سورة "المرسلات" خمسون آية فقط، تكرر فيها بلسان المتجبر المتوعد”وَيۡلٌ يَومئذٖ للمكذِّبين“ 10 مرات، بعد قسمٍ إلهيٍّ منذرٍ بعظمة الله في خلقه الريح وأنواعها، والملائكة المكلفة بوحيه، ويوم القيامة بأهواله ونوازله وكدراته وتسعر النار وهيجانها، فكيف بهذه النطفة الحقيرة أن تكذب آيةً واحدةً من آيات الله بعد هذا!
ما أشقى الإنسان وكُفره!
ما أشقى الإنسان وكُفره!
كل رمضانٍ أنتم طيبون، ينعاد عليكم بالخير واليُمن والفرج والبركات، وكل غائبٍ بين أهله آمن، وأنا بالزواج.
رمضان العالم في كفة ورمضان مصر في كفةٍ أخرى مهما تغيرت السنون والأحوال؛ قرآن المغرب لا زال يصدع في أذني وإن سافرت عنها وتركتها، زينة البيوت ولعب الأطفال وطعام أمي واجتماع العائلة، صلاة التراويح خلف إمام خاشع وحولي عيون باكية، هاهنا شيء فريد، وتناغم ساحر، وروح مختلفة في زحامها وصخبها وأهلها وشوارعها.
أنا ممنون لشرعة الإسلام، لهذه الرابطة التي تتعدى حدود الأوطان وأواصر الدم وتربت على أكتاف المستضعفين، لهذا البنيان المتين الذي يكفل اليتيم ويقوِّم العاصي ويجير المظلوم ويقسم فيه الأشعث الأغبر على الله فيبرَّه.
نفسي فداء هذا الدين الذي يهب الفرصة الثانية حين تفتك بالمرء الآثام ويتوعده الشيطان باليأس والقنوط، ويغدق بالنفحات الربانية على الناس فتعينهم على منغصات الدنيا ودركات الأيام وفواجع الأقدار، ولا يفرق بين الفقير والغني والعربي والأعجمي إلا بالتقوى.
قلبي مع كل جميلٍ طيبٍ يأخذ بيدي إلى الله، وكل حجرٍ وشجرٍ وطيرٍ يسبح بحمده فأندهش لعظمة هذا الكون وجماله، وكل كربٍ ألَمَّ بي فأسقط عني أوزارًا لم أكن لأتحملها يوم القيامة، وكل عاصٍ مذنبٍ يذكرني بجميل ستر الله عليّ.
أنا ممنونٌ لهذا الدين ولهذا الحب الكامن لكل ذرةٍ فيه، وفخورٌ بكمال التوحيد لله وربوبيته وعظمة سلطانه، وأحمده سرًا وجهرًا أن جعلني من المسلمين، وأرجو أن يدخلني الجنة.
نفسي فداء هذا الدين الذي يهب الفرصة الثانية حين تفتك بالمرء الآثام ويتوعده الشيطان باليأس والقنوط، ويغدق بالنفحات الربانية على الناس فتعينهم على منغصات الدنيا ودركات الأيام وفواجع الأقدار، ولا يفرق بين الفقير والغني والعربي والأعجمي إلا بالتقوى.
قلبي مع كل جميلٍ طيبٍ يأخذ بيدي إلى الله، وكل حجرٍ وشجرٍ وطيرٍ يسبح بحمده فأندهش لعظمة هذا الكون وجماله، وكل كربٍ ألَمَّ بي فأسقط عني أوزارًا لم أكن لأتحملها يوم القيامة، وكل عاصٍ مذنبٍ يذكرني بجميل ستر الله عليّ.
أنا ممنونٌ لهذا الدين ولهذا الحب الكامن لكل ذرةٍ فيه، وفخورٌ بكمال التوحيد لله وربوبيته وعظمة سلطانه، وأحمده سرًا وجهرًا أن جعلني من المسلمين، وأرجو أن يدخلني الجنة.
قلبي مع الأفعال البسيطة والنوايا الصادقة، مع البذل اليسير الهيِّن الذي يجاهد به صاحبه أن يقلل الفجوة بين العجز التام والحماس المتفلِّت، مع القلوب الصدئة التي اكتست بعوالق الآثام ولا زالت تقبل على الله بيقين الواثق.
قلبي مع الختمة الواحدة البطيئة إثر دمع المُقل مع وقفات التدبر، مع الدعاء الخاشع الذي يتلجلج به اللسان من خشية الله، مع الدمعة الأولى وراء الإمام بعد جفاف عام كامل.
قلبي مع كل تائهٍ ضلَّ وزلَّ وقلَّ زاده؛ لكن لم ينقطع.
قلبي مع الختمة الواحدة البطيئة إثر دمع المُقل مع وقفات التدبر، مع الدعاء الخاشع الذي يتلجلج به اللسان من خشية الله، مع الدمعة الأولى وراء الإمام بعد جفاف عام كامل.
قلبي مع كل تائهٍ ضلَّ وزلَّ وقلَّ زاده؛ لكن لم ينقطع.
كنت أنتظر إقامة صلاة العصر هذا اليوم، وبجاوري جالس طفل يقرأ في المصحف بعناية، في البداية لم ألحظ وجوده حتى مالَ إليَّ وهمس: ما الكلمة هذه لو سمحت؟ نظرت إلى موضع إصبعه وأجبته "فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ"، فابتسم لي وشكرني وأكمل قرائته. لا أخفي عليكم، هذه المرة الأولى التي يخفق قلبي فيها بشدة وشعرت لوهلة أنني أبٌ بمعنى الكلمة، أب مسؤول عن ابنه وتربيته وتقويمه، ثم سألت الله له الهداية بيني وبين نفسي.
ورفعت نظري إلى سقف المسجد وطفقتُ أردد: "ربِّ لا تذرني فردًا وأنت خيرُ الوارثين".
ورفعت نظري إلى سقف المسجد وطفقتُ أردد: "ربِّ لا تذرني فردًا وأنت خيرُ الوارثين".
أحيانًا أغرق في شعورٍ سلبيٍ حين يأتي ذكر الزواج جراء فكرةٍ ما مستنكرًا: إلى متى سأدخر ثمرة شعوري وعاطفتي وأحاديثي وجنوني قبل أن يجف هذا النهر وينضب؟! هذه الرغبة المُلحة في خلق ذكريات وتفاصيل مع روحٍ أخرى بدلًا من هذا الشتات الفردي المزمن! ذلك الصوت الأبوي داخلي الذي يهمس من حينٍ لآخر عن إنجاب ولدٍ يرث اسمي من بعدي.
لكني صرت أكثر إيمانًا بحكمة الله "لتسكنوا إليها" في وقتها المقدر، ومع الروح التي يصطفيها الله مهما أفلتت يده من الناس، فالعبرة بالصدق لا بالتعجل.
وإن الإنسان قد جُبِل على الأنس والاستنئناس مهما غالبته الوَحدة والتقوقع، أو ظنَّ في نفسه اليأس والزهد خشية أن تتلاشى المشاعر والذكريات مع مرور الزمن، لكنه بمجرد الاهتداء إلى نفسٍ تشاركه صفو الحياة وكدرها وجمالها وعبوسها سوف ينسى كل أيامه ووحدته وصمته وعزلته، ويألف حياةً جديدةً مع من يحب.
حتى وأن تجمدت مشاعره من برد الانتظار، فحتمًا ستتفجر من جديد بإذن ربها.
لكني صرت أكثر إيمانًا بحكمة الله "لتسكنوا إليها" في وقتها المقدر، ومع الروح التي يصطفيها الله مهما أفلتت يده من الناس، فالعبرة بالصدق لا بالتعجل.
وإن الإنسان قد جُبِل على الأنس والاستنئناس مهما غالبته الوَحدة والتقوقع، أو ظنَّ في نفسه اليأس والزهد خشية أن تتلاشى المشاعر والذكريات مع مرور الزمن، لكنه بمجرد الاهتداء إلى نفسٍ تشاركه صفو الحياة وكدرها وجمالها وعبوسها سوف ينسى كل أيامه ووحدته وصمته وعزلته، ويألف حياةً جديدةً مع من يحب.
حتى وأن تجمدت مشاعره من برد الانتظار، فحتمًا ستتفجر من جديد بإذن ربها.
من بين جملة أدعيتكم الدنيوية في هذه الأيام المباركة، لا تنسوا حظ الآخرة من الدعاء؛ هي دار القرار والمستقر والغاية والحقيقة الأبدية التي لن تزول. سلوا الله الثبات على هذا الدين، وحسن الخاتمة، والفرار على الصراط، وأن يثقل موازينكم بالخير، وأن يزحزحنا وإياكم عن نار جهنم، وأن ندخل الجنة بسلام.
للأسف هذا أمرٌ أقر به وأعهده في نفسي ولست بمُخفيه عنكم:
كثرة الظهور والكتابة والنشر، تنعكس طرديًّا مع حجم التشتت والشتات الداخلي وفرط التفكير حول شيءٍ ما، لذا أتخفف من ثقل الأفكار بالكتابة وبعثرة الأفكار، لأن هذه الحروف الصماء تغني أحيانًا كثيرةً عما يعجز عنه الحديث إلى الناس.
وإن هذا لمؤلمٌ وصعبٌ وشاقٌ.
وأقول للأسف، لأن هذا يشذُّ عن القاعدة النفسية الصحيحة: الإنسان من الأُنس ولو أن للمرء زوجة أو رفقاء يؤنسونه ويعرفون دواخله لاختصهم بما لا يختص به غيرهم، وأحيل هذا أيضًا إلى ضريبة من يملك حرفةَ الكتابة أو أي فنٍّ جماليٍّ آخر فإن عقله وقلبه حاضرين يقودانه إلى الإفصاح عن دواخله لأن في خيال الفنان عزاؤه الجميل عن الواقع المؤلم.
كثرة الظهور والكتابة والنشر، تنعكس طرديًّا مع حجم التشتت والشتات الداخلي وفرط التفكير حول شيءٍ ما، لذا أتخفف من ثقل الأفكار بالكتابة وبعثرة الأفكار، لأن هذه الحروف الصماء تغني أحيانًا كثيرةً عما يعجز عنه الحديث إلى الناس.
وإن هذا لمؤلمٌ وصعبٌ وشاقٌ.
وأقول للأسف، لأن هذا يشذُّ عن القاعدة النفسية الصحيحة: الإنسان من الأُنس ولو أن للمرء زوجة أو رفقاء يؤنسونه ويعرفون دواخله لاختصهم بما لا يختص به غيرهم، وأحيل هذا أيضًا إلى ضريبة من يملك حرفةَ الكتابة أو أي فنٍّ جماليٍّ آخر فإن عقله وقلبه حاضرين يقودانه إلى الإفصاح عن دواخله لأن في خيال الفنان عزاؤه الجميل عن الواقع المؤلم.
لم يُخلق العقل البشري ليتعرض لكل هذه المدخلات والماجريات والفتن طيلة الوقت دون أن يُصاب بالبلادة والضيق والاكتئاب والتشتت واليأس والازدراء لحياته.
من بين كل دعوات رمضان هناك ثلاث لا أنساها أتقرب بهم إلى الله:
1- أن يؤيد أهل غزة ويطعمهم من جوعٍ ويأمنهم من ظلم وبطش وكيد المعتدين.
2- أن يسدد ويعين أهل سورية ويلهمهم الرشد ويكف عنهم التشتت والفرقة ومكر الخونة.
3- أن يفك كرب المأسورين المظلومين وكل ذي قيدٍ ويردهم سالمين إلى أحبابهم.
دعاء المتفائل الواثق لا اليائس القنوط.
1- أن يؤيد أهل غزة ويطعمهم من جوعٍ ويأمنهم من ظلم وبطش وكيد المعتدين.
2- أن يسدد ويعين أهل سورية ويلهمهم الرشد ويكف عنهم التشتت والفرقة ومكر الخونة.
3- أن يفك كرب المأسورين المظلومين وكل ذي قيدٍ ويردهم سالمين إلى أحبابهم.
دعاء المتفائل الواثق لا اليائس القنوط.
أمي الله يحفظها امرأة طيبة تحمل نصف لطف الدنيا، لكنها عنيدة بعض الشيء، ترفض بشكل قاطع تبني ووجود قطط داخل المنزل، مع ذلك لها 8 سنوات تتكفل وتطعم كل القطط الطوافة على منزلنا الجديد منذ نقلنا إليه، أجيال من القطط تتزاوج وتلد وتموت ويكبر أطفالها ويكرروا الأمر، وهي باقية على العهد.
كلما ألححت عليها تعنفني وتقول: "ابق هات في شقتك، القطط المرفهة الأليفة لها ناسها اللي عندهم وقت للتربية والتنظيف والاهتمام، لكن أنا باخد ثواب القطط الشاردة دي لعل ربنا يغفرلي ذنوبي ويجزيني عنهم خيرًا، وبيتنا فناءه واسع ومتونسة بلعبهم وجريهم حوليا كده أحسن"، فأتأفف قليلًا ثم أهدأ.
لم أكن أعي المنطق الذي تتبناه أمي في البداية وهذا العناد الغريب، لكني مع الوقت تصالحت مع قدرتها وطاقتها التي ربما وهنت مع العمر وأفنتهم في تربيتنا وتعليمنا، وأنها تفضل تربية بضع دجاجات وحمائم لتساعد على أمور المعيشة بدلًا من إهدراها في غيرها.
بغض النظر عن الأسباب، أسأل الله أن يجعل حنانها وبذلها هذا في ميزان أعمالها الصالحة، وأن يرزقها الجنة على ما قدمت في تربيتنا وصلاحنا قبل تربية الحيوان والطير، وأن يبارك في عمرها وصحتها ويرضيها بما تحب وزيادة.
كلما ألححت عليها تعنفني وتقول: "ابق هات في شقتك، القطط المرفهة الأليفة لها ناسها اللي عندهم وقت للتربية والتنظيف والاهتمام، لكن أنا باخد ثواب القطط الشاردة دي لعل ربنا يغفرلي ذنوبي ويجزيني عنهم خيرًا، وبيتنا فناءه واسع ومتونسة بلعبهم وجريهم حوليا كده أحسن"، فأتأفف قليلًا ثم أهدأ.
لم أكن أعي المنطق الذي تتبناه أمي في البداية وهذا العناد الغريب، لكني مع الوقت تصالحت مع قدرتها وطاقتها التي ربما وهنت مع العمر وأفنتهم في تربيتنا وتعليمنا، وأنها تفضل تربية بضع دجاجات وحمائم لتساعد على أمور المعيشة بدلًا من إهدراها في غيرها.
بغض النظر عن الأسباب، أسأل الله أن يجعل حنانها وبذلها هذا في ميزان أعمالها الصالحة، وأن يرزقها الجنة على ما قدمت في تربيتنا وصلاحنا قبل تربية الحيوان والطير، وأن يبارك في عمرها وصحتها ويرضيها بما تحب وزيادة.
يقولون: "نحبُّ فلانًا بعيوبه"، وأقول: إن هذا خللٌ عظيمٌ في النفس، وخلطٌ جسيمٌ في المنطق، فالعيب يُقبل لا يحب، وبعض عيوب المرء تنفر منها النفس ولا تتحملها. إنما المحبُّ متغاضٍ عن النَّقيصة متصبرٍ عليها، لأن عينه عن كل عيبٍ كليلةٌ، والمحب عمومًا، كما يُقال في المثل الشعبي: ”يبلع لحبيبه الزلط“.
عبد الرحمن القلاوي
"علمتُ أن آصرة الأمور ورابطتها تكمن في اثنين لا تنفكان غُرَّتهُما: أولهما الرفق، وثاني الاثنين الصدق". هكذا قالت، وهكذا لم يتبدد الظن يومًا مهما تغيرت الخطوب. بين تعاقب ليلٍ ونهارٍ أجدنا صغيرين، نرى الدنيا من زاويةٍ حرجةٍ رؤية القلب قبل العين، وكبيرين ظلَّ…
وكانت طيبةً تجود بالطيب، لكنها حزينةٌ كل الحزن، مؤنسة الطلة تكاد تشرق الشمس في وجهها، لا تجلس في مجلسٍ إلا وأكسبته وقارًا ملائكيًّا ليس من أهل الأرض، وكانت على ذلك هينةً لينةً تحمل في قلبها الود لتهبه جملةً للحاضرين. ثم تراها إذ تكلمَّت بالشيء يظهر ذاك الجمال اليابس في صوتها، فكأنما يُخفي صخبًا داخليًّا يؤرق محياها المتفرد، فيحيل كلامها حزنًا ليس بالحزن العابر المعهود؛ إنما حزنٌ أبديٌّ يرافقها كظلِّها الطويل.
قديمًا، في الماضي القريب، منذ وُلدت وكبرت، ربما بدوت مختلفًا قليلًا عما كانه الآخرون. لم أذهب إلى السينما سوى مرةٍ واحدةٍ، مجانًا، كترفيهٍ بين ساعات عمل. ولم تسعفني قدماي للسفر إلى أي رحلةٍ مدرسيةٍ أو جامعيةٍ. ولم تصافح يداي زميلًا أو زميلة دراسةٍ، فكنت الوحيد الذي صافحني. ويفتقدني دائمًا آخر كرسيٍّ في حفل زفافٍ، بينا يترنح أقراني هوسًا من الرقص.
لقد كنت طيلة حياتي متخلفًا مختلفًا عن الركب؛ طفلًا هادئًا انسكبت عصارة عينه في أول يوم حضانة. ومراهقًا أحبَّ دراسة الطب ولم يتأتَّى له بلوغه؛ ربما لم يكن ليحتمل تشريح جسد امرئٍ، فعوَّضه الله تشريح عقله بالقلم. وطالبًا لم يحظ بصديق دراسةٍ واحدٍ؛ تخرَّجوا جميعًا وتركوه يتخبَّط خمس سنواتٍ عجافٍ بين جامعتين، حتىٰ استقر في الثالثة فأتمهن تسعًا، أنهى خدمته العسكرية خلالهن، وتخرَّج الآن معرضًا وجهه عن ماضيه.
الآن -وكسنةٍ حياتيةٍ- هناك بعض أمورٍ فيَّ لم تتغير، فما زلت أبحر على حطام سفينتي الأولى، بعد أن رست على شاطىء العزلة المجهول. لقد أحببت عزلتي لا أنكر، أحببت كوني لا أتصارع خارجًا مع ذاك العالم، وفضَّلت صراعًا صاخبًا يحدث داخلي. من أنا؟ أنا لا أعرفني، صحيفتي ملأى بالحروف، لكني أسقطت النقاط عمدًا حين أخطأت التعبير في الحصة الأولى. ربما أجيد الكذب على نفسي، أتفنن فيه، وأدعي كثيرًا أن الأمور على ما يرام. هلا بحثت عن الحقيقة؟
أنا الساكن في حركته، والمتحرك الذي لا يسكن أبدًا. المتكلم بصوتٍ يشق فاه، والصامت في كلماته قليل الحيلة. أنا البسيط المتكلف الذي يصفو بكلمةٍ، ويدنو باعتذارٍ، وينسى كل أذىًٰ أو يتناسىٰ وجيعته. أنا الواقعي الذي يهرب في أحلامه، والحالم الذي يتعثر في واقعه. المنطقي الذي يسخر من الجميع، والساخر الذي يمنطق نفسه. أنا الصابر المتعجل، والسهل العسير، المغترب في نفسه والواضح أمام الناس، والقريب البعيد الذي لن يعود كما كان. أنا المذنب المتعثر في ذلاته، والمرتعد خوفًا منها. الجاهل المتعكز علىٰ علمه، والمسكين المترنح بين حدود قدرته ومساعيه، وبين آماله ومآلاتها وموضعه منها، وبين رؤيته لذاته ورؤية الناس له. وبينهما ألف شعورٍ وشعورٍ لا يعلمه سواي ومن سوَّاني.
هل بدأت أفهمني قليلًا؟ بعد ثمانٍ وعشرين لطمةً أصقلت جسدي، بدا لي ما كنت أخفيه: لقد فقدتني يوم فارقني ظلي، وتبعت ظلًّا آخر. أنا حيث أنا، كنت وما زلت أجهل وأجادل وأُصفع عند كل جديدٍ برَّاقٍ. أحتاج فقط إلى وقفةٍ احتجاجيةٍ أمام النفس، أن أروضها -بغير إفراطٍ ولا تفريطٍ- وأنظِّم مسارها، وأنظف قلبي -على كفٍّ رقيقٍ- من الشوائب، وأهذِّب عقلي سريعًا فالوقت أشرف على فرض الضرائب.
أنا لست محور الأشياء. تلك حقيقة الدنيا، وليس من نواميسها تمام الحظوظ. لي منها ما سعيت وأسعى، وعند الله سأجد حاضرًا ما أخلفت فيما جرت به المقادير. لكني راضٍ هاهنا عن ذاتي ولو قليلًا، بطلٌ في معاركي الخاصة، ومسرورٌ بعالمٍ صغيرٍ أشارك فيه من أحب، ويكفيني أثرًا واحدًا يدوم في قلبٍ صادقٍ يدعو لي، حين يتوقف قلبي الصغير عن النبض، وقلمي هذا عن الحديث.
ربما الآن أنا راضٍ بالحقيقة.
من دفاتر الماضي
28 مايو 2020
لقد كنت طيلة حياتي متخلفًا مختلفًا عن الركب؛ طفلًا هادئًا انسكبت عصارة عينه في أول يوم حضانة. ومراهقًا أحبَّ دراسة الطب ولم يتأتَّى له بلوغه؛ ربما لم يكن ليحتمل تشريح جسد امرئٍ، فعوَّضه الله تشريح عقله بالقلم. وطالبًا لم يحظ بصديق دراسةٍ واحدٍ؛ تخرَّجوا جميعًا وتركوه يتخبَّط خمس سنواتٍ عجافٍ بين جامعتين، حتىٰ استقر في الثالثة فأتمهن تسعًا، أنهى خدمته العسكرية خلالهن، وتخرَّج الآن معرضًا وجهه عن ماضيه.
الآن -وكسنةٍ حياتيةٍ- هناك بعض أمورٍ فيَّ لم تتغير، فما زلت أبحر على حطام سفينتي الأولى، بعد أن رست على شاطىء العزلة المجهول. لقد أحببت عزلتي لا أنكر، أحببت كوني لا أتصارع خارجًا مع ذاك العالم، وفضَّلت صراعًا صاخبًا يحدث داخلي. من أنا؟ أنا لا أعرفني، صحيفتي ملأى بالحروف، لكني أسقطت النقاط عمدًا حين أخطأت التعبير في الحصة الأولى. ربما أجيد الكذب على نفسي، أتفنن فيه، وأدعي كثيرًا أن الأمور على ما يرام. هلا بحثت عن الحقيقة؟
أنا الساكن في حركته، والمتحرك الذي لا يسكن أبدًا. المتكلم بصوتٍ يشق فاه، والصامت في كلماته قليل الحيلة. أنا البسيط المتكلف الذي يصفو بكلمةٍ، ويدنو باعتذارٍ، وينسى كل أذىًٰ أو يتناسىٰ وجيعته. أنا الواقعي الذي يهرب في أحلامه، والحالم الذي يتعثر في واقعه. المنطقي الذي يسخر من الجميع، والساخر الذي يمنطق نفسه. أنا الصابر المتعجل، والسهل العسير، المغترب في نفسه والواضح أمام الناس، والقريب البعيد الذي لن يعود كما كان. أنا المذنب المتعثر في ذلاته، والمرتعد خوفًا منها. الجاهل المتعكز علىٰ علمه، والمسكين المترنح بين حدود قدرته ومساعيه، وبين آماله ومآلاتها وموضعه منها، وبين رؤيته لذاته ورؤية الناس له. وبينهما ألف شعورٍ وشعورٍ لا يعلمه سواي ومن سوَّاني.
هل بدأت أفهمني قليلًا؟ بعد ثمانٍ وعشرين لطمةً أصقلت جسدي، بدا لي ما كنت أخفيه: لقد فقدتني يوم فارقني ظلي، وتبعت ظلًّا آخر. أنا حيث أنا، كنت وما زلت أجهل وأجادل وأُصفع عند كل جديدٍ برَّاقٍ. أحتاج فقط إلى وقفةٍ احتجاجيةٍ أمام النفس، أن أروضها -بغير إفراطٍ ولا تفريطٍ- وأنظِّم مسارها، وأنظف قلبي -على كفٍّ رقيقٍ- من الشوائب، وأهذِّب عقلي سريعًا فالوقت أشرف على فرض الضرائب.
أنا لست محور الأشياء. تلك حقيقة الدنيا، وليس من نواميسها تمام الحظوظ. لي منها ما سعيت وأسعى، وعند الله سأجد حاضرًا ما أخلفت فيما جرت به المقادير. لكني راضٍ هاهنا عن ذاتي ولو قليلًا، بطلٌ في معاركي الخاصة، ومسرورٌ بعالمٍ صغيرٍ أشارك فيه من أحب، ويكفيني أثرًا واحدًا يدوم في قلبٍ صادقٍ يدعو لي، حين يتوقف قلبي الصغير عن النبض، وقلمي هذا عن الحديث.
ربما الآن أنا راضٍ بالحقيقة.
من دفاتر الماضي
28 مايو 2020