Telegram Web
التفصيل والتركيب من آية العلم، ولاسيما في المسائل الكبيرة المركبة ذات الجهات، وخاصة حين تنزل على وقائع معينة.
وعامة الناس، وكثير منهم منتسبون إلى العلم، يرون أن المباشرة والبساطة والأقوال الساذَجة هي أمارة القول الحق، وأن التفصيل إما من مسالك المبتدعة أو هو مراوغة أو تمييع، والحال أن هذا ليس إلا ضجرًا ومللًا، والضجر ليس علمًا بل إما سوء خلق وضيق عطن أو عدم تأتٍّ ومطاوعةٍ للعلم، وكلٌّ ميسر لما خلق له.
فالحاصل أن النفور من هذا ناجمٌ عن ضعف التحقيق في العلم، ثم ضعف التحقيق في الدين لأن مقتضى الورع العدل والإنصاف، والعدل لا يكون إلا بالتفصيل وبيان الجهات المختلفة.
يقول الإمام النووي:
"فمن استطال شيئًا من هذا وشِبْهِه؛ فهو بعيدٌ من الإتقان، مُباعِدٌ للفلاح في هذا الشأن، فليعزِّ نفسَه لسُوء حاله، وليرجِعْ عما ارتكبه من قبيح فعاله.
ولا ينبغي لطالب التحقيق والتنقيح والإتقان والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة أو سآمة ذوي البطالة وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة، بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطًا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحًا مضبوطًا، ويحمد الله الكريم على تيسيره".
ليس هديًا حسنًا ولا صوابًا الكلام بالمشتبه، أو الذي يتبادر منه باطل، أو يشكل على أكثر الناس أو كثير منهم، ثم يذهب المتكلم يطلب المخارج والمحامل لهذا الكلام؛ لأن الأصل أن يكون الكلام صادقًا وواضحًا؛ لأن الغرض من الكلام هو الإفهام والفائدة، وإذا كان الكلام دينيًّا كان المقصود بالفائدة ما هو أعم من الفائدة اللغوية كما هو واضح.

وفي الجملة فهذه طريقة الغلاة والباطنية وأهل الأهواء وأصحاب المذاهب السرية من ذوي الوجهين.

وإذا كان ابن مسعود رضي الله عنه قد قال: "ما أنت بمحدّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة"؛ وهذا في الكلام الحق، فكيف بالكلام الباطل، أو ذي الوجوه على أحسن تقدير.

نعم الإشكال أمر لابدّ من وقوعه في عامة الكلام لتفاوت أذهان الناس بلادة وذكاء، وكذا تفاوت أغراضهم، ويقع حتى في كلام الله وكلام النبي، كما قرره كثير من العلماء، لكن المطلوب أن يعتني المتكلم بهذا قدر طاقته، ويبذل فيه القصدَ الحسن، لكي لا يكون من الذين يضلون عن سبيل الله.

وفي كثير من الحالات يكون إلقاء هذا النوع من الكلام من حظ النفس بغرض الإغراب، أو الترفع عن الجمهور، أو حتى المشاكسة والمغايظة لهم، وقد يقبُح أكثر فيكون من أغراضه الترصد لهم وتقريبهم من المجاوزة والغلط في الإنكار فيتعرضون لعقاب الله بسبب ذلك، وكلها من أهواء النفس الفاسدة، والأصلُ حمل العامة وتقريبهم من السلامة.
كما أن الدين الصحيح يجعل المتدين إنسانًا كاملًا، فالدين فاسد يجعل المتدين مسخًا فيه شوب من الحيوان.
والفسق والفجور إذا استولى على الإنسان غيَّر فطرته، فران على قلبه رين.
وكذا الدين الفاسد إذا استولى على الإنسان غير فطرته، فران على قلبه رين، ثم يقسو قلبه، كما نعى الله على أهل الكتاب.
ومن هذه الجهة فالفاسق الفاجر تكون أوبته أيسر عليه، لأنه يعلم أن ما عليه باطل، أما المتدين بالدين الفاسد فتوبته عسرة لأنه يظن أن ما عليه حق، فلا يكون له داع إلى التوبة، بل قد يتصلب على ما عليه من الدين الفاسد، ويقاتل عليه، وهذا قليل في الفساق أو الفجار.
الظاهرة الجديدة التي قد تصلح للدراسة في مجال علم اجتماع الدين، هو تقارب أصحاب الفجور مع أصحاب الدين الفاسد في مقابل الخصوم الدينيين لأصحاب الدين الفاسد، والذي هو عرَض لتضخم الأيدولوجيا وابتلاعها للدين بما هو إيمان مشترك وأخلاق فاضلة، ينبغي أن تجمع بين جميع المتديينين وتباعدهم من جميع الفاجرين.
هذه محنة عظيمة حقيقية لم يسبق أن تعرض لها الإسلام في حدود معرفتي القاصرة.
هذا "الشيخ" فلان الذي يتكلم في كبرى مسائل الشريعة فقها أو اعتقادا، كمسائل التكفير والتبديع والتفسيق، والقتل والقتال، والنوازل المركبة السياسية أو الاقتصادية وغيرها، لا يخلو أن يكون إما عالمًا وإما ليس بعالم بل من الدعاة أو الوعاظ المذكّرين.
فإذا كان عالمًا، ففي أي علمٍ هو عالم؟ أفي الحديث وعلومه، أم في الفقه ومسائله، أم في أصول الفقه، أم في العقيدة والكلام، أم في التفسير؟ هل له في هذه العلوم دراسة ومشيخة وشهد له علماء محققون فيها، أم له فيها بحوث أو كتب أو دروس؟ أم عامة كلامه أشذاب من هذه العلوم في مسائل معدودة أو عموميات أو تعليقات على كتب عامة ليست من كتب مسائل العلم كفنٍّ وبحث، أو - وهذا أفضلهم طريقة - شروح ركيكة يعاني فيها شرح بعض كتب العلم التي للمبتدئين بتكلف؟
على أنه لو كان من العلماء بالمعنى الذي يجاوز ما ذكرناه من هذه الحال؛ لم يكفِ أن يتكلم في هذه المسائل، فإن رتبة ما ذُكر هي رتبة عوام العلماء والمدرسين، وليست رتبة الفقهاء المحققين المجتهدين، المطلقة أيديهم في علوم الشريعة كلًّا وجزءًا يتصرفون فيها بالاستنباط والتنزيل، مع ما تحتاجه النوازل من علم صحيح بالواقع، وبكثير من العلوم المعاصرة.
وإن لم يكن هذا "الشيخ" فلان عالمًا؛ كان من الوعاظ الدعاة، أو من المثقفين أو المفكرين بالتعبير الحديث، فكيف يسوغ له الكلام في هذه المسائل التي لا يقدم على الكلام فيها إلا أفراد المجتهدين وخواص العلماء، وليس عوام العلماء فضلا عن المبتدئين الوعاظ الذين ليسوا بعلماء أصلا!
إذا تصورتَ هذا التصور علمتَ أن عامة المتكلمين وكلامهم في هذه المسائل هو من الاجتراء، ومن الجهل الذي لا قيمة له في العلم، الذي لا يدل على قصور صاحبه العلمي فقط، بل وعلى أزمة أخلاقية وسلوكية عنده.
Forwarded from عمرو بسيوني
أنا هتسأل عن ايه بخصوص غزة يوم أما أقف قدام ربنا ؟ وأعمل ايه أكون وقتها عملت اللي عليا كمسلم ؟
ج/ ليس في يد المسلم العادي غير القادر وغير المباشر للأحداث إلا الدعاء والتأسف لمصاب المسلمين، فإن تركه لمرض قلب ونية فاسدة فهو مأثوم وقد يبلغ به النفاق الأكبر في حالات، وإن تلاهى عنه مطلقا فهو نقص في إيمانه، وإن أحيانا بعد ما يجزئ فليس بمؤاخذ،
وتزيد الواجبات على القادر المباشر فيتعين عليه ما لا يتعين على غيره فالطبيب القادر المباشر يجب أن يداوي، والإعلامي والصحفي القادر يجاهد بالكلمة، والمجاهد القادر المباشر يجب عليه، والحاكم يجب عليه فعل المقدور، والمفرط في كل ذلك يأثم.
هذا في الواجب، أما المستحبات فهي لا تنحصر، وهي كل نافع للمسلمين هناك بالنفس والكلمة والرأي والمال بالصدقة وبالمقاطعة ونحو ذلك من القادر عليه وبشرطه من العلم والعدل، وهذا الشرط ضروري لأن بعض من يحسب أنه يحسن قد يسيء من حيث لا يشعر، وهذا كثير، ومنه ترك الواجبات والمستحبات العينية عليه فهذا من العجز وتسويل الشيطان.
جواب قديم

كتب أحد العلمانيين مؤخرا منشورا ذكر فيه أن الإنسان في الغالب لا يدين بدين اختاره عن اقتناع وبعد بحث، بل بدين المنتصر عسكريا، فمثلا لولا انتصار عمرو بن العاص على البيزنطيين عسكريا ما كان غالبية المصريين مسلمين. فالمنتصر عسكريا يؤثر على الشعوب والناس، حتى ليغير دينهم! فما قولك في هذا الكلام؟

ج)
لم يجبر المسلمون أحدا على اعتناق الدين، لو كان كذا لأسلم أغلب المصريين عقب الفتح، وهذا خطأ تاريخيا، فقط ظل عامة المصريين نصارى حتى القرن الثالث الهجري كما تدل كتب التواريخ. أما مطلق التأثير وإتاحة الجو لقبول الإسلام فهذه ناحية أخرى لا ننكرها أصلا، فالمقصود من الفتح في الإسلام إظهار دين الله في الأرض لئلا يحول بين الناس والدخول فيه حائل، ومن ثم فلا إشكال عندنا في كون الفتح من أسباب الإيمان، فالإسلام دين الله، ومن رحمته بالناس أن أنزل إليهم الكتاب والحديد ليهديهم بالبيان ويلجئهم بالسنان لما فيه سعادتهم، فلو أسلم خائفا فإن كان في قلبه خير فإنه سيؤمن مع الوقت، وهذا من معنى أن قوما يدخلون الجنة في السلاسل، وفي أسوأ الحالات أن تكون ذريته مؤمنة.
قال ياقوت الحموي في ترجمة الفخر الرازي رحمه الله، وقد دخل هراة بعد موته بها بعشر سنين:

سألت ولده ضياء الله عليًّا فقلت له:
على من قرأ والدك العلوم؟
فقال: ليس له شيخ مشهور، إلا أنه رحل إلى أذربيجان وكان بها رجل يقال له مجد الدين الجيلي، فقرأ عليه، ثم فتح الله عليه فتحًا كبيرًا وأخذ من الكتب.
جودتك العلمية تغنيك عن كثير من الانتفاخ الذي لا معنى له بالانتساب إلى شيخ أو مذهب أو مدرسة أو مؤسسة دون انتفاع حقيقي منها أو تأثير ظاهر في مستواك، بل إن مثل هذا الانتساب مع ضعفك الظاهر لا يزيدك إلا هوانًا.

لم يكن لابن سينا شيخ معروف في الفلسفة، بل اشتغل بنفسه، ولم يكن للفخر الرازي شيخ مشهور ولم يعرف بالطلب إلا قليلا على والده الذي مات وله نحو ستة عشر عاما، ثم على المجد الجيلي.
وهما رأسان في الفلسفة والكلام.

هامشان:
الأول: من الواضح أن المراد ليس البحث والتحقيق في فائدة الطلب على الأشياخ وأهميته، لكن أن مجرد الانتساب دون الانتفاع المؤدي إلى التحقيق لا ينفع، وأن المحك في النهاية هو ما عندك.

الثاني: بعض خصوم ابن تيمية قديما وحديثا رموه بأنه لم يكن له مشيخة، وهذا مع كونه كذبا مخالفا للواقع في عامة العلوم، إلا العلومَ العقلية فقد أخذ بعض مبادئها على شيخ ثم اشتغل بنفسه مع ما وهب من الذكاء والحفظ والتحقيق في سائر العلوم؛ فهذا كما ترى صادق على اثنين من أعظم خصومه الذين كان يعتني بالبحث معهم، وبهذا تتحقق أن الإنصاف عزيز.
جواب قديم

(1) لو العالم يسمعك لمدة دقيقة، شو رح تحكي؟

ج/ مش هاحكي لأنه مفيش فايدة :)

-----------------------

(2) مولانا، كيف متشائم وميال للحزن والوحدة وعندك كل هذه الألمعية في الألش وخفة الظل والنعنشة اللي بتعملها على التايم لاين؟
سؤال محيرني عن جد، جاوب ما تترك :)

ج/ أنا لست متشائما، ومفيش فايدة عندي هي واقعية أكثر منها تشاؤم مضاد للتفاؤل.

مفيش فايدة هي أيديولوجية ورؤية كونية في آن واحد.

رؤية كونية ناتجة عن العلم والتدبر في الحال، كما قيل: "من يزدد علما يزدد وجعا"، وكما قال مالك في شرح معنى حديث: "من قال هلك الناس"، الذي لا يفهمه كثير من الوعاظ على وجهه، فقد قال إمام دار الهجرة في معناه: إذ قال ذلك تحزنا لما يرى في الناس يعني في أمر دينهم فلا أرى به بأسا وإذا قال ذلك عجبا بنفسه وتصاغرا للناس فهو المكروه الذي نهى عنه.

وكلام كثير من العلماء في وصف عصورهم بما يرونها فيها من كل شنيع وخسيس: أكثر من أن يحصر، وهذه الرؤية الكونية الواقعية لها استدلال شرعي واضح عن آخر الزمان وتناقص الخير وتعاظم الشر فيه.

ثم هو أيديولوجية، لأنه يساعد على السعادة، فأقل القليل من النجاح أو الإنجاز، بل المتوقع الطبعي منه = يسعد ويرضي، بخلاف التفاؤل في زمن المسخ هذا، فإنه أيديولوجية إحباط وتعاسة، هذا تصوري :)

إذا فهمت ذلك فلن تجد تناقضا فيما ترى، إلا تناقضا ظاهريا، أما الحقائق: فماء واحد.
جواب قديم

وتحسب أنك تارك للصلاة بإرادتك ولكن الله لم يعد يحب لقاءك. أفهم اللي قدامي إن الجملة دي خطأ ازاي؟

ج/ لا، بل هو تارك بإرادته، والله أمره بالصلاة وإذا أمر الله بشيء فهو يحبه، فإرادته الشرعية محبوبة له، ولو صلى ذلك التارك فقد فعل ما يحبه الله.

وما يستدل به بعضهم من قوله تعالى: ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، فهذا نزل في المنافقين، كره الله انبعاثهم لما يصنعونه في الخروج من الفساد والفتنة، ولذا ثقل عليهم ذلك، فضحا لهم وعصمة لرسوله من أذاهم، وقد نص على ذلك المعنى الطبري وغيره، ولذا فقد أعقبها بقوله: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم.

فالحاصل أن كل معصية أو تقصير من العبد فهي بدافع هواه والشيطان، والله لم يردها منه شرعا، وكل خير يفعله الإنسان فهو بتوفيق الله.

نعم قد يخذل الله العبد ويسلبه التوفيق معاقبة له على ظلم سابق منه، ولكن هذا الظالم المخذول نفسه ليس له أن يحتج بإرادة الله الكونية على الشرعية فهذا زندقة، وليس له أن يحتج بما هو فيه من خذلان أنه ليس بإرادته ولكن بإرادة الله، لكنه ليس إلا على سبيل المجازاة لما اقترف، كما قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، وقال: ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد. فحتى هذا المخذول مطالب بالتوبة والإنابة والعبادة، ولو فعلها = فقد أتى ما يحبه الله.

فالحق إن حال معصيته هو الذي يكرهه الله، ولأجله يعاقبه، لا حال طاعته، فلو تاب أفجر خلق الله وأكفرهم إلى الله وأطاعه = فقد أتى ما يحبه الله، وقد دخل فيمن يحبهم الله.
الإجادة في العلم ترجع إلى عاملين أساسيين بعد التوفيق الإلهي: جودة القريحة، والجد والتعب.
والأول أمر وهبي عمومًا، والثاني كسبي، وكلاهما محتاج إلى التوفيق الإلهي، ولكن التوفيق الإلهي المبدئي الأول المقصود به التوفيق الأخص في الإقبال على العلم وفي موارد العلم ليجيده طالبه.
وهناك عوامل أخرى كثيرة لتحقيق هذا المراد، لكنها ليست أساسية، منها الفراغ، أو الجِدة والغنى، ومنها التقوى فإنها تزيد في العلم وتسهله، وهي من التوفيق الإلهي أيضًا، ولكن قد تتخلف هذه العوامل عن الإجادة في العلم، وهو في الحالة الأخيرة - التقوى وحسن الخلق - يكون تسويلًا لا يفلح صاحبه.
أقول: هذان العاملان فرديان إلى حد كبير، ومن ثَمَّ يتحقق لصاحبهما من الإجادة في العلم بقطع النظر عن مشربه في العلم أو منهجه فيه، سلفيًّا أو أشعريًّا أو معتزليًّا أو شيعيًّا أو تنويريًّا أو غير ذلك. ومصاديق ذلك وأمثلته كثيرة جدا.
وإذا تبين هذا، فالمقصود أن مجرد كون المرء منتسبًا لمدرسة معينة، لا يستلزم أنه مجيد في العلم، أو غير مجيد في العلم. وكم رأينا معيبًا على غيره الضعف العلمي، ولكنه هو في نفسه ليس أقوى علميًّا، بل قد يكون ضعيفًا مثله، أو أقوى منه في علم أو مجال، لكنه ضعيف من حيث التحرير والتحقيق في العلم عمومًا.
وكثيرا ما ذكرت في مقالات وكتب، منها كتاب الدرس العقدي المعاصر، أن الضعف العلمي ظاهرة عامة في السلفية والأشعرية والشيعية، وغيرهم، وذكرت تطبيقات على ذلك، وأن حالات التميز العلمي عامتها فردية ترجع إلى العاملين اللذين ذكرتهما، لا لمجرد الانتساب العلمي إلى مدرسة، وأن الانتساب لمدرسة لها رموز كبار من العلماء والمحققين ليس كافيًا لأن يسري ذلك في المنتسبين بمجرد الانتساب، أو التقليد في النتائج، أو تبني البحوث، فالحال كما ترى أن عامة ذلك من باب مفاخرة الصلعاء بشعر أمها، أما عند البحث والتحقيق فزيد مثل عبيد.
فأنت ما بين منهج الكلشيهات - وقد ذكرته في ما بعد السلفية والدرس العقدي والتحيز وغيرها في الإشارة إلى منهج الشعاريات غير محققة المضمون -، أو منهج: اخطف واجر، الخاليين من التحقيق في العلم، القائمين على التقليد في الدليل أو التقليد في المدلول، أو عدم ذلك أصلًا.
والله يصلح الحال.
من أقبح ما يكون أن يلبس المتعصب كلامه بنوع من حسن العبارة وتخفيفها مع بقائه في إسار التعصب، وقوله بجميع أقواله، فهذا يجمع مع التعصب التلبيس، فهو إلى الغواية أقرب منه إلى السداد.
نعم التلطف حسن، وهو مطلوب مستحب في نفسه، ولكن تعرض له الاعتبارات، فهو مطلوب في أداء الحق، أما مع الباطل فهو يشينه ولا يزينه، كما قيل لحم خنزير في صحيفة من ذهب.
https://www.youtube.com/watch?v=Bjs5jTxqgeg

الدرس الخامس والثلاثون من شرح التدمرية:
الكلام في أنواع الضلال في القدر، والقول في الأسباب، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد
1- الأصل في اللباس أنه عرفي، فليس في الشرع - على الصحيح - ثوب هو مستحب في نفسه في كل حال، فالأصل أن اللباس مباح وأنه بحسب العرف، وإنما يخرج من هذه الإباحة أصالةً ما خصه الدليل، ثم تدور عليه الأحكام لما يعرض له من أحوال.
وهذا العرف المقصود به كما هو مقصود به في جميع الأبواب عند الفقهاء العرف الصحيح، الذي حدوه بأنه ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول، والذي هو لأصحاب الطباع السليمة، وقيدوا هذا بأهل الشرع الذين لهم دين يمنعهم.
هذا الحكم.

2-ثم الفتوى التي فيها تنزيل هذا الحكم على الواقع هي عمل الفقهاء المفتين، إذ عليهم أن يحققوا مناط ما يخرج من الأدلة الخاصة إلى التعليق بالعرف، ثم ما يلائم العرف مما لا يلائمه، فلابد لهم من علم صحيح بالشرع، وعلم صحيح بالواقع، مع الإخلاص والتجرد من الهوى.
ومن أهم ما يجب أن يحققه هذا المفتى ما يتعلق بالمناطات العرفية التي أحال عليها الشرع أحكام اللباس، مثل التشبه بالكفار، وفي معناه التشبه بالفساق، أو كونه من شعارهم كما يقول بعض الفقهاء، وكذا ضابط الشهرة، وضابط الخيلاء، وغير ذلك مما هو معروف في الباب.

3- وقصور العلم بالواقع، ثم الهوى، كلاهما يؤثر على هذا الباب، والهوى كما يكون إلى الإباحة والتحليل قد يكون إلى المنع والتحريم، وكلاهما حرام على المفتي، ومن ثم يقع في هذه الأبواب غلط كثير واشتباه وتناقض وإفراط وتفريط بين المفتين.

4- والذي يهمني في هذا كله باب آخر من أبواب غفلة بعض المفتين الذين يميلون بهواهم من حيث لا يشعرون إلى التساهل في هذا الباب، وذلك أن بعضهم يعمد إلى أحكام مفردة، يختار فيها الإباحة، أو يسوغ فيها الإباحة، أو يبيح فيها تقليد الإباحة، مثل: تطويل الشعر (والكلام على عروض أحوال في حكمه بحسب مواضع وأزمان وأحوال)، ولبس الإسورة للرجل، ولبس القلادة أو السلسلة، وربما أباح الوشم المؤقت، ثم كيفيات من اللباس لا يختارها أهل الدين ولا هي عامة في عموم الناس ذوي الطباع السليمة بل لا يلبسها إلا المراهقون أو الفجار قليلو الدين أو قليلو العناية بالدين أو في غير بلاد المسلمين، وقد يحكم أنها صارت عرفا عاما إما لقصور معرفته على جهات معينة أو لغلبة هواه حتى يكابر فيجحد الحس أنها ليست من اللباس العام إلا في أوساط معينة ليست من الملتفتين للشريعة، مثل المبالغة في اللباس الضيق والواسع واللباس المقطع والمرقع، فضلًا عن عدم تحقيق مناطات الخيلاء والعجب بالنفس بالمبالغة في التأنق من غير مناسبة خاصة وهو المخالف للوصية بالبذاذة - على معناها الصحيح - وترك الإرفاه، وهي مناطات لا يراعيها هذا الصنف من المفتين.

5- أقول:
فيكون الناتج من هذه الأحكام وجمعها والتلفيق بينها في الفتوى: صورة شوهاء يصبح صاحبها مَسخًا ومُسخة، كالمهرجين، ولا يمكن فقهيا قط أن يقول إن صورته هذه مما تبيحه الشريعة، ولاشك أن للهيئة الاجتماعية من الأثر والحكم ما ليس للأفراد الجزئية، وهذا في الجملة متفق عليه بين الفقهاء.

فيخرج من هذا أنه ليس بفتوى في الواقع، بل هوًى.

6- والعجب أن كثيرًا من هؤلاء المتذرعين بأن اللباس عرفي، كانوا من أكثر الناس مغايرة لعرف الناس في لباسهم، حتى كانوا يلتزمون القمص بل والغترة السعودية في بلاد لا تعرف هذا، وكان لباسهم حينها مناطًا محققا للشهرة والخيلاء، وكنا ساعتها نقول اللباس عرفي والأحسن أن يلبس الإنسان ما يوافق أهل بلده من ذوي الطباع السليمة، فلا منع ولا كراهة في لبس القميص المعاصر والبنطلون والجينز ونحوه ما لم يكن فيه شهرة أو خيلاء كبعض هيئاته، إلا لو كان من الأحوال والبيئات ما يسيغ له لباسا معينًا، ثم تجدهم ينتقلون من النقيض إلى النقيض، ومن خطأ إلى خطأ مثله أو أشد.

7- ولا تجد في هذه الفتاوى نظرا ولا حتى محاولة لتحقيق مناطات الخيلاء والعُجب والشهرة والتشبه، وكأنها نسبية نسبيةً مطلقة لا تحقق لها في الواقع، حتى يلقوا في يد المستفتي أن يفعل ما يهوى، ولم يكن هذا دأب الفقهاء على مر العصور، فقد بحثوا في مناطات الخيلاء والعجب والشهرة والتشبه، وتكلموا عن تطويل العذبة والأكمام وجر الثوب وتطويله وحتى في هيئات اللباس وتفصيلات الفرجيات ونحوها، وليس المقصود التضييق على الناس، ولكن المقصود أن هذا من تمام فقاهة الفقيه المفتي، وهو ما لا نجده في الفتاوى المشار إليها. وقصارى ما يكون عند هؤلاء ومن يسولون لأنفسهم هذا الاستدلال ببنيات الطريق وبما لا دليل فيه، كحديث الجمال أو أثر عن مالك في اللباس، أو من من العلماء كان يلبس لبسا حسنا، ولكن ليس في تلك الآثار الخيلاء ولا العجب ولا الشهرة ولا اللباس الذي ينكره أهل الدين الصحيح وأهل الطباع السليمة، وكثير من هذا كما ذكرت تسويل للنفس لا علاج له إلا المراقبة والصدق.

قال الحافظ الذهبي رحمه الله:
ومن مليح قول شهر بن حوشب: من ركب مشهورًا من الدواب، ولَبِسَ مشهورا من الثياب؛ أعرض اللهُ عنه، وإن كان كريمًا.
قلت [أي الذهبي]:
"من فعله ليعز الدين، ويرغم المنافقين، ويتواضع مع ذلك للمؤمنين، ويحمد رب العالمين؛ فحسنٌ.
ومن فعله بذخًا وتِيهًا وفخرًا؛ أذلّه الله وأعرض عنه.
فإن عوتب ووُعِظ؛ فكابر، وادعى أنه ليس بمختال ولا تيّاه؛ فأعْرِضْ عنه، فإنه أحمق مغرور بنفسه".

وقال نفسه تعليقا على أثر لابن عمر أبي فيه أن يلبس ثوبا فاخرا خشية الخيلاء والفخر رغم أنه ليس من حرير ولا ذهب:
"قلت: كل لباس أوجد في المرء خيلاء وفخرا، فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير، فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو من أثمان أربع مائة درهم ونحوها، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر، فإن نصحته ولمته برفق كابر، وقال: ما في خيلاء ولا فخر، وهذا السيد ابن عمر يخاف ذلك على نفسه.
وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية تحت كعبيه، قيل له:
قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء، فتراه يكابر، ويبرئ نفسه الحمقاء.."
ثم قال:
"وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس، وقد يعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة".

8- وينبغي أن يعلم أن اللباس له دلالة أكيدةٌ على الشخصية وطباعها، ولست أرتاب في أن أكثر من يلبسون ما يلفت سواء في رؤوسهم أو سائر جسدهم أنهم يدلون دلالة ظاهرة على نقص لديهم، وكأنهم يطلبون من الناس أن ينظروا إليهم ويقدروهم، ولو علموا ما في ذلك من نقيض قصدهم لتركوه.

وقد أجاد الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في الدلالة على هذا المعنى، حيث قال:
"كن حَذِرًا في لباسك، لأنه يعبِّر لغيرك عن تقويمك، في الانتماء، والتكوين، والذوق.
ولهذا قيل: الحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن.
والناس يصنفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف اللابس من:
الرصانة والتعقل.
أو التمشيخ والرهبنة.
أو التصابي وحب الظهور.
فخذ من اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالًا لقائل، ولا لمزًا للامز".
شهد هذا الجيل خلال أربعة عشر عامًا كثيرًا من الأحداث الكبيرة المتلاحقة، والتي يفترض أنها كوَّنت لديه نوعًا من الخبرة التي يجب أن تحلِّيه بالتواضع والتروي.
ولكن يبدو أنه كُتب على هذا الجيل - كالأجيال التي سبقته بالمناسبة، فيبدو أنه طبع إنساني - أن يكرر نفس أخطائه، وأتوقع أن الكَرَّة لو عادت الآنَ الآنَ بنفس المواقف التي حدثت خلال الأربعة عشر عامًا لاتخذ أغلب هذا الجيل الآن الخيارات نفسها التي ألقته في الهاوية - فضلًا عن الهاوية التي سقط فيها دون يدٍ له فيها كي نكون منصفين وواقعيين أيضًا -.
صدق الله: ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه.
2024/12/24 03:25:10
Back to Top
HTML Embed Code: