Telegram Web
قال تعالى: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [ فاطر: 28].
ومن ذلك: أن العلم نور يهدي إلى الحق، وينير الطريق للسالكين، وبه يُميَّز بين الإيمان والكفر، والمصلحة والمفسدة، والخير والشر، بل يعرف به خير الخيرين وشر الشرين، وعلى قدر علم الإنسان وفقهه، وقوة بصيرته، وسعة أفقه، ومعرفته بواقعه، يكون حكمه على الأحداث من حوله، وإدراكه لكيفية التعامل معها، ونظره إلى عواقبها ومآلاتها، ومتى يقدم، ومتى يحجم؟ ومن يعادي، ومن يسالم؟
قال تعالى: ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، ولذلك جعل الله النّاس على قسمين إمَّا عالم أو أعمى فقال الله تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) [الرعد: 19].
معاشر المسلمين: وتأملوا المقابلة بين أصحاب القلوب المريضة والقاسية، والذين أوتوا العلم المخبتين في قول ربنا تبارك وتعالى : " لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [الحج: 53، 54] .
يقول ابن القيم : (وأما العلماء بالله وأمره فهم حياة الوجود وروحه، لا يستغنى عنهم طرفة عين.. فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات. فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن وكنسبة كلام اللسان إليه، فإذا عدمه كان كالعين العمياء، والأذن الصماء، واللسان الأخرس؛ ولهذا يصف الله أهل الجهل بالعمي والصم والبكم، وذلك صفة قلوبهم حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصممها وبكمها " وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا " [الإسراء: 72] والمراد عمى القلب في الدنيا) (مفتاح دار السعادة) .
ومن ذلك: أن طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين يقود قلب صاحبه لأن يكون لله شاكرًا وله ذاكرًا، دائم الذكر بحلاوة حب المذكور، منعم قلبه بمناجاة الرحمن، يعد نفسه مع شدة اجتهاده خاطئًا مذنبًا، ومع الدؤوب على حسن العمل مقصرًا، لجأ إلى الله عز وجل فقوي ظهره، ووثق بالله فلم يخف غيره، مستغن بالله عن كل شيء، ومفتقر إلى الله في كل شيء، أنسه بالله وحده، ووحشته ممن يشغله عن ربه، إن ازداد علمًا خاف توكيد الحجة، مشفق على ما مضى من صالح عمله أن لا يقبل منه، همه في تلاوة كلام الله، الفهم عن مولاه، وفي سنن الرسول صلى الله عليه وسلم الفقه؛ لئلا يضيع ما أمر به، متأدب بالقرآن والسنة، لا ينافس أهل الدنيا في عزها، ولا يجزع من ذلها، يمشي على الأرض هونًا بالسكينة والوقار، ومشتغل قلبه بالفهم والاعتبار، إن فرغ قلبه عن ذكر الله فمصيبة عنده عظيمة، وإن أطاع الله عز وجل بغير حضور فهم فخسران عنده مبين... قال الله عز وجل : ( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 107-109] (كتاب أخلاق العلماء للآجري) .
ومن ذلك: أن العلم الشرعي مهذب للنّفوس: العلم يهذِّب الأخلاق ويربّي صاحبه على اكتساب الفضائل والآداب،
قال ابن عباس رضي الله عنهما ذللت طالبا فعززت مطلوبا، فقال ابن أبي مليكة رحمه الله: ما رأيت مثل ابن عباس إذا رأيته رأيت أحسن النّاس وجها وإذا تكلّم فأعرب النّاس لسانا وإذا أفتى فأكثر النّاس علما.
ومنها أن العلم الشرعي سبب لحياة القلوب وصلاحها، فهو علم مرتبط بالله وأسمائه وصفاته، وبالنبي صل الله عليه وسلم وبمنهجه وسيرته، وأحكام الدين وتشريعاته، وبالعلماء والمحدثين والدعاة والوعاظ، قال لقمان لأبنه يا بنيّ جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ الله يحي القلوب الميتة بالحكمة كما يحي الأرض الميتة بمطر السّماء.
والجهلُ داء قاتلٌ وشفـــاؤه *** أمران في التركيب متفقـانِ
نص من القرآن أو من سنـة *** وطبيب ذاك العالم الربانـي
والعلم أقسام ثلاث ما لــها *** من رابع والحق ذو تبيــانِ
علم بأوصاف الإلـه وفعلــه *** وكذلك الأسماء للديــــانِ
والأمر والنهي الذي هو دينـه*** وجزاؤه يوم المعاد الثانــي
والكلُّ في القرآن والسنن التـي *** جاءت عن المبعوث بالفرقان
والله ما قال امرؤ متحذلــق *** بسواهما إلا من الهذيــان
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه
أيها المؤمنون: إن طلب العلم الشرعي طريق إلى الجنة، وأي دواء أصلح وأنجع للقلوب من التعلق بالآخرة وبجنة الله ورضوانه، فتستقيم في هذه الحياة ، وطالب العلم إذا سلك العلم إذا سلك هذا الطريق فإن الله يسهل له به طريقا إلى الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ»، وذلك أن طريق الجنة يكون بصحة الاعتقاد ويكون بصحة العمل، وصحة الاعتقاد لا تكون إلا بعلم، وصحة العمل لا تكون إلا بعلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم) (صحيح الجامع) ، قال علي رضي الله عنه لكميل بن زياد: "يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم، والمال محكوم عليه
فاحرصوا رعاكم الله على طلب العلم والتفقه في الدين، تصلح قلوبكم وتستقيم حياتكم ، وترفع درجتكم، وتسلكون الطريق إلى جنة ربكم .
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
.
خطبة جمعة:
اللهم آمِنْ رَوْعَاتِنا ..!!
الحمد لله العظيم الشان، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين ثم قال له كن فكان، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان، أحمده سبحانه وحمدُه واجبٌ على كل إنسان، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والتوفيق للإيمان لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.
سَهِرَتْ أعْيُنٌ ونامَتْ عُيُونُ **لِأمورٍ تكونُ أو لا تكونُ
إنَّ ربَّاً كفاكَ ما كان بالأم **سِ سَيكْفيكَ ما غداً سيكونُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كثير الخير، دائم السلطان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والبرهان، اللهم صَلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه حملة العلم والقرآن، وسلم تسليما كثيراً، أمَّا بَعْد:
أيها المؤمنون/عباد الله: إن من أعظم نعم الله على عباده أن يصبح الإنسان آمنا على نفسه، مطمئنا على عرضه، لا يخاف ظلم ظالم، ولا جور جائر، وقد أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن من اجتمع له الأمن في وطنه، والصحة في بدنه، مع وجود قوت يومه، فقد جُمعت له الدنيا ولم يفته منها شيء، حيث يقول كما جاء في الحديث: "مَن أصبَح منكم آمنًا في سِربِه، معافًى في جسدِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنّما حيزَت له الدّنيا بحذافيرها" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وصدق من قال:
إِذَا اجْتَمَعَ الإِسْلاَمُ وَالقُوتُ لِلْفَتَى **
وَكَانَ صَحِيحًا جِسْمُهُ وَهْوَ فِي أَمْنِ
فَقَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا جَمِيعًا وَحَازَهَا**
وَحَقٌّ عَلَيْهِ الشُّكْرُ للهِ ذِي الْمَنِّ.
والأمن في البلاد مع الصحة في الأبدان نعمة يجب أن تشكر، فإن من فاتته هذه النعمة لم يسعد من الحياة في شيء؛ ولذلك جاء في الحِكم: نعمتان مجحودتان: الأمن في الأوطان، والصحة في الأبدان.
لذلك كان من واجبات كل فرد مسلم -حيثما كان موقعه، وكيفما كانت قدراته- الحفاظ على الأمن، وإشاعة الأمان، وأن يحرص على سلامة حياة الآخرين، وحفظ ممتلكاتهم، وصيانة أعراضهم، واحترام خصوصياتهم، فلا تحلو الحياة إلا بالأمن والأمان.
ولهذا كانت أوَّل تضرُّعات الخليل -عليه السلام- لربّه -جل وعلا- أن يبسُطَ الأمنَ على مهوى أفئِدَة المسلمين، بأن يجعل هذا البلد آمنا، فاستجاب الله دعاءَه، فقال سبحانه: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران:97].
وفضَّل الله البيتَ الحرام بما أحلَّ فيه من الأمنِ والاستقرار، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة:125].
وامتنَّ الله على ثمودَ قومِ صالح بنحتهم بيوتهم من غير خوفٍ ولا فزع، فقال عنهم: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) [الحجر:82].
ويوسفُ -عليه السلام- يخاطبُ والدَيه وأهلَه ممتنًّا بنعمة الله عليهم بدخولهم بلدًا آمنًا مستقرًّا تطمئنّ فيه نفوسهم، (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) [يوسف: 99].
وقرَن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بين الأمنِ والإيمان في دعائه، فكان يقول إذا رَأى الهلالَ: "اللهمَّ أهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمان، والسّلامةِ والإسلام، هلالَ خيرٍ ورشدٍ، ربيِّ وربُّك الله" رواه الترمذي.
عباد الله: لقد جمعت شريعةُ الإسلام المحاسنَ كلّها، فصانت الدينَ، وحفِظت العقول، وطهَّرتِ الأموال، وصانت الأعراض، وأمَّنت النفوس، أمرتِ المسلمَ بإلقاء كلمة السلام والأمن والرحمةِ والاطمئنان على أخيه المسلم، إشارةً منها لنشرِ الأمن بين الناس، وأوجبت حفظَ النفس، حتى في مظِنَّة أمنها في أحبِّ البقاع إلى الله؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا مَرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقنا ومعه نَبلٌ فليمسِك على نِصالها -أو قال:- فليقبِض بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء" متفق عليه.
وحذَّرت الشريعة الإسلامية من ترويع المسلم أخيه المسلم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلَّ الشيطانَ ينزِع في يده، فيقعُ في حفرةٍ من النار" متفق عليه.
وحرَّمت الشريعة الإسلامية على المسلم الإشارةَ على أخيه المسلم بالسّلاح ولو مازحًا، قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أشار إلى أخيه بحديده فإنّ الملائكة تلعنُه حتى يدعَها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه" رواه مسلم.
بل شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قانون الأمن العام لجميع أفراد المجتمع، فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" رواه مسلم.
في ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً؛ فما قيمة المال إذا فقد الأمن؟! ما طيب العيش إذا انعدم الأمن؟! وكيف تنتعش الحياة بدون الأمن؟! وكيف يتبادل الناس المنافع؟ وكيف تعمر الديار وتصل الأرحام إذا فقد الأمن؟.
إن الأمن مِن نعم الله العظمى، وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلا به، ولا يطيب العيش إلا باستتبابِه؛ ولذلك جعَله الله من نَعيم أهلِ الجنّة الدائم، قال الله تعالى: (اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ) [الحجر:46].
لذلك اعتنى الإسلام أشد العناية باستتباب الأمن في مجتمعاته، فشرع الأوامر، ونهى عن الفساد والشرور، وشرع الحدود والزواجر الرادعة، وسن القوانين، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَلتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَلْعُدْوَانِ) [المائدة:2]، وقال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة:33].
وبيَّن الإسلام أن من أسباب حصول الأمن عمل الصالحات، والاستقامة على سنن الهدى، والابتعاد عن سبل الفساد والردى، قال تعالى: (لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، وقال -عزّ وجلّ-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ) [النور:55].
أيها المسلمون: إن الأمن والاستقرار إذا عَمَّ البلادَ، وألقى بظلِّه على الناس، أَمِنَ الناس على دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم ومحارمهم، ولو كتَب الله الأمن على أهل بلد من البلاد، سارَ الناس ليلاً ونهارًا لا يخشَوْن إلا الله؛ وفي رِحاب الأمن وظلِّه تعمُّ الطمأنينة النُّفوس، ويسودُها الهُدُوء، وتعمُّها السعادة، أما عندما يحدث الخلل وتنقلب الموازين و ينعدام الأمن، فإن المريض يئنُّ فلا يجد دواءً ولا طبيباً، وتختلُّ المعايش، فتهجَر الديار، وتفارَق الأوطان، وتتفرَّق الأسَر، فلا توصل الأرحام، وتنقَضُ العهود والمواثيق، ويتعسَّر طلبُ الرزق، وتتبدَّل طباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب ويغيب الصدق، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وتتوقف نهضة البلدان وينحسر المد الحضاري وتفسد الحياة.
فاللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم…
الخطبة الثانية : الحمدلله وكفى وسلاماً على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
عباد الله: ألا وان أعظم أمن يجب على الجميع أن يسعى لتحقيقه الأمن من عذاب الله ومكره، قال تعالى: (أَفَمَن يُلقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ) [فصلت:40]؛ وقال تعالى (إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف:13].
فلنحافظ على الأمن في بيوتنا ومجتمعاتنا وأوطاننا، وليقم كل واحد بدوره وواجبه، ولنعلم جميعاً أن هذا الأمن لن يتحقق إلا بعقيدة سليمة، وعبادة صحيحة، وعمل صالح، وخلق حسن، وقوانين وتشريعات تضمن العدل والمساواة والحرية وتحفظ كرامة الإنسان ودمه وعرضه وماله، فمن عمل بمقتضى ذلك، نال الأمن يوم الخوف والفزع العظيم، قال تعالى: (مَن جَاء بِالحَسَنَةِ فَلهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل:89].
لن يتحقق هذا الأمن إلا عندما تكون قلوبنا سليمة من الحقد والغل والحسد لبعضنا البعض، وتكون ألسنتنا وأيدينا نظيفة من الحرام والدماء والفتن.
وعلينا أن نكثر من الدعاء والإبتهال إلى الله، بأن يمن علينا بالأمن والأمان ولذلك كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يرزقه الأمن حين يمسي وحين يصبح؛ فعن ابْنَ عُمَرَ قَالَ: ” لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي ، وَحِينَ يُصْبِحُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي ، وَآمِنْ رَوْعَاتِي ، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ، وَمِنْ خَلْفِي ، وَعَنْ يَمِينِي ، وَعَنْ شِمَالِي ، وَمِنْ فَوْقِي ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي.” (النسائي وابن ماجة وأبوداود وصححه الألباني)
هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا وردنا إلى دينك رداً جميلاً.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغاراً .
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
.
خطبة جمعة:
اسم الله المجيب وآثاره الإيمانية ..!!
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلوات ربي وسلامه عليه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1] ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))[الأحزاب: 70 و71]. أما بعد:
عباد الله: إن معرفة أسماء الله وأدراك حقيقة معناها يربي نفس المسلم على التواضع والانكسار لله سبحانه وتعالى فإذا عرفت عزته تعالى فاعرف ذلتك، وإذا عرفت قوته فاعرف ضعفك، وإذا عرفت ملكوته فاعرف فقرك، وإذا عرفت كماله فاعرف نقصك، وإذا عرفت كمال أوصافه وجمال أسمائه فاعرف كمال فقرك وافتقارك وذُلَّك وصغارك، فما أنت إلا عبد وقد أمرك أن تدعوه بأسمائه ؛ قال تعالى(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180]
وإن من أسماء الله ؛ اسم "المجيب" وقد ورد في موضع واحد من القرآن الكريم ،وهو قوله تعالى 🙁 وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) [هود : 61] ؛ وورد بصيغة الجمع في قوله تعالى:( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) [الصافات: 75].
واسم الله تعالى (المجيب) يدل على أنه سبحانه يسمع دعاء الداعين ،ويجيب سؤال السائلين ،ولا يخيّب مؤمنًا دعاه ،ولا يرد مسلمًا ناجاه .
قال الزجاج رحمه الله تعالى: « (المجيب): اسم الفاعل من أجاب يجيب فهو مجيب، فالله - عز وجل - مجيب دعاء عباده إذا دعوه، وقال أبو سليمان الخطابي: «هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه.
و اسم "المجيب"، كما يجيب اللهُ دعاءَ من يُحبُّ، فإنه قد يجيب دعاء مَن يُبغِض، ومَن ليس له عنده أي كرامة، فقد استجاب الله لإبليس دعوته حين طلب أن يُنظِرَه الله إلى يوم الوقت المعلوم:( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) [الحجر: 36 - 38]، قال العلامة السعدي في تفسيره: "وليس لإجابة اللهِ لدعائه كرامة في حقه، وإنما ذلك امتحان وابتلاء من اللهِ له وللعباد".
و استجاب الله لفرعونِ هذه الأمة أبي جهل حين استفتح يوم بَدْرٍ فقال مقولته: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرِفُه، فأَحِنْه الغداة، اللهم أينا أحبُّ إليك، وأرضى عندك، فانصُرْه اليوم، وفي ذلك أنزَل الله تعالى: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأنفال: 19]
و استجاب اللهُ لقوم سبأ في سورةٍ سمَّاها باسمهم؛ وذلك حين أنعَم اللهُ عليهم بنِعَمِه العظيمة، وآلائه الجسيمة، فاستكثروا نِعَم الله، وقابَلوها بالجحود والنُّكران: ( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) [سبأ: 19].
ويستجيب سبحانه وتعالى مَن دعاه في حالة الاضطرار، مؤمن أو كافر؛ قال تعالى: ( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) [النمل: 62].
و قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مّوْجٌ كَالظّلَلِ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ كُلّ خَتّارٍ كَفُورٍ ) [لقمان / 32]
قال ابن القيم:
وهو المجيب يقول من يدعو أجيبــــ *** ـــــــه أنا المجيب لكل من ناداني
وهو المجيب لدعوة المضطر إذ *** يدعوه في سر وفي إعلان.
هذا يدعوه في البر وذاك في البحر وآخر تحت الهدم ؛ وهذا يدعوه في الجبل ؛ وهذا يدعوه فوق الطائرة وهذا فوق السيارة وذاك يدعوه في المستشفى وآخر يدعوه في الصحراء ؛ الكل يدعوه ويسأله لأنه "المجيب" عن قدرة وكمال.
فسبحان من يجيب الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا يتبرم بإلحاح الملحين في سؤاله، ولا ينقص ذلك من ملكه شيئاً وفي الحديث القدسي : (يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) (رواه مسلم )
عبـــاد الله : إن الله سبحانه وتعالى يحب أن يسأله العباد جميع مصالحهم الدينية والدنيوية .وقد ورد في السنة النبوية أحاديث عديدة في الترغيب بالدعاء ،وبيان أن الله تبارك وتعالى يجيب الداعين ويعطي السائلين ،وأنه جل وعلا حيي كريم ،أكرم من أن يرد من دعاه أو يخيّب من ناجاه ،أو يمنع من سأله؛ روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن سلمان الفارسي –رضي الله عنه –عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا).وفي حديث النزول الإلهي يقول صلى الله عليه وسلم : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول :من يدعوني فأستجيب له،من يسألني فأعطيه ،من يستغفرني فأغفر له ) (متفق عليه).
لا تسألن بُنيَّ آدم حاجةً *** وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ
الله يغضبُ إن تركت سؤاله *** و بُنَيَّ آدم حينَ يُسألُ يغضبُ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ..
الخطبة الثانية : -
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدٌ أن لا إله إلإ الله وحده لا شريك له، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرًا أما بعد
أيها المسلمون : إن التعلق بأسماء الله معرفة وحباً وتعظيماً يكسب العبد آثار إيمانية يانعة تجلب له السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة فمن ذلك:
محبته سبحانه والأنس به، لأن الإيمان بإجابة الدعوة، وقرب المجيب يثمر المحبة والطمأنينة والأنس به سبحانه، وطلب العون منه وحده.
مجيب السائلين.. حملت ذنبي *** وسرت على الطريق إلى حماكا
ورحت أدق بابك مستجير *** ومعتذراً... ومنتظراً رضاكا
دعوتك يا مفرج كل كرب *** ولست ترد مكروباً دعاكا
وتبت إليك.. توبة من تراه *** غريقاً في الدموع.. ولا يراكا .
ومنها: قوة الرجاء في الله سبحانه، وعدم اليأس من رحمته، والتضرع بين يديه فهو قريب لمن ناجاه مجيب لمن دعاه، وهذا يثمر الأمل والرَّوح في القلب، ويزرع حسن الظن به سبحانه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، ويفتح باب الدعاء والتضرع من العبد لربه سبحانه، ويخلص القلب من شوائب الشرك والتعلق بالمخلوقين ممن يسمون بالأولياء الذين يتخذهم كثير من الناس شفعاء ووسطاء عند الله - عز وجل - كالحاجب بين يدي الملك، ولكن إذا أيقن العبد بقرب ربه سبحانه ورحمته دخل على ربه مباشرة وتضرع بين يديه وألقى حاجته إليه وحده؛ أما هؤلاء فلن يسمعوا ولن يستجيبوا ولا يملكون من أمرهم شيئاً ؛ قال تعالى: (إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) [قاطر14] ؛ فالمجيب في كل الأحوال والظروف ومن بيده الملك والملكوت هو الله سبحانه وتعالى ؛
اللهم استجب دعائنا وأصلح أحوالنا ؛
هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ وانصر عبادك الموحدين، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،
اللهم َأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبهم، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ واهدهم سواء السبيل، وردنا جميعاً إلى دينك رداً جميلاً،
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا والمؤمنين عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
.
خطبة جمعة:
سآوي إلى جبل يعصمني ... !!
الحمد للَّه رب الأرض ورب السماء خلق آدم وعلمه الأسماء و أسجـد له ملائكـتـه وأسـكـنـه الـجـنة دار البـقاء وجعل الدنيا لذريته دار عمل لا دار جزاء و تجلت رحمته بهم فتوالت الرسل و الأنبياء... نحمده تبارك و تعالى على النعماء و السراء...ونستعينه عـلى البأسـاء و الضـراء... ونعوذ بنور وجهه الكريم من جهد البلاء ودرك الشقاء وعضال الداء وشماتـة الأعداء..وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ليس له أنداد ولا أشباه ولا شركاء... وأشهد أن سيدنا محمدا خاتم الرسل والأنبياء و إمـام المـجـاهـديـن والأتـقيـاء ...سبـح الـحصـى في كـفـه بخـير الأسماء .. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء وعلى السائرين على دربه و الداعين بدعوته إلى يوم اللقاء ما تعـاقب الصبح والمساء و مادام في الكون ظلمة وضياء .. أما بعـد :
عبـــــاد الله : - لقد خلق المولى سبحانه وتعالى الخلق في هذه الدنيا لعبادته وطاعته بما شرع وجعلها دار ابتلاء وتمحيص وبين فيها طريق الخير من الشر والحق من الباطل وأمر عباده بالإستقامة والصبر والثبات على الحق لأنهم سيواجهون فتن ومصائب وشهوات فقد جبلت هذه الحياة على ذلك ليكون التمايز بين الناس عند الله ويكون الأجر والثواب والحساب والعقاب على قدر قوة الإيمان به سبحانه والعمل الصالح الذي يبتغي به العبد رضا الله ويرجو به رحمته في كل الأحوال والظروف، في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء وفي العسر واليسر .. ولم يترك المولى سبحانه وتعالى عباده يواجهون الفتن والمصائب والمحن دون قوة يستندون إليها أو يأوون إليها بل عرفهم بنفسه وبقدرته وقوته وحكمته وعدله وأثبت ذلك بإنزال الكتب وإرسال الرسل وبالمعجزات وبما جعله في هذا الكون الفسيح من آثار مخلوقاته وبديع صنعه .. قال تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67) .. وقال تعالى (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الحج: 5، 6).. وجميع الخلق فقراء إلى الله محتاجون إليه وهو غني عنهم قال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(فاطر:15).. ولا نجاة للعباد من فتن الدنيا وأحداث الزمان وتسلط العدو وشر النفوس إلا بالإعتصام بالله وحده واللجوء إليه وطلب المدد والعون منه سبحانه القائل:( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران:101).. وقد أمر سبحانه عباده المؤمنين بذلك فقال ( وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78).
من يتق الله يحمد فـى عواقبـه ... ويكفيه شر من عزوا ومن هانوا
من إستجار بغيـر الله فى جذع ... فـإن نـاصـره ذلٌ وخـذلانٌ
أشدد يديك بحبـل الله معتصمـاً ... فإنه الركـن إن خانتـك أركان.
أيها المؤمنون /عبـاد الله : - أمتنا اليوم تتعرض لفتن ومؤامرات وابتلاءات ومحن على مستوى الأفراد والمجتمع والدول ، حروب وصراعات وخلافات أهلكت الحرث والنسل ودمرت الأرض والإنسان وفتحت شهية العدو الحاقد المتربص ليوغل في عدوانه وابرام الخطط وتأجيج الصراعات بين المسلمين وتفكيك وحدتهم ونهب ثرواتهم وتعطيل حياتهم ، وربما حدث ذلك بسبب الذنوب والمعاصي والتقصير في واجباتنا تجاه ربنا وديننا وعلاقاتنا مع بعضنا البعض كمسلمين وعلاقاتنا مع غيرنا من أمم الأرض وهذا الأمر يستدعي مراجعة وتوبة صادقة وتصحيح أعمال وسلوكيات وتضرع بين يديه سبحانه ،قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:42-43).. ولكن قست قلوبهم .. واستمروا في طريق الغي والضلال والعناد وزين لهم الشيطان أعمالهم الشريرة وحدثت إنتكاسة في المفاهيم والقيم عند كثير من المسلمين وظنوا أن علاج مشاكلهم وكشف كرباتهم وسبيل نجاتهم ودفع الضر عنهم يكمن في القوة المادية التي يأوون إليها ، فهذا يأوي إلى قبيلته وهذا إلى حزبه وهذا إلى جماعته وهذا إلى قوته وماله وهذا إلى الغرب وهذا إلى الشرق وهذا إلى مجلس الأمن وعصبة الأمم .. حتى في ابسط الأمور والضائقة الإقتصادية التي نمر بها لا يخطر على بال الكثير بأن الرزاق هو الله وأن الرزق مثل الأجل وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها ..
قال تعالى (قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَـٰنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ)(الأنعام:63، 64).. ركب يونس عليه السلام البحر، فساهم مع ركاب السفينة التي أشرقت على الغرق أيهم يلقى منها لتخفيف حمولتها فكان من المدحضين، فألقي في لجج البحار، وانقطع عنه النهار، والتقمه الحوت، فصار في ظلمات بعضها فوق بعض، فبمن اعتصم؟! لقد نادى في الظلمات: ( أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ) (الأنبياء:87)، فسمع الله نداءه وأجاب دعاءَه، فنجَّاه من الغم، وكذلك ينجِّي المؤمنين .. وهكذا لا يأتي فرج الله للعبد إلا بعد أن تنقطع من نفسه كل الأسباب المادية والدنيوية لتبقى قدرة الله وقوته ورحمته وحدها في نفس هذا العبد فيعتصم بها .. وانظروا إلى ابن نوحٍ عليه السلام قال تعالى عنه: ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ )(هود/42، 43) .. لقد ظن أن هذا الجبل رغم ارتفاعه الشاهق وحجمه الكبير سيكون سبباً لنجاته ولم يفكر بأن الله قادر على كل شيء فيعتصم به ويأوي إليه فخذله هذا الجبل ، وهكذا كل فرد أو جماعة او دولة غافل عن الله يظن أن الجبل الذي سيوفر له السعادة والأمن والنجاة هو الجبل المادي من مال أو قوة أو سلطان أو ذكاء أو منصب وأتباع او دول واسلحة ومتاع ولكن سيجد أن ذلك سراب فكل من يأوي إلى أحد غير الله فمصيره الخذلان ..
إن مسنا الضر أو ضاقت بنا الحيل ... فلن يخيـب لنا في ربنـا أمـلُ
الله في كل خطب حسبنا وكفـى ... إليـه نرفع شكوانـا ونبتهـلُ
من ذا نلوذ به في كشف كربتنـا ... ومن عليه سوى الرحمن نتكـلُ
فافزع إلى الله واقرع باب رحمتـه ... فهو الرجاء لمن أعيت به السبلُ
عبـــــاد الله : - لعل من أهم الأسباب التي تجعل العبد يأوي إلى غير الله ويعتمد على غيره هو الجهل بمقام الربوبية و الألوهية، فمن لم يعرف رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وما له سبحانه من الأسماء الحسنى، والصفات العلا، لا يتصور منه أن يتوكل عليه جل جلاله .. من لم يعرف الله غنياً له ما في السموات وما في الأرض يحتاج إليه كل مخلوق، ولا يحتاج إلى أحد سبحانه . أخبر تعالى عن غناه في الحديث القدسي فقال: "يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".. ومن لم يعرف الله قديراً، لا يحد قدرته حد، ولا يعجزها ضد: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (يس: 82). تعمل قدرته تعالى من خلال الأسباب التي خلقها، وتعمل -إن شاء سبحانه- من غير الأسباب، آية لنبي، أو كرامة لولي، أو إعانة لمظلوم، أو تفضلاً على محروم: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وان يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير * وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير) (الأنعام: 17، 18).. و من لم يعرف الله جواداً كريماً، يده سحاء الليل والنهار، يرزق البر والفاجر، ويعطي المؤمن والكافر: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق، وكان الإنسان قتوراً) (الإسراء: 100) .. ولم يعرف الله قهاراً أخذ الجبابرة العتاة، المتألهين في الأرض، أخذ عزيز مقتدر، فما كان لهم من فئة ينصرونهم من دون الله وما كانوا من المنتصرين. كما قال تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (العنكبوت: 40).. وقال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ - أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ - أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) (الأعراف: 96 – 99) .. من لم يعرف الله تعالى بهذه الأسماء، والصفات وغيرها، لا ينتظر منه أن يجعل اعتماده عليه أو يعتصم به ..
لذا يجب تصحيح عقيدتنا بربنا وعلينا تقوية صلتنا به وأن نعتصم بحبله المتين وبدينه القويم ونتبع رسول الكريم صل الله عليه وسلم ونؤدي ما افترضه علينا من عبادات ونكثر من قراءة القرآن والدعاء ونبذل ما استطعنا من الأسباب المادية فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .. قال تعالى( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ المُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:145 - 146) .. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم
قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطــبة الثانــية : - الحمدلله وكفى وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد:
عبــــــــاد الله :- الاعتصام بالله عصمة للقلب، وملاذ للنفس، وطمأنينة للفؤاد، ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل ولا أحفظ ولا أسلم للمؤمن من الاعتصام بالواحد الأحد - جل وعلا.. فهل يُهْزم من اعتصم بجنابه؟ وهل يخاف من لجأ إلى محرابه؟ وهل يحرم من انطرح على أعتابه؟
إن الاعتصام به - جل وعلا - حفظ للمرء، وصيانة للنفس، وحماية للدين، وأمنٌ من المخاوف، وضمان من المخاطر، ونجاة من المهالك، ونصرة على الأعداء، وحرز من الشيطان .. ولنعلم جميعاً أن من أهم مقومات الاعتصام بالله والتوكل عليه واللجوء إليه هو الاعتصام بحبله المتين وهو الدين القويم والقرآن العظيم الذي فيه الخير والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (آل عمران 103) .. وثقوا بأن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده يدبر الأمور وفق مشيئته وإرادته فأحسنوا الظن به وتوكلوا عليه وأحسنوا العمل وأدوا ما أفترض عليكم وتآخوا فيما بينكم وأكثروا من الدعاء والتضرع بين يديه ... اللهم أصلح أحوالنا وأهد قلوبنا وألف ذات بيننا وأهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور برحمتك يا عزيز يا غفور .. اللهم اجعلنا ممن طابت نفوسهم وحسنت سريرتهم وصلحت علانيتهم .. اللهم جنبنا وجميع المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن واحقن دماء المسلمين في كل أرض ومكان واجعلنا من الراشدين هذا وصلوا وسلموا على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين برحمتك يا أرحم الراحمين
.
خطبة جمعة:
عندما تدفع عنك صنائعك .. !!
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً... اللهم لك الحمد خيراً مما نقول, وفوق ما نقول, ومثلما نقول, عزّ جاهك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك, ولا إله غيرك ولا معبودٌ بحق سواك الأرض أرضك والسماءُ سماؤك وما بنا من نعمة فمن فيض جودك وعطاؤك , والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين, من ربه أما بعـــد : -
عبــــــاد الله :- لقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في البشر أن سخر بعضهم لبعض ، لا تتم لهم سعادة إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف والتراحم و المودة. يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ ويساعد القادر المحتاج ولا يكون الشقاء ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، والأنانية فلا يعرفون إلا أنفسهم، ولا يسارعون إلا لتلبية رغباتهم أما غيرهم فلا يعترفون لهم بحقوق ولا يقومون تجاههم بواجب ... إنه لعزيزٌ على النفس المؤمنة أن ترى مسكيناً أو محتاجاً أو مريضاً أو عاجزاً أو مصاباً أو منكوباً ثم لا تسارع إلى تقديم المعروف وبذل الجهد المستطاع لنفع الآخرين ذلك أن الله سبحانه وتعالى حين خلق المعروف خلق له أهلاً، فحبَّبه إليهم، وحبَّب إليهم إسداءه، قال تعالى:- { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء/73) وقال تعالى:- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج:77) ..
ويوم أن نزل جبريل عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: (( زملوني زملوني )) فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة وهي تبين له أن من يعمل المعروف ويقدم النفع للآخرين لا يمكن أن يخزيه الله أبدا: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب) .[البخاري ح4، مسلم ح160] .. وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه وامته إلى بذل المعروف وتقديم النفع للآخرين وحتى يكون ما قدموه من خير ذخراٌ لهم في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم ( من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر في الدنيا ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه (صحيح الترمذي للألباني/ 1930).
عبــــــاد الله :- إن بذل المعروف وتقديم النفع للآخرين يرفع درجة العبد عند الله ويدفع البلاء ويقي مصارع السوء فكم من عمل قام به المرء لا يلقي له بالاً دفع عنه مصائب وشرور لم تكن بالحسبان .. قال صلى الله عليه وسلم ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء و الصدقة خفيا تطفيء غضب الرب ، و صلة الرحم زيادة في العمر ، و كل معروف صدقة ، و أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة و أهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخره . . ) (الألباني صحيح الجامع / 3796 ) .. إن بذل المعروف وتقديمه سوى كان للمسلم أو للكافر .. للبر أو للفاجر .. للإنسان أو للحيوان يعتبر نوع من أنواع المعاملة مع الله قبل أن يكون مع خلقه لأنه سبحانه وتعالى أمر بذلك .. عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة))[مسلم ح1552] وفي الحديث القدسي ( يقول الله يوم القيامة يا ابن آدم مرضت ولم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لودت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي ) (مسلم/2569 عن أبي هريرة) ..
فكم نحن محتاجين إلى بذل المعروف وتقديمه للآخرين دون أن ننتظر منهم شكراً أو ثناءاً قال تعالى على لسان أهل المعروف من عباده ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ) (الإنسان/9) ..
كم يحتاج المرء في هذه الحياة إلى من يقف إلى جانبه ويشد من أزره ويجلب الطمأنينة إلى نفسه وهو يواجه تقلبات الدهر وفتن الزمان ومشاكل الحياة .. كم هو محتاج إلى من يدفع عنه وعن أهل بيته وعن مجتمعه المصائب والكوارث والأمراض ومصارع السوء والآفات والهلكات ولن يجد المرء بعد الله خير ولا أفضل من العمل الصالح والمعروف الذي يقدمه بين يدي الله فينفع مجتمعه وأمته والناس من حوله .. قال صلى الله عليه وسلم ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات .. وأهل المعروف في الدنيا .. هم أهل المعروف في الآخرة ) ( رواه الحاكم عن أنس .. وصححه الألباني في صحيح الجامع 3795) .. ذكر بن كثير عليه رحمة الله أن رجلاً من الصالحين من عرض له وزير من وزراء بني العباس- فحكم عليه بالسجن وبالتعذيب الجسدي، وذهب الوزير لينام قبل أن ينفذ هذا الحكم فكان الوزير يرى في منامه امرأة عجوز تشير أمامه بقطعة خبز تدافع بها عن هذا الرجل الصالح فيقوم من منامه خائفاً فزعاً واستمر الأمر ثلاثة أيام لم يذق طعم النوم فاستدعى الرجل وقال: أسألك بالله ! أن تصدقني .. بعدما حكمت عليك وأودعتك السجن وأردت أن أنفذ عليك العقوبة رأيت كأن عجوزاً تحول بيني وبينك برغيف وكأنك جالس هناك، قال: أما وقد سألتني فوالله ما نمت ليلة إلا وقرص خبز عند رأسي كانت تصنعه أمي وتجعله عند رأسي، فإذا أتى الصباح تصدقت به على مسكين ، فلما كبرت وحضر أمي الموت، قالت: يا بني! لا تترك الوصية، قلت: ماذا؟ قالت: هذا الرغيف لا تتركه أبداً، اصنع رغيفاً واجعله عند رأسك وأعطه المساكين، فإن الله يمنعك [فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ] قال: فوالله ما مرت عليَّ ليلة وأردت أن أنام إلا ووضعت هذا الرغيف عند رأسي قال الوزير: والله لا تمسك مني عقوبة أبداً، ثم عفا عنه ... بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ... قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ..
الخطــــبة الثانــية : - الحمدلله وكفى وسلاماً على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
عبـــاد الله :- إن أبواب المعروف كثيرةٌ وحوائجُ الناس متنوعة: إطعامُ جائع وكِسوةُ عاري وعيادةُ مريض أوتعليمُ جاهل وإنظارُ معسر عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر ،قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله: عز وجل تجوزوا عنه)) وفي رواية عند مسلم ((فقال الله أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي )) [مسلم ح1560، البخاري ح2077].. وقد يكون المعروف أن تطردُ عن أخيك همًا أو تزيلُ عنه غمًا، أو تكفُل يتيمًا أو تشفع لمحتاج أو ترفع أذىً على الناس أو في طريقهم عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) [مسلم ح1914] وقد يكون المعروف بإصلاحك بين الناس فتحقن بهذا المعروف دمًا وترد به حقاً لأصحابه وتجبر به قلوباً وتدخل به سروراً على آخرين وقد يكون المعروف بأن تكف شرك عن الآخرين من حولك فلا تؤذي أحداُ بلسانك ولا بيدك ولا بقلمك فتلقى الله وهو غاضب عليك لسوء عملك ... ومن المعروف الذي يدفع الله به البلاء ويقي به مصارع السوء على الفرد والمجتمع نصرة المظلوم والأخذ على يدي الظالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }(الأعراف 165) ثم اعلموا أن للمعروف خصال ثلاث: تعجيله، وتيسيره، وعدم المن به، فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه، وأما من منعه وهو قادرٌ عليه فإن حسابه عند الله عسير قال تعالى (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}[الماعون:4-7] {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين }[المدثر:41-44] {ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين}[الحاقة:34-35] .. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم )) فذكر منهم ((ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) [البخاري ح2369]
عبــاد الله :- اتقوا الله رحمكم الله وأصلحوا ذات بينكم، وقدموا المعروف تفلحوا ولتكن النفوس سخية، والأيدي بالخير ندية، وادفعوا عن انفسكم البلاء والمصائب والشرور ببذل المعروف واستمسكوا بعرى الإيمان وقيم السماحة والأخوة وسارعوا إلى كل خير .... اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر برحمتك يا أرحم الراحمين ... هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56)اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
.
١-معايشة النصر والفرج..
٢-المداومة على العمل الصالح..
٣-المسارعة في الخيرات..
٤-الموعظة الحسنة..
٥-طلب العلم الشرعي..
٦-اللهم امنا في روعاتنا..
٧-اسم الله المجيب وآثارة..
٨-سآوي إلى جبل يعصمني..
٩-عندما تدفع عنك صنائعك..
2024/12/01 12:20:38
Back to Top
HTML Embed Code: