Telegram Web
-
أهمّ ما يحفظ به العبد نفسه من الوقوع في وحل الذنوب والمَعاصي؛ أن يتجنّب الاسترسال مع الخواطر المؤدّية إليها ابتداءً، فإنّ منشأ الذنوب -غالبًا- منشأها خطرات النّفس والفكر، والاسترسال معها حتى أصبحت لها حركة في النّفس وصولة وجولة أنشأت عزمًا آخر من عزائم الشيطان، قال تعالى: ﴿لا تتّبعوا خطوات الشيطانِ ومن يتّبع خُطواتِ الشّيطان فإنّه يأمُرُ بالفحشاءِ والمُنكر﴾، وأصل الوقوع في الذنوب والمَعاصي؛ تبدأ من صغار الشّرر، فيهوّنها الشيطان بخطرة يُلقيها في ساحة نفسه، ويُحسّنها بفكرة يعكف عليها المَرء عكوف الجاهليّة على الأصنام، ثمّ حركة تقوده للصّغائر، ثم الوقوع في الكبائر، ولو تأمّل العبد في منشأ الذنوب؛ لعلم أنّها تبدأ من حيث لا يفقه سيرها في نفسه ولا يتبصّر دبيبها وهي تسري إليه!

ومن النّماذج القُرآنية في توضيح مسَالك الشيطان وما يُلقيه في ساحة النّفس؛ نموذج آدم عليه السّلام حين عصى ربَّه -من حيث لا يُدرك سبيل الشيطان عليه- وكان منشأ هذا الذنب استرسالٌ مع الخطرة، والفكرة، ثمّ حركة زيّنت له أُكُل الشجرة التي نُهيَ عنها، ﴿ فوَسوس إليه الشّيطان قال يا آدم هل أدُلُّك على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يَبلى﴾، فحديث عدوّ آدم وعدوّنا مليئ بالأمانيّ، وقد دخل عليه من منفذ الخطرة ابتداءً، وكذلك العبد لو يعلم ما يترتّب على هذا الاسترسال من تهوين نظر الله واطلاعه، حتى تُصبح خطراته عزائم، فصغائر فكبائر، لعلِم أنّ للشيطان عليه منافذ تتخطّفه من كلّ حدة، فتارة يأتيه من جهة حِلم الله وعفوه، وتارة يأتيه من جهة الجوارح، فيهوّن عليه النّظر الحرام، ويهوّن عليه سماع الآثام، ويُهوّن عنده فضول الكلام، حتى تُصبح آثام اللسان عنده أكثر من آثام الجوارح، ومعلومٌ أنّ فضول الكلام يقود للزلل، وكثرة التوسّع في المُباح؛ سبيلٌ للتجاوز، وهذا معلومٌ عند من عرَفه وجرّبه!

فإن قُلت ما السّبيل لإدراك هذه المَسالك؛ فإنّه لا سبيل لحفظ القلب والجوارح من مَسالك الشيطان إلا بالعلم؛ فإنّ الاشتغال بالعلم النّافع يوسّع المَدارك، ويفتح آفاق الفكر، ويتّسع بذلك بصر القلب اتّساعًا يعظم فيه أثر مُشاهدة أحواله مع الذنوب والمعاصي، ويُبصر منشأها في ساحة نفسه، والعلم يُنجّي صاحبه من كلّ سوءَة تعتلج قلبَه، ويُحقّق بعلمه تزكيةٌ لنفسه، وعلوٌ لشأنها، وارتفاعها عن سفاسف الأمور، ارتفاعًا يتجاوز به خطوط الأرض، ليرى عدوّه كيف يُبارزه في وحل الرداءَة، ليُرديه إلى دركات أهل الشقاء، ويُبصر بارتفاعه كلّ حركة كانت تجول في نفسه، وكلّ خطرة كان منشأها من الشيطان، إذ أنّ للقلب علوٌّ وبصرٌ وبصيرة يُبصر بهما مواضع إقدامه وتأخيره، ويُبصر بهما حاله مع عدوّه، ومدى تمكّنه من الولوج إليه من أبوابٍ كثيرة!

وحتى يُحقّق العبد صيانةً لعمل قلبه وجوارحه من عبث الشيطان؛ فليَصُن خواطره ابتداءً أشدّ صيانة، فإنّها الباب الذي من خلاله يكون الفَتح والخرَاب، وليتأمَّل في مَواطن القُرآن التي أخبر بها تعالى بعلمه واطلاعه لما تُخفيه النُّفوس، وإنّها وإن بدَت للعالمين حُكمها كحُكم الغيب، فإنّها عند الله حُكمها شَهادة، وصيانة الخواطر تبدأ بشهُود علم الله واطلاعه، فإنّ العبد إذا راعى هذا المَقام؛ وأعطاه حقّ التأمُّل؛ استحى من ربّه أن يطّلع على هيئة في باطنه لا تُوقّره في عينه ولا تُرضيه.. ﴿واعلموا أنّ الله يعلمُ ما في أنفُسِكُم فاحذروه واعلموآ أنّ الله غفورٌ حَليم﴾!
Forwarded from مبادرة صِلـة
قيام الليل يوجب نعيم الجنة مما لم يطّلع عليه العباد في الدنيا، في الصحيح عن النبي -ﷺ- قال:

«قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثم قرأ النبي ﷺ: ﴿تَتَجافى جُنوبُهُم عَنِ المَضاجِع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾»

قال ابن القيّم -رحمه الله-:
تأمّل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقوموا إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة.


• رهبان الليل 📖 | (٢١/٢)
للظلم مَراتب؛ أعظمها ظلم النّفس بمواقعة الذنوب، لذلك جاء في الدعاء النّبوي؛ (ربّ إنّي ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفرلي)، وظُلم النّفس يدخل فيه ظلمها بالمَعصية، فإنّ النّفس تصغر همّتها، وتسقط من عين صاحبها وعين ربّها، كما أنّ الطاعة لها شأنٌ عُلوي، فهي تُكبّر النّفس وتُعلي شأنها، وما بين ظُلم النفس باقترافها المَهالك وعزّتها؛ إلا صبر ساعة!

والصّبر عن الوقوع في المَعصية صبرٌ يقود صاحبه لمراتب عالية، وقد يصبر المَرء في مواطن ويضعف في موَاطن أُخرى، وطبيعة ابن آدم أنّه خُلق ضعيفا، وخُلق ظلوما، ومن ضعفه؛ أنّ النّظرة تؤثر بعمل قلبه، ومن ضعفه؛ عدم اكتمال صبره في كلِّ موطن من مواطن سيره إلى ربّه، فهو يصبر في حال، ويضعف في حالات عدّة، ومن ظُلمه لنفسه؛ اتّباعه مسَالك الشيطان، ولكن من كان قلبه حيّا؛ لا يلبث على حاله، بل يلوذ بين يدي ربّه في جموع أيّامه، يهتف مُناجيًا: ربّ إنّي ظلمت نفسي ظُلمًا كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفرلي!
حين تكلّم القُرآن عن دقائق النّفاق؛ ذكر تعالى في سورة التوبة عدّة أوصافٌ ودلائل لعلاماتها الظاهرة والباطنة، منها قوله تعالى: ﴿الذين يلمِزونَ المُطَّوِّعينَ من المؤمنينَ في الصَّدقاتِ والّذين لا يجدونَ إلّا جُهدَهُم فيسخرونَ مِنهم﴾.

من تلك الأوصاف المُشار إليها في هذه الآية: استنقاص المُبادرات التطوّعية الخيريّة، بتقليل نتاج عمل صاحبها، وتقليل ثمرته العائدة على المُجتمع، أو إلباسه لباس الرياء بابتغائه هذا العمل، واتّهام باطنه بما ليس فيه، وهذا يدخل فيه كلّ عمل ديني ودنيوي يقوم به صاحبه، وقد أخذ منه جهده ووقته، وسخّر له كلّ ما يملك من إمكانيّات، ويدخل فيه اللمز خفية، كأن يتّهم عمله أنّه في سبيل ابتغاء السُّمعة، وكلّ هذه دسائس وحِيل من دسائس النِّفاق الخفيّة، وسورة التوبة حين كشفت عن أحوال المُنافقين؛ لم تكتفِ بإظهار علاماتهم الظاهرة، بل استجلبت كلّ أحوالهم الباطنة، حتى يفقه المؤمن سيره إلى ربّه، ويُراعِ قلبه من تلك العلل، وينتبه لدبيب هذا الداء أن يتمكّن من قلبه، وحتى يفقه المؤمن هدايات هذه الآية؛ فليُعرض نفسه على سبب نزولها، وليتأمَّل كثيرًا في ذلك المَشهد الذي بسببه نزلت هذه الآية، حتمًا سينخلع قلبه هلعًا لا محالة!

ولمّا كان الجَزاء الذي ترتَّب على هذا الداء؛ أن سخِر الله منهم كما سخروا من المؤمنين، قال تعالى: ﴿سخر الله منهُم ولهم عذابٌ أليم﴾، يقول السّعدي: "فقابلهم الله على صَنيعهم بأن ‏سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏، فإنّهم جمعوا في كلامهم هذا بين عدّة محاذير‏؛ منها: أنّ اللمز مُحرم، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدُّنيا، وأمّا اللمز في أمر الطاعة فأقبح وأقبح‏، ومنها‏:‏ أنَّ من أطاعَ اللّه وتطوّع بخصلة من خصال الخير، فإنّ الذي ينبغي ‏هو‏ إعانته، وتنشيطه على عمله، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم وعابوهم عليه‏، ومنها‏:‏ أنّ حُكمهم على من أنفق مالًا كثيرًا بأنّه مراء؛ غلط، وحُكم على الغيب، ورجمٌ بالظّن، وأيُّ شرّ أكبر من هذا‏؟"

وكم في سورة التوبة من مَشاهد كاشفة لأحوال المُنافقين، مبيّنة دسائسهم، فاضحة لأحوال قلوبهم، مُعلنة للمؤمنين تلك العلامات، حتى يشهدوا بذلك ارتفاع المَقامات، فلا يبقى في صدورهم حرج، ويُعلنوا بذلك تحوّلًا يقودهم لربّ السّماوات، سائلين ربّهم سلامة القصد، وطهر السّريرة.
فائدة نفيسة ذكرها ابن القيّم، في بيَان أهمِّية الصّبر بعد الفراغ من الطاعة، وكيف يُحقّق العبد هذا المَعنى من عدّة أوجه:💡
Forwarded from غمـامة
من أبرز المَواضع القُرآنية التي يتجلّى فيها آثار اسم الله الحكيم؛ حكمته من خلق آدم، حين قال تعالى: ﴿وإذ قال ربُّك للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسِدُ فيها ويسفكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسبِّحُ بِحمدكَ ونُقدِّس لكَ قال إنّي أعلمُ ما لا تعلمون ۝ وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها ثمَّ عرَضَهم على الملائكةِ فقالَ أنبئُوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتُم صادقين ۝ قالوا سُبحانكَ لا علمَ لنا إلا ما علَّمتنا إنّك أنتَ العليمُ الحَكيم﴾

ومعلومٌ أنّ الملائكة حين أخبرهم الله عن خلق آدم؛ استنكروا في بداية الأمر، وتعجّبوا كيف يخلق الله من الخليفة من يعصيَه، وقالوا بصيغة الاستفهام: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدِّماء)، وفي استنكارهم مَفاد؛ أنّهم لا علم لهم إلا ما علّمهم الله، إذ أنّهم لو علِموا الحكمة من خلق آدم؛ من عمارة الأرض إصلاحًا وتعبّدا واستخلافًا لمن يأتي بعده؛ لما أظهروا التعجُّب والسّؤال!

ومن حكمة الله التي تتجلّى في إخباره تعالى لملائكته خلق آدم؛ ما قاله أبي حيّان في تفسيره، فمن حكمته: "إرادة الله أن يُطلع الملائكة على ما في نفس إبليس من الكِبر، وأن يُظهر ما سبَق عليه في علمه"، ومن حكمته ما قاله ابن عبَّاس: "أن يبلوَ طاعة الملائكة، أو أن يُظهر عجزهم عن الإحاطة بعلمه، أو أن يُظهر علوّ قدر آدم في العِلم، أو يعلّمنا الأدب معه وامتثال الأمر عقلنا معناه أو لم نعقله".

ومن تجلّيات اسم الله الحكيم في تلك الآيات؛ أنّه خلق آدم عليه السلام ونفخ فيه من روحه لعمارة الأرض إصلاحًا وتعبّدا، والحكيم من معانيها؛ الذي يضع الأشياء في مواضعها من غير أن يدخل تدبيره خللٌ ولا زلل، ومن حكمته في إخباره للملائكة عن خلق آدم دروس وعبر يُستفاد منها؛ أهمّية الاستسلام للأوامر الإلهيّة والأقدار وإن بدا للمؤمن جهله بعواقب الأمر، إذ أنّ هذه الآيات تزيد من استسلام العبد لربّه وحُكمه الذي يُجريه في أقداره الكونية والشرعية.

ويُستفاد من هذه الآية؛ أنّ العبد قد يعتريه من بعض الأقدار أو بعض التّكاليف الشرعية تساؤلاتٌ وشكوك، وقد يغيب عن ذهنه الحكمة من هذا التكليف وهذا القدر، ولكنّ المؤمن إذا تضلّع قلبه فقهًا من معنى اسم الله العليم الحكيم؛ استسلم انقيادًا لعلم ربّه وحكمته، ولم تعُد لديه مُنازعة تجول في خلجات نفسه، بل استسلامٌ يقوده لمعنى الثقة بأمر الله وما يُجريه عليه في مملكته.

ويُستفاد منها؛ أنّ الاستسلام لأحكام الله يقود العبد لمراتب عالية من مراتب الإيمان، فالملائكة حين أيقنوا شرف علم آدم واختصاصه لهذه المنزلة؛ أعلنوا بذلك شهادتهم بعلم الله الكافي وحكمته المُحيطة في أرجائه، في آية تُدوى في المحاريب إلى قيام السّاعة: ﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

ومن شأن الاعتراف بحكمة الله وعلمه؛ ترك منازعة الأقدار، وترك مُزاحمتها بالشّكوك والأسئلة، فالله تعالى حكيمٌ يضع الأمور في مكانها من غير أن يُخالط تدبيره خللٌ ولا زلل، فكم في هذه الآية من عِبَر، لو تأمَّلها المؤمن حقّ التأمُّل، وراعى هداياتها، حتمًا سيجد بها ذوقًا وحلاوةً لمعنى التّسليم الشّرعي، والذي لا يأتي حتى يعرف العبد ربّه بأسمائهِ وصفاته.
نعمة القبول:

إذا رُزق العبد القبول، وتوافدت إليه القلوب بالمودّة؛ فليُراع هذه النّعمة بسؤال الله السّتر والعافية، وملازمة الدُّعاء لمن أحسنوا به الظنّ، فإنّ الافتقار في هذا الجانب سبيلٌ مؤدّي لتزكية النّفس وهضمها، وما من شيء يُهلك العبد كهلاكه بفتنة الإعجاب والثناء، ورؤية الحال والمَقام، ومعلومٌ أنّ الثناء الحَسن وتوافد القلوب بالمودّة لا سيما قلوب أهل الخير؛ من عاجل بُشرى المؤمن في الدنيا، لقوله تعالى: ﴿إنّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحاتِ سيجعلُ لهمُ الرَّحمنُ وُدَّا﴾، والمُراد بالودّ هنا؛ ما جاء في تفسير أبي حيّان، عن قول الزمخشري: "بأن سيُحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم من غير تودُّدٍ ولا تعرُّض للأسباب التي يكتسب بها النّاس مودّات القلوب من قرابة أو صَداقة أو اصطناع"، وقال هرم بن حيّان: "ما أقبل عبدٌ بقلبهِ إلى الله عزّ وجل؛ إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم".

ومن شأن القبول الذي يُرزق به العبد؛ أنّه بهذا المقام قد تتعجّل فتنته، من حيث لا يشعر، وحتى يتوسّط في هذه المسألة؛ فلا بُد له من عناية خاصّة بأحواله الباطنة، وأن يتفكّر في عيوب نفسه التي لا يعلمها إلا الله، وأن يُراعِ هذه النّعمة بسؤال الله العافية في الدنيا والآخرة، وأن يدعو للمسلمين ولمن أحسنوا به الظنّ، فإنّ الدعاء ركيزة ثبات العبد في دينه ودنياه، وإنّ النّعم لتدوم بشُكرها، وشكر العبد لربّه يكون بالتزوّد من العمل الصالح، ومُراقبة السريرة، والاجتهاد في المسارعة إلى الخيرات، فمنهم بهذا مقلٌّ ومُستكثر.
من علامَات شُكر النّعمة المغفول عنها؛ نسبة الفائدة إلى قائلها، وإضافتها لمن صدرَ عنه هذا القول، فإنّ نسبة الفائدة إلى أهلها من علامات شكر النّعمة، مثلما أنّ شكر العبد لربّه يتضمّن نسبة النّعمة إليه أوّلا، فكذلك الفوائد العلميّة حين تُنسب لأهلها، مع مُراعاة حُسن نقلها؛ فهذا من شكر النّعمة، ومن أمَارات شكر النّعمة؛ إذاعتها للإفادة والاستفادة، والمؤمن يُحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه، فإنّ إذاعة الفائدة؛ يُعد من التّواصي بالحقّ، وهذه من سمات المؤمنين الخُلّص، يقول سفيان الثوري: "نسبة الفائدة إلى مُفيدها من الصّدق في العلم وشكره، وأنّ السّكوت عن ذلك من الكذب في العلم وكُفره"..

وكم ممّن كان هذا حاله، وسكت عن إضافة الفائدة لقائلها؛ فحُرم بركة العلم، وبركة آثاره الطيّبة، ولا يزال المُخلص ينسب القول إلى أهله؛ ويُراعي مواطن حسن نقلها، حتى يُفتح له من أبواب العلُوم والمَعارف ما يجعله يزداد درجات، ومن آثار بركة العلم على صاحبه؛ التحلّي بالتواضع، فالمُتواضع لا يعتريه حرجٌ ولا تكلّف جَراء نسبة الفائدة لقائلها، لأنّ آثار العلم قد جمَّلت باطنه قبل ظاهره، وإن كان نتَاجه في البداية غير ملموس، فإنّ الله مع الصّادقين المُخلِصين، فإن أردّت تحقيق بركة العلم ورؤية آثاره الطيّبة؛ فاحرص كلَّ الحرص على نسبة القول لقائله، فإنّه يُعدّ من الشُّكر، وإن لم تستطع؛ فلا أقلّ من أن تتركها كما كانت، من غير تحريف أو تبديل أو تغييرٌ بالمَعاني.
حجابٌ وستار:

حجاب القلب عن التبصّر بالمعاني الإيمانيّة المتولّدة من الهدايات القُرآنية؛ أعظم حرمان يُحرم به العبد من حيث لا يُدرك سبيل ذلك الحرمان عليه، وهو الحرمان من الانتفاع المُوصل لذوق حلاوة الآية، وخشوع القلب بسببها، بل يكون نصيب العبد في هذا الحال؛ تمتمة اللسان، وغياب ناظر القلب عن المَعنى الذي يقوده لأسمَى معاني الوصول، -وإن كان التّالي مأجورًا بتلاوته-، فإنّ حضور قلبه أثناء التلاوة وتواطؤ اللسان مع ناظر القلب أثناء التلاوة؛ من أعظم النّعم التي بسببها يتّقد القلب نورًا من كلام الله، وأعظم الحرمان الذي يُصيبه؛ حرمانه من التأثر، وكأنّ بينه وبين الآية حجاب، ليس بحجاب الحسّ، ولكنّه حجاب المَعنى، هذا الحجاب الذي يُبقيه في نفس دائرة الرتابة، ونفس الحال الذي كان قبله، لا يتغيّر، رغم سطوة الآية ودهشتها!

وحجاب القلب عن التبصّر بالمعاني؛ حرمانٌ لا يُكابد مشقّته سوى من عرف قيمة الوصول إلى أنوار الآية، لا أحد سيفقه هذا المُراد القُرآني الذي قال به تعالى: ﴿وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً أن يفقهوه﴾، إلا من تجرّع مرارة الحجاب، فشاهدها عيانًا، وحقيقة، ولا يُبصر هذه الآية بقلبه؛ إلا الذي أدرك سوءَة عمله، وظلّ يُفتّش عن أسباب الحجاب، وظلّ يصول ويجول ليرى ما كان صانع، وهو بهذا الحال يُفتّش عن أسباب استحكام الحجاب، وأسباب غلظته التي أسدلت عليه مَعاني الظلام، ليُطلعه الله بعد ذلك -بمنّته- كلّ الذنوب التي اقترفها، ويُطلعه الله بمنّته؛ عظيم فضله وامتنانه، وأيُّ فضل أعظم من فضل مُباشرة الآية إلى القلب ونفُوذها في سويدائهِ، وأيُّ فضل أعظم من فضل تمكُّن القلب لاحتواء تلك الهدايات واستيعاب أنوَارهِ، وأيُّ فضل أعظم من أن تكون الآية ربيع قلبَ المؤمن، يعيش في دنياه مطمئنًا ساكنًا، تجري عليه الأقدار كريشة في مهبّ الريح وهو مُستلقٍ بأريكة الجنّة القرآنية، تتنازعه الأهواء، وتتخطفه البلاءَات على غرّة، فيعود إلى ربّه بعبوديّة أكمل!
الشّفاء بالقُرآن أمر مؤكّد قاله سُبحانه في آيات عدّة، وكلام الله يتضمّن الشّفاء من كلّ داء باطني وظاهري، من أسقام القلوب والأرواح والأبدان، وحتى يُحقّق العبد تأثيرًا في التّداوي بكلام الله؛ لا بُد له من عدّة أمور، أهمّها؛ أخذ القُرآن بيقين، واليقين أنّ كلام الله حقّ لا ريب فيه، وأنّ به الشّفاء والرحمة المُتضمّنة لإبطال العِلل الروحيّة والقلبيّة، والمُخلص يجد به الدّواء بحسب قوّة اعتماده وتوكُّله على ربّه تعالى، بخلاف الذي يأخذه من باب التّجربة؛ قلّ ما ينتفع منه، أو يجد به أثرًا على أسقامه، فإنّ طريقة التّعامل مع القُرآن هي المَحك الحقيقي لمدى تأثُّر العبد وانتفاعه، وبحسب يقين العبد وإيمانه يكون الأثر ويتّضح عليه أثر الدّواء الربّاني، ﴿قُل هو للذين آمنوا هُدىً وشِفآء﴾.
المؤمن إذا تعرّضت له نفحَات من الرحمة، وأحسّ بقُرب الفرَج؛ فليستبشر خيرًا، فإنّ هذه النّفحَات مُقدّمات لنعم ستأتي في القريب العاجل، يعقوب عليه السّلام حين شعر بقُرب عودة ابنه يوسف؛ قال: ﴿إنّي لأجد ريحَ يوسف﴾، والقلب له دليلٌ ونظر، ودليله حسن ظنّه بربّه، ورؤيته لمَعاني الفأل، ولله رحمَات يُتابعها على عبده بصنوف الأسباب الغيبيّة والأسباب الدنيويّة، وأنّه من أعظم الأرزاق التي يؤتيها الله عبده؛ أن يرزقه الفأل واستشعار بوَادر الفرج، حتى وإن كانت جميع الأسباب حوله تُوحي له بانعدامها!
قناة | بَيــان.
حجابٌ وستار: حجاب القلب عن التبصّر بالمعاني الإيمانيّة المتولّدة من الهدايات القُرآنية؛ أعظم حرمان يُحرم به العبد من حيث لا يُدرك سبيل ذلك الحرمان عليه، وهو الحرمان من الانتفاع المُوصل لذوق حلاوة الآية، وخشوع القلب بسببها، بل يكون نصيب العبد في هذا الحال؛…
=

حتى يُزيل العبد تلك الأحجبة التي تحول بينه وبين الانتفاع من الهدايات القُرآنية؛ فلا بدّ له من عدّة أمور يُعالجها، أهمّها: مُعالجة القلب بالإكثار من الذّكر، لا سيما كثرة الإنابة إلى الله بكثرة استغفاره، فإنّ الاستغفار يدفع العذاب، وأيُّ عذاب أمرّ من عذاب الحجاب المانع من التوصّل إلى لذّة الآية، والله وعَد عباده في كتابه، أن لا يُعذّب مستغفرًا قط، ووعده حقّ لا ريب فيه، وذكر الله إجمالًا له دور كبير في مُعالجة كلّ قضايا القلب التي تسبّبت بفقد اتّصاله مع ربّه، والذّكر على سهُولته ويُسره؛ إلا أنّه بسببه اختلف العباد مَنازل في أحوال سيرهم إلى ربّهم، والذّكر يُذهب قسوة القلب، ويُعالج كلّ داء تسبّب بحلول الغِلظة والحجاب!

ومن تتبَّع مَواطن القُرآن في الكَشف عن أحوال القلوب ومُسبِّبات أحجبتها؛ وجَد عجبًا من أنّ منشأها أسباب قد لا يُدركها العبد ببصره، إنّما يُدركها ببصيرته، وأنّ مُجملها أسباب ناشئة عن الغفلة، وبعضها ناشئ من القسوة، وبعض الأحجبة تنشأ من تتابع الظلمات بعضها فوق بعض، والذنب بعد الذنب؛ يُهلك القلب، حتى مع مرور الأيّام يكلّ عن التبصُّر بالمَعاني والهدايات، فلا يُوفّق للتمييز بين المعاني العلويّة والمعاني السّفلية، وتجتمع عليه المَقاصد بلا بيّنة، ومن شأن الأحجبة؛ أنّها تُعمي البَصيرة، فتُزيّن عمله السيِّء، فيظنّه حسنا، وهو سيئا، وتلك الأحجبة وسيلة لأن تكون مرتع الشّياطين ومأواهم، وبقدر تلك الظلمات وتتابعها على القلب؛ يكون الهلاك الدّامي، وبقدر تعرّض العبد لذكر ربّه، واستغفاره، وتلاوة كلامه؛ يتسلّل إليه النّور الذي يقتلع من أرض قلبه خبائث الشيطان وأملاكهِ، وذكر الله يشمل ذكره بالقلب واللسان والجوارح؛ وأعظم الذكر ما كان مشتملاً عليه كلاهما، فيتواطآ كلاهما، اللسان والجوارح مع ناظر القلب!

ثمّ بعد الذِّكر يأتي دور الخَلوة مع الله؛ فإنّ شأنها عظيم في مُعالجة أسقام القلب وما يعتريها من علل الأحجبة المانعة من الانتفاع، ولمّا كانت الخلوة مع الله شأنها عظيم في الإسلام، ابتدأ القرآن بأوّل زاد روحي حثّ عليه، وهو القيام، ومن تأمَّل آيات سورة المزمّل عرف الحكمة من هذا الأمر، فإنّ الخلوة التعبّدية أثرها قائم بقدر توافر الصّدق فيها، وقيام الليل عبادة يتّضح بها أثر الصّدق والإخلاص، فكان لزامًا على القلب أن تُعاد بوصلته وتُعاد أكثر قضاياه المُسبّبة للأحجبة المانعة من التبصُّر بالمَعاني والهدايات.
"نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس؛ الصحّة والفراغ".

حديثٌ نبويّ يُراد منه؛ أهمّية استغلال الوَقت بما ينفع؛ كون الفراغ نعمة لمن فقهَ كيفيّة اغتنامه بالصّورة التي تزيد من المستوى العلمي والعمَلي، وإنّ من الغبن؛ أن تمضي الليالي بلا زاد يدّخره العبد لصالحه الديني والدّنيوي، من المَصالح المُباحة التي تُقرّبه إلى ربّه، وحتى يضبط المؤمن وقته ويتجنّب مواطن الفراغ؛ فلا بُدّ له من الذّكر الذي يجمع عليه شتاتَ أمره، فإنّ ذكر الله وسيلة عظيمة لضبط الأوقات وجمعها من أن تذهب هباءً منثورا، وليس الشّأن بعمارة الفراغ بما ينفع، إنّما الشأن عمارته بما ينفع ويرفع، وما من شيء ينفع العبد ويرفعه في آنٍ واحد؛ كابتغاء المَصالح الدّنيوية ورفعها بنيّة تعبّدية يبتغي بها الوصول إلى الله!

ومن أشكال الفراغ المَذكور في الحديث النّبوي؛ فراغ الوقت من عمارة ذكره تعالى، وهذا غبنٌ آخر لو يُدركه أرباب العقول؛ لما فرّطوا بأوقاتهم أن تضيع، ومن حُسن استغلال أوقات الفراغ؛ أن يُوفّق العبد لكسب وقته بما يعود عليه بالمنافع، وإن كان بنظره أنّ هذا العمل الذي بين يديه لا يستحقّ أن يرتفع به مَنازل، فإنّه يستخلص منه سبيلًا يُوصله إلى ربّه بأيّ طريقةٍ كانت، ومن عرَف قيمة الوقت الذي يعيشه؛ عزّ عليه أن يُدني نفسه لمَقامات أهل الدّنيا، فإنّ أهل الدنيا لا يقصدون بأوقاتهم ربّهم، إنّما يقصدون تلبية حظوظ أنفسهم وأهواءَهم، وشتّان بين من سخّر وقته لله، وظلّ يحوم حول عوالمه وانشغالاته المُباحة بنيّة تعبّديّة يبتغي بها الوصول، ومن سخّر وقته لحظّ مُراده وهوَاه، نَسِيَ ربّه؛ فأنساه حظّ نفسه من القُرب الشريف، والوصول إلى منازل رحمته وهُداه، يقول ابن القيّم: "أعظم الرّبح في الدُّنيا؛ أن تشغل نفسك كلّ وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في مَعادها"..

ذكرك ربّك؛ دليلُك الأوحد لقطع بيداء الأكـوان، فاغتنم به وقتك، تغنـم في دُنياك وأُخراك!
القُرآن حين يُحاكي الصّفات الإنسانيّة؛ يُحاكيها بكلّ ما فيها من طبَائع وأسرار، حين قال تعالى: ﴿ولا تستوي الحسَنةُ ولا السيّئة ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌ حميم﴾، ﴿وما يُلقّاها إلا الذين صبروا﴾، فيها إشارة أنّ مُقابلة السيئة بالحسنة، والأذى بالصّفح والعفو؛ فيه مشقّة وكلفة وحبسٌ لحظوظ النّفس، وليس لهذه الصّفات أن يتمثّل بها كلّ أحد، ولا يُحظى بتلك الخِصال الخيّرة إلا الصّابرون، وفي هذه الآية وقفة جماليّة، حين قال تعالى: (إلا الذين صبروا) والتي أتت بصيغة المَاضي، والدالّ على أنّ الصّبر كان لهم صفة متأصّلة وسجيّة في النّفس وعادة، وأنّه من اعتاد على تحمُّل المَكاره، ومُقابلة السيّئة بالحسنة؛ سيهون عنده أمر الانتقام، فلا يبقى عنده رغبة أو مُنازعة أو جدال لمُقابلة الأذى، ولمّا كانت الأخلاق الكريمة، والخصال الحميدة؛ من نتاج الصّبر الذي هو رأس كلّ خُلق رفيع، ختم تعالى هذه الآية بقوله: ﴿وما يُلقّاها إلا ذو حظٍ عظيم﴾، قال قُتادة: "الحظّ العظيم: الجنّة"، وقال سُليمان ابن القاسم: "كلُّ عمل يُعرف ثوابه إلا الصّبر، فإنّ الله تعالى قال: (إنّما يُوفَّى الصَّابرون أَجرهُم بغيرِ حِسَاب)".


إذا رأى المؤمن من أخيه ما يُعجبه من صلاح الحال، أو من نعمة المال، أو العافية، أو فتوح العلم والدعوة والبيَان، فليقرن إعجابه بذكر الله ويقول: تبارك الله، اللهم بارك له فيما أعطيته، فإنّ العين المُعجبة تقع حتى وإن لم يقصد صاحبها إلحاق الضرر والأذيّة، فكم من نعمة كان يتمتّع بها صاحبها، فذهبت عنه أدراج الرّياح، وكم من فضل ساقه الله لعبده فحُرم بركتها ودوامها بسبب شخص رأى ما يُعجبه من هذا الحال، ولم يقرن لحظته تلك بذكر الله والدعاء له بالبركة، وبالرغم أنّها لا تُكلّف المؤمن شيئًا، ولا تأخذ منه وقتًا، بل تزيده سلامةٌ في صدره وامتثالًا لسنّة نبيّنا محمّد واقتداءً بقوله: (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه ما يُعجبه فليدع له بالبركة فإنّ العين حقّ)، وكم ممن غفل عن الدعاء لأخيه بالبركة لظنّه أنّ العين مقتصرة على شرّ الأنفس، ولظنّه أنّه لا يؤذي أخيه كونه يحمل له ودًا ومحبّة، ولكنّ المحبّة وحدها لا تكفي، بل لا بُد من ذكر الله والدعاء لمن يُحب بما يُحبّ أن يسمعه!

وكم من مُحب آذى من يُحبّه بلا أن يشعر، فذهبت عنه عافيته، وفضلٌ آتاه الله إيّاه، وذهبت عنه نعمة كانت باقية لو أنّ أخيه قرن ما يُعجبه بالدعاء له بالبركة والذكر الحَسن، وما من شيء يغلب القدر كمثل العين حين تقع فتغيّر القدر بأكمله، وتبدّل الحال إلى أرذله، وتعقب صاحب النّعمة إلى أحوال متردّية من المَهالك والعطب الذي لا يعلم سببه، وكم من فضل آتاه الله عبده؛ فحُرم منها بسبب مُحبّ غير بغيض، أحيانًا المؤمن يغفل عن تلك المَعاني، ويظنّ أنّ هذا باب يفتح عليه الوَساوس والشكوك، وقد يظنّ أنّ أمثاله لا يصدر منهم شيئًا يؤذي غيرهم، وهذه آفة نفسية وحيلة شيطانيّة قلّ من يفقه دبيبها إليه، والمؤمن لا يخسر شيئًا إذا دعا لأخيه بالبركة وقرن لحظة إعجابه بالشيء بقول: ماشاءالله تبارك الله، اللهم بارك له، ولكن تركه للدعاء ولو بحسن نيّة؛ قد تتغيّر بها حياة من أمامه وتتعطّل عنده الكثير من المَصالح التي كانت تجري تحت يده، غير أنّ ذكر الله عبوديّة، والملائكة تدعو لمن دعا لأخيه بقولهم ولك بالمثل، وسلامة القلب والنيّة لا تنفع ولا تغني شيئًا ما لم يتمثّل المؤمن بحديث نبيّنا محمّد: (هلّا إذا رأيت ما يُعجبك برّكت)!

من صور فضل الله وعظيم امتنانه؛ أن يتفضّل على عبده بنعمة الإيمان وذوق حلاوته، ﴿ولكنّ الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنهُ في قلوبكم﴾، ومن تأمّل الآية التي بعدها، حين قال تعالى: ﴿فضلًا من الله ونعمة والله عليمٌ حكيم﴾، عرف مواطن الفضل الحقيقية، وأنّه لا فضل ولا نعمة تُوازي نعمة الدّين والإيمان والتمثّل بمعاني الهُدى والرّشاد، ولكنّ القلب الغافل حين تُعرض عليه هدايات الوَحي؛ لا يتمسّك بها، ولا يرفع بها رأسًا، لأنّه لا يعلم كم أنّ هذه العطايا ستغيّر مجراه إلى الأبد، والقلوب الغافلة تحصر مفهوم الفضل بالأمور المادّية الدنيوية، ولو أنّ الدنيا كلّها وهبها الله عبده، وكان عنده من الصّاغرين؛ لما كان هذا فضًلا ولا نعمة، بل نقمة تزيده بعدًا وقسوة، وكثيرًا ما يتكرر في القرآن معاني الفضل والنّعمة، وكثيرًا منها مقرون بعطايا الإيمان، واجتناب مواطن الفُسُوق والعصيان، وكثيرًا ما يقرن الله أنّ هذه العطايا ليست لكلّ أحد، بل من سبق علمه أنّ هذا الفضل يصلح له، ومن حكمته يسوق إلى عبده الأسباب المُفضية للتمسّك بتلك الهدايات والتحلّي بها، والله أعلم حيث يجعل رسالته، والله عليمٌ حكيم!
ثمّة آفة تعتلج نفوس الصّالحين، لا يشعرون بسببها بركة الطاعة، وهي آفة (صولة الطاعة) وما تفعله من أمور طائلة في النّفس، ومعنى صولة الطاعة؛ داء يستحكم القلب بعد العمل الصّالح، يظن به أنّ طاعته كاملة، وأنّه أدّاها كما ينبغي، ويعتدّ بها اعتدادًا يُنسيه مساوئ عمله والخلل الذي اعتراه حين الشُّروع في هذا العمَل وبعد الانتهاء من هذا العمَل، غافلًا عن تحقيق عدّة مَقاصد، من استصلاح النّية، وإخلاص القصد، وتوجّه القلب لمُراد الله وحده، وحضوره بين يدي الله تعالى، فالعمل ناقص من جوَانب كثيرة، وأوجه عديدة، وإن لم يكن من نقصه إلا عدم تكميله بمُلازمة الاستغفار؛ لكفى به من داء يُعمي صاحبه عن بركة الطاعة ودوَامها!

ومن أعظم آفات صَولة الطاعة -وهي آفة بحدّ ذاتها- أنّها تغرس في القلب كِبرًا خفيّا، فيمنّ بطاعته ويظنّ أنّه أولى من غيره في مسألة إقبال الدُّنيا، وفتح أبوابها من الحظوظ العَاجلة والآجلة، ويظنّ أنّه أكمل من غيره في مسألة التعبُّد، وقد يرى المقصّر بعين النّقص وإن لم يُصرّح بلسانه، فإنّ قلبه شاهدٌ على هذا المَعنى، ويقع في نفسه غرورًا يركن به إلى طاعته ويطمئن بها اطمئنانًا يُنسيه تقصيره في جوانب تأديته لهذه الطاعة، لظنّه أنّه أداها كاملة، ويظن أنّه حين يختم النوافل والقُربات أنّه بهذا المقام قد تتعجّل حظوظه، فيصبح عنده غرورًا حتى في تدبيره لنفسه، فهو كالذي يتشرّط في المُعاملة، يعبد الله ليحصل له منفعة، وتتعجّل له نعمة، وإن لم يحصل له ما يريد؛ رجع على عهده الأوّل من البقاء في نفس الدائرة، وهذا لا يليق بمواصفات العبد، فالعبد في خدمة سيّده في كلّ أحواله سواء أعطاه مُراده أو لم يُعطه، فهو قائم في تأدية حقّ ربّه من الواجبات والفرائض والنّوافل ويتعبّد ما بين مشاهدة فضل ربّه عليه ومشاهدة تقصيره في أداء هذا العمل!

لذلك شُرع الاستغفار بعد الفرائض، لتجبر ما كان ناقصًا، والنّوافل بعد الفرائض تجبر نقص الفريضة، وقس على ذلك حين شرع الله تعالى في كتابه كثرة ذكره إيّاه بعد الانتهاء من مناسك الحجّ، ﴿فإذا قضيتُم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءَكم أو أشدَّ ذِكرًا﴾، وشُرع في القُرآن الإكثار من الذِّكر بعد الانتهاء من الصّلاة، ﴿فإذا قضيتمُ الصّلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جُنوبكم﴾، ولهذا قيل: تخليص الأعمال مما يُفسدها أشدّ على العاملين من طول الاجتهاد!
Forwarded from طُروس 📚
﴿ثُمَّ تَوَلّى إِلَى الظِّلِّ﴾
﴿فَأَسَرَّها يوسُفُ في نَفسِهِ وَلَم يُبدِها لَهُم﴾
﴿وَتَوَلّى عَنهُم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يوسُفَ﴾
﴿إِذ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾

وشواهدُ كثرى عن أنبياء الله تعالى، عليهم السلام وأوليائه، تنبئ عن أنَّ لحظات الانفراد والانقطاع والجفاء من المخاليق، والمواقف التي كانوا فيها غرباء عمَّن حولهم، لا يحسُّ بما يضطرب في نفوسهم مخلوق، ولم يدرِ حبيبٌ ولا قريبٌ بما في قلوبهم من الكسر والضر والأذى؛ هي المعراج الذي صعد بهم إلى منازل الولاية، فلم يظهروا الشكوى والفاقة إلَّا للجبَّار الذي جعل هذه الخفايا ذِكرًا وآياتٍ تتلى!
﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ﴾

من سابق في الدُّنيا، وسبق إلى فعل الخير؛ كان في الآخرة من السّابقين إلى الكرامة؛ فإنّ الجزاء من جنس العمَل. [ابن كثير]
لو يعلم المؤمن ما في مداومته على الاستغفار، من ذهاب الرّان، وذهاب الغفلة النّاتجة من تتابع الخطايا والآثام، ومن زيادة الإيمان؛ لما جعل من حركاته وسكَناته إلا ذكرًا واستغفارًا، قال تعالى في شأن الاستغفار ومَدى علاقته بزيادة الإيمان: ﴿استغفروا ربّكم ثمّ توبوآ إليه يُرسلِ السّماءَ عليكم مدرارًا ويزدكم قوّةً إلى قوّتكم﴾، يقول الآلوسي في تفسير هذه القوّة، أي: "يزدكم قوّة في إيمانكم"..

وهذه الآية مليئة بالرّحمَات المُوجّهة للمؤمنين، وما من علّة يُعانيها السّائر إلى ربّه؛ إلا ووجَد بالقرآن لها حلًا ومَفزعا، والاستغفار خير دوَاء لمن تحيّر في أمره كافّة، ولمن بات يسأل عن المنافذ المؤدّية إلى المَنازل العالية، فلا يوجد هناك غبنٌ وحرمان يُقاسيه المؤمن كمثل معرفته لفضائل الاستغفار ثمّ يُعرض تكاسلًا وهَوْنًا، لذلك يقول ابن تيميّة رحمه الله: "استغفار الإنسان أهمّ من جميع الأدعية".
2025/06/29 23:39:56
Back to Top
HTML Embed Code: