Telegram Web
تشدُّني براعة الاستدلال القرآني في بعض ما يكتبه أهل العلم من المتقدمين أو المعاصرين.

وذلك حين يأتي بالمعاني القرآنية في القضايا الجدلية فيكشف بها عن دليلٍ عقلي، أو يرد بها شبهة معينة، أو يظهر فساد قولٍ منحرفٍ.

يعجبني هذا الاستدلال، وأعجب أكثر وأتساءل: كيف غاب عني مثل هذا المعنى الظاهر الجميل مع أني أقرأ هذه الآية، وأعرف معناها، وقد أحفظها وأكررها دائمًا؟!

لأبي العباس ابن تيمية تفسيرٌ بديعٌ لسبب غياب مثل هذه المعاني القرآنية عن النفوس، وعدم فهم كثيرٍ من الناس لها فيقول:

(وإن كان كثيرٌ من الناس لا يفهم دلالة القرآن على هذه المقالات لأنَّ ذلك يحتاج إلى شيئين:

إلى تصوُّر مقالتهم بالمعنى لا بمجرد اللفظ.

وإلى تصوُّر معنى القرآن والجمع بينهما.

فتجد المعنى الذي عنوه قد دلَّ القرآن على ذكره وإبطاله)
.

مجموع الفتاوى (٢/ ٤٤٧).

فهذه البراعة في الاستدلال تأتي من الجمع بين أمرين:

١-فهم المعنى القرآني وحسن تصوره.
٢-فهم القضايا محل البحث.

والمقارنة بينهما بالمعنى لا بمجرد اللفظ.

رزقنا الله وإياكم فهم كتابه، والانتفاع به.
ذُكر العابد الزاهد الشهير معروف الكرخي مرَّة في مجلس الإمام أحمد بن حنبل، فقال بعض الحضور: هو قصير العلم. فقال أحمد: (أمسك عافاك الله، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف).

وقال عبد الله بن أحمد لأبيه الإمام: هل كان مع معروف شيءٌ من العلم؟ قال: (يا بنيَّ، كان معه رأس العلم خشية الله).

ما ألطف هذه الطريقة التي سلكها الإمام رحمه الله، فهو لم يجب عن السؤال المتعلق بعلم معروف الكرخي، ولم ينسبه إلى العلم، وإنما صرف الكلام إلى الثناء عليه، وبيان فضله، فنهى عن الخوض في هذا المعنى مطلقًا، ولفت نظرهم مع ذلك إلى المعنى الذي يجب أن يسعى له أهل العلم وهو تحقيق خشية الله.

هو منهج تربويٌ عظيمٌ في كفِّ اللسان عن الخوض الذي لا ثمرة منه، خاصة حين يطال أهل العلم والفضل والتقوى، فالبحث في كون الرجل الصالح عالمًا أو غير عالمٍ لا يجنى منه حفظ دين ولا صلاح معتقد، وإنما ذكر أفاضل أهل الإسلام بنقصٍ أو ذمٍ بلا أدنى مصلحة.

ما أجمل أن يربي المسلم نفسه ويشيع فيمن حوله مثل هذا الخلق العظيم الذي امتثله الإمام أحمد فيمسك لسانه عن كل خوضٍ لا يرى فيه مصلحة حقيقة ظاهرة في حفظ دين الناس.

وعلى كل حالٍ، فليس المقصود هو الحديث عن فائدة هذه الواقعة الجميلة.


وإنما لفت النظر إلى أهمية العناية بكتب السنَّة والآثار والمسائل والتراجم المتقدمة التي تظهر مثل هذه الحوادث البديعة، فتظهر أقوال علمائنا الأوائل وقصصهم ومواقفهم وصفاتهم، فهي منجم لا ينضب من الكنوز النفيسة.

وهذه الكنوز لا تقتصر على الجانب العلمي والاعتقادي منها، بل فيها مادةٌ خصبةٌ عظيمةٌ يجب أن لا يغفل عنها لاستخراج معانٍ بديعةٍ من المقولات والحوادث الدالة على:

-الحكمة وسعة العقل ولطائف الإدراك وحسن التصرف.
-السياسة المصلحية للنفس والأهل والمجتمع.
-الأخلاق الحسنة والمعاني الفاضلة التي يتحلون بها.
-العناية بالتعبد وسلامة الصدر وأعمال القلوب.
-الصدق والتجرد للحق والسلامة من الهوى.

ومجالات أخرى تزيد وتنقص بحسب حاجة كل قارئ ومقصده.
نصيحة عملية في استغلال الأوقات:

قال عبد الله بن الأجلح:

كان أبو سنان -ضرار بن عمرو الشيباني- يقول لنا:

(لا تجيئوني جماعة، ولكن يجيء الرجل وحده، فإنكم إن جئتم تحدثتم، وإذا كان الرجل وحده لم يخل أن يدرس من جزئه، ويذكر ربه عز وجل).


مسند ابن الجعد (ص ١٠١).
برُّ الوالدين "فقهًا" و "سلوكًا".

روى ابن المبارك أنَّ محمد بن المنكدر قال:

(بات عمرُ يصلي، وبتُّ أغمزُ رجل أمي، وما أحبُّ أنَّ ليلتي بليلته.

قال: وكان عمرُ أخا محمدٍ، وكانت له عبادة).


مسند ابن الجعد (ص٢٥٤)
من المسالك الخاطئة والتي نبَّه عليها عددٌ من العلماء المعاصرين: التوسُّع في نسبة ما يشيع من نظرياتٍ وحقائق علمية معاصرة الى الدين والشرع والإسلام، وذلك مثل التوسع في دعوى الإعجاز العلمي في القرآن، والبحث عن أدنى إشارة يمكن حمل الجانب العلمي عليها.

والاشكال في هذه الطريقة من جهتين:

١- الغلط على القرآن، وفهمه على غير مراد الله.

٢- أنه سيكون ذريعة للطعن في الشرع إذا ثبت فساد هذه النظرية وبطلانها.

وهذا معنى مهمٌّ التذكير به والتأكيد عليه، لأنَّ الكثير يدفعهم الحماس وحب الدين للمسارعة بقبول هذه المعاني المنسوبة إلى الدين لما يراه من مصلحة ونفع، فإذا استحضرت هذه المفسدة العظيمة اعتدل الميزان.

وهي مفسدةٌ عظيمةٌ، ومدخلٌ خطر للتشكيك في الدين، ولهذا كان ظاهرًا في عصرنا تعمُّد عددٍ من الملاحدة وأشباههم الترويج للمقولات التي فيها ثناء على الدين وتصديق له وهي مصادمة للعلم والعقل، فتتقبلها كثيرٌ من النفوس لما فيها من إيمان وصدق، ثم يستغل هذا بعد ذلك في تشكيكهم في أصل الإيمان.

اللافت أنَّ هذه الطريقة قديمة، أعني أن يتعمد بعض الزنادقة تشكيك المسلمين في دينهم ببث الأكاذيب التي قد تكون في بادئ الأمر من مصلحة الدين حتى يؤول أمرها إلى الطعن في الشرع.

نبَّه على مثله شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:

(وأما السؤال عن سبي أهل البيت وإركابهم الإبل حتى نبت لها سنامان وهي البخاتي ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه، وهو مما افتراه الزنادقة والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام وأهله من أهل البيت وغيرهم، فإنَّ من سمع هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول: إنَّ المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من هذا الجنس).

مجموع الفتاوى (٤/ ٥٠٢ - ٥٠٣).
منذُ أن رأيتُ إعلان الكتاب وأنا متشوفٌ لقراءته، لأهمية الموضوع، ولأنَّ مؤلِّفه وفقه الله مظنة للتجويد والاتقان فيه ..

غير أنَّه لم يتيسر لي الحصول على الكتاب إلا منذ أيامٍ، فقرأته مباشرة، ووجدته كما هو المظنون مفيدًا مميَّزًا، دفع فيه الشبهة عن هذا الأصل السلفي المستقر بطريقةٍ استقرائيةٍ محكمة.

ونتيجة مثل هذه المعالجة تؤكد على معنى مهم ومحكم، وهو أنَّ الشبهات على أصول اعتقاد أهل السنة لا تزيدها إلا ثباتًا وقوة، لأنَّها تحفز أهل العلم على البيان الذي يظهر من محاسن هذه الأصول وبراهينها أمورًا قد لا تتفطن لها القلوب ولا تنتفع به لولا هذا المحفز.

وهو معنى نبَّه على مثله أبو العباس ابن تيمية فقال:

(وكلُّ من كان بالباطل أعلم، كان للحق أشدَّ تعظيمًا، وبقدره أعرف إذا هدي إليه).

نفع الله بمؤلفه، وجزاه خيرًا.
عبرة لمن كان له قلب:


قال الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-:

(كان عندنا بالمدينة قومٌ لا عيوب لهم، تكلموا في عيوب الناس فصارت لهم عيوبٌ، وكان عندنا قومٌ لهم عيوبٌ فسكتوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم).

النوادر والنتف لأبي الشيخ الأصبهاني (ص٢٨٩).
خبرة أبي العباس ابن تيمية في البحث العقدي لا تقتصر على معرفته بالجانب العلمي المتعلق بمفصَّل الدلائل والمسائل، وإنما للشيخ نظرٌ بصيرٌ في الآثار النفسيَّة لهذا الجدل على أهل السنَّة والبدعة جميعًا.

من ذلك ملاحظته إلى أنَّ عناية صاحب المعتقد الصحيح بالمسألة والرد على أصحابها قد يورثه زيادة في هذا الاعتبار حتى يرد بعض الحق الذي عند المخالف، فيقول:

(وسبب ذلك أنَّ قلوب المثبتة تبقى متعلِّقة بإثبات ما نفته المبتدعة، وفيهم نفرةٌ عن قول المبتدعة، بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له، فيعرضون عن ما يثبتونه من الحق أو ينفرون منه، أو يكذبون به كما قد يصير بعض جهال المتسنِّنة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت إذا أهل البدعة يغلون فيها).

وهو يؤكد على معنى خطورة الخصومات على الجميع، ولهذا قال فيها السلف: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.

وقد جعلتها أحد المقولات الضامنة من الانحرافات الفكرية في كتاب العواصم، وأسعد بنشرها مفردة هنا.

ويبقى موضوع الخصومات بحاجة إلى عناية أكبر، خاصة في مثل عصرنا الذي أصبحت مادة يومية يشارك فيها أكثر الناس، فآثارها ستكون مضاعفة عما كانت عليه فيما سلف.
منذ مدة، والجدل مستمر حول إطلاق الإمامة على أهل العلم الذين تلبسوا ببعض البدع المخالفة لأصول أهل السنة كالنووي وابن حجر رحمهم الله تعالى.

 تلحظ أنَّ الجدل يسير على مفهومين مختلفين:

فمن ينفي إطلاق الإمامة يرى أنَّ هذا المفهوم لا يقال إلا في حق من اكتملت فيه صفات الإمامة فساغ قوله في أصول الدين كلها، فلا يصح أن يقال في حق من وقع في أمورٍ لا يسوغ اتباعها فيها.

ومن يجيز إطلاق الإمام يرى أنَّ هذا المصطلح مستعمل عند العلماء على هؤلاء الأعلام، بمعنى تقدمهم في العلم، وظهور أثرهم فيه، ولا يلزم أن يكون إمامًا في كل شيء.

فالجدل في الحقيقة تتصارع فيه رؤيتان لا تتفقان على تفسيرٍ واحد، فهو في كثيرٍ منه جدلٌ اصطلاحي لا حاجة إليه، ولا ثمرة منه، ولا ينبغي أن يستهلك طلبة العلم أنفسهم فيه.

فمن يرى المفهوم الأول فيجب أن يتجنَّب التعبير بهذا اللفظ لمن تلبَّس بأصلٍ بدعي ظاهر، ولا يجوز أن يفرض عليهم التعبير به، ومن يرى التوسع فيه فليستعمله وله أسوة بأعلام كبار سبقوه.

إنما يجب أن لا يتوسع هذا الخلاف الاصطلاحي إلى خلافٍ معنوي:

فمن يتوسع في الاستعمال يجب أن لا يكون توسعه في إطلاق الإمامة دافعًا لقبول بعض البدع أو تهوينها أو تسويغها بدعوى صدورها من إمام ٍمعظَّم، بل يجب أن يكون واعيًا أن تقدير القائل، وإحسان الظن به، وإعذاره، لا يجوز أن يكون سببًا في قبول المعاني الباطلة التي صدرت منه، فالحق أحقُّ أن يتَّبع.

ومن يضيق الاستعمال فيجب أن لا يكون هذا سببًا للاستطالة على العالم بالتكفير، فهذا كما يقول ابن تيمية في هذا السياق نفسه هو من أعظم المنكرات، أو التفكُّه بأعراضهم والطعن فيها بلا حاجةٍ، ولا مراعاة لما يحقق مصلحة حفظ دين الناس، كما أنَّ من العبث أن يكون الجدل حول إطلاق لفظ إمامٍ على عالم مع من يشكُّ في إسلامه!

فمن المهم أن يميز المتابع محل الخلاف، فلا يستهلك نفسه في نزاعات لفظية، ويغفل عن المعاني الموضوعية التي يجب أن تكون محل البحث والخلاف والنظر.
استدلَّ المحدث محمد بن سليمان المصيصي المشهور بـ: (لُوَين) (245ه): بقوله تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) على مذهب أهل السنَّة في إثبات صفة الكلام لله تعالى، فقال: إنما خَلَقَ الخلق بِكُن، وكلامُهُ قبل الخلق.

يقول الفضل بن زياد: فدخلتُ على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وقد كنتُ حضرت مجلس لوين؛ فقال لي: يا أبا العباس، حضرتَ مجلس هذا الشيخ؟ قلتُ: نعم.
قال: سمعتَ ما قال الشيخ في القرآن؟ فقلتُ: نعم.
قال: سبحان الله ،كأنَّما كان على وجهي غطاء؛ فكشفه عنه.

(السنة للخلال 2/234).
 
تلحظ هنا أنَّ الإمام لم يستحضر هذا الاستدلال من القرآن، مع كونه متعلِّقًا بأصل عقدي ظاهر، وهو من أعظم الأصول التي عني بها الإمام بسبب الفتنة التي حدثت، وهذا يدلُّك على أمرٍ مهم وهو أن أدلة الحق لا تحصر، وأنَّ القرآن معينٌ لا ينضب من الدلائل والمعاني الكاشفة عما يحتاجه المسلم في أصوله دينه والتي لا يمكن لأحدٍ مهما جلَّ قدره واجتهد أن يحيط بها.

وقد يفتح الله لبعض الناس من الدلائل والمعاني الموصلة إلى الحق أمرًا لم يفتح على أحدٍ قبله، وهذا من فضل الله على بعض عباده، ومن عظمة كتابه.

ويزداد هذا الأمر بجلاء مع كثرة الشبهات الصادة عن الحق، فإنَّ إزالة هذه الشبهات مما يزيد الحق جلاء، ويوضح دلائله، ويزيح صوارفه، وطبيعة هذه الشبهات أنَّها متجددة، فيتطلَّب ذلك البحث عن المعاني والدلائل القرآنية، ومن اجتهد في تدبُّر كتاب الله، وصدق في تطلُّب الهداية منه، واستجمع قلبه عليه فإنَّ الله لن يخيب رجاءه ولن يضيع سعيه.
 
رأيتُ اعتراضًا يكرره بعض الإخوة على من يقرر عذر المتأوِّلين من العلماء: بأنَّ من يكفِّرهم يجب أن يكون معذورًا كذلك، فلماذا لا تعذرونهم كما تعذرون غيرهم.

وهذا سؤالٌ مهمٌّ أن يجاب عنه، وقبل الجواب لا بد من تقرير معنى ملحٍّ هنا، وهو:

أنَّ بحث "الإعذار" هو بحث تالٍ لبحث معرفة الحق والباطل، والصواب والخطأ، فلا يصح أن ينتقل الحديث إلى الإعذار مع عدم التسليم بكون الفعل غلطًا أو انحرافًا.

لأنَّ الواجب على المسلم أن يبتعد عن المحرَّمات، ويحتاط لدينه، ويتجنَّب ما يكون سبباً لسخط الله عليه، وليس أن يبحث عن عذره عند الله لو وقع في ذلك!

فيجب تقرير الواجب في باب الاعتقاد، ثم بعد ذلك البحث في أعذار من وقع في تأولٍ، وليس أن يأتي شخصٌ فيطالبنا بالحديث عن التأوّل له لأنه معذور!

ولهذا فباب التأول يأتي غالباً على أناسٍ لقوا الله، ورحلوا عن الدنيا، ولم يعد ثمَّ حاجة إلى الخوض في أعراضهم، فيكل المسلم أمرهم إلى الله، ويحسن القول فيهم، ويتأول لهم، فهنا يأتي الحديث عن التأوُّل، التزامًا بالأصول الشرعية الدالة عليه، ولأنَّه لا ثمرة من الطعن في أشخاصهم، بل فيه مفاسد كثيرة لا تخفى على عاقلٍ، وهو مظنَّة للاختلاف بين المسلمين، وإثارة النزاع، بلا مصلحةٍ ظاهرة في حفظ دين الناس، بل أثرها في إضعاف بعض الأصول الاعتقادية عند الناس بينٌ ظاهرٌ.

كما يمكن تحقيق المصلحة الشرعية في بيان الحق ورد الباطل وتوضيح الأصول الشرعية دون حاجةٍ إلى مثل هذه الاستطالة في أعراض المسلمين.

وسأضرب مثلًا يوضح المقصود أكثر:

فلو جاء شخصٌ وأراد أن يستحلَّ بعض دماء المسلمين بتأوُّل، فإنَّ الواجب الشرعي هو في التشديد عليه، وتعظيم النكير، ومنعه عن هذا الأمر الذي يفعله تأولاً، ولو احتج هذا الشخص بما جرى من حوادث التأول في التاريخ الإسلامي لتبين أنَّ ثمَّ فرقًا كبيرًا بين حدثٍ تاريخي مضى لم يعد ثم مفسدة مترتبة عليه، وبين واقعٍ يخشى من المفسدة فيه، ووقوع الإثم، فلا يجوز التهاون مع مثل هذا بدعوى التأول.

وكذلك باب الاستطالة بالتكفير على أهل العلم السابقين، فهو كما يقول ابن تيمية في مثل هذا السياق تحديداً إنَّ: (تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات).

فيجب التحذير منه، وبيان غلطه، وتوضيح المآلات الخطيرة عليه،

فإذا تعذَّر بالتأوُّل فلا معنى لذلك في هذا السياق، لأنَّ الواجب عليه ترك هذا الأمر والتوبة منه، والواجب أيضًا كف شره، وأما التأول بعد ذلك فقد يكون معذورًا عند الله، وأمر التأول في هذا كالتأول في غيره، لكن لا يجوز أن يبحث موضوع التأول في مثل هذا السياق.

ولهذا شواهد مقاربة:

فلو اجتنب المسلم الكبائر قيل له برجاء أن يغفر الله لك الصغائر، لا أن يفعل الصغائر وهو يرجو مغفرتها لأنَّه مجتنبٌ للكبائر!

ومثلها من يفعل الحسنات المكفرة للسيئات فهو يفعلها رجاء مغفرة ما وقع من سيئاتٍ، لا أن يقع في السيئات لأنه سيفعل الحسنات المكفرة!

فهذا التمييز بين الأمرين هو من جنس التمييز في باب التأول، تمييزٌ بين أمرٍ منكر يجب بيانه والتحذير منه وكف شره، وبين الحكم على أعيان القائمين به بعد ذلك،

وهذا يشمل أيضاً نفس التأول الذي نلتمسه لأهل العلم السابقين، فلا نضع التأول بين يدي الأحياء الواقعين في هذه المخالفات حتى يكون سببًا في إضعاف الحق الواجب عليهم، وإنما يجب بيان الحق لهم، وتخويفهم من ضرر مخالفته، ويكون التأول بعد ذلك تاليًا حتى لا يكون سببًا في التهوين من القيام بأمر الله، وحفظ حقوقه.
(ما احتج أحدٌ بدليلٍ سمعي أو عقلي على باطلٍ إلا وذلك الدليل إذا أعطي حقَّه، ومُيِّز ما يدلُّ عليه مما لا يدلُّ تبيَّن أنَّه يدلُّ على فساد المبطل المحتج به، وأنَّه دليلٌ لأهل الحق، وأنَّ الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقًا، والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا).

الفتاوى (٨/ ٢٩).

هي قاعدة مهمة، وتصلح أن تكون مادة تطبيقية تدريبية لطالب العلم على ما يمر به من شبهاتٍ معاصرة يعارض بها قطعيات الشرع وأصوله المحكمة، فما يستدلون به من دليلٍ نقلي في كتاب أو سنة أو دليلٍ عقلي، هو راجع عليهم من جهتين:

١-يكشفُ فساد قول صاحب الشبهة.
٢-ويدلُّ على صحة الأصل القطعي الذي جاء مقررًا في الكتاب والسنة.

هي بحاجة إلى علمٍ تفصيلي، و بحاجة أيضًا الى خبرة ودربة حتى تكون ملكة.
العواصم (ص ٣٩٥).
العواصم (ص٥٤٢).
قال جعفر بن محمد الخلدي:

رأيتُ الجنيد في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟

فقال: ‌

طاحت ‌تلك ‌الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في الأسحار.


حلية الأولياء (١٠/ ٢٥٧).
من ينكر على أحدٍ غلواً في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كأن ينكر الاستغاثة به فإنَّ من عادة أمثاله أن يتهم الناصح بأنَّه يكره النبي صلى الله عليه وسلم ويعاديه وينتقصه.

ومن ينصح أحداً في بدعة وقعت في عبادته، فإنه سيتهمه بأنه يكره هذه العبادة.

ومن ينكر غلوًا في أحدٍ من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ صاحب الغلو سيتهم الناصح بأنه يناصبهم العداء.

وهكذا، هو مسلك معتاد من مسالك العزة بالإثم، فلا يقبل الحق، ولا ينتصح فيعرف الزيادة المنكرة التي وقع فيها، وإنما يجعل ذلك عداءً لأصل الحق الموجود.

لفت نظري أثرٌ ذكره الامام أحمد في كتاب الزهد، قد اتهم فيه بهذا المسلك أحد كبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم:

يقول أبو وائل شقيق بن سلمة: (هؤلاء الذين يزعمون أنَّ عبد الله كان ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسًا قط إلا ذكر الله فيه).

فتلحظ أنَّ بعض الناس وصفوا ابن مسعود بالنهي عن الذكر نفسه، لأنه كان ينهاهم عن بعض الصور المحدثة في الذكر!

ففي هذا سلوى لكل ناصح بعده، أن لا يحزنه هذا المسلك المتوارث المبني على ضعف فهم أو سوء قصد، يجعل النصح بالمعروف دليلاً على عداءٍ للحق!
يحسب بعض الناس أنَّ الشبهات الشائعة إذا رُدَّ عليها ردًا قويًا محكمًا فإنَّ أثرها يزول، وأنَّ الجدل حول أصول الإسلام إن كانت الردود الممثلة للحق أقوى فإنَّ هذا يعني أنَّ المصلحة أعظم، وأنَّ هذا أنفع.

والحق أنَّ الحال ليس كذلك، فشيوع الشبهات خطرها كبير حتى ولو كانت الردود عليها قاصمة.

وذلك أنَّ الأصل أن يتلقى المسلم أصول دينه تلقي علمٍ وعمل، فيتعلم ما ينفعه، ويعمل به، فيكون الشائع هو تعلُّم الاحكام، وفهمها، والبحث عن مظانها، ثم العمل بها، والانتفاع بما فيها من خير وصلاح في الدين والدنيا، وأما إن تحولت إلى جدلٍ في أمرها، ونقاش كبير حولها، وتشكيك فيها، فهذا ضرره أعظم، ولن يزيله أي رد مهما كان.

وذلك أنَّ أكثر النفوس لا تحتمل هذا الجدل ولا تطيقه ولا تحسن التعامل معه، فشيوع مثل هذا الجدل وانتشاره وكثرة التركيز عليه هو سبب عظيم من أسباب الحيرة، والشك، والضعف عن القيام بأحكام الشرع، والإعراض عن أصوله وفروعه.

ولهذا كان موقف سلف هذه الأمة بصيرًا بأمرها، فتشددهم في أمر الجدل والشبهات كان مبنياً على فقهٍ بصيرٍ بحالها، وحال النفوس معها، ولهذا كانوا يذكرون من المعاني: معنى الحيرة التي تثمرها هذه الجدالات.

فالردود القائمة على علمٍ وعدلٍ مشكورة ونافعة، لكنها مهما قويت ليست كافية، فما الحل إذن؟

الحل في أمرين:

الأول: الحرص على نشر العلم، وبيان السنة، وتوضيح الحق بأدلته وبراهينه، بدون جدل، ولا رد على الشبهات، ولا خصومة مع أحد،

فيجب أن لا تكون العناية بأمر الجدل مع المنحرفين غالبًا ولا مقاربًا ولا مضعفًا لهذا البناء، ولئن حُمد لمن يرد على الباطل ويجادل أهله عند الحاجة، فإن هذا يجب أن لا يغفل عن واجبٍ أعظم منه وهو نشر العلم والسنة.

الأمر الثاني: التخفف من أمر الجدل والردود إلى الحد الواجب، وعدم التوسع فيه بأدنى سبب، ومع أدنى حاجة،

بل يجب أن يكون المسلم واعيًا بهذه الحقيقة الشرعية والنفسية، وأن الجدل مهمش للحق، ومضعف لتمسك النفوس به، فيجب أن يكون الرد والجدل في حده الأدنى القائم على الاستثناء، والحاجة، والعارض، لا أن يدور معه المسلم، ويبحث عنه، ويستثيره، ويتحرك وفق معطياته.


كما أنَّ على المسلم أن يتجنبه، ولا يتعرَّض له بدون حاجة، وإذا لم يمكنه أن يغلق فضاء الجدل بسبب هذا الانفتاح فإن العاقل يستطيع أن يتحكم بما يسمع ويشاهد ويقرأ، وهو في سعةٍ من أمره، فليس هو بحاجة أن يلاحق موضوعات الجدل، ولا يدور حولها، ولا ينشغل بها، أو يكون غذاؤه من العلم بالشرع أو أكثره قد جاء إليه من هذه الطريقة.

وبطبيعة الحال فليس المقصود هنا التزهيد من أي جهدٍ في الرد على الشبهات أو مجادلة أصحابها، فهذا عمل صالح محمود إن كان بعلم وعدل، وإنما التأكيد على مثل هذه المعاني المهمة حتى تكون ضابطة لهذه الجهود وحاكمة عليها.

وهو أمر مهم وملح جدًا، لأن طبيعة الجدل والردود والنقاش حولها يتسع، ويزيد، ويتمدد في موضوعات جديدة، فيغفل الانسان عن ملاحظة هذا الامر، فيظن انه على خير وصلاح ونفع لان أصل الامر كان كذلك، ولا يتفطن لما تثيره الخصومات من توسع يبعد الإنسان عن الجادة، ويحرك الاهواء، ويضعف مقصد الحق، ويغفل معه عما هو أهم منه.
2024/06/28 11:38:14
Back to Top
HTML Embed Code: