"إن كل قائد عام، يُعهد إليه بتنفيذ خطة يراها غير صالحة يُعد مجرماً. إن واجبه يقتضيه الإدلاء ببواعثه، والمطالبة بتغيير الخطة. وأخيراً يقدّم استقالته، حتى لا يكون أداة للقضاء على جنوده". (نابليون)
أود قبل أن أستطرد في بيان ما خفي من نشاط (الإخوان المسلمين) وأثرهم في الميدان، أن أشير إلى بعض التغيرات الجوهرية التي طرأت على جبهات القتال، بعد فرض الهدنة الأولى؛ ليكون القارئ على بينة من حقيقة الموقف.
لزم الجيش المصري مواقعه التي احتلها، وأخذت وحداته تنظم وسائل الدفاع عن نفسها وتستعد لاستئناف القتال، وعند نهاية الهدنة أخذ الجيش يهاجم مراكز اليهود بعنف وشدة ويضيق الخناق على المستعمرات الجنوبية حتى كادت تموت جوعاً وعطشاً، وأدركت القيادة اليهودية حقيقة الخطر الذي يحيط بهذه المستعمرات، فحاولت تموينها بالطائرات، ولم تنجح في هذه الخطة أيضاً إذ كان السلاح الجوي المصري في ذلك الحين لا يزال يسيطر على الجو.
وأذكر أنهم قاموا بمثل هذه المحاولات في المستعمرات التي يتولى جنود (الإخوان) حصارها، غير أن الإخوان أرغموها أكثر من مرة على إلقاء حمولتها بعيداً عن المستعمرات، تحت تأثير نيران المدافع الرشاشة التي كانت تسلط عليها من أبعاد قريبة، وعلى الفرار راجعةً إلى قواعدها. وكانت هذه الحركة مصدر غنائم جديدة للإخوان، ومصدر مضايقات مثيرة لليهود.
وفرضت الهدنة الثانية واستطاع اليهود خلالها أن يجلبوا أنواعاً جديدة من الأسلحة الثقيلة والطائرات الضخمة، وحين آنسوا في أنفسهم شيئاً من القوة والإعداد، ضربوا بالهدنة عرض الحائط وبدأوا عمليات حربية واسعة النطاق، فهاجموا "تقاطع الطرق" في 14 أكتوبر واحتلوها وبذلك تحطم الحاجز الذي يفصل الشمال عن الجنوب وانطلقت القوات اليهودية المدرعة تحمل الأسلحة والجنود، وانتفضت المستعمرات الهادئة الوادعة، ودبت معالم الحياة والنشاط في أوصالها، وقامت لتؤدي دورها المرسوم، فقطعت طرق المواصلات حين كان الضغط يشتد على خطوط الجيش الأمامية مما اضطر قيادة الجيش إلى تقصير خطوطه، والتخلي عن مناطق المجدل وأسدود والعودة إلى النظرية القديمة والتجمع في منطقة رفح – غزة تاركة خلفها قوة قوامها خمسة آلاف جندي في منطقة الفالوجا لم تستطع الإفلات واللحاق بالجيش المنسحب إلى غزة.
ولقد اعتبر إخلاء هذه المناطق فشلاً ذريعاً، منيت به قيادة الجيش المصري، ومما يزيد في ضخامة هذا الفشل أن يتم الانسحاب بسرعة وارتباك وقبل البت في مصير لواء الفالوجا .
ولا أمر على ذكر هذه الانسحابات دون أن أتعرض لحقيقة مؤلمة، ذلك أن هذه المناطق لم تتعرض لهجوم ذي بال وكان من الميسور البقاء فيها والمحافظة عليها -أو على الأقل- الانسحاب منها بنظام وهدوء، حتى تعمل الترتيبات اللازمة لإنقاذ قوات الفالوجا إذ كان كل ما فعله اليهود أن أمروا قوة صغيرة من جنودهم لا تزيد عن سرية فاحتلت قرية بيت حانون في 16 أكتوبر وبذلك قطعوا طريق المواصلات الرئيسي الذي يربط غزة ببقية المناطق، وكان الوضع الطبيعي أن يبادر الجيش فيهاجم هذه القوة الصغيرة ويؤمن طريق مواصلاته، وكان من السهولة عليه أن يفعل ذلك، بل أن خطة وضعت فعلاً لتطهيرها، وكان كاتب هذه السطور أحد شهودها، وكان مفروضاً أن تقوم قوات لتطهير هذه المنطقة، ولكن الأمر العجيب الذي لا أستطيع تعليله حتى هذه اللحظة أن تصدر الأوامر بالكف عن تنفيذ الخطة، وتصدر الأوامر في الوقت نفسه لحاميات المجدل وأسدود لتنسحب إلى غزة عن طريق الساحل، وبذلك تفقد السيطرة على منطقة من أهم مناطق فلسطين دون سبب ظاهر، بل دون أن نتعرض لهجوم جدي واحد!
ولقد حدثني بعض ضباط المخابرات أن اليهود كانوا ينظرون إلى تحركات الجيش المصري بعين الريبة والحذر. وكانوا يعتقدون أن قواته تتجمع لتضربهم الضربة القاتلة، ولم يكن يدور في خاطرهم مطلقاً أن هذه القوات تتحرك منسحبة للخلف دون سبب واضح، ولو علموا أنه يتحرك منسحباً لهاجموا قواته المختلة، وأحالوا انسحابه هزيمة منكرة، ولكانت مهزلة يتندر بها الناس لأجيال طويلة، ومأساة مروعة يتخذها التاريخ العسكري عنواناً للجهل وسوء التصرف.
والعجيب أن قوات الفالوجا ظلت في مواقعها لا تبدي حراكاً حتى أحاط بها العدو من كل جانب، وهنا تتعارض الأقوال في تعليل هذا الموقف، فبينما يقول البعض إن المواوي انسحب إلى غزة ولم يصدر تعليمات إلى لواء الفالوجا إلا متأخراً، بعد أن أطبقت الحلقة ووقعت هذه القوات في المصيدة، بينما يقول البعض هذا القول ويضع التبعة كلها على المواوي، يقول البعض الآخر إن التعليمات قد صدرت فعلاً لقائد الفالوجا الأميرالاي السيد طه لينسحب بقواته لا إلى غزة ولكن إلى بئر السبع حيث يرابط فيها ويحتل أجزاء من الطريق الذي يصلها بغزة، بينما تكون القوات الرئيسية قد أتمت انسحابها إلى غزة وامتدت جنوباً حتى تلتقي بقواته، وبذلك يفصل الشمال عن الجنوب مرة أخرى ويكون الانسحاب انسحاباً منظماً لخطة موضوعة كما قيل يومئذ، لا هروباً على غير خطة إلا حب السلامة والإبقاء على الحياة.
أود قبل أن أستطرد في بيان ما خفي من نشاط (الإخوان المسلمين) وأثرهم في الميدان، أن أشير إلى بعض التغيرات الجوهرية التي طرأت على جبهات القتال، بعد فرض الهدنة الأولى؛ ليكون القارئ على بينة من حقيقة الموقف.
لزم الجيش المصري مواقعه التي احتلها، وأخذت وحداته تنظم وسائل الدفاع عن نفسها وتستعد لاستئناف القتال، وعند نهاية الهدنة أخذ الجيش يهاجم مراكز اليهود بعنف وشدة ويضيق الخناق على المستعمرات الجنوبية حتى كادت تموت جوعاً وعطشاً، وأدركت القيادة اليهودية حقيقة الخطر الذي يحيط بهذه المستعمرات، فحاولت تموينها بالطائرات، ولم تنجح في هذه الخطة أيضاً إذ كان السلاح الجوي المصري في ذلك الحين لا يزال يسيطر على الجو.
وأذكر أنهم قاموا بمثل هذه المحاولات في المستعمرات التي يتولى جنود (الإخوان) حصارها، غير أن الإخوان أرغموها أكثر من مرة على إلقاء حمولتها بعيداً عن المستعمرات، تحت تأثير نيران المدافع الرشاشة التي كانت تسلط عليها من أبعاد قريبة، وعلى الفرار راجعةً إلى قواعدها. وكانت هذه الحركة مصدر غنائم جديدة للإخوان، ومصدر مضايقات مثيرة لليهود.
وفرضت الهدنة الثانية واستطاع اليهود خلالها أن يجلبوا أنواعاً جديدة من الأسلحة الثقيلة والطائرات الضخمة، وحين آنسوا في أنفسهم شيئاً من القوة والإعداد، ضربوا بالهدنة عرض الحائط وبدأوا عمليات حربية واسعة النطاق، فهاجموا "تقاطع الطرق" في 14 أكتوبر واحتلوها وبذلك تحطم الحاجز الذي يفصل الشمال عن الجنوب وانطلقت القوات اليهودية المدرعة تحمل الأسلحة والجنود، وانتفضت المستعمرات الهادئة الوادعة، ودبت معالم الحياة والنشاط في أوصالها، وقامت لتؤدي دورها المرسوم، فقطعت طرق المواصلات حين كان الضغط يشتد على خطوط الجيش الأمامية مما اضطر قيادة الجيش إلى تقصير خطوطه، والتخلي عن مناطق المجدل وأسدود والعودة إلى النظرية القديمة والتجمع في منطقة رفح – غزة تاركة خلفها قوة قوامها خمسة آلاف جندي في منطقة الفالوجا لم تستطع الإفلات واللحاق بالجيش المنسحب إلى غزة.
ولقد اعتبر إخلاء هذه المناطق فشلاً ذريعاً، منيت به قيادة الجيش المصري، ومما يزيد في ضخامة هذا الفشل أن يتم الانسحاب بسرعة وارتباك وقبل البت في مصير لواء الفالوجا .
ولا أمر على ذكر هذه الانسحابات دون أن أتعرض لحقيقة مؤلمة، ذلك أن هذه المناطق لم تتعرض لهجوم ذي بال وكان من الميسور البقاء فيها والمحافظة عليها -أو على الأقل- الانسحاب منها بنظام وهدوء، حتى تعمل الترتيبات اللازمة لإنقاذ قوات الفالوجا إذ كان كل ما فعله اليهود أن أمروا قوة صغيرة من جنودهم لا تزيد عن سرية فاحتلت قرية بيت حانون في 16 أكتوبر وبذلك قطعوا طريق المواصلات الرئيسي الذي يربط غزة ببقية المناطق، وكان الوضع الطبيعي أن يبادر الجيش فيهاجم هذه القوة الصغيرة ويؤمن طريق مواصلاته، وكان من السهولة عليه أن يفعل ذلك، بل أن خطة وضعت فعلاً لتطهيرها، وكان كاتب هذه السطور أحد شهودها، وكان مفروضاً أن تقوم قوات لتطهير هذه المنطقة، ولكن الأمر العجيب الذي لا أستطيع تعليله حتى هذه اللحظة أن تصدر الأوامر بالكف عن تنفيذ الخطة، وتصدر الأوامر في الوقت نفسه لحاميات المجدل وأسدود لتنسحب إلى غزة عن طريق الساحل، وبذلك تفقد السيطرة على منطقة من أهم مناطق فلسطين دون سبب ظاهر، بل دون أن نتعرض لهجوم جدي واحد!
ولقد حدثني بعض ضباط المخابرات أن اليهود كانوا ينظرون إلى تحركات الجيش المصري بعين الريبة والحذر. وكانوا يعتقدون أن قواته تتجمع لتضربهم الضربة القاتلة، ولم يكن يدور في خاطرهم مطلقاً أن هذه القوات تتحرك منسحبة للخلف دون سبب واضح، ولو علموا أنه يتحرك منسحباً لهاجموا قواته المختلة، وأحالوا انسحابه هزيمة منكرة، ولكانت مهزلة يتندر بها الناس لأجيال طويلة، ومأساة مروعة يتخذها التاريخ العسكري عنواناً للجهل وسوء التصرف.
والعجيب أن قوات الفالوجا ظلت في مواقعها لا تبدي حراكاً حتى أحاط بها العدو من كل جانب، وهنا تتعارض الأقوال في تعليل هذا الموقف، فبينما يقول البعض إن المواوي انسحب إلى غزة ولم يصدر تعليمات إلى لواء الفالوجا إلا متأخراً، بعد أن أطبقت الحلقة ووقعت هذه القوات في المصيدة، بينما يقول البعض هذا القول ويضع التبعة كلها على المواوي، يقول البعض الآخر إن التعليمات قد صدرت فعلاً لقائد الفالوجا الأميرالاي السيد طه لينسحب بقواته لا إلى غزة ولكن إلى بئر السبع حيث يرابط فيها ويحتل أجزاء من الطريق الذي يصلها بغزة، بينما تكون القوات الرئيسية قد أتمت انسحابها إلى غزة وامتدت جنوباً حتى تلتقي بقواته، وبذلك يفصل الشمال عن الجنوب مرة أخرى ويكون الانسحاب انسحاباً منظماً لخطة موضوعة كما قيل يومئذ، لا هروباً على غير خطة إلا حب السلامة والإبقاء على الحياة.
يقول البعض هذا ويقولون إن المهلة كانت كافية أمام السيد طه لينفذ هذه التعليمات، ويؤولون عدم تنفيذها بأسباب كثيرة لا تشرف أحد الرجلين. ولست أجد وسيلة تضع حداً لهذه الاتهامات وتقضي على هذه البلبلة الفكرية إلا أن يتكلم أحدهما ويحدد التهمة، أو أن تفتح وزارة الحربية فمها وترسل شعاعاً ضئيلاً على هذه الظلمات، أم تراها لا تريد الكلام ليظل الشعب جاهلاً بحقائق الأمور، وحتى لا يتعرض لرد الفعل السيء بعد شعوره بالهزيمة المنكرة التي مُني بها في حرب فلسطين؟
وليست التهمة مقصورة على بقاء قوة معطلة في قرية الفالوجا وقت أن كان الجيش في حاجة إلى جندي واحد، ولا لتعريض قرابة خمسة آلاف للإفناء والأسر. لكن التهمة أكبر من ذلك بكثير، لأن بقاء هذه القوات الكبيرة في الفالوجا ترتب عليه ضياع مدينة بئر السبع، وإعطاء اليهود فرصة التجمع في مستعمرات النقب، وما أعقب ذلك من انهيار القطاع الجنوبي عسلوج-العوجا، ثم اقتحام اليهود لحدود مصر الشرقية والزحف حتى مشارف مدينة العريش.
والتهمة كما ترى كبيرة جداً لو وقعت في أي جيش من جيوش الأرض لشكلت لها المحاكمات العسكرية، ولصدرت فيها العقوبات القاسية، أو على الأقل لتحددت المسؤوليات والتبعات، حتى يمكن استخلاص العبر والعظات. هذا في أي جيش، أما في جيشنا فإن هذه الأمور تعتبر تافهة صغيرة لا تستحق التفكير فيها فضلاً عن تشكيل المحاكمات من أجلها!
أما قوة الفالوجا فقد أحكم اليهود حولها الحصار، وأخذوا يوجهون لها الضربات القاسية من الجو والأرض، وظنوا أن الصيد الدسم قد وقع في أيديهم، وأن هذه القوات لا تلبث أن تستسلم، غير أن القوات الباسلة خيبت ظنهم ومضت تدافع عن مراكزها بعناد واستبسال، وإذا ذكرت هذه الفترة من الحرب فلا يسعني إلا أن أسجل فخراً للأميرلاي السيد طه قائد هذه القوة، إذ كان لروحه العالية وإيمانه القوي أبعد الأثر في ثبات جنوده ووقوفهم هذا الموقف الرائع، ومما يذكر أيضاً أن فرصاً كثيرة تهيأت له للإفلات والنجاة، ولكنه كان يركلها بقدمه لشعوره أن في قبولها مساساً بكرامة الجيش والأمة، وظل يكافح بجنوده كفاح الأبطال حتى منّ الله عليهم بالنجاة الكريمة بعد انتهاء الحرب وإعلان الهدنة، وغادروا أرض الفالوجا بأسلحتهم ومعداتهم في 11 مارس سنة 1948.
وهكذا أخليت أهم المناطق وحوصرت الفالوجا وعزلت قوات المتطوعين المصريين والإخوان المسلمين في "جبال الخليل" ووقعت القيادة المصرية في مأزق حرج لم تستطع معه السيطرة على الموقف ومواجهته بما يحتاجه من حكمة وحزم، ولم يضيع اليهود الفرص، فشددوا النكير على حامية مدينة "بئر السبع" -مفتاح فلسطين الشرقي وحاضرة النقب- وقذفوها بمئات الأطنان من القنابل من الجو دون أن تملك أي وسيلة لمقاومة هذه الغارات الوحشية، ثم هاجموها بشدة مما اضطرها للتسليم في 27 أكتوبر سنة 1948.
ولقد استنجدت هذه الحامية بقيادتها العامة، وتوسلت إليها أن ترسل إليها بعض الجنود والسلاح حتى يمكنها الثبات أمام هذه الهجمات المنكرة، ولكن القيادة العامة كانت في شغل شاغل في ذلك الحين، فهي تحاول تثبيت أقدامها في منطقة غزة وجمع قواتها المبعثرة بعد الانسحاب، والعدو الماكر يأبى إعطاءها فرصة للتفكير في أمرها بما يقوم به من هجمات وهمية على غزة، ومن غارات جبارة على مراكز الجيش بها ويزيد في إشغالها بالمناورات البحرية التي تقوم بها قِطع أسطوله وتحاول قَطع الطريق الساحلي الذي تسلكه القوات في انسحابها من المجدل.
وهكذا تُركت بئر السبع لتواجه مصيرها المحزن في أيدي حامية صغيرة من الجيش، ومجموعات مفككة من المتطوعين الليبيين والمناضلين العرب. وبسقوط بئر السبع أصبح لليهود السيطرة الفعلية على أجزاء النقب الشمالية، وأصبح في مقدورهم التنقل بحرية بين أرجائها المختلفة. في تلك اللحظات الحرجة كانت الفرصة سانحة أمام اليهود للهجوم على المناطق الجنوبية وإعادة مأساة الفالوجا في غزة ولم تكن هناك خطة منظمة للدفاع عن هذه المنطقة، إذ كان الجيش -كما ذكرت- مشغولاً في عمليات الانسحاب، ولم يكن في هذه المنطقة كلها حتى ذلك الحين غير عدة سرايا من الإخوان المسلمين، ووجد هؤلاء الإخوان أنفسهم أمام حقيقة واقعة هي عبء المحافظة على جيش مصر وحمايته من أي عدوان يحركه اليهود من هذه المنطقة، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بفداحة الكارثة التي كانت وشيكة الوقوع، لولا وجود هذه الفئة المؤمنة المجاهدة في ذلك الحين.
شعرنا بخطورة الموقف، فقدمت مشروعاً إلى القيادة العامة بينت فيه الأخطار الكبيرة التي يمكن أن تقع لو فكر اليهود في مهاجمة هذه المناطق وقطع خط الرجعة على الجيش، وطالبت في ختام التقرير بإطلاق يد الإخوان وإعطائهم العتاد اللازم والترخيص لهم لإحضار قوات أخرى من مصر، حتى يمكنهم تنفيذ ذلك المشروع.
وكان المشروع الجديد يقضي باحتلال مواقع حاكمة حول كل مستعمرة من المستعمرات الكبيرة ومحاصرتها، وعدم إعطائها أية فرصة للتكتل حتى يفرغ الجيش من تنظيم خطوطه الدفاعية.
وليست التهمة مقصورة على بقاء قوة معطلة في قرية الفالوجا وقت أن كان الجيش في حاجة إلى جندي واحد، ولا لتعريض قرابة خمسة آلاف للإفناء والأسر. لكن التهمة أكبر من ذلك بكثير، لأن بقاء هذه القوات الكبيرة في الفالوجا ترتب عليه ضياع مدينة بئر السبع، وإعطاء اليهود فرصة التجمع في مستعمرات النقب، وما أعقب ذلك من انهيار القطاع الجنوبي عسلوج-العوجا، ثم اقتحام اليهود لحدود مصر الشرقية والزحف حتى مشارف مدينة العريش.
والتهمة كما ترى كبيرة جداً لو وقعت في أي جيش من جيوش الأرض لشكلت لها المحاكمات العسكرية، ولصدرت فيها العقوبات القاسية، أو على الأقل لتحددت المسؤوليات والتبعات، حتى يمكن استخلاص العبر والعظات. هذا في أي جيش، أما في جيشنا فإن هذه الأمور تعتبر تافهة صغيرة لا تستحق التفكير فيها فضلاً عن تشكيل المحاكمات من أجلها!
أما قوة الفالوجا فقد أحكم اليهود حولها الحصار، وأخذوا يوجهون لها الضربات القاسية من الجو والأرض، وظنوا أن الصيد الدسم قد وقع في أيديهم، وأن هذه القوات لا تلبث أن تستسلم، غير أن القوات الباسلة خيبت ظنهم ومضت تدافع عن مراكزها بعناد واستبسال، وإذا ذكرت هذه الفترة من الحرب فلا يسعني إلا أن أسجل فخراً للأميرلاي السيد طه قائد هذه القوة، إذ كان لروحه العالية وإيمانه القوي أبعد الأثر في ثبات جنوده ووقوفهم هذا الموقف الرائع، ومما يذكر أيضاً أن فرصاً كثيرة تهيأت له للإفلات والنجاة، ولكنه كان يركلها بقدمه لشعوره أن في قبولها مساساً بكرامة الجيش والأمة، وظل يكافح بجنوده كفاح الأبطال حتى منّ الله عليهم بالنجاة الكريمة بعد انتهاء الحرب وإعلان الهدنة، وغادروا أرض الفالوجا بأسلحتهم ومعداتهم في 11 مارس سنة 1948.
وهكذا أخليت أهم المناطق وحوصرت الفالوجا وعزلت قوات المتطوعين المصريين والإخوان المسلمين في "جبال الخليل" ووقعت القيادة المصرية في مأزق حرج لم تستطع معه السيطرة على الموقف ومواجهته بما يحتاجه من حكمة وحزم، ولم يضيع اليهود الفرص، فشددوا النكير على حامية مدينة "بئر السبع" -مفتاح فلسطين الشرقي وحاضرة النقب- وقذفوها بمئات الأطنان من القنابل من الجو دون أن تملك أي وسيلة لمقاومة هذه الغارات الوحشية، ثم هاجموها بشدة مما اضطرها للتسليم في 27 أكتوبر سنة 1948.
ولقد استنجدت هذه الحامية بقيادتها العامة، وتوسلت إليها أن ترسل إليها بعض الجنود والسلاح حتى يمكنها الثبات أمام هذه الهجمات المنكرة، ولكن القيادة العامة كانت في شغل شاغل في ذلك الحين، فهي تحاول تثبيت أقدامها في منطقة غزة وجمع قواتها المبعثرة بعد الانسحاب، والعدو الماكر يأبى إعطاءها فرصة للتفكير في أمرها بما يقوم به من هجمات وهمية على غزة، ومن غارات جبارة على مراكز الجيش بها ويزيد في إشغالها بالمناورات البحرية التي تقوم بها قِطع أسطوله وتحاول قَطع الطريق الساحلي الذي تسلكه القوات في انسحابها من المجدل.
وهكذا تُركت بئر السبع لتواجه مصيرها المحزن في أيدي حامية صغيرة من الجيش، ومجموعات مفككة من المتطوعين الليبيين والمناضلين العرب. وبسقوط بئر السبع أصبح لليهود السيطرة الفعلية على أجزاء النقب الشمالية، وأصبح في مقدورهم التنقل بحرية بين أرجائها المختلفة. في تلك اللحظات الحرجة كانت الفرصة سانحة أمام اليهود للهجوم على المناطق الجنوبية وإعادة مأساة الفالوجا في غزة ولم تكن هناك خطة منظمة للدفاع عن هذه المنطقة، إذ كان الجيش -كما ذكرت- مشغولاً في عمليات الانسحاب، ولم يكن في هذه المنطقة كلها حتى ذلك الحين غير عدة سرايا من الإخوان المسلمين، ووجد هؤلاء الإخوان أنفسهم أمام حقيقة واقعة هي عبء المحافظة على جيش مصر وحمايته من أي عدوان يحركه اليهود من هذه المنطقة، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بفداحة الكارثة التي كانت وشيكة الوقوع، لولا وجود هذه الفئة المؤمنة المجاهدة في ذلك الحين.
شعرنا بخطورة الموقف، فقدمت مشروعاً إلى القيادة العامة بينت فيه الأخطار الكبيرة التي يمكن أن تقع لو فكر اليهود في مهاجمة هذه المناطق وقطع خط الرجعة على الجيش، وطالبت في ختام التقرير بإطلاق يد الإخوان وإعطائهم العتاد اللازم والترخيص لهم لإحضار قوات أخرى من مصر، حتى يمكنهم تنفيذ ذلك المشروع.
وكان المشروع الجديد يقضي باحتلال مواقع حاكمة حول كل مستعمرة من المستعمرات الكبيرة ومحاصرتها، وعدم إعطائها أية فرصة للتكتل حتى يفرغ الجيش من تنظيم خطوطه الدفاعية.
ولقد استدعتني القيادة العامة في غزة وناقشتني في تفاصيل الخطة، ثم أبدت موافقتها المطلقة على تنفيذها، وأذكر أن اللواء المواوي قد وعدني بكتابة خطاب إلى الأمانة العامة للجامعة العربية وإلى رئاسة أركان الحرب يطالب فيه تجنيد كتيبة من الإخوان عن طريق المركز العام والشعب وإرسالهم فوراً إلى الميدان ليتمكن من السيطرة على الموقف.
ولقد ذهبت من فوري إلى فضيلة الأستاذ محمد فرغلي رئيس الإخوان في فلسطين، وعضو مكتب الإرشاد العام، وأطلعته على تفاصيل الخطة. فسافر من فوره إلى مصر، ليعمل على تجهيز هذا العدد الكبير، وعمل الترتيبات اللازمة نحو ترحيلهم إلى الميدان.
وأذكر أن اللواء موسى لطفي -وكان يشرف على إدارة العمليات الحربية في الميدان- قابلني بعد ذلك وأبدى إعجابه الشديد بالمشروع، وأفهمني أن هذه الخطة لو نفذت بدقة وإحكام فسوف يكون لها الفضل الأول في حماية الجيش في هذه المرحلة الخطيرة، والاحتفاظ بهذه المنطقة الباقية من فلسطين، فوعدته خيراً ومضيت إلى المعسكرات لأعد العدة وأبدأ العمل.
جمعت الإخوان في ساحة التدريب بالمعسكر، وقلت لهم: إن الله قد فتح لهم باباً جديداً للجهاد، وإن الظروف قد ألقت على كواهلهم عبء المحافظة على الجيش وكرامته، وإنه لولا ثقتي في قوة إيمانهم ورغبتهم في الكفاح ما قبلت أداء هذه المهمة الشاقة التي أعلم فداحتها وخطرها .
ولن أستطيع أن أصور شعور الإخوان وهم يستمعون لهذه الأنباء، كانوا يقبلون في ابتهاج واضح وكأنهم يدعون لحفلة عرس أو نزهة خلوية، لا إلى ميدان القتال فيه من المشقة والخطر ما فيه!
ولقد خرج الإخوان المسؤولون في استكشاف حول المستعمرات وعاينوا المواقع التي رأوا احتلالها ثم عاد كل واحد منهم يعدّ "فصيلته" ليحتل بها مواقعه، وكانت مشكلة المشاكل إقناع أفراد من الإخوان بالتخلف عن فصائلهم والبقاء في المعسكر، ولست أنسى ما كان من أمر المجاهد الشاب (عبد الحميد بسيوني خطاب) نجل العالم الجليل الشيخ بسيوني خطاب، لقد كان هذا الشاب يبكي بكاء مراً حين أمره قائد فصيلته بالبقاء في المعسكر، وما زال يبكي ويبعث بالوساطات حتى أشفقت عليه، فسمحت له بالخروج. وخرج من المعسكر وهو أشد ما يكون فرحاً وابتهاجاً، ولقد أخلص النية للجهاد، فاجتباه ربه وأكرمه، واتخذه شهيداً في إحدى المعارك المشهورة، التي جاءت بعد ذلك.
وأقيمت المواقع الجديدة حول المستعمرات، ولم تكن سيارة يهودية تجرؤ على التنقل بين مستعمرة وأخرى، إذ أقام الإخوان "الكمائن" على الطريق، وملأوا الأرض بالألغام، وأخذت دورياتهم المصفحة تجوب الصحراء الواسعة وتصل في طوافها حتى مدينة بئر السبع نفسها .
ولكي أصور أهمية هذه الحركة وأثرها يمكن أن أقول إن خمس عشرة سيارة مصفحة ودبابة قد دمرت خلال أسبوع واحد من بدء العمل، عدا أنابيب المياه التي كانت تدمر كل يوم مما اضطر اليهود إلى ملاقاة الإخوان وجهاً لوجه، فنشبت معارك رهيبة سقط فيها بعض الإخوان ولكنها جاءت بأحسن النتائج وأبرك الثمرات.
ولقد ضج اليهود بالشكوى وأبلغوا مراقبي الهدنة احتجاجاتهم أكثر من مرة، وعلقت "محطة إسرائيل" على هذه الحركات وهددت باستئناف القتال ضد الجيش إن لم تكف عصابات الإخوان عن نشاطها في هذه المنطقة.
ولقد فكر بعض كبار الضباط في زيارة تلك المواقع البعيدة الواقعة حول وادي الشلالة وتل جمعة والرابية والشعوث وكان يرافقهم أحد الإخوان يدلهم على الطريق، فلما رأوا أنفسهم يتوغلون في الصحراء مبتعدين عن خطوط الجيش لأكثر من خمسة عشر كيلو متراً إلى الشرق، وهالهم أن رأوا المستعمرات اليهودية خلفهم، داخلهم شيء من الشك والريبة، ومال أحدهم على الجندي المرافق لهم يسأله: أتراك ضللت الطريق؟ فلما أخبره أنهم يسيرون في الطريق الصحيح، قال لهم إني أعتقد أنكم متفقون مع اليهود وإلا لما جرؤتم على التوغل في مناطقهم بهذه الصورة الجنونية! وضحك الأخ المرافق وضحك الضباط جميعاً، وحين رجعوا إلى معسكراتهم أخذوا يشيدون بما رأوا من بسالة الإخوان وشدة بأسهم.
ويجدر بي -قبل أن أنتهي من الكلام عن هذه العمليات الناجحة التي قام بها الإخوان والتي أفادت فائدة كبرى في سير الأمور- أن أذكر المعونة القيمة التي قدمتها لنا القبائل العربية من البدو خاصة عشائر الترابين والحناجرة والنصيرات والتياها والمعالقة، الذين وضعوا كل شبابهم تحت تصرف الإخوان وكل ما لديهم من سلاح وذخيرة وسيارات.
ولقد تمت عمليات الانسحاب وبدأ الجيش يستقر في المواقع الجديدة التي اختارها، وبضياع المناطق الجديدة السالفة الذكر وضحت نهاية الحرب وأصبح من اليسير التنبؤ بنتيجتها، ويمكن تلخيص ما أسلفناه فيما يلي:
أولاً: توغل الجيش المصري في فلسطين دون أن يضع خطة عملية لفض الجيوب اليهودية الخطرة، التي توزعت في صحراء النقب كان أساساً لكل ما حدث بعد ذلك من أخطاء.
ثانياً: قبول الهدنة الأولى والثانية أعطى لليهود فرصة نادرة لاستجلاب أحدث أنواع الطائرات والدبابات وغيرها، فوق أنه أثر تأثيراً عكسياً في روح جنودنا المعنوية.
ولقد ذهبت من فوري إلى فضيلة الأستاذ محمد فرغلي رئيس الإخوان في فلسطين، وعضو مكتب الإرشاد العام، وأطلعته على تفاصيل الخطة. فسافر من فوره إلى مصر، ليعمل على تجهيز هذا العدد الكبير، وعمل الترتيبات اللازمة نحو ترحيلهم إلى الميدان.
وأذكر أن اللواء موسى لطفي -وكان يشرف على إدارة العمليات الحربية في الميدان- قابلني بعد ذلك وأبدى إعجابه الشديد بالمشروع، وأفهمني أن هذه الخطة لو نفذت بدقة وإحكام فسوف يكون لها الفضل الأول في حماية الجيش في هذه المرحلة الخطيرة، والاحتفاظ بهذه المنطقة الباقية من فلسطين، فوعدته خيراً ومضيت إلى المعسكرات لأعد العدة وأبدأ العمل.
جمعت الإخوان في ساحة التدريب بالمعسكر، وقلت لهم: إن الله قد فتح لهم باباً جديداً للجهاد، وإن الظروف قد ألقت على كواهلهم عبء المحافظة على الجيش وكرامته، وإنه لولا ثقتي في قوة إيمانهم ورغبتهم في الكفاح ما قبلت أداء هذه المهمة الشاقة التي أعلم فداحتها وخطرها .
ولن أستطيع أن أصور شعور الإخوان وهم يستمعون لهذه الأنباء، كانوا يقبلون في ابتهاج واضح وكأنهم يدعون لحفلة عرس أو نزهة خلوية، لا إلى ميدان القتال فيه من المشقة والخطر ما فيه!
ولقد خرج الإخوان المسؤولون في استكشاف حول المستعمرات وعاينوا المواقع التي رأوا احتلالها ثم عاد كل واحد منهم يعدّ "فصيلته" ليحتل بها مواقعه، وكانت مشكلة المشاكل إقناع أفراد من الإخوان بالتخلف عن فصائلهم والبقاء في المعسكر، ولست أنسى ما كان من أمر المجاهد الشاب (عبد الحميد بسيوني خطاب) نجل العالم الجليل الشيخ بسيوني خطاب، لقد كان هذا الشاب يبكي بكاء مراً حين أمره قائد فصيلته بالبقاء في المعسكر، وما زال يبكي ويبعث بالوساطات حتى أشفقت عليه، فسمحت له بالخروج. وخرج من المعسكر وهو أشد ما يكون فرحاً وابتهاجاً، ولقد أخلص النية للجهاد، فاجتباه ربه وأكرمه، واتخذه شهيداً في إحدى المعارك المشهورة، التي جاءت بعد ذلك.
وأقيمت المواقع الجديدة حول المستعمرات، ولم تكن سيارة يهودية تجرؤ على التنقل بين مستعمرة وأخرى، إذ أقام الإخوان "الكمائن" على الطريق، وملأوا الأرض بالألغام، وأخذت دورياتهم المصفحة تجوب الصحراء الواسعة وتصل في طوافها حتى مدينة بئر السبع نفسها .
ولكي أصور أهمية هذه الحركة وأثرها يمكن أن أقول إن خمس عشرة سيارة مصفحة ودبابة قد دمرت خلال أسبوع واحد من بدء العمل، عدا أنابيب المياه التي كانت تدمر كل يوم مما اضطر اليهود إلى ملاقاة الإخوان وجهاً لوجه، فنشبت معارك رهيبة سقط فيها بعض الإخوان ولكنها جاءت بأحسن النتائج وأبرك الثمرات.
ولقد ضج اليهود بالشكوى وأبلغوا مراقبي الهدنة احتجاجاتهم أكثر من مرة، وعلقت "محطة إسرائيل" على هذه الحركات وهددت باستئناف القتال ضد الجيش إن لم تكف عصابات الإخوان عن نشاطها في هذه المنطقة.
ولقد فكر بعض كبار الضباط في زيارة تلك المواقع البعيدة الواقعة حول وادي الشلالة وتل جمعة والرابية والشعوث وكان يرافقهم أحد الإخوان يدلهم على الطريق، فلما رأوا أنفسهم يتوغلون في الصحراء مبتعدين عن خطوط الجيش لأكثر من خمسة عشر كيلو متراً إلى الشرق، وهالهم أن رأوا المستعمرات اليهودية خلفهم، داخلهم شيء من الشك والريبة، ومال أحدهم على الجندي المرافق لهم يسأله: أتراك ضللت الطريق؟ فلما أخبره أنهم يسيرون في الطريق الصحيح، قال لهم إني أعتقد أنكم متفقون مع اليهود وإلا لما جرؤتم على التوغل في مناطقهم بهذه الصورة الجنونية! وضحك الأخ المرافق وضحك الضباط جميعاً، وحين رجعوا إلى معسكراتهم أخذوا يشيدون بما رأوا من بسالة الإخوان وشدة بأسهم.
ويجدر بي -قبل أن أنتهي من الكلام عن هذه العمليات الناجحة التي قام بها الإخوان والتي أفادت فائدة كبرى في سير الأمور- أن أذكر المعونة القيمة التي قدمتها لنا القبائل العربية من البدو خاصة عشائر الترابين والحناجرة والنصيرات والتياها والمعالقة، الذين وضعوا كل شبابهم تحت تصرف الإخوان وكل ما لديهم من سلاح وذخيرة وسيارات.
ولقد تمت عمليات الانسحاب وبدأ الجيش يستقر في المواقع الجديدة التي اختارها، وبضياع المناطق الجديدة السالفة الذكر وضحت نهاية الحرب وأصبح من اليسير التنبؤ بنتيجتها، ويمكن تلخيص ما أسلفناه فيما يلي:
أولاً: توغل الجيش المصري في فلسطين دون أن يضع خطة عملية لفض الجيوب اليهودية الخطرة، التي توزعت في صحراء النقب كان أساساً لكل ما حدث بعد ذلك من أخطاء.
ثانياً: قبول الهدنة الأولى والثانية أعطى لليهود فرصة نادرة لاستجلاب أحدث أنواع الطائرات والدبابات وغيرها، فوق أنه أثر تأثيراً عكسياً في روح جنودنا المعنوية.
ثالثاً: كان الغرض الأصلي -كما أسلفنا- هو احتلال تل أبيب، ولقد رأينا كيف فشل الجيش في المحافظة على هذا الغرض، ثم تعددت أغراضه وأهدافه بعد ذلك حتى لم يعد له غرض معين يسعى له ويعمل على تحقيقه.
رابعاً: كان واضحاً ما عليه جنودنا من قصور وعجز في التدريب خاصة فيما يتعلق بالأعمال الليلية، ولو كانوا يحسنون هذا النوع من العمليات لهاجموا المستعمرات ليلاً واستفادوا من ميزة المفاجأة، ولما تعرضوا للخسائر الكثيرة من جراء الهجمات النهارية .
خامساً: لم يكن الجيش يملك دبابات ثقيلة تسهل له مهاجمة المستعمرات الحصينة، مما اضطره إلى العمل بالنظريات القديمة فيحاول دك التحصينات بمدفعية قبل الهجوم، غير أن قوة تحصينات اليهود وبراعتهم في طرق الإخفاء والتستر في باطن الأرض، كانت تجعل هذه الطريقة مضيعة للجهد ومضيعة للذخيرة على قلتها .
سادساً: لم تكن لدى جنودنا ما يمكن تسميته برغبة الاستكشاف أو معرفة الأرض واستخدامها، حين كان ذلك واضحاً كل الوضوح عند جنود الخصم، ويكفي أن نقول إنه كان يسلك طرقاً يصعب على أهل البلاد أنفسهم معرفتها !
سابعاً: التزام الجيش لخطة الدفاع بعد الهدنة الأولى حطم روح جنودنا المعنوية وأعطى اليهود سيطرة تامة على الموقف الحربي، والاشتغال بعد ذلك بالأعمال الهجومية، خاصة إذا علمنا أن قوات العدو الرئيسية البالماخ لم تكن تشغل نفسها إطلاقاً بالدفاع.
ثامناً: لم تكن الجيوش العربية تتصرف بموجب خطة مرسومة وقيادة موحدة، مما جعل اليهود يركزون هجماتهم على كل جيش على حدة، ولقد رأينا كيف ركزوا اهتمامهم في الجيش المصري أقوى جيوش العرب وأفضلها نظاماً وتسليحاً دون أن يخف زملاؤه لنجدته في الجبهات الأخرى .
تاسعاً: كان الواجب يقضي بالإفادة من القوى الشعبية الفلسطينية وتسخيرها للمجهود الحربي، وكان يمكن أن تشكل قوات كبيرة من الحرس الوطني ورجال العصابات، فتتولى الأولى الدفاع عن المدن والقرى، وتتولى الثانية مهمة إنهاك العدو وتوزيع قواته بينما تظل قوات الجيش حرة غير مرتبطة بالأوضاع الدفاعية إطلاقاً.
عاشراً: لم يكن هناك أي داع لبقاء "القوة الخفيفة" في جبال الخليل، حيث إن تلك الجهات كانت تدخل ضمن المنطقة الأردنية مما سبب كثيراً من المشاكل السياسية بيننا وبين القوات الأردنية، ولو بقيت هذه القوات في يد قيادة الجيش المصري لأمكن استغلالها كقوة ضاربة "احتياطية".
رابعاً: كان واضحاً ما عليه جنودنا من قصور وعجز في التدريب خاصة فيما يتعلق بالأعمال الليلية، ولو كانوا يحسنون هذا النوع من العمليات لهاجموا المستعمرات ليلاً واستفادوا من ميزة المفاجأة، ولما تعرضوا للخسائر الكثيرة من جراء الهجمات النهارية .
خامساً: لم يكن الجيش يملك دبابات ثقيلة تسهل له مهاجمة المستعمرات الحصينة، مما اضطره إلى العمل بالنظريات القديمة فيحاول دك التحصينات بمدفعية قبل الهجوم، غير أن قوة تحصينات اليهود وبراعتهم في طرق الإخفاء والتستر في باطن الأرض، كانت تجعل هذه الطريقة مضيعة للجهد ومضيعة للذخيرة على قلتها .
سادساً: لم تكن لدى جنودنا ما يمكن تسميته برغبة الاستكشاف أو معرفة الأرض واستخدامها، حين كان ذلك واضحاً كل الوضوح عند جنود الخصم، ويكفي أن نقول إنه كان يسلك طرقاً يصعب على أهل البلاد أنفسهم معرفتها !
سابعاً: التزام الجيش لخطة الدفاع بعد الهدنة الأولى حطم روح جنودنا المعنوية وأعطى اليهود سيطرة تامة على الموقف الحربي، والاشتغال بعد ذلك بالأعمال الهجومية، خاصة إذا علمنا أن قوات العدو الرئيسية البالماخ لم تكن تشغل نفسها إطلاقاً بالدفاع.
ثامناً: لم تكن الجيوش العربية تتصرف بموجب خطة مرسومة وقيادة موحدة، مما جعل اليهود يركزون هجماتهم على كل جيش على حدة، ولقد رأينا كيف ركزوا اهتمامهم في الجيش المصري أقوى جيوش العرب وأفضلها نظاماً وتسليحاً دون أن يخف زملاؤه لنجدته في الجبهات الأخرى .
تاسعاً: كان الواجب يقضي بالإفادة من القوى الشعبية الفلسطينية وتسخيرها للمجهود الحربي، وكان يمكن أن تشكل قوات كبيرة من الحرس الوطني ورجال العصابات، فتتولى الأولى الدفاع عن المدن والقرى، وتتولى الثانية مهمة إنهاك العدو وتوزيع قواته بينما تظل قوات الجيش حرة غير مرتبطة بالأوضاع الدفاعية إطلاقاً.
عاشراً: لم يكن هناك أي داع لبقاء "القوة الخفيفة" في جبال الخليل، حيث إن تلك الجهات كانت تدخل ضمن المنطقة الأردنية مما سبب كثيراً من المشاكل السياسية بيننا وبين القوات الأردنية، ولو بقيت هذه القوات في يد قيادة الجيش المصري لأمكن استغلالها كقوة ضاربة "احتياطية".
مقالات سفراء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في العدد الرابع والثلاثون من مجلة أنصار النبي ﷺ
1. بركة الشام: https://bit.ly/3XT0Fa8
بقلم: الشيخ جلال الدين بن عمر الحمصي – سفير الهيئة في لبنان
2. الهجرة من غزّة والمرابطة: https://bit.ly/4iVyBeo
بقلم: الشيخ حسن شبّاني – سفير الهيئة في كندا
3. نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية:https://bit.ly/4kOlcqu
بقلم: أ د. خير الدين خوجة - سفير الهيئة في البلقان
مع تمنياتنا بقراءة مفيدة.
لتحميل العدد (34) كاملاً من مجلة أنصار النبي ﷺ: https://bit.ly/3QE1W0L
1. بركة الشام: https://bit.ly/3XT0Fa8
بقلم: الشيخ جلال الدين بن عمر الحمصي – سفير الهيئة في لبنان
2. الهجرة من غزّة والمرابطة: https://bit.ly/4iVyBeo
بقلم: الشيخ حسن شبّاني – سفير الهيئة في كندا
3. نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية:https://bit.ly/4kOlcqu
بقلم: أ د. خير الدين خوجة - سفير الهيئة في البلقان
مع تمنياتنا بقراءة مفيدة.
لتحميل العدد (34) كاملاً من مجلة أنصار النبي ﷺ: https://bit.ly/3QE1W0L
يجد الإنسان بين يديه صورة للمثل الأعلى في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة، كي يجعل منها دستوراً يتمسك به ويسير عليه، ولذا جعله الله عز وجل قدوة للإنسانية كلها عندما قال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
من مقال: نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية 2
بقلم: أ.د خير الدين خوجة - سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في البلقان
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4kOlcqu
من مقال: نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية 2
بقلم: أ.د خير الدين خوجة - سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في البلقان
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4kOlcqu
يا أهل الشّام، الثبات ثمّ الثبات! الزموا أرضكم تكونوا من خيرة عباد الله واجتمعُوا لتدمير مخططات الأعداء وإفشالها، فالمحنة عظيمة والألم عميق، ولكن ما بعد شدّة الظلام إلا الفجر وإنّ غدا لناظره قريب.
من مقال: الهجرة الطّوعية من غزّة وخيارات المرابطة والثّبات
بقلم: الشيخ حسن شبّاني - سفير الهيئة العالمية لأنصار النبيّ ﷺ بكندا
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4iVyBeo
من مقال: الهجرة الطّوعية من غزّة وخيارات المرابطة والثّبات
بقلم: الشيخ حسن شبّاني - سفير الهيئة العالمية لأنصار النبيّ ﷺ بكندا
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4iVyBeo
نحن نتجه في دراسة سيرة أفضل خلق الله بغرض العمل والحركة والتطبيق والنشر، ودعوة غيرنا إلى الاغتراف من معين هذه السيرة النبوية العطرة المليئة بالدروس والعبر والعظات.
من مقال: نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية 2
بقلم: أ.د خير الدين خوجة - سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في البلقان
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4kOlcqu
من مقال: نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية 2
بقلم: أ.د خير الدين خوجة - سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في البلقان
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4kOlcqu
كانت اتصالات الملك عبد الله باليهود مستمرة، ويعلم بها أهل عمان وخاصة الذين يترددون على قصره. وقد كان جلالته يحضر اليهود إلى القصر عن طريق مطار عمان حيث تنزل بهم الطائرة وكأنها طائرة بريطانية فلا يجرؤ أحد على التعرض لها، ثم ينقل ركابها بسيارة من سيارات الخاصة الملكية إلى القصر الملكى.
وفي كثير من الحالات كان جلالة الملك يسافر بنفسه خفية إلى الحدود الأردنية الفلسطينية حيث يجتمع بأقطابهم في مشروع روتنبرج (مشروع لتوليد الكهرباء يقع على الحدود الأردنية الفلسطينية)، أو بإحدى المزارع القريبة من ذلك المكان. وسوف أذكر على سبيل المثال اجتماعاً واحداً من اجتماعات جلالته على الحدود، واجتماعاً واحداً من اجتماعات جلالته بهم في عمان، وقد استقيت المعلومات عن هذين الاجتماعين من: مدير الخاصة الملكية محمد الضباطي، ومن التشريفاتي عبد الغني الكرمي، وجلالته نفسه لم يُخفِ عن أحد ما جرى بينه وبين اليهود في هذين الاجتماعين .
اجتماع الملك بشرتوك في المشروع بجسر المجامع 12|4|1948
في أوائل نيسان -أبريل 1948 اتصل (أبو يوسف) مدير مشروع روتنبرج بصديقه (الضباطي) الذي كان يزور المشروع كثيراً نظراً لقربه من مزرعته ولصداقته مع يهود المشروع. وأخبره برغبة شرتوك في الاجتماع مع جلالة الملك في المشروع. فنقل الضباطي الرسالة لجلالته، فسر كثيراً وحدد موعد الاجتماع في 12|4|1948 وهو اليوم الذي انتقل فيه جلالته من الشونة إلى عمان.
وفي اليوم المحدد ادعى جلالة الملك أنه يرغب في زيارة مقام الصحابي الجليل أبي عبيدة عامر بن الجراح، وهو قريب من جسر المجامع، وتوجه جلالته وبرفقته قاضي القضاة محمد الشنقيطي ومحمد الضباطي وسيارة واحدة من الحرس الملكي. وحينما وصلوا للغور مروا بالفعل على مقام أبي عبيدة وتفقد جلالته الإصلاحات التي قامت بها دائرة الأوقاف. ثم نزل بعدها إلى مزرعة الضباطي لتناول طعام الغداء. ومن مزرعة الضباطي ضاع أثر جلالته وأخفى حرس المزرعة النبأ، إذ أن جلالته انتقل من بين الأشجار إلى المستعمرة التي بنيت للمشروع في أراض أردنية. وهناك كان شرتوك وأبو يوسف في استقبال جلالة الملك وكان وصوله وقت الغداء فجلسوا إلى المائدة.
وبعد تناول طعام الغداء اختلى جلالته بشرتوك وأبي يوسف وحضر الخلوة الشنقيطي. ولم تدُم الخلوة أكثر من ساعة ظلت الأبحاث التي دارت فيها سراً إلا ما كان يتفوه به جلالته بعد ذلك، بما عرف عنه من صراحة، وكان أهم ما اتفق عليه في ذلك الاجتماع هو قبول الطرفين لمشروع التقسيم والعمل على تنفيذه. وسوف نرى بالفعل كيف نفذ جلالة الملك وعده لشرتوك الذي خان الوعد ولم يرض بالتقسيم وما هو أكثر من التقسيم.
وقد عاد جلالته إلى عمان بعد ظهر ذلك اليوم واستقبل في عمان استقبالاً عظيماً بمناسبة عودته من مشتاه في الشونة إلى العاصمة!
جولدا مايرسون مع جلالته في عمان 11-12|5|1948
بلغت أزمة فلسطين أوج شدتها في أواسط مايس -مايو- وقبيل انتهاء الانتداب ببضعة أيام. وأراد اليهود أن يطمئنوا إلى محافظة الملك عبد الله على وعوده التي قطعها لهم بتأييد مشروع التقسيم وعدم اللجوء للقوة. فجرى الاتصال بواسطة الضباطي ومزرعته في جسر المجامع... وتبودلت الآراء والرغبات لعقد اجتماع بين اليهود وجلالته. واتفق الطرفان على أن يكون المكان عمان. وعلم جلالته أن القادم هذه المرة هي جولدا مايرسون إحدى الشخصيات البارزة في الوكالة اليهودية .
ولما كان موعد الاجتماع قد تقرر في ليلة 11-12|5|1948 فقد أرسل جلالة الملك محمد الضباطي بسيارة (بيك أب) من سيارات الضباطي التي يعتمد على قوتها وصلاحها. أرسله إلى الغور لينقل إلى عمان جولدا مايرسون التي تنتظر في المكان المعين بين الأشجار. وتحرك الضباطي من عمان إلى الغور ووصل إلى المزرعة في التاسعة ليلاً ووجد جولدا في الانتظار مرتدية الكوفية والعقال، فأركبها إلى جانبه وأركب رفيقها المترجم في قفص السيارة الخلفي، وعاد أدراجه دون أن يعلم بهم أحد إلا القلائل من حرس المزرعة المخلصين.
وعاد الضباطى إلى عمان بأقصى سرعته، فقطع المسافة بأقل من ساعتين وجولدا بجانبه لا تتكلم .
في قصر الضباطي
لم يذهب الضباطى إلى رغدان بل توجه إلى قصره الذي يقع على طريق المحطة -عمان. وقد كانت الأوامر قد صدرت بإعداد العشاء في قصر الضباطي حتى لا يطلع الكثيرون من موظفي رغدان على ذلك الاجتماع. وحينما دخل الضباطى إلى الغرفة المعدة للاجتماع، أنبأ جلالة الملك بأن الضيفة قد وصلت بخير، فسر جلالته وأشار بإدخالها، وهو الذي كان ينتظرها منذ اللحظة التي تحركت بها السيارة لإحضارها .
دخلت جولدا، فنهض جلالته وتصافحا ودعاها جلالته ومن معها إلى العشاء وقد قاربت الساعة الحادية عشرة، وعلى المائدة لم يدُر حديث هام ولم تأكل جولدا كثيراً لأنها كانت مضطربة وكأنها مقبلة على معركة .فلاحظ جلالته عليها ذلك وصار يلاطفها ويطمئنها، إلى أن انتهوا من تناول الطعام، وانتقلوا إلى غرفة الاجتماع .
عهد الملك لجولدا مايرسون
وفي كثير من الحالات كان جلالة الملك يسافر بنفسه خفية إلى الحدود الأردنية الفلسطينية حيث يجتمع بأقطابهم في مشروع روتنبرج (مشروع لتوليد الكهرباء يقع على الحدود الأردنية الفلسطينية)، أو بإحدى المزارع القريبة من ذلك المكان. وسوف أذكر على سبيل المثال اجتماعاً واحداً من اجتماعات جلالته على الحدود، واجتماعاً واحداً من اجتماعات جلالته بهم في عمان، وقد استقيت المعلومات عن هذين الاجتماعين من: مدير الخاصة الملكية محمد الضباطي، ومن التشريفاتي عبد الغني الكرمي، وجلالته نفسه لم يُخفِ عن أحد ما جرى بينه وبين اليهود في هذين الاجتماعين .
اجتماع الملك بشرتوك في المشروع بجسر المجامع 12|4|1948
في أوائل نيسان -أبريل 1948 اتصل (أبو يوسف) مدير مشروع روتنبرج بصديقه (الضباطي) الذي كان يزور المشروع كثيراً نظراً لقربه من مزرعته ولصداقته مع يهود المشروع. وأخبره برغبة شرتوك في الاجتماع مع جلالة الملك في المشروع. فنقل الضباطي الرسالة لجلالته، فسر كثيراً وحدد موعد الاجتماع في 12|4|1948 وهو اليوم الذي انتقل فيه جلالته من الشونة إلى عمان.
وفي اليوم المحدد ادعى جلالة الملك أنه يرغب في زيارة مقام الصحابي الجليل أبي عبيدة عامر بن الجراح، وهو قريب من جسر المجامع، وتوجه جلالته وبرفقته قاضي القضاة محمد الشنقيطي ومحمد الضباطي وسيارة واحدة من الحرس الملكي. وحينما وصلوا للغور مروا بالفعل على مقام أبي عبيدة وتفقد جلالته الإصلاحات التي قامت بها دائرة الأوقاف. ثم نزل بعدها إلى مزرعة الضباطي لتناول طعام الغداء. ومن مزرعة الضباطي ضاع أثر جلالته وأخفى حرس المزرعة النبأ، إذ أن جلالته انتقل من بين الأشجار إلى المستعمرة التي بنيت للمشروع في أراض أردنية. وهناك كان شرتوك وأبو يوسف في استقبال جلالة الملك وكان وصوله وقت الغداء فجلسوا إلى المائدة.
وبعد تناول طعام الغداء اختلى جلالته بشرتوك وأبي يوسف وحضر الخلوة الشنقيطي. ولم تدُم الخلوة أكثر من ساعة ظلت الأبحاث التي دارت فيها سراً إلا ما كان يتفوه به جلالته بعد ذلك، بما عرف عنه من صراحة، وكان أهم ما اتفق عليه في ذلك الاجتماع هو قبول الطرفين لمشروع التقسيم والعمل على تنفيذه. وسوف نرى بالفعل كيف نفذ جلالة الملك وعده لشرتوك الذي خان الوعد ولم يرض بالتقسيم وما هو أكثر من التقسيم.
وقد عاد جلالته إلى عمان بعد ظهر ذلك اليوم واستقبل في عمان استقبالاً عظيماً بمناسبة عودته من مشتاه في الشونة إلى العاصمة!
جولدا مايرسون مع جلالته في عمان 11-12|5|1948
بلغت أزمة فلسطين أوج شدتها في أواسط مايس -مايو- وقبيل انتهاء الانتداب ببضعة أيام. وأراد اليهود أن يطمئنوا إلى محافظة الملك عبد الله على وعوده التي قطعها لهم بتأييد مشروع التقسيم وعدم اللجوء للقوة. فجرى الاتصال بواسطة الضباطي ومزرعته في جسر المجامع... وتبودلت الآراء والرغبات لعقد اجتماع بين اليهود وجلالته. واتفق الطرفان على أن يكون المكان عمان. وعلم جلالته أن القادم هذه المرة هي جولدا مايرسون إحدى الشخصيات البارزة في الوكالة اليهودية .
ولما كان موعد الاجتماع قد تقرر في ليلة 11-12|5|1948 فقد أرسل جلالة الملك محمد الضباطي بسيارة (بيك أب) من سيارات الضباطي التي يعتمد على قوتها وصلاحها. أرسله إلى الغور لينقل إلى عمان جولدا مايرسون التي تنتظر في المكان المعين بين الأشجار. وتحرك الضباطي من عمان إلى الغور ووصل إلى المزرعة في التاسعة ليلاً ووجد جولدا في الانتظار مرتدية الكوفية والعقال، فأركبها إلى جانبه وأركب رفيقها المترجم في قفص السيارة الخلفي، وعاد أدراجه دون أن يعلم بهم أحد إلا القلائل من حرس المزرعة المخلصين.
وعاد الضباطى إلى عمان بأقصى سرعته، فقطع المسافة بأقل من ساعتين وجولدا بجانبه لا تتكلم .
في قصر الضباطي
لم يذهب الضباطى إلى رغدان بل توجه إلى قصره الذي يقع على طريق المحطة -عمان. وقد كانت الأوامر قد صدرت بإعداد العشاء في قصر الضباطي حتى لا يطلع الكثيرون من موظفي رغدان على ذلك الاجتماع. وحينما دخل الضباطى إلى الغرفة المعدة للاجتماع، أنبأ جلالة الملك بأن الضيفة قد وصلت بخير، فسر جلالته وأشار بإدخالها، وهو الذي كان ينتظرها منذ اللحظة التي تحركت بها السيارة لإحضارها .
دخلت جولدا، فنهض جلالته وتصافحا ودعاها جلالته ومن معها إلى العشاء وقد قاربت الساعة الحادية عشرة، وعلى المائدة لم يدُر حديث هام ولم تأكل جولدا كثيراً لأنها كانت مضطربة وكأنها مقبلة على معركة .فلاحظ جلالته عليها ذلك وصار يلاطفها ويطمئنها، إلى أن انتهوا من تناول الطعام، وانتقلوا إلى غرفة الاجتماع .
عهد الملك لجولدا مايرسون
وقع جدل طويل بين جلالته وجولدا مايرسون لأنها قدمت طلبات الوكالة اليهودية التي وجدها جلالة الملك ثقيلة ويصعب تنفيذها بالشكل الذي وردت به. وخلاصتها كما رواها من كان حاضراً الاجتماع كما يلى :
"أن يعلن جلالة الملك الصلح مع اليهود ولا يبعث بجيشه إلى فلسطين بالمرة.
أن يرسل جلالته والياً ليحكم القسم العربي من فلسطين بحسب قرار التقسيم.
ومقابل ذلك تقبل الوكالة اليهودية ضم القسم العربي من فلسطين إلى التاج الهاشمي".
وقد رفض جلالته تنفيذ الشرط الأول لأنه يظهر جلالته بمظهر الخارج على إجماع العرب والدول العربية التي صممت على إرسال جيوشها لإنقاذ فلسطين، إنما تعهد جلالته أن لا يحارب الجيشان الأردني والعراقي اليهود وأن يقف الجيشان في الحدود التي رسمها التقسيم ولا يتعدياها.
وبعد أخذ ورد، وتهديد من جولدا تارة ووعيد من جلالته تارة أخرى، قبلت جولدا رأي جلالة الملك وأخذت عليه عهداً بذلك .
وقد انتهى الاجتماع في الثالثة صباحاً وعاد الضباطي بجولدا ورفيقها إلى المزرعة، فوصلها نحو السادسة صباحاً. ولم تعد رحلة جولدا لعمان سراً فقد شرع جلالته يكشف النقاب عنها ويتندر بخشونة هذه المرأة اليهودية وجبروتها .
"أن يعلن جلالة الملك الصلح مع اليهود ولا يبعث بجيشه إلى فلسطين بالمرة.
أن يرسل جلالته والياً ليحكم القسم العربي من فلسطين بحسب قرار التقسيم.
ومقابل ذلك تقبل الوكالة اليهودية ضم القسم العربي من فلسطين إلى التاج الهاشمي".
وقد رفض جلالته تنفيذ الشرط الأول لأنه يظهر جلالته بمظهر الخارج على إجماع العرب والدول العربية التي صممت على إرسال جيوشها لإنقاذ فلسطين، إنما تعهد جلالته أن لا يحارب الجيشان الأردني والعراقي اليهود وأن يقف الجيشان في الحدود التي رسمها التقسيم ولا يتعدياها.
وبعد أخذ ورد، وتهديد من جولدا تارة ووعيد من جلالته تارة أخرى، قبلت جولدا رأي جلالة الملك وأخذت عليه عهداً بذلك .
وقد انتهى الاجتماع في الثالثة صباحاً وعاد الضباطي بجولدا ورفيقها إلى المزرعة، فوصلها نحو السادسة صباحاً. ولم تعد رحلة جولدا لعمان سراً فقد شرع جلالته يكشف النقاب عنها ويتندر بخشونة هذه المرأة اليهودية وجبروتها .
مقالات قسم #ائمة_الهدى في العدد الـ 34 من مجلة أنصار النبي ﷺ .. من تراث العلماء والدعاة والشهداء الراحلين
دور الشريف حسين في ضياع فلسطين - بقلم: صالح أبو يصير
كيف ضاعت فلسطين؟ - بقلم: كامل الشريف
الملك الأردني وتسليم فلسطين - بقلم: عبدالله التل
ليت الحكام والملوك سقطوا - بقلم: أحمد الشقيري
رحمهم الله جميعاً
لتحميل العدد (34) كاملاً من مجلة أنصار النبي ﷺ: https://bit.ly/3QE1W0L
نتمنى لكم قراءة نافعة وممتعة
دور الشريف حسين في ضياع فلسطين - بقلم: صالح أبو يصير
كيف ضاعت فلسطين؟ - بقلم: كامل الشريف
الملك الأردني وتسليم فلسطين - بقلم: عبدالله التل
ليت الحكام والملوك سقطوا - بقلم: أحمد الشقيري
رحمهم الله جميعاً
لتحميل العدد (34) كاملاً من مجلة أنصار النبي ﷺ: https://bit.ly/3QE1W0L
نتمنى لكم قراءة نافعة وممتعة
إن الثورة العربية أسهمت بقوة وعمق في انتصار الإنجليز وحلفائهم، لقد تحول الموقف في #سيناء بعد الثورة العربية، فإن قسماً من الجند المعدّ للهجوم على قناة السويس كان يتكون من متطوعة الحجاز والقبائل العربية
من مقال: دور الشريف حسين في ضياع #فلسطين
بقلم: صالح أبو يصير
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/41EE6Hz
من مقال: دور الشريف حسين في ضياع #فلسطين
بقلم: صالح أبو يصير
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/41EE6Hz
ولولا وجود جيش عربي وقف موقف العداء من الترك في جزيرة العرب في ساحة حربية طولها ألف كيلومتر، لما تم للجيش البريطاني إحراز ما أحرزه من النصر بهذه السرعة العظيمة.
من مقال: دور الشريف حسين في ضياع #فلسطين
بقلم: صالح أبو يصير
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/41EE6Hz
من مقال: دور الشريف حسين في ضياع #فلسطين
بقلم: صالح أبو يصير
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/41EE6Hz
قصر الملك حسين، 1 يونيو 1967
قال الملك حسين: لنعُد إلى الضفة الغربية..كيف وجدت الروح المعنوية لدى الشعب؟؟
قلت: لم أر أحداً من الشعب.. كل زياراتي كانت لمواقع الجيش.. غير أني واثق من الروح المعنوية لدى الشعب.. ولكن المشكلة أن الشعب لا مكان له في المعركة.. إنه أعزل.. إنه غير مدرب على السلاح.. وهذا ما كنا نطالب به على الدوام.
قال (وكأنه يريد أن ننصرف عن هذا الحديث): وهل من ملاحظات أخرى؟؟
قلت: لا توجد في الضفة الغربية استعدادات للدفاع المدني.
قال: ولكن الأوامر صدرت إلى قيادة الدفاع المدني باتخاذ الإجراءات اللازمة.. وإن كانت إمكاناتنا المالية قليلة.
قلت: الشعب هو الإمكانات المالية. الشعب مستعد لأن يحفر الخنادق ويبني المخابئ.. وأن يكدّس أكياس الرمل في الشوارع وأمام المنازل.. الشعب مستعد لأن يقوم بكل ذلك.. ولقد مررنا بالضفة الغربية كلها، فلم أجد خندقاً ولا كيس رمل واحداً أمام المنشآت العامة.. على حين أننا كنا نرى بأعيننا اليهود يعملون في حفر الخنادق.
قلت: وأعتقد أنه يجب توزيع الأسلحة على الأهلين حتى يشتركوا في الدفاع عن مدنهم وقراهم.
قال الملك: نخشى أن تحصل الفوضى.. توزيع السلاح على الأهالي موضوع صعب.
قلت: فليكن على رأس هذا العمل ضابط من الجيش الأردني في كل قرية وفي كل مدينة.. لقد استطعنا أن ننشئ في قطاع غزة في الأسبوع الماضي كتائب للمقاومة الشعبية تعدادها عشرون ألفاً، وهم يباشرون الآن حفر الخنادق وبناء الملاجئ وحماية الجسور وما إلى ذلك، فلِمَ لا نفعل ذلك في الضفة الغربية؟
قال: هذه كلها مسؤوليات الجيش، ونحن لا نريد أن يقع تضارب بين القوات المختلفة.
قلت: إذا كان الجيش يقوم بهذه المهمة، فلا مانع.. المهم أن تقوم بها جهة مسؤولة سواء كان الجيش أو غير الجيش.
قال: وهل أنت مطمئن للدفاع عن القدس؟ لقد رأيت كل شيء.
قلت: ما زلت عند رأيي.. القدس معرضة للسقوط في كل لحظة.. الأسوار وحدها هي التي تفصل إسرائيل عن القدس من الداخل.. يجب أن تتمركز القوات المسلحة في داخل المدينة، في البيوت، في الشوارع، على الأسطحة. على الأسوار.. إن بيت المقدس لا يحميها إلا حرب الشوارع. في كل حارة وزقاق، بل وراء كل حجر.
والتفت الملك حسين إلى الشريف ناصر وسأله: وما رأي أبي ناصر في الموضوع؟
وقال الشريف ناصر: عين خير.. يا سيدنا. عندك رجال مستعدون يموتون قبل أن تسقط القدس.. لقد أعددنا خطة عسكرية متكاملة للدفاع عن القدس.. الحرب الحديثة هذه الأيام تفرض أن يكون الدفاع عن القدس من الخارج لا من الداخل.
قلت: أنا لست عسكرياً.. ولكني أريد أن أسأل.. وما العمل إذا سقط الخارج، فما هو مصير الداخل؟
فقال الملك حسين: فليطمئن الأخ أحمد.. سأتولى بنفسي الدفاع عن القدس.. الله يعطيك العافية اليوم تعبت كثيراً.. خليك تستريح.. والقدس أمانة في أعناقنا، نفديها بأرواحنا.
فنهضنا في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وأنا أحسب أن كل اقتراحاتي متأخرة.. فلم تعد المعركة تنتظرنا لنستعد ولم تعد إسرائيل تنتظرنا لنستكمل استعداداتنا.. ولم أستطع أن أحبس نفسي عن كلمة أخيرة قلتها له على الطريقة العربية، بل على الطريقة العشائرية: مرة أخيرة أقولها لسيدنا.. القدس في رقبتك.. أنا ما زلت أعتقد أن إدخال جيش التحرير الفلسطيني إلى القدس هو أمر ضروري لحماية المدينة.. ولو أذنت لي أن أتصل تلفونياً في دمشق صباحاً، فإن كتائبنا في درعا مستعدة لأن تكون ظهراً في بيت المقدس.
فقال الملك حسين: عين خير.. القدس في رقبتي.. روح نام مطمئن.. والله لا تدخلها إسرائيل إلا على جثتي.
قلت: لقد سبق للسلطان عبد الحميد في زمن الدولة العثمانية أن قال لهرتزل مؤسس الحركة الصهيونية: إن الوطن القومي اليهودي لن يقوم إلا على جثتي.. ولقد قام الوطن القومي اليهودي.. وقامت إسرائيل.. والسلطان عبد الحميد تحت التراب.. وقد أكرمه الله أنه مات قبل أن يقوم الوطن القومي اليهودي.
القدس، 2 يونيو 1967
عدت إلى فندق أمباسادور القائم في حي الشيخ جراح، وهو على بضعة أمتار من خطوط الهدنة الإسرائيلية.. وجلست على الشرفة، كانت مدينة القدس أمامي بشطريها، القديم والجديد، وكلاهما عربي. عشت شبابي في المدينة... وها إني أرى القدس الجديدة تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويهود اليمن القذرون قد بنوا أكواخهم وراء الأسوار، وأولادهم يعبثون بالوحل، ويلعبون بالأوساخ.
وأزعجني خاطر رهيب.. كنت أرى القدس الجديدة تعج بالحركة والحياة.. ورأيت العمال اليهود يحفرون الخنادق أمام بيوتهم وحول أحيائهم، ويكدسون أكياس الرمل في الميادين والساحات وفوق أسطح المباني.. أما المدينة القديمة، فقد كانت راقدة راكدة بين أسوارها، لا مخبأ ولا ملجأ.. ولا حفنة من الرمال أمام هذا المستشفى، أو ذلك المخيم.. وكأنما أصبحت القدس القديمة، البلدة اليتيمة، تحت رحمة الجارة اللئيمة.
القدس، 5 يونيو 1967
قال الملك حسين: لنعُد إلى الضفة الغربية..كيف وجدت الروح المعنوية لدى الشعب؟؟
قلت: لم أر أحداً من الشعب.. كل زياراتي كانت لمواقع الجيش.. غير أني واثق من الروح المعنوية لدى الشعب.. ولكن المشكلة أن الشعب لا مكان له في المعركة.. إنه أعزل.. إنه غير مدرب على السلاح.. وهذا ما كنا نطالب به على الدوام.
قال (وكأنه يريد أن ننصرف عن هذا الحديث): وهل من ملاحظات أخرى؟؟
قلت: لا توجد في الضفة الغربية استعدادات للدفاع المدني.
قال: ولكن الأوامر صدرت إلى قيادة الدفاع المدني باتخاذ الإجراءات اللازمة.. وإن كانت إمكاناتنا المالية قليلة.
قلت: الشعب هو الإمكانات المالية. الشعب مستعد لأن يحفر الخنادق ويبني المخابئ.. وأن يكدّس أكياس الرمل في الشوارع وأمام المنازل.. الشعب مستعد لأن يقوم بكل ذلك.. ولقد مررنا بالضفة الغربية كلها، فلم أجد خندقاً ولا كيس رمل واحداً أمام المنشآت العامة.. على حين أننا كنا نرى بأعيننا اليهود يعملون في حفر الخنادق.
قلت: وأعتقد أنه يجب توزيع الأسلحة على الأهلين حتى يشتركوا في الدفاع عن مدنهم وقراهم.
قال الملك: نخشى أن تحصل الفوضى.. توزيع السلاح على الأهالي موضوع صعب.
قلت: فليكن على رأس هذا العمل ضابط من الجيش الأردني في كل قرية وفي كل مدينة.. لقد استطعنا أن ننشئ في قطاع غزة في الأسبوع الماضي كتائب للمقاومة الشعبية تعدادها عشرون ألفاً، وهم يباشرون الآن حفر الخنادق وبناء الملاجئ وحماية الجسور وما إلى ذلك، فلِمَ لا نفعل ذلك في الضفة الغربية؟
قال: هذه كلها مسؤوليات الجيش، ونحن لا نريد أن يقع تضارب بين القوات المختلفة.
قلت: إذا كان الجيش يقوم بهذه المهمة، فلا مانع.. المهم أن تقوم بها جهة مسؤولة سواء كان الجيش أو غير الجيش.
قال: وهل أنت مطمئن للدفاع عن القدس؟ لقد رأيت كل شيء.
قلت: ما زلت عند رأيي.. القدس معرضة للسقوط في كل لحظة.. الأسوار وحدها هي التي تفصل إسرائيل عن القدس من الداخل.. يجب أن تتمركز القوات المسلحة في داخل المدينة، في البيوت، في الشوارع، على الأسطحة. على الأسوار.. إن بيت المقدس لا يحميها إلا حرب الشوارع. في كل حارة وزقاق، بل وراء كل حجر.
والتفت الملك حسين إلى الشريف ناصر وسأله: وما رأي أبي ناصر في الموضوع؟
وقال الشريف ناصر: عين خير.. يا سيدنا. عندك رجال مستعدون يموتون قبل أن تسقط القدس.. لقد أعددنا خطة عسكرية متكاملة للدفاع عن القدس.. الحرب الحديثة هذه الأيام تفرض أن يكون الدفاع عن القدس من الخارج لا من الداخل.
قلت: أنا لست عسكرياً.. ولكني أريد أن أسأل.. وما العمل إذا سقط الخارج، فما هو مصير الداخل؟
فقال الملك حسين: فليطمئن الأخ أحمد.. سأتولى بنفسي الدفاع عن القدس.. الله يعطيك العافية اليوم تعبت كثيراً.. خليك تستريح.. والقدس أمانة في أعناقنا، نفديها بأرواحنا.
فنهضنا في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وأنا أحسب أن كل اقتراحاتي متأخرة.. فلم تعد المعركة تنتظرنا لنستعد ولم تعد إسرائيل تنتظرنا لنستكمل استعداداتنا.. ولم أستطع أن أحبس نفسي عن كلمة أخيرة قلتها له على الطريقة العربية، بل على الطريقة العشائرية: مرة أخيرة أقولها لسيدنا.. القدس في رقبتك.. أنا ما زلت أعتقد أن إدخال جيش التحرير الفلسطيني إلى القدس هو أمر ضروري لحماية المدينة.. ولو أذنت لي أن أتصل تلفونياً في دمشق صباحاً، فإن كتائبنا في درعا مستعدة لأن تكون ظهراً في بيت المقدس.
فقال الملك حسين: عين خير.. القدس في رقبتي.. روح نام مطمئن.. والله لا تدخلها إسرائيل إلا على جثتي.
قلت: لقد سبق للسلطان عبد الحميد في زمن الدولة العثمانية أن قال لهرتزل مؤسس الحركة الصهيونية: إن الوطن القومي اليهودي لن يقوم إلا على جثتي.. ولقد قام الوطن القومي اليهودي.. وقامت إسرائيل.. والسلطان عبد الحميد تحت التراب.. وقد أكرمه الله أنه مات قبل أن يقوم الوطن القومي اليهودي.
القدس، 2 يونيو 1967
عدت إلى فندق أمباسادور القائم في حي الشيخ جراح، وهو على بضعة أمتار من خطوط الهدنة الإسرائيلية.. وجلست على الشرفة، كانت مدينة القدس أمامي بشطريها، القديم والجديد، وكلاهما عربي. عشت شبابي في المدينة... وها إني أرى القدس الجديدة تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويهود اليمن القذرون قد بنوا أكواخهم وراء الأسوار، وأولادهم يعبثون بالوحل، ويلعبون بالأوساخ.
وأزعجني خاطر رهيب.. كنت أرى القدس الجديدة تعج بالحركة والحياة.. ورأيت العمال اليهود يحفرون الخنادق أمام بيوتهم وحول أحيائهم، ويكدسون أكياس الرمل في الميادين والساحات وفوق أسطح المباني.. أما المدينة القديمة، فقد كانت راقدة راكدة بين أسوارها، لا مخبأ ولا ملجأ.. ولا حفنة من الرمال أمام هذا المستشفى، أو ذلك المخيم.. وكأنما أصبحت القدس القديمة، البلدة اليتيمة، تحت رحمة الجارة اللئيمة.
القدس، 5 يونيو 1967
من غير ما سبب أعرفه طال وقوفي في الشرفة ذلك الصباح على غير عادتي.. لعله الإحساس بالكارثة قبل وقوعها... وقفت طويلاً أُجيل الطرف في مدينة القدس، حياً حياً، شارعاً شارعاً، ومنزلاً منزلاً.. ورحت أتذكر..
وبين كل هذه المشاهد وقفت أمام المسجد الأقصى، أتأمل جلاله وقدسيته، وأتذوق سناءه وبهاءه، واستذكر تاريخه، ورحت أرسل إليه النظرات عميقة واجدة، مولهاً مدنفاً. وداومت النظر إلى بيت المقدس كلها أتأملها، أحدّق فيها... تماماً كما يفعل الوالد يوم يودّع ولده وهو في طريقه إلى ميدان المعركة...
ونفضت نفسي من هذه الرؤى، وعدت إلى غرفتي وأعددت نفسي للسفر إلى عمّان، فأنا على موعد مع الفريق طاهر يحيى رئيس وزراء العراق لتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع الملك حسين. وخرجت من الفندق إلى سيارتي.. وكان كل شيء عادياً... ركبت السيارة، وأنا أقول للسائق: إلى عمّان... إلى السفارة العراقية.
وسارت بنا السيارة في ذلك الطريق الأفعواني منحدرة إلى أغوار نهر الأردن والبحر الميت... وانطلق المذيع يعلن: لقد بدأت القوات الإسرائيلية بالهجوم على مصر.. تصدّت القوات المصرية للعدو.. بدأت إسرائيل عدوانها في الساعة التاسعة من صباح اليوم بغارات جوية على القاهرة وجميع أنحاء الجمهورية العربية المتحدة، وتصدت طائراتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات.... ثم راح المذيع يناشد إخوة الحرب في الأردن وسوريا أن يزحفوا على إسرائيل ويدمروا الصهيونية.
وبعد فترة من الأناشيد الحماسية استأنف المذيع صائحاً: إن الجيش العربي الموحد يزحف الآن من دمشق وبغداد وعمّان إلى مكان الالتقاء في تل أبيب.... المذيع في القاهرة يواصل صيحاته، فترة بعد فترة:
أسقطنا 23 طائرة إسرائيلية حتى الآن في الغارات التي شنتها إسرائيل علينا صباح هذا اليوم.. ارتفع عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها حتى الآن إلى 42 طائرة.. إجمالي الطائرات التي أسقطت للعدو حتى الآن 44 طائرة إسرائيلية.. تم استجواب أول أسير من طياري العدو، الكابتن مردخاي.. أسرت قواتنا سبعة طيارين آخرين للعدو في منطقة القنال.. أصبح عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها سبعين طائرة.. اضطر العدو إلى أن ينسحب من خان يونس بعد قتال عنيف، وبعد أن تصدت له القوات الفلسطينية والأهالي الفلسطينيون داخل المدينة، وقد دمرت للعدو أعداد كبيرة من دباباته قبل انسحابه.
عمّان، غرفة العمليات العسكرية، 5 يونيو 1967
قلت للفريق رياض: هل من كلمة موجزة عن الموقف العسكري، فقد غادرت القدس صباح هذا اليوم والناس في شؤونهم في الشوارع كباقي الأيام المعتادة والقطاع الإسرائيلي في القدس الجديدة كان هادئاً.. فما الذي جرى؟
قال: ملخص البرقيات التي وردتنا من القاهرة أن الطيران الإسرائيلي قام بغارات متوالية على مطارات الجمهورية العربية المتحدة والمعركة محتدمة، وقد أبرق إلي المشير عبد الحكيم عامر صباحاً يقول إن طيراننا قد أعطب 75 بالمئة من الطيران الإسرائيلي، وأن سلاحنا الجوي قد دمر عدداً من المطارات الإسرائيلية، وأن جيشنا في طريقه إلى النقب.. وتقديري أن إسرائيل بهذه المفاجأة تستهدف ضرب السلاح الجوي المصري وتفتيت الجيش المصري بحيث يمكن إخراج مصر من المعركة.
قلت: والجبهة السورية، والقوات العراقية؟
قال: الجبهة السورية فيها مناوشات وتبادل إطلاق النار، وتقوم بعض أسراب سلاح الجو السوري بقصف مواقع العدو، ولكن القوات السورية الآلية لم تتدخل بعد بمعركة شاملة مع العدو.. وقد طلبت صباح اليوم من الطيران السوري إسناد الجبهة الأردنية، غير أن إخواننا في دمشق أجابوا بأنهم فوجئوا بالمعركة، وطلبوا إمهالهم بعض الوقت، واتصلت بدمشق مرة ثانية، فطلب الإخوة مهلة ثانية، وبعد ذلك طلبت منهم أن يرسلوا قوات مدرعة لإسناد قطاع جنين، ولكنهم اعتذروا بأنهم لا يملكون غطاء جوياً كافياً.
وتابع الفريق رياض كلامه قائلاً: أما القوات العراقية، فقد بدأت تصل صباح هذا اليوم وهي في طريقها إلى الجبهة الأمامية... الصعوبة التي نواجهها أن القوات الأردنية تقاتل ببسالة وشجاعة، ولكن من غير غطاء جوي كاف.. ولعلنا نستطيع غداً أو بعد غد إقحام الطيران المصري والسوري في المعركة.. فالطيران العراقي والأردني غير قادرين على حماية الجبهة الأردنية وحدهما.
قلت: والقوات السعودية المرابطة على الحدود الأردنية السعودية، ألا يمكن استخدامها؟
قال: القوات السعودية بعيدة عن ميدان المعركة.. وهي غير مهيأة للقتال، فإن أسلحتها خفيفة ومتوسطة.. وفضلاً عن ذلك، فقد ذكر لي قائد القوات السعودية أنه لا يستطيع أن يتحرك إلا بأمر من جلالة الملك فيصل!
وانصرف عبد المنعم رياض والضباط إلى الخارطة المعلقة على الجدران، يدرسون ويتباحثون، والملك حسين، وأنا نستمع ونراقب، كل منا في كرسيه.
وبين كل هذه المشاهد وقفت أمام المسجد الأقصى، أتأمل جلاله وقدسيته، وأتذوق سناءه وبهاءه، واستذكر تاريخه، ورحت أرسل إليه النظرات عميقة واجدة، مولهاً مدنفاً. وداومت النظر إلى بيت المقدس كلها أتأملها، أحدّق فيها... تماماً كما يفعل الوالد يوم يودّع ولده وهو في طريقه إلى ميدان المعركة...
ونفضت نفسي من هذه الرؤى، وعدت إلى غرفتي وأعددت نفسي للسفر إلى عمّان، فأنا على موعد مع الفريق طاهر يحيى رئيس وزراء العراق لتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع الملك حسين. وخرجت من الفندق إلى سيارتي.. وكان كل شيء عادياً... ركبت السيارة، وأنا أقول للسائق: إلى عمّان... إلى السفارة العراقية.
وسارت بنا السيارة في ذلك الطريق الأفعواني منحدرة إلى أغوار نهر الأردن والبحر الميت... وانطلق المذيع يعلن: لقد بدأت القوات الإسرائيلية بالهجوم على مصر.. تصدّت القوات المصرية للعدو.. بدأت إسرائيل عدوانها في الساعة التاسعة من صباح اليوم بغارات جوية على القاهرة وجميع أنحاء الجمهورية العربية المتحدة، وتصدت طائراتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات.... ثم راح المذيع يناشد إخوة الحرب في الأردن وسوريا أن يزحفوا على إسرائيل ويدمروا الصهيونية.
وبعد فترة من الأناشيد الحماسية استأنف المذيع صائحاً: إن الجيش العربي الموحد يزحف الآن من دمشق وبغداد وعمّان إلى مكان الالتقاء في تل أبيب.... المذيع في القاهرة يواصل صيحاته، فترة بعد فترة:
أسقطنا 23 طائرة إسرائيلية حتى الآن في الغارات التي شنتها إسرائيل علينا صباح هذا اليوم.. ارتفع عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها حتى الآن إلى 42 طائرة.. إجمالي الطائرات التي أسقطت للعدو حتى الآن 44 طائرة إسرائيلية.. تم استجواب أول أسير من طياري العدو، الكابتن مردخاي.. أسرت قواتنا سبعة طيارين آخرين للعدو في منطقة القنال.. أصبح عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها سبعين طائرة.. اضطر العدو إلى أن ينسحب من خان يونس بعد قتال عنيف، وبعد أن تصدت له القوات الفلسطينية والأهالي الفلسطينيون داخل المدينة، وقد دمرت للعدو أعداد كبيرة من دباباته قبل انسحابه.
عمّان، غرفة العمليات العسكرية، 5 يونيو 1967
قلت للفريق رياض: هل من كلمة موجزة عن الموقف العسكري، فقد غادرت القدس صباح هذا اليوم والناس في شؤونهم في الشوارع كباقي الأيام المعتادة والقطاع الإسرائيلي في القدس الجديدة كان هادئاً.. فما الذي جرى؟
قال: ملخص البرقيات التي وردتنا من القاهرة أن الطيران الإسرائيلي قام بغارات متوالية على مطارات الجمهورية العربية المتحدة والمعركة محتدمة، وقد أبرق إلي المشير عبد الحكيم عامر صباحاً يقول إن طيراننا قد أعطب 75 بالمئة من الطيران الإسرائيلي، وأن سلاحنا الجوي قد دمر عدداً من المطارات الإسرائيلية، وأن جيشنا في طريقه إلى النقب.. وتقديري أن إسرائيل بهذه المفاجأة تستهدف ضرب السلاح الجوي المصري وتفتيت الجيش المصري بحيث يمكن إخراج مصر من المعركة.
قلت: والجبهة السورية، والقوات العراقية؟
قال: الجبهة السورية فيها مناوشات وتبادل إطلاق النار، وتقوم بعض أسراب سلاح الجو السوري بقصف مواقع العدو، ولكن القوات السورية الآلية لم تتدخل بعد بمعركة شاملة مع العدو.. وقد طلبت صباح اليوم من الطيران السوري إسناد الجبهة الأردنية، غير أن إخواننا في دمشق أجابوا بأنهم فوجئوا بالمعركة، وطلبوا إمهالهم بعض الوقت، واتصلت بدمشق مرة ثانية، فطلب الإخوة مهلة ثانية، وبعد ذلك طلبت منهم أن يرسلوا قوات مدرعة لإسناد قطاع جنين، ولكنهم اعتذروا بأنهم لا يملكون غطاء جوياً كافياً.
وتابع الفريق رياض كلامه قائلاً: أما القوات العراقية، فقد بدأت تصل صباح هذا اليوم وهي في طريقها إلى الجبهة الأمامية... الصعوبة التي نواجهها أن القوات الأردنية تقاتل ببسالة وشجاعة، ولكن من غير غطاء جوي كاف.. ولعلنا نستطيع غداً أو بعد غد إقحام الطيران المصري والسوري في المعركة.. فالطيران العراقي والأردني غير قادرين على حماية الجبهة الأردنية وحدهما.
قلت: والقوات السعودية المرابطة على الحدود الأردنية السعودية، ألا يمكن استخدامها؟
قال: القوات السعودية بعيدة عن ميدان المعركة.. وهي غير مهيأة للقتال، فإن أسلحتها خفيفة ومتوسطة.. وفضلاً عن ذلك، فقد ذكر لي قائد القوات السعودية أنه لا يستطيع أن يتحرك إلا بأمر من جلالة الملك فيصل!
وانصرف عبد المنعم رياض والضباط إلى الخارطة المعلقة على الجدران، يدرسون ويتباحثون، والملك حسين، وأنا نستمع ونراقب، كل منا في كرسيه.
قال الفريق رياض: لقد أصدرنا الأوامر باحتلال جبل المكبر (سكوبس)، فهذا مركز استراتيجي مهم دفاعاً وهجوماً.. دفاعاً عن القدس القديمة، وهجوماً على القوات الإسرائيلية في القدس الجديدة. وما هي إلا لحظة حتى دق جرس التلفون، وصاح الشريف ناصر وهو يمسك بيده التلفون ليردّد النبأ من القيادة الأمامية: احتلت قواتنا جبل المكبر بعد معركة حامية بالسلاح الأبيض، وقد دمرنا دبابات العدو، وتكبد العدو خسائر فادحة...
وانصرف الفريق رياض إلى الخريطة هو والضباط الأردنيون، وساد القاعة جو من الفرح والحماسة، وكدنا نكبّر، كما كبر المسلمون الأوائل على هذا الجبل الأشم، قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان. وأصدر الفريق رياض باسم القيادة العربية المشتركة بلاغاً أن القوات العربية المشتركة استولت على جبل المكبّر، وأن العدو قد فرّ من جنوبي القدس بعد أن تكبد خسائر فادحة في الأرواح والسلاح.
ثم بدأت البرقيات تتوالى على غرفة العمليات من المراكز الأمامية. القتال يدور على كل الجبهات، نحن نكبد العدو خسائر فادحة على رغم تفوقه العددي.. مدفعيتنا تقصف تجمعات العدو ومعسكراته.. نيران هائلة شبّت في منطقة المستعمرات الخمس نتيجة لضرب مدفعيتنا. قواتنا الأرضية أسقطت طائرة للعدو في منطقة الخليل.. مدفعيتنا أسقطت طائرة إسرائيلية من نوع ميراج فوق المفرق، وطائرة أخرى فوق غور الصافي.. وطائرة أخرى فوق منطقة السموع... فتح أحد الضباط الراديو على الإذاعة الأردنية، فإذا بالمذيع الأردني يعلن بأعلى صوته: إن مجموع ما حطمه جنودنا البواسل خمسون طائرة مقاتلة...
قلت للملك حسين: الزيادة في خسائر العدو، والنقصان في خسائرنا، هما من ضرورات الحرب.. هذا لا شك فيه.. ولكن لو تفضلتم جلالتكم بإصدار الأمر بعدم المبالغة في الزيادة والنقصان ما أظن أن المواطن العربي تجوز عليه هذه المبالغات.
فقال: هذه ملاحظة مفيدة يا أخ أحمد.. ليتك تنصح إذاعة القاهرة كذلك. إن أحمد سعيد قد أسقط في إذاعة صوت العرب ما لا يقل عن مائتي طائرة إسرائيلية حتى الآن.
دخل علينا في هذه البرهة وصفي التل رئيس الديوان الملكي، وهو بملابسه العسكرية، والغليون في فمه، وفي وجهه أمارات الشماتة والحقد. وما إن طاف على الضباط مسلّماً حتى كان هدير الطائرات الإسرائيلية يمزق سماء عمّان، وبدأ القصف كأنه على موقع القيادة الأردنية، وعلى غرفة العمليات بالذات، ثم بدأت تتوالى الأسراب الإسرائيلية تقصف وتدمر... ودق جرس التلفون وأمسك به الشريف ناصر، وراح يردد: قصف العدو مطار عمان، ودمر كل طائراتنا على أرض المطار واستشهد مازن العجلوني وهو يحاول الطلوع بطائرته. ودق جرس التلفون مرة ثانية وأمسك به اللواء عامر خماش وردّد: قصف العدو مطار المفرق ودمر منشآت المطار وعدداً من طائراتنا...
وضرب وصفي التل يداً على يد وهو يقول: لقد فقدنا جميع طائراتنا. سلاحنا الجوي الذي بناه سيدنا كل عمره قد ضاع في دقائق. والتفتَ إليَّ وصفي التل كما لو أني تقمصت جمال عبد الناصر جسداً وروحاً، وقال بصوت مملوء بالشماتة والسخرية: وأين سلاح الجو المصري، وأين الميغ 17 و 70؟ ثم التفت إلى الفريق عبد المنعم رياض وقال: كان الاتفاق أن تقوموا بغارات جوية على إسرائيل في أول ساعات القتال.. أين صواريخكم الظافر والناصر والقاهر؟! وراح التل يرغي ويزبد وهو يشير بغليونه إلى الخارطة المثبتة في الجدار...
واصلت الإذاعة السورية تلخيص البلاغات العسكرية التي صدرت طيلة النهار، وكان آخر بلاغ عسكري يقول: بلغ عدد الطائرات التي أسقطها سلاح الطيران السوري للعدو أربعاً وخمسين طائرة. ثم نقل المذيع السوري مقابلة مع الطيار الإسرائيلي الذي أسقطت طائرته على الأراضي السورية، الملازم ابراهام زيلاك...
أفزعني آخر بلاغ أردني (الساعة 11,00 ليلا) وهو يعلن: أن العدو قام بهجوم واسع النطاق على المناطق الشمالية لمدينة القدس، وحاول يائساً احتلال مناطق الشيخ جراح والطور وشعفاط.. وأن قواتنا اشتبكت مع قوات العدو في المناطق الواقعة جنوب القدس وما زالت المعارك مستمرة في شمال القدس وجنوبها. لقد فزعت حقاً.. فإذا كان العدو قد أصبح يقاتل في حي الشيخ جراح، وهو من أحياء القدس.. وأن المعارك محتدمة في جنوب القدس، فمعنى ذلك أن إسرائيل في طريقها إلى القدس من الشمال والجنوب، ومعنى ذلك سقوط القدس غداً أو بعد غد...
أعلنت الإذاعة الإسرائيلية عند منتصف الليل: أن القوات الإسرائيلية استولت على مدينة جنين وعلى قرية النبي صموئيل قرب القدس. وصاح الذعر في نفسي: هل سقطت جنين؟ هل سقطت قرية النبي صموئيل؟ إذن أصبحت القدس تواجه خطر السقوط!
وانصرف الفريق رياض إلى الخريطة هو والضباط الأردنيون، وساد القاعة جو من الفرح والحماسة، وكدنا نكبّر، كما كبر المسلمون الأوائل على هذا الجبل الأشم، قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان. وأصدر الفريق رياض باسم القيادة العربية المشتركة بلاغاً أن القوات العربية المشتركة استولت على جبل المكبّر، وأن العدو قد فرّ من جنوبي القدس بعد أن تكبد خسائر فادحة في الأرواح والسلاح.
ثم بدأت البرقيات تتوالى على غرفة العمليات من المراكز الأمامية. القتال يدور على كل الجبهات، نحن نكبد العدو خسائر فادحة على رغم تفوقه العددي.. مدفعيتنا تقصف تجمعات العدو ومعسكراته.. نيران هائلة شبّت في منطقة المستعمرات الخمس نتيجة لضرب مدفعيتنا. قواتنا الأرضية أسقطت طائرة للعدو في منطقة الخليل.. مدفعيتنا أسقطت طائرة إسرائيلية من نوع ميراج فوق المفرق، وطائرة أخرى فوق غور الصافي.. وطائرة أخرى فوق منطقة السموع... فتح أحد الضباط الراديو على الإذاعة الأردنية، فإذا بالمذيع الأردني يعلن بأعلى صوته: إن مجموع ما حطمه جنودنا البواسل خمسون طائرة مقاتلة...
قلت للملك حسين: الزيادة في خسائر العدو، والنقصان في خسائرنا، هما من ضرورات الحرب.. هذا لا شك فيه.. ولكن لو تفضلتم جلالتكم بإصدار الأمر بعدم المبالغة في الزيادة والنقصان ما أظن أن المواطن العربي تجوز عليه هذه المبالغات.
فقال: هذه ملاحظة مفيدة يا أخ أحمد.. ليتك تنصح إذاعة القاهرة كذلك. إن أحمد سعيد قد أسقط في إذاعة صوت العرب ما لا يقل عن مائتي طائرة إسرائيلية حتى الآن.
دخل علينا في هذه البرهة وصفي التل رئيس الديوان الملكي، وهو بملابسه العسكرية، والغليون في فمه، وفي وجهه أمارات الشماتة والحقد. وما إن طاف على الضباط مسلّماً حتى كان هدير الطائرات الإسرائيلية يمزق سماء عمّان، وبدأ القصف كأنه على موقع القيادة الأردنية، وعلى غرفة العمليات بالذات، ثم بدأت تتوالى الأسراب الإسرائيلية تقصف وتدمر... ودق جرس التلفون وأمسك به الشريف ناصر، وراح يردد: قصف العدو مطار عمان، ودمر كل طائراتنا على أرض المطار واستشهد مازن العجلوني وهو يحاول الطلوع بطائرته. ودق جرس التلفون مرة ثانية وأمسك به اللواء عامر خماش وردّد: قصف العدو مطار المفرق ودمر منشآت المطار وعدداً من طائراتنا...
وضرب وصفي التل يداً على يد وهو يقول: لقد فقدنا جميع طائراتنا. سلاحنا الجوي الذي بناه سيدنا كل عمره قد ضاع في دقائق. والتفتَ إليَّ وصفي التل كما لو أني تقمصت جمال عبد الناصر جسداً وروحاً، وقال بصوت مملوء بالشماتة والسخرية: وأين سلاح الجو المصري، وأين الميغ 17 و 70؟ ثم التفت إلى الفريق عبد المنعم رياض وقال: كان الاتفاق أن تقوموا بغارات جوية على إسرائيل في أول ساعات القتال.. أين صواريخكم الظافر والناصر والقاهر؟! وراح التل يرغي ويزبد وهو يشير بغليونه إلى الخارطة المثبتة في الجدار...
واصلت الإذاعة السورية تلخيص البلاغات العسكرية التي صدرت طيلة النهار، وكان آخر بلاغ عسكري يقول: بلغ عدد الطائرات التي أسقطها سلاح الطيران السوري للعدو أربعاً وخمسين طائرة. ثم نقل المذيع السوري مقابلة مع الطيار الإسرائيلي الذي أسقطت طائرته على الأراضي السورية، الملازم ابراهام زيلاك...
أفزعني آخر بلاغ أردني (الساعة 11,00 ليلا) وهو يعلن: أن العدو قام بهجوم واسع النطاق على المناطق الشمالية لمدينة القدس، وحاول يائساً احتلال مناطق الشيخ جراح والطور وشعفاط.. وأن قواتنا اشتبكت مع قوات العدو في المناطق الواقعة جنوب القدس وما زالت المعارك مستمرة في شمال القدس وجنوبها. لقد فزعت حقاً.. فإذا كان العدو قد أصبح يقاتل في حي الشيخ جراح، وهو من أحياء القدس.. وأن المعارك محتدمة في جنوب القدس، فمعنى ذلك أن إسرائيل في طريقها إلى القدس من الشمال والجنوب، ومعنى ذلك سقوط القدس غداً أو بعد غد...
أعلنت الإذاعة الإسرائيلية عند منتصف الليل: أن القوات الإسرائيلية استولت على مدينة جنين وعلى قرية النبي صموئيل قرب القدس. وصاح الذعر في نفسي: هل سقطت جنين؟ هل سقطت قرية النبي صموئيل؟ إذن أصبحت القدس تواجه خطر السقوط!