Telegram Web
"لكل بني الدنيا مرادٌ ومقصدٌ
وإن مرادي صحةٌ وفراغُ

لأبلُغَ في علم الشريعة مبلغًا
يكون به لي للجنانِ بلاغُ

وفي مثل هذا فلينافِسْ أولو النُّهى
وحسبي من الدنيا الغَرورِ بلاغُ

فما الفوزُ إلا في نعيمٍ مؤبَّدٍ
به العيش رغدٌ والشرابُ يُساغُ"

ابن جزي الكلبي
ردَّ أحدهم على الإمام مالك رحمه الله في مسألةٍ وأغلظ عليه، فرد عليه ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله ردًّا أشار فيه إلى سبب تردِّيه في هذا الطعن، فابتدأ رحمه الله ذلك بقوله:
(إنَّ هذا الرجلَ في ادعائِه وحَرَجِ صدره وتقحُّمِه فيما لا علمَ له به واسترسالِ لسانه بالمنكر من القول = قد سلك مسلكًا لم يسلكه إلا مُجَّانُ أهل الكلام وسفاهة الأحلام، ممَّن يغمص على متقدمي السلف من الفقهاء والمحدثين).

يريد رحمه الله أن هذا الإغلاظ في الرد ليس من شأن المتحققين بالعلم، ثم أشار -وهو محل الشاهد من هذا المنشور- إلى معنًى عظيم الأهمية يتضمّن سببَ وقوع بعض المفتونين في طعن الأئمة وذمهم، وذلك بقوله:
كأن هذا الرجل لم يلقَ إمامًا له هديُ العلماء، فيهتدي بهديه، ويتأدب بأدبه، فيمسك عنانه، ويملك لسانه عن أن يطلقه بالباطل في أمور الدين وفي أئمته، أعوذ بالله من سوء القربى، والركون إلى الهوى، وكيد الله بالإملاء).

يشير بذلك إلى أن المرء لو كان ملازمًا لأهل العلم والديانة، مقتديًا بهم، متأسيًّا بهديهم وأخلاقهم، فإن ذلك يعصمه من غواية الوقيعة في الأئمة وإطلاق لسانه فيهم بالباطل، وما أُتِيَ كثيرٌ من الطاعنين إلا من مثل ذلك، حيث استقلوا بأنفسهم عن ملازمة العلماء والتأدُّب بهم فتتايعوا في أودية الوقيعة في الأكابر.
قال الشوكاني عن كتاب "العواصم والقواصم" لابن الوزير اليماني:
(كتابٌ يُكتَبُ بماء الأحداق في صفحات الخدود الرقاق)
"دعوات الشافعي .. وتخريج المعلّمي"

الناظر في كتب الشافعي يجد أن له -رحمه الله- سَننًا عاليًا في الثناء على الله تعالى ودعائه وذكره والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام.
وكان لأدعيته شيوعٌ لدى أهل العلم، فضمَّنوها كتبهم وتناقلوها جيلًا بعد جيل، وعُنِي بها بعضهم كخادم علومه البيهقي رحمه الله، فقد قال في موضعٍ بعد نقله كلامًا للشافعي: (وله دعواتٌ حسانٌ قد نَقلْتُ أكثرَها إلى كتاب الصلاة والحج من كتاب «المعرفة») مناقب الشافعي (1: 402).

ومما يلاحظه المطالع أن للشافعي في مواضعَ من العبادات أدعيةً لم يرد فيها شيءٌ، بل كان هو الواضعَ لها، وكان مع ذلك يستحب للمرء أن يقولها، ومن تتبَّع كلام الشافعي أدرك أن له في هذا الباب -أعني باب الأدعية والأذكار- اتساعًا، على خلاف غيره من الأئمة ممن كانوا يغلبون جانب التوقيف في ذلك، وهذا من مواضع البحث الجديرة بالتحرير والعناية.

وممن وقفت على تحريرٍ له لبعض مرادات الشافعي في ذلك: العلامة المعلمي رحمه الله، فقد تعرض لما يضعه الشافعي من ذلك مصرِّحًا فيه بالاستحباب، وخرَّجه تخريجًا حسنًا على خلاف طريقة بعض الفقهاء من أهل مذهب الشافعي والمذاهب الأخرى ممن تلقَّى أدعية الشافعي تلك مستحبًّا لها على سبيل التعيين والتخصيص.

قال المعلمي رحمه الله:
(ذكر الشافعي في الحج أدعيةً بعضها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسندٍ لا يثبت، وبعضها حكاها عن بعض التابعين، وبعضها لم يَحْكِها عن أحد، ويعبر عنها بقوله: «أستحب» ونحوه.
وقد يُتَوهَّمُ أن تلك الأدعية مستحبة على التعيين، وليس هذا مرادَ الشافعي إن شاء الله، وإنما مراده -إن شاء الله- أن الدعاء المناسب للمقام مستحب، وذلك الدعاء الذي ذكره مناسب، وروايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن بعض السلف يُكسِبُ النفس طمأنينة بسلامة الدعاء مما يكره، ولو عَدَل الحاج عنه إلى دعاء آخر مناسب كان قد أتى بالمستحب، ولهذا قال الشافعي في باب القول عن رؤية البيت بعد أن ساق بعض الأدعية: «فأستحب للرجل إذا رأى البيت أن يقول ما حكيت، وما قال من حَسَنٍ أجزأه إن شاء الله تعالى».
وهذا كثيرٌ في كلام الشافعي، يقول: «أستحب كذا»، ويذكر مثالًا خاصًّا، يريد -والله أعلم- أنه فردٌ من أفراد المستحب المطلق، لا أنه مستحب بعينه) مجموع الرسائل الحديثية «أحكام الحديث الضعيف» (ص194).

ثم أورد المعلمي بعد ذلك -على سبيل التمثيل- استحباب الشافعي للصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام عند الذبح، مع عدم ورود ذلك.
يقول الشافعي: (ولا أكره مع تسميته على الذبيحة أن يقول: صلى الله على رسول الله، بل أحبه له) الأم (3: 621).

قال المعلمي بعد نقله كلام الشافعي في هذه المسألة:
(قوله: "بل أحبه له" مراده أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم محبوبة مطلقا، وهذا الموضع من أفراد ذلك المطلق، وهذا ظاهر في سياق عبارته، وإن غلط في هذا بعض الفقهاء فزعم أنها مستحبة في هذا الموضع بعينه على الخصوص).

قلت:
هذا المثال أحسب أنه كاشفٌ لبعض منهج الشافعي في هذا الباب إذا ما قارنتَ قولَه فيه بقول غيره من الأئمة.
ففي مقابل استحباب الشافعي تجد من أهل العلم من ينكر ذلك، وقد ألمح إليهم الشافعي في تتمة كلامه واشتد في الرد عليهم.
ويُنقَل عن الإمام مالك كراهة ذلك، وقيل بأنه المراد في رد الشافعي.
وأما الإمام أحمد فيقول ابنه عبد الله: (سألت أبي: ما يقال عند الذبيحة؟ قال: يقال: «بسم اللَّه، واللَّه أكبر». قلت لأبي: هل يصلي على النبي ﷺ عند الذبيحة؟ قال: ما سمعت فيه بشيء) مسائل عبد اللَّه (969).

فتلحظ هنا قدرًا من الافتراق بين مسالك الأئمة في هذا الباب من الفقه، بين مستحب ومانع ومتوقف.
فهذا بابٌ من الفقه دقيقٌ، وهو كما أسلفتُ جديرٌ بالتتبع والتحرير، ليصل المرء فيه إلى قولٍ قاصدٍ من خلال النظر في تصرفات الأئمة المتقدمين.
«إن من الآراء الغريبة الشائعة أن الكتب القديمة في كل علم لا ينبغي أن تُقرأ إلا على أيدي المختصين، وأن الهاوي ينبغي له أن يقنع بالكتب الحديثة وحدها. وقد وجدتُ، حين كنت معلمًا للأدب الإنكليزي، أن الطالب العادي إذا أراد أن يستجلي شيئًا من أمر الأفلاطونية مثلًا، كان أبعد ما يكون عن أن يتناول ترجمة لأفلاطون من رفّ المكتبة ويقرأ محاورة “المأدبة”، بل يؤثر أن يطالع كتابًا حديثًا مملًا، أطول منه بعشرة أضعاف، غاصًّا بالكلام عن المذاهب والتأثيرات، لا يذكر فيه قول أفلاطون إلا مرة في كل اثنتي عشرة صفحة. ومبعث هذا الخطأ تواضع محمود، وتهيّب من لقاء كبار الفلاسفة كفاحًا، لأن الطالب يرى نفسه قاصرًا عن إدراك معانيه، غير أنه لو علم، لعرف أن العظيم، لما فيه من عظمة، أوضح وأجلى من شارحيه المحدَثين. وإن الطالب البسيط ليقدر أن يدرك كثيرًا -إن لم يكن جلّ- ما قاله أفلاطون، بينما يعسر على أكثر الناس أن يفقهوا بعض ما يُكتب في الأفلاطونية في هذا العصر. ولذلك كان من أهم مساعيَّ في التعليم أن أقنع الشباب بأن المعرفة المباشرة أولى بالتحصيل من المعرفة الوسيطة، بل إنها أسهل تناولًا، وأمتع في التحصيل غالبًا.
… وإن كان لا بد للقارئ العادي أن يقتصر على الجديد أو القديم، فإن نصيحتي أن يقرأ القديم. وأقول هذا على وجه الخصوص لأنه هاوٍ، فهو أقل حصانة من المختصّ ضد مخاطر الاكتفاء بما هو معاصر، فإن الكتاب الجديد لا يزال في طور الامتحان، والهاوي لا قِبَل له بالحكم عليه. فلا بد من وزنه بمقياس ما تراكم من الفكر … عبر العصور، ولا بد أن تُكشف كل معانيه الخفية، ولا يستقيم فهمه في الغالب إلا بعد الإحاطة بعدد من الكتب الحديثة الأخرى. وأشبّه ذلك بمن يلتحق بمجلس بعد انعقاده بزمن، فتراه لا يفطن لموضع الضحك أو الغضب، لأنه لم يشهد المقدمات التي مهّدت لها. وهكذا شأن كثير من عبارات الكتب الجديدة، تراها عادية لا تثير الشك، وهي في حقيقتها ردّ على قولٍ سابق، أو تمهيد لرأي مغلوط، ولو علمت سياقها لسارعت إلى إنكارها…

ومن الوصايا الحسنة أن لا تنتقل من كتاب حديث إلى آخر مثله حتى تجعل بينهما كتابًا قديمًا، فإن أعياك ذلك، فاجعل مع كل ثلاثة كتب جديدة كتابًا قديمًا».


C. S. Lewis
كنت أتأمل مؤخرًا بعض الحكايات والأوصاف عن سعة الدعاوى وشؤمها في كتب التراجم ونحوها (المراد بسعة الدعوى -وقاني الله وإياك- نسبة المرء لنفسه علمًا أو عملًا زائدًا عن حقيقة حاله).
ومما وقفت عليه؛ سرعة انكشاف الدعوى، فقد نقل عن قتادة رحمه الله أنه قال مرةً: ما نسيت شيئًا!، ثم قال لغلامه: ناولني نعلي. فأجابه: نعلك في رجلك!، يعلّق الذهبي: «هذه الحكاية عبرة، فإن الدعاوي لا تثمر خيرًا!»، وصدق.
كما عيب جملة من الفضلاء والعلماء بهذا العيب، فقيل عن بعضهم: «كان إمامًا، عالمًا، لَسِنًا، فصيحًا… إلا أنه كان كثير الدعَاوَى»، وبعضهم تتفاقم به الحال، جاء في بعض التراجم عن أحد الفقهاء أنه قال مرةً «على كل حال؛ أنا شيخ الإسلام». والأقبح ارتباط سعة الدعوى بضيق العلم، وهذا معروف وله شواهد، وقد قيل عن بعضهم: «كثير الدعاوى قليل العلم»، وقيل عن آخر: «كثير الدعاوى، وهو بليد ناقص الفضيلة».
ونكتة الباب ما قاله بعض صلحاء المتقدمين: «ما زالت الدعاوى مشؤومة على أربابها مذ قال إبليس: أنا خير منه!».
2025/07/14 06:27:02
Back to Top
HTML Embed Code: