرفته".

[أطراف الغرائب والأفراد (١/ ١٧)]

كتاب الأفراد للدارقطني كتاب جليل القدر في مئة جزء ، لم يصلنا منها سوى أحد عشر جزءًا ، غير أن فائدته لم تفتنا بترتيب ابن القيسراني هذا.

ولله كلمة أبي الحسن المقرئ التي كانت سببا في بقاء فائدة الكتاب ، واعجب كيف بقيت في نفس ابن القيسراني ثلاثا وثلاثين سنة !

فلا تحقر كلمة في باب خير ، فكم كلمةٍ ورَت همة ، وانتفعت بها أمة.
الإعراض عن تفاصيل الأحوال

لما ذكر أبو المعالي الجهالة المغتفرة في بيع الأدوية المكونة من أخلاط لحال الضرورة = ذكر أن بيع الطعام المطبوخ من أجناس كذلك ، ثم ذكر إيرادا مجيبًا عنه فقال : "وقد يقال : لا يتحقق فيها من الضرورة ما يتحقق في الأدوية ، ولكن لا ينظر إلى تفاصيل الأحوال ، والحاجة ماسة إلى الأطعمة والأدوية ، والضرورة الحاقّة المرهقة ليست شرطًا".

وذكر هذا المعنى عند كلامه على النظر لوجه الأجنبية لغير حاجة ، فقال : "واللائق بمحاسن الشريعة حسم الباب وترك تفصيل الأحوال ، كتحريم الخلوة تعم الأشخاص والأحوال إذا لم تكن محرمية".

[نهاية المطلب (٣/ ٣٦١) ، (١٢/ ٣١)]

وهذه من كلمات أبي المعالي الحسنة ، وهي بمعنى ما يقرره العلماء من الفرق بين العلة والحكمة ، وأن الأحكام لا يعترض عليها بتخلف الحكمة ، وهذا من الأصول التي يدخل بالغفلة عنها الخللُ على كثير من الناظرين في الفقه من أهل الديانة وأهل الأهواء ، فيبطلون دلالات النصوص بتخصيصها بالعلل المتوهمة ، والنظر الفاسد في المصالح.

ويدخل بها كذلك على بعض المكلفين خصلة من سوء الأدب والتقدم بين يدي الله ورسوله ، فيرى إطلاق الشارع وإغلاقه الباب إنما يُعنى به لصورة معينة فحسب ، فلا يُعبأ بما سواها إلا حياطة للعامة ، لا في حق الذكي العارف بالمحذور المراد.

والفقيه الكامل يعطي هذا الأصل قدره ، فلا يبطل اطراد الشارع في الأحكام بالرأي ، كما يحسن النظر في المواضع المتنازعة بينه وبين إعمال المعاني التي يصلح استقلالها بالحكم¹ ، فإن الفقه على التحقيق من جنس الحكمة والعدل ، وهو إنزال المسائل منازلها من الأحكام.

ـــ
¹ كما في مسألة ترجمة الأعمى وقد نقل الوجهين فيها أبو المعالي في النهاية (١٨/ ٦١٧).

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
من الأحكام التي يحتاج أهل مكة إلى معرفتها = وجوب الجزاء في قتل الصيد ، ولا يختلف ذلك في العمد والنسيان عند أكثر أهل العلم.

فمن قتل بسيارته حمامة في حد الحرم = لزمه ذبح شاة ، وتفريقها على مساكين الحرم.

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
في الصحيح أن النبي ﷺ سئل عن أعظم الصدقة أجرا ، فقال : "أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى".

وقد يؤخذ من هذا تفضيل الصدقة غير الراتبة ، فإن العبد إذا واظب على التصدق بجزء معين كل شهر مثلا ، ورأى أنه ضبط حسابه ، واعتاد على ذلك = صارت نفسه شحيحة بإخراج شيء زائد ، إذ تخشى اضطراب الحساب ، ويثقل عليها غير المألوف ، فإن الحساب والعادة يهونان الإنفاق على العبد.

#النكت_من_السنن
وصف جرير بن حازم بالحشوي

جاء عن أبي داود الطيالسي أنه قال : "كان جرير بن حازم إذا قدم ؛ قال شعبة : (قد جاءكم هذا الحشوي)".

أخرجه العقيلي في الضعفاء (١/ ٣٩٥) ط تأصيل ، والحاكم في المعرفة (ص : ٤٣٣) ، من طريق علي ابن سلم عن عقيل بن يحيى عنه ، وهذا إسناد صحيح.

غير أن هذه الكلمة مشكلة من جهة أن الرمي بالحشو ليس من طريقة أهل الحديث ، ومن جهة أن جريرا صاحب سنة ، ومحفوظ عن شعبة حسن القول فيه ، فهو القائل "عليك بجرير بن حازم ، فاسمع منه".

فالظاهر أنها تصحيف من ابن سلم أو عقيل ، وصوابها ما جاء من طريق الدورقي عن الطيالسي عن شعبة : "إذا قدم جرير بن حازم فوحِّشوا بي".

أخرجه عبد الله في العلل "٥٨٠٣" ، وابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل (١/ ١٣٦) ، بإسناد صحيح رجاله أشهر من الأول.

(وحشوا بي) أي : دعوني والزموه ، يقال وحَّش بالشيء إذا رمى به ، وهذا من نادر ألفاظ التعديل.
أنساب آل محمد ﷺ

آل محمد ﷺ من حرمت عليهم الصدقة ، وهم بنو هاشم بن عبد مناف ، رهطه ﷺ ، وبنو المطلب بن عبد مناف ، الذين أخذوا حكمهم بحديث "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد".

وأنسابهم محفوظة قد اعتني بها من قديم في كتب النسب ، بل صنف في ضبطها تصانيف مخصوصة ، ومن أقدم ذلك كتاب المعقبين للعقيقي (ت : ٢٧٧ هـ) ، وهو في ولد علي بن أبي طالب خاصة ، ولا يخلو قرن بعده من تصانيف في هذا الباب يعرفها النسابون ، وفيها بيان من عقب وعدد ولده ، ومن عقب وانقطع عقبه ، ومن لم يعقب ، ومن كان مئناثا ، ومن له ولدان باسم واحد ، وما يتعلق بهذا الفن.

ولم تزل تلك العناية بين العارفين ، لا سيما بالحجاز ، فإنهم يعتنون بضبط أنسابهم وتحريرها ، وينفون من ادعاها ممن لم يثبت نسبه ، ومن عجيب تلك العناية ما حكاه البقاعي (ت : ٨٨٥ هـ) بعدما استدرك على الحافظ ابن حجر غلطا في نسب بعض أمراء مكة ، فقال : "وهذا أصح ، فإني رأيتهم شديدي العناية بذلك ، وهم يحفظونه لكثرة ما يكرر إيراده ؛ فإنه يقرأ كل ليلة على طبقة بئر زمزم المشرفة بعد المغرب".

وأنساب آل محمد تتفاوت في شهرتها والعناية بها ، فأبناء رسول الله ﷺ أشهر بين الناس ، لا سيما الحسنية منهم ، لحيازة بعض بيوتهم للسلطان ، ومن بيوت الحسنية الكبيرة :

- الأشراف القتادات أمراء الحجاز ، وهم فروع كثيرة جدا ، منها : العبادلة ، وآل زيد ، والحرث ، والبراكيت ، والشنابرة ، والهجارية ، وبنو حسن أهل الليث والشواق ، وغيرهم.

- أشراف المخلاف السليماني ، وهم عدد كبير بجازان وما حولها ، ولهم فروع كثيرة ، منها : النعميون ، وآل المعافا ، والعماريون.

- الأشراف الرسيون ، وهم أمة عظيمة باليمن ، ومنهم أئمة الدولة باليمن.

وفي آل محمد غير هؤلاء من الحسنية أيضًا كآل حسين بنجد والأدارسة بالمغرب وغيرها من البلدان ، ومن الحسينية ذرية الحسين الشهيد أيضًا جماعات كثيرة بالمدينة المنورة والعراق وبلاد العجم ، وقد بقيت أعقاب لمحمد بن الحنفية منهم بالعراق بنو الأيسر ، وكذلك العباس بن علي له ذرية معروفة باليمن.

ومن غير أبناء علي بن أبي طالب قوم صحيحة أنسابهم أيضًا ، من ذرية العباس عم رسول الله ﷺ ، وجعفر بن أبي طالب ، وعقيل بن أبي طالب.

وفي المنتسبين إلى آل محمد أدعياء كثر ، باطلة أنسابهم ، ويرجع في تمييز ذلك إلى أهل المعرفة من النسابين ، ولا يحل الخوض بغير علم في شيء من ذلك نفيا أو إثباتا ، كما يصنعه بعض الجهلة باعتمادهم على عجمة الألسنة أو البلدان ، أو على المذاهب فيثبتون نسب السني ، وينكرون نسب المبتدع ، ويتخوضون به في الإثم انتحالا لخصال أهل الجاهلية.

وفائدة معرفة هذه الأنساب ما يتعلق بها من أحكام الشرع :

- من التزام أصحابها بأحكامها كاجتناب الحرام من الصدقة ، وشكر هذه النعمة باتباع من فضلوا بقربه ﷺ في الهدي والدين.

- وتوقير المسلم لأهلها ، ومحبتهم كرامة لرسول الله ﷺ ، ورعاية لوصيته بهم.

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
كريم النفس إذا اغتنى لم ينسه حديثُ الغنى قديمَ الإحسان ، ومن أبين مواضع كرم النفس موضع امرئ بلغ أشده ، واستغنى عن شيخه ، ثم لم يزل يتعاهد إحسانه بالجزاء.

وما أبهاه محل صاحبي ذاك في نفسي ، إذ لا يفتأ ذاكرا شيخه (عبد الله) رحمة الله عليه ، منوها بفضله تارة ، ومرطبا لسانه بالدعاء له أخرى.

ويا بعد ما بين هذه المنزلة السنية ، وبين امرئ حصل من شيخه نفعا ، واغتذى عقله بوقته ، حتى إذا صلب عوده ، وأعجبته نفسه = تلمس لأبيه في العلم عيوبه ، ولذ له طرقها ، وصار ليث الحق الذي يروم النصح للمسلمين ، زعم ، وما بعُقَق غير كفران الإحسان ، عياذا بالله من منزلة (من يأكل من الصحن ويتفِّ فيه) كما يقال بالحجاز.

ودون هذا منزلة ، رجل تخرج بشيخه ، ثم أنعم الله عليه فبزه ، ورزقه ما لم يرزقه ، فصغر في عينه معروفه ، ورأى أنه ليس بشيء إلى ما قد صار عنده.

بالله عليك ، هبك حصلت من العلم قنطارا ، فأين غَناء مُدَّه في الأيام الأُوَل ؟!

رحم الله أشياخنا الذين بصرنا الله بهم بعد العمى ، ودلنا بهم على نور الوحي ، وأجرى لميتهم عمله الصالح بعده ، وختم لأحيائهم بالخير.

#ملامح_من_منهج_العلم
صنف الطوفي في قواعد المذهب (القواعد الكبرى) و(القواعد الصغرى) ، وهما في عداد المفقود ، وهذا نقل عنها مقيد على حاشية نسخة الفاتح "٢٠٤٥" من قواعد ابن رجب :

"وفي قواعد الطوفي : (صيغ النكاح والطلاق لا تجوز بالعجمية إلا عند تعذر العربية).

قلت : ولم يبن الطوفي هذا الفرع على قاعدة المذهب ، وإنما بناه على ما إذا أوجب الشارع بدلا أو مبدلا = لم يجز الانتقال عن المبدل إلى البدل ، إلا عند تعذره.

ثم قال بعد هذا الفرع المذكور : (والحق أن هذه ليست من صور هذه القاعدة ؛ لأن الغرض من هذه الصيغ تفاهم معانيها ، فدار الأمر مع فهم المعنى وجودا وعدما ، كرواية الحديث به ، وليست من قبيل العبادات) انتهى".

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
من مقامات الإيمان التي يحتاج العبد إلى رياضة نفسه بها = استحضار الخوف عند الوعظ والتذكير بالله ، ولو كان مخاطبه جعله في غير محله.

فإن العبد ينتفع بذلك وإن كان مصيبا في فعله ، إذ قد لا يخلو عند فعل الصواب عن نية فاسدة من رياء أو عجب أو غفلة عن طلب الآخرة به ، فيريد الله به خيرا على لسان الواعظ المخطئ ، الذي ينفعه في الباطن وإن لم ينفعه في الظاهر.

ولو فرض خلوه من ذلك فلن يعدم من استحضار الخوف والانكسار بقاءَ حياة القلب ، فلا يفقدها حين يكون أحوج شيء إليها.

فإن جاءك يا عبد الله واعظ فلا ترجع عن حق لم يتبين لك بطلانه ، فتترك سلطان الشرع إلى لحظة الوجد ، لكن لا تخل نفسك من اعتبار ووجل.

ومن شواهد هذا المعنى ما حكي عن محمد بن مهرويه الرازي أنه قال :

"سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة.

قال ابن مهرويه : فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل ، فحدثته بهذه الحكاية ، فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب من يده ، وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية ، ولم يقرأ في ذلك المجلس شيئا.

أو كما قال".

[الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (٢/ ٢٠١)]

ثم لم يمنع ذلك ابن أبي حاتم أن يبقي رواية الكتاب حتى بلغنا ، كما لم تمنعه صحة صنيعه من الاعتبار واتهام النفس.
"هل عائدٌ زمنٌ تضوع نشرُه ..
أرَجًا ورقَّتْ بالرضا أسحارُهُ ؟!

سبحان من جمعَ المحاسن كلَّها ..
فيهِ ، فتم بهاؤه وفخارُهُ

جُبِلت على التشريف طينتُه فما ..
نشأت على غير العلى أطوارُهُ

وصفَتْ خلائقُه وطُهِّر صدرُه ..
فزكا ، وطاب أديمه ونِجَارُهُ

فلريحه أذكى وأطيب مخبرا ..
من ريح مسكٍ فضَّه عطَّارُه

ختم النبوة فهو درة تاجها ..
وطرازُ حلتها الثمينِ عِيارُهُ"


[الصرصري]
من حسن فقه القائم على المريض إذا وجده محتاجا للكي أن ينهاه عنه ، ويشدد عليه في تركه ، ثم يعاجله بذلك حال نومه ، فيحسن إليه بغير تفويت الفضيلة عليه.

ومن فاتته فضيلة ترك الاكتواء ؛ فله عزاء بما صح عند أحمد من قوله ﷺ : "فإن ربي قد وعدني سبعين ألفا ، مع كل ألف سبعون ألفا ، وزادني ثلاث حثيات".

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
2024/11/14 03:16:32
Back to Top
HTML Embed Code: