على نافذة روحي المتصدعة ، أجلس كعابر سبيل في طرقات نفسي الملتوية ، أنا النقيض المتجسد ، أمد يدي لبناء جسر ثم أهدمه ، أضيءُ شمعة الأمل ثم أطفئها بنفَس الشك. أعيش كمن يمسك النار بيد والماء بالأخرى ، تتنازعني أمواج الرغبة في السكون وصخب التغيير .

أرى نفسي كمرآة مشروخة ، تعكس حقيقتين متضاربتين ، إحداهما تهمس لي بالحلم والأخرى تصرخ بالخوف ، كأنني بطل مسرحية عبثية ، أكتب حواراتي وأمزقها في اللحظة ذاتها ، أسير على طريق لا بداية له ولا نهاية ، أبحث عني في متاهة أنا من صممها .

أعيش صراعًا سرمديًا بين ما أريد وما أكون، وفي كل مرة يعلو فيها صوت العقل ، ينهض القلب كعاصفة هوجاء ، يصرخ: "إلى متى؟!" .

- عِز ..

I was burning, while you came blaming me for the smell of ashes .

{ إِنَّ اللّهَ وملَائِكتَهُ يصَلّون عَلى النّبي يَا أيّها الذِينَ آمنُوا صَلّوا عَليهِ وَسلِّمُوا تَسلِيمًا }

الإلتزام لا يعني تحولك إلى فضيلة الشيخ ، بل بقاؤك كما أنت بشخصيتك ، بأفكارك ، بحياتك ، مجاهدًا نفسك لتكون أخف ذنبًا وأرقى خلقًا .

حين تمر الأيام دون أن يلاحظ أحد وجودك ، وحين يصبح غيابك كحضورك ، مجرد ظل عابر في زحمة الحياة ، تعيش على هامش الأيام بلا ضجيج ، تفعل ما تريد بعيدًا عن أعين الناس.. هل هي نعمة الانطواء الذي يحررك من ثقل التوقعات؟! أم لعنة الوحدة التي تأكلك ببطء؟ كأنك غريب حتى عن نفسك ، تناقض غريب..! تكره الأضواء ، لكنك أحيانًا ما تفتقد دفئها ، تبحث عن العزلة وكأنها ملاذ ، ثم تكتشف أنها سجن صنعته بيديك ، نصفك يتوق للاختباء ، ونصفك الآخر يتوق لأن يراه أحد .

- آرونسكي عِز ..

There’s something missing

- هَل أنا حقًا أنا ؟.

الليل كان يبدو أطول مما ينبغي ، والسماء المتلبدة بالغيوم تخفي وجه القمر الذي اعتاد أن يراقب شوارع المدينة. بين الأزقة الضيقة ، حيث الصمت يهمس بالذكريات ، كان أرون يسير ببطء كأنما يحمل على كتفيه ثقل العالم بأسره. عيناه تبحثان في الظلال عن شيء لا يعرفه ، ربما إجابة ، ربما هروبًا .

في جيبه الداخلي ، كان هناك دفتر صغير ، مغلق بإحكام كأنه يحوي سرًا لا يجب أن يُكتشف. توقف أرون عند زقاق ضيق ، حيث جدار مُغطى برسوم باهتة من زمن مضى. جلس على صندوق خشبي قديم ، وأخرج الدفتر. صفحاته كانت مليئة بالكلمات المشوشة ، أفكار مبعثرة كأنها أشلاء حلم لم يكتمل. أخذ قلمه وبدأ يكتب: " لماذا يبدو كل شيء معقدًا؟ لماذا نشعر أننا نحارب أنفسنا أكثر مما نحارب العالم؟ ."

وفي مكان آخر من المدينة ، جلس إيفن في غرفته المعتمة. الضوء الوحيد كان يأتي من شمعة على حافة الطاولة كان ينظر إلى يومياته المفتوحة ، لكنه لم يكن يكتب. الكلمات في ذهنه كانت كثيرة ، لكنها تتصارع كأنها ترفض أن تتخذ شكلًا مفهومًا. أخذ نفسًا عميقًا ، ثم همس لنفسه: " الحياة ليست سوى وهم. نحن نسير في دوامة لا نهاية لها ، نبحث عن معنى لن نجده ."

مرّت الأيام ، وكان أرون وإيفن يلتقيان في أماكن عشوائية. أرون دائمًا يبدو أكثر حيوية ، رغم القلق الذي يختبئ خلف ابتسامته. أما إيفن ، فكان وجهه يحمل علامات الإرهاق وكأنه يعبر عن عبء لا يستطيع التخلص منه .

"أرون،" قال إيفن ذات يوم وهما جالسان على مقعد خشبي قديم في حديقة مهجورة "هل تعتقد أن هناك غاية لكل شيء؟ ."

ابتسم أرون بخفة " بالطبع. الغاية هي ما نصنعه بأنفسنا ، نحن من نحدد معنى وجودنا ."

هز إيفن رأسه كأنه يرفض الفكرة " هذا مجرد هروب. الحقيقة أن العالم فوضوي ، ولا أحد يعرف لماذا نحن هنا ."

"ربما،" قال أرون بنبرة هادئة " لكن إذا لم نحاول إيجاد معنى ، فما الذي يبقى لنا؟ ."

كان الحوار بينهما دائمًا يتسم بالتناقض كأنهما شخصان من عالمين مختلفين ، يتبادلان الأفكار دون أن يصل أي منهما إلى الآخر. ومع ذلك ، كان هناك شيء غريب يجمعهما ، رابط غير مرئي كأنه جزء من سر أكبر .

في إحدى الليالي ، كان أرون في غرفته ، يراجع دفتره عندما فتح إحدى الصفحات ، وجد كلمات لم يتذكر أنه كتبها كانت بخط يده ، لكنها تحمل أسلوبًا لم يعهده. الكلمات كانت تعكس سوداوية عميقة ، أفكارًا عن اليأس والوحدة. شعر بشيء من القلق ، لكنه تجاهل الأمر .

وفي الوقت نفسه ، كان إيفن يكتب في يومياته لكنه عندما قرأ ما كتبه ، تفاجأ بأنه لا يعبر عن أفكاره المعتادة. كانت هناك جمل تعكس تفاؤلًا غريبًا ، كأن شخصًا آخر قد أمسك بالقلم وكتبها .

بدأ كلاهما يشعر بأن هناك شيئًا غير طبيعي المواقف التي عاشاها بدأت تبدو كأنها تتكرر بصيغ مختلفة ، الذكريات كانت تتداخل ، كأن حياتهما ليست سوى انعكاس لبعضهما البعض. وفي لحظة من الوحدة العميقة ، قرر كلاهما مواجهة الحقيقة .

أرون وقف أمام مرآته في ليلة باردة ، ينظر إلى انعكاسه كان يرى وجهه ، لكنه شعر كأنه يرى شخصًا آخر. همس لنفسه: "من أنا ، هل أنا حقًا أنا؟ ."

في نفس اللحظة ، كان إيفن جالسًا في غرفته ينظر إلى يومياته المفتوحة. قال بصوت خافت: " هل يمكن أن أكون أكثر من مجرد أنا؟ ."

وفي لحظة إدراك مفاجئة ، عرف كلاهما الحقيقة. أرون وإيفن لم يكونا شخصين بل كانا روحًا واحدة ، تتصارع بين النور والظلام ، بين الأمل واليأس ، كل ما عاشاه لم يكن سوى انعكاس لصراع داخلي داخل النفس .

جلس أرون/إيفن على الأرض ، والدموع تملأ عينيه لم تكن دموع حزن ، بل دموع فهم حيث أدرك أنه لا يمكنه أن يكون أحدهما دون الآخر. النور يحتاج الظلام ليبرز ، واليأس يحتاج الأمل ليقاوم .

قال بصوت مملوء بالإيمان: " في داخلي عالم كامل من التناقضات ، لا يمكنني الهرب منها ، ولا يجب أن أحاول. الحقيقة هي أنني كل هذا وأكثر ."

في تلك اللحظة ، انكسر المطر ، كأن السماء قد فقدت قدرتها على الحزن. الليل انساب حوله كخيوط سوداء تلتف حول المعنى ذاته .

أرون/إيفن نظر إلى انعكاسه الباهت على نافذة الغرفة وكأنها مرآة مكسورة تحاول عبثًا أن تعيد صورته كاملةً. همس بصوت بالكاد يسمعه: " هل أنا حقًا أنا؟! أم أنني صدى لشيءٍ لا أعرفه؟ " .

ثم سكت وأغلق عينيه فالأفكار كانت تتساقط مثل أوراق شجرة في خريف لا نهاية له ، وأدرك أن الإجابة لم تكن مهمة ، فالحياة ليست إلا نهرًا جارفًا ، يحملنا في تياره بلا اتجاه ، حيث البداية والنهاية يذوبان في مجرى واحد .

- آرونِسكي " عِز " ..

كانت هذه إحدى القصص القصيرة التي كتبتها مؤخرًا , والتي اتسمت بطابع فلسفي يعبر عن الصراع الداخلي للنفس البشرية بكل تعقيداته .

إن الانسجام الكامل مع بيئة مختلة لا يعكس سوى اضطرابٍ خفي في الذات ، فالنفس السوية لا تقبل الاعوجاج ، ولا تألف الشذوذ عن الفطرة ، ومن يتكيف تمامًا مع الخلل من حوله ، يصبح مرآة له ، فاقدًا لقدرته على التمييز بين ما هو طبيعي وما هو معتل .

- عِز ..

استكن أيها الإنسان المتكبر ، وحطم تكبرك قبل كل شيء. استكن أيها الإنسان المتبطل ، واعمل على أرض وطنك قبل كل شي .

الحقيقة ليست في خارجك ، بل في داخلك أنت ، جد نفسك في نفسك ، أخضع نفسك لنفسك ، إمتلك نفسك ، وعندئذٍ ستبصر الحقيقة. هذه الحقيقة ليست في الأشياء ، وليست خارج ذاتك ، وليست في مكان ما وراء البحار ، بل هي قبل كل شيء ، في عملك على نفسك. فإذا انتصرت على نفسك ، وذللتها لإرادتك تغدو حراً إلى حد لم تتخيله قط ، وتبدأ القيام بعمل عظيم ، وتجعل الآخرين أحراراً ، وترى السعادة ، لأن حياتك ستصبح ملأى ، وستفهم أخيراً شعبك وحقيقته المقدسة .

- فيودور دوستويفسكي ..

{ إِنَّ اللّهَ وملَائِكتَهُ يصَلّون عَلى النّبي يَا أيّها الذِينَ آمنُوا صَلّوا عَليهِ وَسلِّمُوا تَسلِيمًا }

الموت يا ناتاليا ، ليس مجرد ألمٍ عابر ، بل هو جرحٌ ينزف في أرواحنا حين يموت فينا أولئك الذين ما زالوا يتنفسون بيننا. كم هو مرعب أن يتحول القلب البشري إلى قبرٍ مظلم ، يحتضن ذكريات من كانوا يومًا أحبّة ، وما زالوا يسيرون على هذه الأرض وكأن شيئًا لم يكن .

بالأمس مررت بجانبك ، كانت المسافة بيننا لا تزيد على ذراع ، لكن ما بين أرواحنا كان شاسعًا كالمسافة بين الأرض والسماء. أدركت حينها أن الكراهية ، تلك التي تشتعل بجنون ، لا تزور القلب إلا إذا كان قد أحب بجنونٍ مماثل. أحببتك وكأن العالم خلا من كل شيء سواك ، وها أنا أكرهك وكأنك صرت وحدك محور هذا الكون المظلم .

قصتي معك يا ناتاليا ، أشبه بقصة أولئك الجاهليين مع أصنامهم ، كانوا يصنعون آلهتهم من التمر ، يخضعون لها تحت أشعة النهار ، وحين يهبط الليل يجردونها من قداستها ويلتهمونها كأي شيءٍ آخر. لو أن أسناني تطالك ، لكنت التهمتك لا بدافع الجوع ، بل بفيض الكراهية الذي يفيض في أعماقي .

لكنني الآن أدرك الحقيقة المرة نحن الذين نصنع أصنامنا ، بأيدينا نشكّلها ، وننصبها فوق عروش أرواحنا ونحن الذين نختار جلادينا ، نمنحهم السيف ونكشف صدورنا لضرباتهم .

أنا يا ناتاليا ، لست ضحية أي شيءٍ آخر سوى نفسي. أنا السجين ، أنا الجلاد ، وأنا الصنم الذي انكسر تحت وطأة خطاياه .

- آرونِسكي " عِز "..

.
هذه النصوص مقتبسةٌ من روايةٍ أعمل على كتابتها حاليًا ، وقد أتممتُ فصلًا منها ، وبإذن الله سأكملها وسأقوم بنشرها قريبًا كأول كتابٍ لي أقوم بنشره .

حدثته عن حريقٍ في داخلي فأسعفني بمزيدٍ من الحطب .