Telegram Web
من الأصول المتفق عليها بين الفقهاء: قبولُ الأخبار ولزومُ الأخذ بها.
وسواءٌ في ذلك الأخبارُ كلُّها، المتواترة منها والآحادية، وإنما نشأت مادَّة ترك الأخبار جملةً أو الآحادية منها من لدن غير الفقهاء، ثمَّ تسرَّبتْ تلك المادة في بعض أنحائها لطائفة منهم.

يقول الشافعي:
(لم أسمعْ أحدًا نَسبتْه عامَّةٌ أو نَسَبَ نفسَه إلى علمٍ يُخَالِفُ في أنَّ فرضَ الله عز وجل اتباعُ أمر رسوله ﷺ والتسليمُ لحكمه، بأنَّ الله جلَّ ثناؤُه لم يَجعلْ لأحدٍ بعدَه إلا اتباعَه، وأنه لا يَلزمُ قولٌ بكلِّ حالٍ إلا بكتابِ الله أو سنةِ رسوله ﷺ، وأنَّ ما سواهما تبعٌ لهما، وأنَّ فَرْضَ الله علينا وعلى مَن بَعْدَنا وقَبْلَنا في قبول الخبر عن رسول الله ﷺ واحدٌ لا يُختَلَفُ فيه أنَّه الفرضُ، وواجبًا قبولُ الخبر عن رسول الله ﷺ = إلا فرقةً سأصفُ قولَها إن شاء الله تعالى.
ثُمَّ تفرَّقَ أهلُ الكلامِ في تثبيتِ الخبر عن رسول الله ﷺ تفرُّقًا متباينًا، وتفرَّق غيرُهم ممن نسبتْه العامَّةُ إلى الفقه فيه تفرُّقًا).

فهنا يحكي الشافعي أنه لم يسمع أحدًا خالف في أصل اتباع السنة، ونسب إلى (أهل الكلام) أنهم تفرقوا في ذلك (تفرقًا)، ووصف ذلك التفرق بكونه (متباينًا)، كما نسب إلى طائفة نسبتْها العامَّةُ إلى الفقه أنها تفرَّقْت كذلك، ولم يصف تفرقها بما وصف به تفرُّقَ أهل الكلام، مما يدل على أنه تفرقٌ ليس بالواسع، وكأنه تسرَّب إلى الفقهاء من ذلك التفرق المتباين الواقع بين أهل الكلام.
وهذا النص أهمُّ النصوص التراثيَّة المؤرِّخَة للموقف من السنة.
.
قال أشهب:
"كنا نسمع الكلمة من مالك، فنخرج عنه جميعًا، ثم نتكلم عليها، فكل واحد منا يقول: إنما أراد معنى كذا، خلاف ما يقول صاحبه، فيُفرَق على ذلك، فإذا هي قد صارت روايتين وثلاثا وأكثر من ذلك!".

التسمية والحكايات عن نظراء مالك وأصحابه وأصحاب أصحابه للسرقسطي (ر: ١٧٢)


هذه الكلمة مهمة جدا، وهي تفسر كثيرا مما يحكى عن مالك وغيره من روايات، ولا سيما الإمام أحمد، وذلك أنه يبعد عادةً أن يكون للإمام أحمد في جمهرة مسائل الفقه هذا الكمّ من الروايات والتي قد تصل إلى خمس وست وسبع في المسألة الواحدة، فهذا إن تُصُوِّر في كثيرٍ فيبعد جدا أن يقع في غالب المسائل.
وعليه فما يُحكى عن الإمام أحمد من روايات في الإنصاف وغيره، فمرادهم به أن النقلة نسبوه إلى نصه، وإن كان في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون اختلافا في فهوم أصحابه والرواة عنه.
.
روى مالك في موطئه حديث عائشة في قصة بريرة رضي الله عنهما، وهو حديث مشهور مخرج في الصحيحين وغيرهما، وقال ابن حجر في "الإصابة" عن هذا الحديث حين ترجم لبريرة: (وقد جمع بعض الأئمة فوائد هذا الحديث فزادت على ثلاثمائة، ولخصتها في فتح الباري).

واستفتح ابن عبد البر شرحه له بقوله:
(الكلام في حديث بريرة قد سبق كثير من الناس إليه، وأكثروا فيه من الاستنباط، فمنهم من جود، ومنهم من خلَّط وأتى بما ليس له معنى، كقول بعضهم: فيه إباحة البكاء في المحبة لبكاء زوج بريرة. وفيه: قبول الهدية بعد الغضب. وفيه: إباحة أكل المرأة ما تحب دون بعلها. وفيه إباحة سؤال الرجل عما يراه في بيته من طعام، إلى كثير من مثل هذا القول الذي لا معنى له في الفقه والعلم عند أحد من العلماء) التمهيد (١٤: ١٢٢).
خالف الشافعي العراقيين (=أبا حنيفة وأصحابه) في كثير من أصولهم وفروعهم، كما خالفهم كثيرٌ غيرُه من السالفين والخالفين، إلا أن للشافعي سننًا عاليًا في بحثه معهم، سواء في مستوى تصوره التفصيلي لمذهبهم، أو في تخيّره الأدلة والمسالك الجدلية الناهضة لنقض مقرراتهم، وكذا في لغة نقده لهم ما بين إغلاظٍ تارة وإلانةٍ أخرى، معطيًا كل أصل وفرع وزنه اللائق به، مع إحسانه القول فيهم وحفظه لمنازلهم ورعايتهم لمقاماتهم في الفقه والنظر.

وكثيرٌ من الطاعنين في أبي حنيفة وأصحابه في زماننا يعانونا فقرًا مدقعًا في كل ذلك، فلا هم على بصرٍ بمفصل أصول وفروع أبي حنيفة، ولا هم تضلعوا من أدلة الشريعة وأدركوا مناهج المتقدمين في استنباط أحكامها، ولا تمييزَ لهم بين رتب المسائل ومواقعها من القطع والظن والإحكام والاشتباه .. وإنما بضاعتهم ما أُثِر عن بعض أئمة المتقدمين من نقداتٍ تلقوها بعقول ناقصة وأخلاق تالفة، ولذلك لا تكاد تجد بين هؤلاء من يكون رأسًا في الفقه والأصول، ولا يكاد يستقيم لهم ذلك لو أرادوه، لعدم استعداد ملكاتهم وتهيؤ قدراتهم لهذا الجنس من المعارف، بل إنما يلذّ لهم ما يوافق شراسة أخلاقهم ورداءة طباعهم .. ومن يقرأ مسائل الفقه بمنظار مدونات الجرح والتعديل فلا ترجُ خيرَه!

هذا، ومن قبلُ عالج الشافعي القولَ في بعض النقدات الموجهة لأبي حنيفة وأصحابه، وكان له مراجعةٌ لها، قولًا وعملًا:
- أما عملا، فبتلقيه كفاحا عن محمد بن الحسن، وأخذه عنه، وحيازته لكتبه التي قُدّت من فقه أبي حنيفة، فكان مستفيدًا منها ناقدًا لها، وكان ذلك في زمنٍ راج فيه نقد العراقيين والتحريض على مجانبتهم، فلم يرتهن لسطوة تلك الأجواء، مع درايته بمستنداتها المنهجية، بل كان له موقفه الخاص. وانظر -كرمًا- ما بسطتُه من القول في اتصال الشافعي بالعراقيين وانفصاله عنهم في كتابي "عبقرية الإمام الشافعي" لتدرك اتزان الشافعي في ذلك، ولئن لم ترضَ بالسير على طريقته فلن تستسطيع نفي الاعتبار عنه وعدّه موقفا سلفيا مبكرًا في التعاطي مع مدرسة الحنفية.

- وأما قولا، فشاهده قوله لأحد العراقيين ضمن مناظرته إياه في مسألةٍ: (قد شهد عليك أصحابنا الحجازيون، وعلى من ذهب مذهبك في رد هذين الحديثين، وفيما رددت مما أخذوا به من الحديث أنكم تركتم السنن وابتدعتم خلافَها، ولعلهم قالوا فيكم ما أحبُّ الكفَّ عن ذكره، لإفراطه) الأم (10: 27).
فمع كون الشافعي معدودًا في أهل الحديث -الخصوم التقليديين للعراقيين أهلِ الرأي- إلا أنه لم يكن محاميًا عن طريقتهم تفصيلًا ولا مسلمًا لما أُثِر عنهم من نقد العراقيين، بل كان يَزِن ذلك بنظر منهجي تقيّله وسار على نظامه، ولذا لم يستنكف أن يقرّ بوقوع ما لا يُحمَد من جهة أصحابه وحَكَم بإفراطه حتى استحبّ تركه والكف عن ذكره .. وهذا هو فرقُ ما بين من يقرأ المشهد العلمي مراعيًا لقواعد المنهج ومكانة الأئمة، وبين من يقرؤه بصدرٍ مِلؤُه الغلّ على سادات المسلمين.
.
قال الذهبي عن الإمام محمد بن يحيى الذهلي (ت: 258هـ):
(كانت له جلالة عجيبة بنيسابور، من نوع جلالة الإمام أحمد ببغداد ومالك بالمدينة).
وقال:
(كان أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله).
.
"إقراء ديوان الشعراء الستة يوم الجمعة"

قال العلامة الحسن اليوسي:
"العلم كله حسن محتاج إليه، فإنه إما مقصود لذاته فيما تعبد به العبد، وإما معين على ذلك نوع إعانة، فمتى صلحت النية كان الجميع قربة وعبادة.

ولقد حدثونا عن بعض الفقهاء ممن كان يواصل أشياخنا رحم الله الجميع، وكان يدرس للطلبة الكتب المتداولة في الفقه والنحو والكلام وغير ذلك من الفنون، أنه توفي، وأنه رِيء بعد موته وسئل عما فعل الله به، فأخبر أنه أثيب على كل كتاب من تلك الكتب بحمد الله، وذلك لصلاح نيته.

وقد كنتُ دخلتُ يومًا على أستاذنا الإمام أبي عبد الله بن ناصر رضي الله عنه، وكان يومَ جمعة، فوجدته في روضة الأشياخ، وإذا هو يُقرِئ لأولاده "ديوان الشعراء الستة"، ويطرر على النسخة ما يحتاج من شرح الغريب ونحو ذلك، فقلت في نفسي: هذا يوم الجمعة يُعتَنى فيه بالإقبال على العبادة لشفوف فضله، وهذه الروضة موضع ذكر واعتبار، والشيخ رضي الله عنه أعرف، عنده النهاية في كل ذلك، فعلمت أن ذلك إنما كان لصلاح النية وصحة الإخلاص وذهاب الهوى. فكان كل ذلك عبادة أيا كان، وفي أي موضع كان.

ولهذا يقول أئمة الدين: إن علامة من يأخذ في العلم الله تعالى أن لو قيل له: غدا تموت، لم يطرح الكتاب من يده. أي: لكونه دخله بوجه صحيح، ولو كان أخذه فيه بالهوى لفرّ عند الإحساس بالموت عنه إلى الصحيح، وهكذا في جميع التصرفات".
"آفة المتعلم: الملل، وقلة صبره على الدرس والنظر .. الملول لا يكون حافظًا، وإنما يحفظ من دام درسُه وكدَّ فكرَه وسهر ليلَه، لا من رفّه نفسَه"

الشافعي
.
عن حديث معاذ المشهور في ترتيب الأدلة قال ابن طاهر بعد أن ذكر عدم صحة إسناده: (وأقبح ما رأيت فيه قول إمام الحرمين في كتاب أصول الفقه: "والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ". وهذه زلة منه، ولو كان عالما بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة).
فعلق ابن حجر بقوله:
(قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة، مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه، فإنه قال: "والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل" كذا قال رحمه الله!).
.
إسماعيل بن أبي خالد البجلي الكوفي (ت:١٤٦هـ)، محدث الكوفة في زمانه مع الأعمش.
قال عنه الإمام أحمد: (ابن أبي خالد يشرب العلمَ شربًا).
.
"بلغتُ خمسًا وعشرين سنةً، وما بقيت عليّ مسألةٌ للفراء إلا وأنا أحفظها"

ثعلب (٢٩١هـ)
.
"إذا لقي الرجلُ الرجلَ فوقَه في العلم فهو يوم غنيمته.
وإذا لقي من هو مثلَه دارسه.
وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلَّمه"

عبد الرحمن بن مهدي
.
قال الفضيل بن عياض:
"إني لأرحم ثلاثةً: عزيزَ قوم ذلّ، وغنيًّا افتقر، وعالمًا تلعَّبُ به الدنيا"
.
"وحَقِّ الحق إني لأعجبُ من عالمٍ يجعل علمه سبيلًا إلى حطام الدنيا، وهو يرى كثيرًا من الجهّال وصلوا من الدنيا إلا ما لا ينتهي هو إليه .. فإذا كانت الدنيا تُنال مع الجهل، فما بالنا نشتريها بأنفس الأشياء وهو العلم؟!"

التاج السبكي
.
"فلعمر الله، لا أحصي من رأيتُه يشمّر عن ساعد الاجتهاد في الإنكار على شافعي يذبح ولا يسمّي، أو حنفي يلمس ذكره ولا يتوضأ، أو مالكي يصلي ولا يبسمل، أو حنبلي يقدم الجمعة على الزوال، وهو يرى من العوامّ ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى يتركون الصلاة التي جزاء من تركها عند الشافعي ومالك وأحمد ضرب العنق ولا ينكرون عليه، بل لو دخل الواحد منهم على بيته لرأى كثيرًا من نسائه يترك الصلاة وهو ساكتٌ عنهنّ، فيا لله للمسلمين! أهذا فقيه على الحقيقة؟! قبّح الله مثل هذا الفقيه"

التاج السبكي
.
"... ومنهم فرقةٌ ترفّعت، وقالت: نضمّ إلى الحديث الفقهَ، وكان غايتها البحث في الحاوي الصغير لعبدالغفار القزويني، والكتاب المذكور أعجوبةٌ في بابه، بالغٌ في الحسن أقصى الغايات، إلا أن المرء لا يصير به فقيهًا ولو بلغ عنان السماء، وهذه الطائفة تُضيع في تفكيك ألفاظه وفهم معانيه زمانًا لو صرفتْه إلى حفظ نصوص الشافعي وكلام الأصحاب لحصلت على جانب عظيم من الفقه، ولكن التوفيق بيد الله"

التاج السبكي
.
"الكتابة" تلمّ شعث الأفكار التائهة، وهي السبيل الأمثل لنظم النصوص المجموعة، وتمييز النقول/الأفكار الجيدة من الزائفة .. وأيما بحثٍ لم ينل حظّه من الكتابة مرات ومرات فحظّه من التحرير مبخوس

لا تؤخر نظم مادتك وكتابة أفكارك إلى حين فراغك من جمع المادة، بل حرّك يدك بالكتابة كلما تحصّل لك قدرٌ صالح، وإياك والسأمَ من الانتظام في الكتابة كلما تهيأ لك ذلك بما استقام لك من موادّ.

وأعني بالكتابة هنا الكتابة بنية التحرير والاستيفاء للمبحث الذي تقصد إلى معالجته، وليس مجردَ تقييدٍ لرؤوس الأقلام.

الكتابة هي البيئة الأمثل لنضج الأفكار، وهي الأرض الخصبة لنموّ الروابط بينها وبين النصوص العالية، وهي المغناطيس الجاذب للمزيد من الأفكار، وهي التي ترشّد قراءتك لما تستقبله من مصادرَ، وهي التي تبصّرك بمكامن القوة في بحثك ومثارات تحرير مشكلاته ومواقع الغلط فيه
.
رزقني الله حبَّ الموطأ، وحبَّ كل كلامٍ في مدح الموطأ، وحبَّ كل دراسةٍ لها تعلُّقٌ بالموطأ، ولو لم يكن من اتصالي بتراث الإمام الشافعي وتلمذتي لكتبه إلا الاتصال بالموطأ لكفاني ذلك.
وكنت وما زلتُ أتلقَّف العبارات الدالَّة على فضيلة هذا الكتاب، وجلالة منزلته، وعظيم مضامينه، فهو فوقَ ما نظنُّ وأعلى وأجل.

يلذُّ لي دائما استذكار قول الذهبي: (إن لـ «الموطأ» لوقعًا في النفوس، ومهابةً في القلوب لا يوازنها شيء). وهذه المهابة وذلك الوقع يدركه كل من اتصل بالموطأ وسعى في تفهُّمه ودراسته.

ولما سجلت أطروحة الدكتوراه حول الشافعي وموقفه من المدرسة العراقية أدركت كثيرًا مما كان خافيًا عليَّ من جوانب الامتياز لهذا الديوان العظيم، والتي يلخصها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن «الموطأ» لمن تدبَّره وتدبَّر تراجمَه وما فيه من الآثار وترتيبَه عَلِمَ قولَ مَن خالفها من أهل العراق، فقصد بذلك الترتيبِ والآثارِ بيانَ السنة والردَّ على مَن خالفها، ومَن كان بمذهب أهل المدينة والعراق أعلمَ كان أعلمَ بمقدار «الموطأ»، ولهذا كان يقول: كتابٌ جمعتُه في كذا وكذا سنةً تأخذونه في كذا وكذا يومًا كيف تفقهون ما فيه؟ أو كلامًا يشبه هذا).

ولعظيم منزلة الموطأ عُدَّ أصل الأصول، حتى قال الدهلوي بعد ذكره الكتب الستة والمستدرك: (فكأن هذه الكتب شروح للموطأ وتتمات عليه)!

وفي توصيةٍ بالموطأ وصلاحيته للترقي في النظر الحديثي والفقهي يقول الكوثري: (طالب الحديث إذا عُنِيَ بادئ ذي بدء بمدارسة أحوال رجال «الموطأ» فاحصًا عن الأسانيد والمتون فيه = تدرَّج -عن ذوق وخبرة- في مدارج معرفة الحديث والفقه في آنٍ واحد، بتوفيق الله سبحانه، فيصبح على نور من ربه في باقي بحوثه في الحديث، راقيًا على مراقي الاعتلاء في العلم، نافعًا بعلمه ومنتفعًا به، والله سبحانه ولي التسديد).

والكلام حول الموطأ، والنقول المبينة عن فضله الكاشفة عن امتيازاته = كثيرةٌ جدا، لذيذةٌ جدا.

وكم هي نعمةٌ أن يحفظ الله لنا هذا الكتاب، ويحفظ لنا جملةً من رواياته، ويكرمنا بأن وفَّق ابنَ عبد البر لتأليف كتابيه العظيمين (التمهيد) و (الاستذكار) اللَّذَين أدَّيا كثيرًا من حق الموطأ ومهَّدا فهمه وقرَّبا كثيرًا من كنوزه، ولو كان هذان الكتابان مفقودَين وحُكِيَ لنا خبرهما في كتب السير والتراجم لملأنا الدنيا ضجيجًا على فوتهما، ولكنَّ الله أكرمنا بهما تامَّين مكمَّلين، ومن تمام شكر نعمة الله أن نعقد الخناصر على دَرْسهما والتفقه بهما.

وإنَّ من أمانيَّ التي أسأل الله أن يكرمني بها أن يكون لي مشروعٌ متصلٌ بهذا الكتاب، ينفع الله به أهل العلم وطلبته -ومَن الناس إلا هم!- وإن كنتُ لم أتبيَّن بعدُ حدودَه، إلا أن معالمَه آخذةٌ في التشكُّل، فأرجو أن يمنَّ الله عليَّ بإنجاز ذلك وإحسانِ القول فيه في سعةٍ وقوةٍ وإخلاص نيَّة.
.
أطالع هذه الأيام جدلًا ونقدًا متبادلًا، يتدثّر طرفٌ منه بمُسُوح الموضوعية، مع تظاهرٍ بتقبل النقد، فإذا قُوبِل به أخذ يرفع صوته بتحاميه عن الجدل واشتغاله بمشاريعه "الكبرى".

كم ينتابني شعورٌ بالأسى والشفقة على مثله حين أراه لا يذكر مشاريعه وفضيلة الاشتغال بها إلا في الحال التي يكون فيها موجوعًا، يعيش ليله ونهاره في مجادلات ومشاحنات، ويستحلي الهمز واللمز لكل مخالفٍ له، ولا يخجل في ذات الوقت من وعظ أتباعه بضرورة تقبل النقد والتحلي بالموضوعية والنأْي عن الجدال والاشتغال بالمشاريع المعرفية، يعني تلك المشاريع الكبرى التي لا تعدو في كثيرٍ منها من أن تكون مشاريعَ استخذاء وارتهان لكتابٍ في الشرق أو الغرب.

"موضوعيةٌ حسب الهوى" هو الشعار المعبر عن واقع كثيرين ممن يلهجون بالموضوعية، ظانّين أن مجرد إدارة اللسان بذلك يمنحهم مشروعية التحدث باسمها وباسم البحث العلمي.

أن تصرخ محاولًا الإيهام بخلاف حالك، فذلك لا يغير من الواقع شيئا، فأنتَ أنتَ ولن تكون غيرَك حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، وولوجه في ذلك السَّمِّ أدنى وأقرب من تكلّفك حالًا لا تليق بك، فالطبعُ غلّاب .. وعلى المرء أن يتصالح مع ذاته قبل أن يكون كغراب البَيْن حين ضيّع المشيتَيْن!
.
‏اقرأ لتفهم لا لتكتب، فإنك إن فهمتَ كتبت، وأما إن قرأت لتكتب فغالبًا ما تكون مهمّتك تلقّط المفردات التي تنسجم مع أفكارك وتصوراتك المسبقة دون وعيٍ راشدٍ بالمادة المقروءة .. لا تستهنْ بنيتك حال القراءة والنظر، فنية الباحث أبلغ من عمله!
2025/07/14 03:54:00
Back to Top
HTML Embed Code: