Telegram Web
وأخيرًا؛ ليكن عندنا أملٌ وثقة بالله، فمهما كان الليل مظلمًا فبعده يأتي الفجر، ومهما كان العسر شديدًا يأتي بعده اليسر، وهذا ما يبشرنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلْكًا عاضًا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت". رواه أحمد والطبراني وصححه العراقي والألباني.

هذا؛ وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. والحمد لله رب العالمين...
.
📮.. عندما يسقط جدار الحياء ..!!

الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو بكل لسان محمود.

إذا لم تخـشَ عاقبة الليالي *** ولم تستحِ فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحاء

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الإله المعبود، صاحب الكرم والعطاء والجود، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

عباد الله: الحياء خلقٌ من أخلاق العظماء، وهو خُلق الإسلام الأول، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لكل دين خُلقًا، وخُلق الإسلام الحياء". موطأ مالك، وسنن ابن ماجه.

والحياء خُلق يبعث على ترك القبيح، وعدم التقصير في حق الله، ومراقبته، وهو أن تخجل النفس من فعل كل ما يعيبها وينقص من قدرها ومروءتها، وهو من الأخلاق الرفيعة التي أمر بها الإسلام، وأقرها، ورغَّب فيها، وقد جاء في الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، وهو خُلق توارثته النبوات، وأمر به الأنبياء، ووصى به العظماء؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت". البخاري (3/1284).

وقد جاء سَعِيد بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ ذات يوم فقَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْصِنِي، قَالَ: "أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ". رواه الطبراني في المعجم الكبير (7738)، وصححه الألباني في الصحيحة (741 ).

ويقول -عز وجل- عن موسى -عليه السلام-، وقد هرب من فرعون وجنوده وذهب إلى أرض مدين التي لا يعرف فيها أحدًا، وليس له فيها قرابة ولا قبيلة ولا صاحب: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24:23].

ولما علم شعيب ذلك الرجل الصالح أرسل ابنته إلى موسى -عليه السلام-؛ لمكافأته على صنيعه، فـ"من لا يشكر الناس لا يشكر الله"، وانظروا كيف جاءت هذه الفتاة التي تربت في بيت النبوة، وكيف خاطبت موسى -عليه السلام- قال تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص:25].

قال الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه". ولما احتضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟! قال: "ما لي لا أجزع؟! ومن أحق بذلك مني؟! والله لو أُتيت بالمغفرة من الله -عز وجل- لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه، ولا يزال مستحييًا منه"!! وقال مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46]، هو الرجل يخلو بمعصية الله فيذكر مقام الله فيدعها فَرَقًا من الله.

إذا ما خـلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحيِ من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني

والحياء مقرونٌ بالإيمان وملازمٌ للمؤمن كظله، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء والإيمان قرناء جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر". رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين. ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد الخلق حياءً من ربه ومن الناس، فقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها"، وهذا تشبيه لمراقبته -صلى الله عليه وسلم- لربه وخوفه منه وشعوره بالتقصير في حقه، وكان مع الناس لا يأتي إلا بكل خير في قوله وفعله، في نطقه وسكوته، وفي فرحه وحزنه.

عباد الله: لقد حرص الإسلام على إشاعة خُلق الحياء في المجتمع؛ لصيانة الحقوق، وحفظ الأموال والأعراض، وللقيام بالواجبات، وأداء الأمانات، ونشر الفضائل، ومحاربة المنكرات، ولزيادة روابط الحب والتراحم والإخاء في المجتمع المسلم، فقد اتفقت الشرائع الربانية والعقول السليمة والتجربة العملية على أن الحياء جدار وسياج يمنع الإنسان من ارتكاب القبائح والمنكرات، روى مسلم عن عمران بن
حصين -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء كله خير"، وفي رواية: "الحياء لا يأتي إلا بخير".

فالمسلم الحيي يعلم أن له ربًّا يراه في كل حال، فهو مستحٍ منه، فلا يراه في معصيته سبحانه ولا مقصرًا في واجباته، قال تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 218-219]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران:5].

وإذا كان الأمر كذلك وجب على كل مسلم أن يتخلق بهذا الخُلق في سائر حياته، فالحياء في النعمة شكر لله عليها، مرّ عمرُ بن عبيد الله بن معمر بعبدٍ يأكل عند بستان في المدينة وبين يديه كلب: إذا أكل لقمة أعطاه لقمة، فقال له عمر بن عبيد الله: أهذا الكلب لك؟! قال: لا، قال: فَلِمَ تطعمه مثلما تأكل؟! قال: إني أستحي من ذي عينين تنظر إليّ وأنا مستبد بمأكول من دونه. قال: أحرٌّ أنت أم عبد؟! قال: بل عبد لبني عاصم. فأتى عمر ناديهم فاشتراه، واشترى البستان، ثم جاءه فقال: لقد اشتريتك وأعتقتك لوجه الله. قال: الحمد لله وحده، ولمن أعتقني بعده. قال: وهذا البستان لك. قال: أشهدك أنه وقف على فقراء المدينة. قال: ويحك تفعل هذا مع حاجتك؟! قال: إني أستحي من الله أن يجود لي بشيء فأبخل به على خلقه.

ويكون الحياء في المحنة تسليمًا وصبرًا، وفي القضاء إنصافًا وعدلاً، ومع الوالدين والأرحام صلة وبرًّا، كان زين العابدين علي بن الحسين -رضي الله عنه- من أبر الناس بأمه، وكان يخاف أن يأكل معها في إناء واحد، فلما سألوه. قال: إني أستحي أن أمد يدي إلى لقمة قد سبق نظرها إليها.

وفي معاملة الضعفاء والأرامل والأيتام يكون الحياء عطفًا ورحمة ورفقًا، ويكون الحياء في الوظيفة وتقلد المناصب وتحمل المسؤوليات أمانة ورعاية، وخوفًا وخشية من التقصير والتفريط.

عن عطاء بن أبي رباح قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس أنها دخلت عليه، فإذا هو في مصلاه يده على خده سائلة دموعه، فقلت: يا أمير المؤمنين: ألشيء حدث؟! قال: يا فاطمة: إني تقلدت أمر أمة محمد على غير رغبة مني، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع العاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد، فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.

ويكون الحياء في الرجال ورعًا وجمالاً وزينة، وفي النساء عفة وطاعة وطهارة، هذه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنتُ أدخل بيتي الذي دُفن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي فأضع ثوبي. فأقول: إنما هو زوجي وأبي. فلما دُفن عمر معهم، فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر -رضي الله عنه-". أحمد (6/202)، ورجاله رجال الصحيح، وانظر: مجمع الزوائد (8/26).

ولما مرضت فاطمة -رضي الله عنها- مرض الموت الذي تُوفيت فيه، دخلت عليها أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- تعودها وتزورها، فقالت فاطمة لأسماء: والله إني لأستحي أن أخرج غدًا -أي إذا مت- على الرجال من خلال هذا النعش. وكانت النعوش آنذاك عبارة عن خشبة مصفحة يُوضع عليها الميت ثم يُطرح على الجثة ثوب، ولكنه كان يصف حجم الجسم. فقالت لها أسماء: أو لا نصنع لك شيئًا رأيته في الحبشة؟! فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه بما يشبه الصندوق، ودعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت على النعش ثوبًا فضفاضًا واسعًا، فكان لا يصف شيئًا. فلما رأته فاطمة فالت لأسماء: "سترك الله كما سترتني".

لقد كانت من شدة حيائها -رضي الله عنها- تحمل همّ حالها بعد موتها أن يراها الرجال، فماذا نقول لنساء المسلمين اليوم؟! أين الحياء من الله؟! وأين التربية على قيم الإسلام وأخلاقه؟! وأين الاستعداد ليومٍ (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2].

فما أجمل أن يكون لنا من الحياء سياج يحفظ علينا نور الإيمان، ويلبسنا ثوب التقى والطهر والعفاف، ونكون به بين الناس مبعث نور، ومصدر برّ ومنار هدًى، تتميز به شخصيتنا، وتظهر من خلاله ملامح عزتنا وكرامتنا. اللهم زينا بالتقى واحفظنا من الردى، واغفر لنا في الآخرة والأولى.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.





الخطبة الثانية:

عباد الله: يحدثنا ابن القيم -رحمه الله- عن عقوبة الذنوب والمعاصي فيقول: "ومن عقوباتها -أي الذنوب والمعاصي- ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه".
فإذا سقط جدار الحياء رأيت صورًا متعددة لفساد الأخلاق والقيم في حياة بعض المسلمين اليوم؛ من المجاهرة بالمعاصي، فتجد الذي يتحدث عن بطولاته في التسكع في الشوارع، ومضايقة نساء المسلمين، والذي يفتخر بذكائه في جمع الأموال من السرقة والاختلاس والرشاوي، ولا يحافظ على المال العام أو الأمانات التي تحت يديه لا يهمه الأمر ولا يبالي بالطريقة التي يكسب فيها؛ لأنه فقد الحياء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام". البخاري 1954.

والذي يتحدث عن بطولاته في ظلم الآخرين، وأخذ ممتلكاتهم بقوته وماله ووجاهته وخبرته وحنكته، وتلك المرأة التي تخرج متبرجة قد تركت أمر الله في حجابها وراء ظهرها، أو ذلك التاجر الذي يبيع المحرمات، بل ويعلن عنها، وربما رأيت ذلك الكاتب والصحفي والمذيع يفتري الكذب، ويزوّر الوقائع، ويقلب الحقائق، وغير ذلك من السلوكيات، فينبغي على هؤلاء الحذر مما ثبت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه". متفق عليه.

وقد جاء في الأثر: "أن الله تعالى إذا أبغض عبدًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضًا مبغضًا".

وكان الفاروق عمر -رضي الله عنه- يقول: "من استحيا استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وُقي".



عندما سقط جدار الحياء الذي يمنع صاحبه من فعل القبيح من قلوب كثير من الناس وجدنا الابن يتجرأ على أبيه وأمه، ليس بالسب وحده بل بالضرب والقتل، أي تعاسة وصل إليها هذا الإنسان؟! وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".

وأين نحن من قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23- 24].

لقد سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حارثة بن النعمان يقرأ القرآن في الجنة ببره بأمه، فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، قلت: من هذا؟! فقالوا: حارثة بن النعمان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كذلكم البر، كذلكم البر". وكان من أبر الناس بأمه. صحيح الجامع 3371، ومشكاة المصابيح 4854.

أيها المؤمنون، عباد الله: إن من ثمار خلق الحياء أنه يمنع صاحبه من فعل المنكرات، وارتكاب الموبقات، وبه تُنال الدرجات، وهو عنوان على صدق الإيمان وقوة الأخلاق، وبه تتنزل الرحمات، ومن ثماره أنه يؤلف بين القلوب، وبه تُصان الحقوق وتُحفظ الدماء، وتؤدى الأمانات، وذلك لقيام كل فرد من أفراد المجتمع تجاه إخوانه وجيرانه وواجباته بما يملي عليه دينه وأخلاقه.

الحَيَاء يدفع المسلم إلى أن يقول كلمة الحقَّ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) [الأحزاب:53]، لأن فريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سمة مِن سمات هذه الأمَّة، قال -عزَّ وجلَّ-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].

ولنعلم أن الله -سبحانه وتعالى- حيي كريم، فعن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا". أخرجه الأربعة إلا النسائي، وصححه الحاكم.

فلنتخلق بخُلق الحياء، ولنُزَكِّ به نفوسنا، ونربِّ عليه أبناءنا، وننشره في بيوتنا ومجتمعاتنا؛ وذلك بمراقبة الله، وأداء الفرائض، والخوف من سوء الخاتمة، والشوق إلى ما عند الله من نعيم، والاقتداء بالأنبياء والعظماء، وعلينا مطالعة سِيَرهم وأخبارهم.

فنسأل الله أن يرزقنا هذا الخُلق، وأن يجود علينا بفضله وكرمه، وأن يؤلف بين قلوبنا على طاعته.

هذا، وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
.
📮.. فالله خير حافظاً ..!!

الحمد لله المطَّلعِ على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه، العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه، المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالَم وإبْداعِ فُنُونِه, أحْسَنَ كلَّ شَيْءٍ خَلق، وفتَق الأسماع وشقَّ الحَدَق، وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق، مَدَّ الأرْضَ ووضعَها، وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها، وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا، أحْمُده على جوده وإحسْانِه، وأشْهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه.

مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدْ فِي عَوَاقِبِهِ *** وَيَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا وَمَنْ هَانُوا
مَن اسْتَجَارَ بِغَيْرِ اللهِ فِي فَزَعٍ *** فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وخِذْلَانُ
فَالْزَمْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِمَاً *** فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ

وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه عدد ما تحرك ورقٌ من شجرٍ وطار طائرٌ على أغصانه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: مَن حفظ الله في دينه فالتزمه، وطبَّق أحكامه، وبلغه للناس، وحفظ الله في اتِّباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واقتدى به في سائر حياته، وحفظ الله في أخلاقه وجوارحه، فلا يعمل إلا خيراً، ولا يكسب إلا طيباً، ومَن حفظ الله في لسانه فلا ينطق إلا بخير, لا يؤذي مؤمناً، ولا يسب أو يغتاب مسلماً، ومَن حفظ الله في أيمانه فلا يحلف كاذباً، ولا يشهد الزور، ولا يجعل الله عرضةً لأيمانه، ومن حفظ الله بحب المؤمنين وبغض المنافقين، ومن حفظ الله بقول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مَن فعل ذلك كله فإن الله يحفظه في الدنيا والآخرة, يحفظه في دينه، ويحفظه في نفسه، ويحفظه في أولاده وأهله وأمواله، جزاءً وفاقاً.

ولذلك علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هذه العقيدة حتى لا يضعفوا، أو يستكينوا، أو ينحرفوا عن الحق، أو يخضعوا لدنيا فانية، أو لذة عابرة، أو متاع زائل، وحتى لا ترهبهم أو تخيفهم المصائب والفتن والابتلاءات.

فمنْ كَان الله مَعه هَانت عليه المشاق، وانقلبت مخاوفه أمنا، وهانَ له كل صعب، وسهل عليه كلّ عسير، وقرُب له كلّ بعيد، وزالت همومه وأحزانه؛ عن عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" رواه الترمذي وصححه الألباني.

إن المسلم يخوض غمار هذه الحياة متسلحاً بهذه العقيدة، معتمداً على الله، واثقاً به، فَمَن الذي يصرِّف الأمور إلا الله؟! ومَن الذي بيده مقاليد كل شيء إلا الله؟! ومَن الذي يبسط ويخفض ويرفع إلا الله؟ ومَن الذي يجب أن يشعر المسلم بقدرته وعظمته وقوته إلا الله؟ ولذلك يقول تعالى عن المشركين: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً) [الفرقان:3]، وقال تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُل سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ القَوْل بَل زُيِّنَ للذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيل وَمَنْ يُضْلل اللهُ فَمَا لهُ مِنْ هَادٍ) [الرعد:33].

أيها المؤمنون عباد الله: ما أكثر الفتن والمصائب والابتلاءات التي تعصف بالمسلم في حياته! والتي يحتاج معها إلى قوة تسنده وتقف بجانبه، وتحفظه، وتؤمِّن خوفه، وتهدئ من روعه, يأنس بها، ويتفاءل بوجودها، ويركن إليها, وليس هناك قوة في الدنيا أكبر ولا أعظم من قوة الله التي يحفظ بها عباده؛ فالأموال لا تنفع ولا تحفظ صاحبها ولو كان أغنى الناس، قال تعالى عن قارون الذي ملَك خزائن الأرض من الذهب والفضة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص:81]، والجاه والسلطان والأتباع قد لا يكونون سبباً في حفظ العبد، وتأمين خوفه، وجلب السعادة والحياة الطيبة له؛ والحسب والنسب لا يغنى عن صاحبه شيئا.

قال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت الحرام ذات ليلة، إذ رأيت شاباً متعلقا بأستار الكعبة و هو يقول:
يَا مَن يُجِيبُ دُعَا المُضْطَرِّ فِي الظُّلَمِ *** يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالبَلْوَى مَعَ السَّقَمِ
قَدْ نَامَ وَفْدُكَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَانْتَبَهُوا *** وَأَنْتَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَمْ تَنَمِ
أَدْعُوكَ رَبِّي حَزِينَاً هَائِمَاً قَلِقَاً *** فَارْحَمْ بُكَائِي بِحَقِّ البَيْتِ وَالحَرَمِ
إِنْ كَان َجُودُكَ لَا يَرْجُوهُ ذُو سَعَةٍ *** فَمَنْ يَجُودُ عَلَى العَاصِينَ بِالنِّعَمِ؟

ثم سقط على الأرض مغشياً عليه، فدنوت منه فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي، فقلت: ما هذا البكاء والجزع و أنت من آل بيت النبوة ومعدن الرسالة؟! فقال: هيهات يا أصمعي! إن الله خلق الجنة لمن أطاعه و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و لو كان شريفاً قرشيا، أليس الله تعالى يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ المفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون:103-105].

عباد الله: احفظوا الله يحفظكم, احفظوا الله باستقامتكم على الدين يحفظكم الله, احفظوا الله بسلامة قلوبكم للمسلمين يحفظكم الله, احفظوا الله بطهارة أيديكم من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم يحفظكم الله من كل سوء، ويجعل لكم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل عسرٍ يسراً؛ تَعَرَّفُوا عليه في الرخاء يَعْرفكم في الشدة.

هذا نبي الله يونس عليه السلام لما أُلقى في البحر وقد ابتلعه الحوت في ظلماتٍ ثلاث، وهو في ذلك الكرب والضيق قد انقطعت صلته بالمخلوقين جميعاً، لا ولد، ولا زوجة، ولا أهل، ولا قوم، ولا مال، ولا منصب، ولا جاه، وإذا به يتوجه بندائه لملك الملوك: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]، وانطلقت لا إله إلا الله، وتفتحت لها أبواب السماء.

قال بعض أهل التفسير: سمِعَت الملائكة قول يونس بن متى وهو في الظلمات: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87] فبكوا وقالوا: يا رب! عرفنا الصوت، ولكن لا ندري أين يونس؟ الملائكة لا تعرف في أي قارة هو أو في أي بحر أو محيط! لكن الواحد الأحد يدري أين هو، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]، فماذا كانت النتيجة؟ لقد حفظه الله ونجَّاه، قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88].

وحفظ الله يوسف عليه السلام لما ضاع وألقي في غيابت الجب، وقال إخوته لأبيهم أكله الذئب، فقال يعقوب عليه السلام: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:64]، وتذكر أن الفرقة حلت بينه وبين ابنه الحبيب، وتذكر أن فلذة كبده لا يدري هل يعود أم لا؟! فقال: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:64].

قال بعض العلماء: ضاع يوسف أربعين سنة، فرده الله إلى أبيه الذي كان يقول: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:64]، بل حفظ الله يوسف عليه السلام من الوقوع في المعصية في قصر العزيز، وحال بينه وبينها، قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24].

وقد جاء عن ابن عباس موقوفاً عليه عند البخاري أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل كلمة قالها إبراهيم لما ألقي في النار فكانت برداً وسلاماً، وقالها محمد -عليه الصلاة والسلام- لما قيل له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:173-174].

فاللهمَّ احفظنا بحفظك الذي لا يُرام، احرسنا بعينك التي لا تنام، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.





الخطبة الثانية:

عباد الله: مَنْ حَفِظَ الله في دينه وعمله وأخلاقه زاده الله مهابةً في قلوب الخلق، وامتلأ قلبه بحب الله وعظمته وجلالته، فلا يخشى أحداً إلا الله.

دخل المهدي الخليفة العباسي مسجد الرسول -عليه الصلاة والسلام- وفي المسجد أكثر من خمسمائة من طلبة الحديث والعلماء وأهل المدينة، فقام الناس جميعاً إلا ابن أبي ذئب وهو أحد العلماء من رواة البخاري ومسلم، فقال الخليفة المهدي العباسي: يا ابن أبي ذئب! قام الناس لي جميعاً إلا أنت لم تقم! قال: والله الذي لا إله إلا هو
لقد أردت أن أقوم لك، فلما تهيأت للقيام تذكرت قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:6]، فتركتُ هذا القيام لذاك اليوم. فقال الخليفة: والله يا ابن أبي ذئب ما بقِيَتْ في رأسي شعرة إلا قامت. ثم انصرف من عنده والناس من حوله في دهشةٍ وذهول!.

عباد الله: وَمَن حفظ الله فلا يخاف على أولاده وذريته، ولا المستقبل المجهول الذي ينتظرهم من بعده، فبسبب صلاحه وتقواه فإن الله يحفظ ذريته، قال تعالى: (وليَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) [النساء:9].

فلنحفظ الله بصدق وعزيمةٍ، ولْنكثر مما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم كل صباح ومساء: "اللهم إني أسألك العفو والعافية، في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمِنْ رَوعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي" رواه أبو داود وصححه الألباني.

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
.
📮.. خطر اللسان عند الفتن ..!!

الحمد لله مُعِزُّ مَن أطاعه واتَّقاه، ومُذِل من خالف أمره وعصاه, وفَّق أهل طاعته للعمل بما يرضاه، وكتب على أهل معصيته ما قدره عليهم وقضاه, هو الأولُ والآخر، والباطن والظاهر، عالم الغيب والشهادة المطلع على السرائر والضمائر, أحمده -سبحانه- على خفيّ لطفه، وسعة عفوه، وجزيل بره المتظاهر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وهو الذي في السماءِ إله وفي الأرض إله.

حُكْمُ المنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جَارِي *** مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدارِ قَرَارِ
بَيْنَا يُرَى الإنسانُ فِيهَا مُخْبِرَاً *** ألفيتَهُ خَبَرَاً مِنَ الأَخْبَارِ
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُريدُها *** صَفْوَاً مِن الأقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفِ الأيامَ ضِدَّ طِبَاعِهَا *** مُتَطَلِّبٍ في الماءِ جَذْوَةَ نَارِ
وَإِذَا رَجَوْتَ المُسْتَحِيلَ فَإنَّمَا *** تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كمل به عقد النبوة، فطوبى لمن والاه وتولاه، اللهمَّ صَلِّ عَلى عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وكان هواهم تبعاً لهداه، وسلِّم تسليما كثيراً.

أمَّا بَعْد: لقد ميّز الله بني آدم عن سائرِ المخلوقات بنعمة اللسان، وبه تفضّل عليهم، قال الله -جل وعلا-: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد:8-9]، وقال تعالى ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-4]، أي يبين عن ما في نفسه بلسانه، فبهذا اللسان ينطق الإنسان بكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، خير قولٍ وأفضله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بِضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله" رواه البخاري.

وباللسان يتعارف الناس على بعضهم البعض، وعن طريق اللسان يتعلم الناس العلوم الشرعية، والعلوم الدنيوية، وعن طريق اللسان يعرف الحق من الباطل، والصحيح من الخطأ، والصدق من الكذب، والأمانة من الخيانة؛ وباللسان يؤمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقال الحق، ويُعبَد الله بتلاوة كتابه، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ وباللسان يُعرف الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والمسلم من الكافر، والبر من الفاجر، والتقي من الشقي.

باللسان يبلغ الفرد المنازل العالية في قلوب الخلق، وبه أيضاً يكتب عليه السخط في قلوبهم إلى يوم القيامة، وباللسان يبلغ العبد الدرجات العلى عند الله، وبه يسقط في دركات النار، وسخط الجبار، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يهوي بها في النارِ أبعدَ مما بين المشرِق والمغرب؛ وإنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من رضوانِ الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يَلقاه" رواه البخاري.

إن اللسان ترجمان القلوب والأفكار، وهو آلة البيان وطريق الخطاب، له في الخير مجال كبير، وله في الشر باع طويل، فمَن استعمله للحكمة والقول النافع، وقضاء الحوائج، وقيده بلجام الشرع، فقد أقر بالنعمة، ووضع الشيء في موضعه، وهو بالنجاة جدير؛ ومن أطلق لسانه وأهمله سلك به الشيطان كل طريق.

لذلك فقد دعا الإسلام إلى حفظ اللسان واستعماله في الخير، وحذر من الغفلة عن هذا العضو الصغير في جسد الإنسان والذي قد يكون سبباً في سعادته أو سبباً في تعاسته في الدنيا والآخرة، فقد روى الترمذي وغيره، وصححه الألباني، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل: "كُفَّ عليك هذا" وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!"؛ وروى الترمذي وغيره، وصححه الألباني، عن سفيان الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ قال: فأخذ رسول الله بلسان نفسه، ثم قال: "هذا".

عباد الله: عند الفتن وحدوث المصائب والأزمات، وظهور المشاكل والصراعات والاختلافات بين الناس ينبغي للمسلم أن يكون أكثر حرصاً على ما ينطق به لسانه، فلا يقول إلا خيراً، ولا يأمر إلا بمعروف، ولا ينهى إلا عن منكر، ولا يكون كلامه سبباً في تأجيج الصراعات والخلافات، والخوض في الأعراض بالغيبة والنميمة، ولا ينبغي للمسلم أن يكون كلامه سبباً في وغر الصدور، وإثارة العداوات بين المسلمين، قال تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فذكر له عن رجل شيئا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6]، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين! لا أعود إليه أبدا.

وينبغي للمسلم إلا يكون كلامه ومنطقه في مثل هذا الأحوال سبباً لطمس الحقائق، وتزوير الوقائع، ونشر الأكاذيب، وتلفيق التهم بدون علم، أو وجه حق، وهذا -والله- هو الإفلاس الذي حذر منه -صلى الله عليه وسلم-!.

فقد ياتي المرء بأعمال صالحة كالجبال، وفجأةً بزلة لسانه وسوء منطقه فيخسر ذلك كله، روى مسلم عن ‏ ‏أبي هريرة -رضي الله عنه- ‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏ قال‏: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ و لا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَ صِيَامٍ وَ زَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا‏، ‏وَ قَذَفَ ‏هَذَا، وَ أَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَ ضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ‏ ‏يُقْضَى مَا عَلَيْه، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" رواه مسلم.

والله -عز وجل- يقول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53].

لقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خطورة اللسان عند الفتن والأزمات إذا تحولت إلى معول هدم، وجعل خطرها كخطر السيف الذي تسفك به الدماء، وتزهق به الأرواح، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون فتنة صماء (بكماء) عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقع السيف" رواه أبو داود.

فلا إله إلا الله! كم أحدث هذا اللسان من فتن! وكم سفكت بسببه من دماء! وكم ظهر بسببه من صراعات! وكم قطعت من أرحام! وكم سلبت بسببه من حقوق وأموال! ولا إله إلا الله! ما أجرأ كثير من الناس على بعضهم البعض بالقيل والقال، والكذب، والغيبة والنميمة، والسخرية والاستهزاء، والوشاية، وتعمد الأذية للآخرين، والسب والقذف، وخاصة عند حدوث المشاكل عندما يزين إبليس هذه الأمور ويجعلها فاكهة المجالس، ومادة الزمان، ووسيلة للتكسب والربح.


فأين نحن من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء" رواه الترمذي وحسنه. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" متفق عليه. وعن أبي الدَّرْدَاءَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" أخرجه مسلم.

لقد وصف الله -عز وجل- ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل من القول، فقال -عز شأنه-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ * وَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ) [المؤمنون:1-3]، وقال سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ سَلَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَهِلِينَ) [القصص:55].

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.




الخطبة الثانية:

عباد الله: في اللسان آفتان عظيمتان، إن خلُصَ من أحدهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مُراءٍ مداهن إذا لم يكن مضطراً وخاف على نفسه.

والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله، يجاهر الله بالمعصية، والسعيد من عمل بالحق، وسعى لإرضاء ربه، والله -عز وجل- يقول: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].

وإن من القول السديد أن يستعمل المرء لسانه في التواصي بالحق، وجمع القلوب، وتآلف الأرواح، وتصالح النفوس، ورأب الصدع، والدعوة إلى الأخوة بين المسلمين؛ ما أجمل أن يستعمل المرء لسانه في إزالة البغضاء والشحناء من الصدور! والدعوة إلى التراحم! فما عند الله خيرٌ وأبقى؛ ما أجمل أن يستعمل المرء لسانه في نشر الخير، وبذر المعروف، والتقريب بين وجهات النظر، وإصلاح فساد ذات البين بين المسلمين! وما أجمل أن تلهج ألسنتا بذكر الله
وتعظيمه وقراءة كتابه؛ لعل الله أن يرفع عنا البلاء والمصائب والفتن!.

فاللهم إنا نسألك خير القول، وخير العمل، وخير الذكر، وخير الدعاء، برحمتك يا أرحم الراحمين، ألِّفْ على الخير قلوبنا، وأَصْلِحْ فسادَ ذات بيننا، وآمِنَّا في أوطاننا، وانشر رحمتك على البلاد والعباد يا أرحم الراحمين.

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
١-التوكل وأثره في حياة المسلم..!!
٢-المسلم وهامش الحياه..!!
٣-عندما يسقط جدار الحياء..!!
٤-فالله خير حافظا..!!
٥-خطر اللسان عند الفتن..!!
تزييف الحقائق وحصائد الألسن ... !!

الخطبة الأولى :
الحمدُ لله العليّ الأعلى، الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهَدى. له ملكُ السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى. الملكُ الحقُّ المبين الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسعَ كلَّ شيءٍ رحمة وعلمًا. أحمده سبحانه وبحمده يَلْهجُ أُولو الأحلام والنهى. وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له عالم السر والنجوى. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى. وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد:

عبــــــاد الله: – لقد ميّز الله بني آدم عن سائرِ المخلوقات بنعمةُ اللسان، وبه تفضّل عليهم قال الله جل وعلا: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد:8، 9]، وقال تعالى ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-4] أي يبين عن ما في نفسه بلسانه، فبهذا اللسان ينطق الإنسان بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" خيرُ قولٍ وأفضله، يقول صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بِضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله» [البخاري (9)].
وباللسان يتعارف الناس على بعضهم البعض، وعن طريق اللسان يتعلم الناس العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية وعن طريق اللسان يعرف الحق من الباطل والصواب من الخطأ والصدق من الكذب والأمانة من الخيانة وباللسان يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقال الحق ويعبد الله بتلاوة كتابة وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وباللسان يُعرف الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق والمسلم من الكافر والبر من الفاجر والتقي من الشقي…

باللسان يبلغ الفرد المنازل العالية في قلوب الخلق وبه أيضًا يكتب عليه السخط في قلوبهم إلى يوم القيامة، وباللسان يبلغ العبد الدرجات العلى عند الله، وبه يسقط في دركات النار وسخط الجبار قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يهوي بها في النارِ أبعدَ مما بين المشرِق والمغرب. وإنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من رضوانِ الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يَلقاه» [البخاري في الرقاق 6477]..
إن اللسان ترجمان القلوب والأفكار.. وآلة البيان وطريق الخطاب.. له في الخير مجال كبير وله في الشر باع طويل.. فمن استعمله للحكمة والقول النافع.. وقضاء الحوائج.. وقيده بلجام الشرع.. فقد أقر بالنعمة ووضع الشيء في موضعه.. وهو بالنجاة جدير.. ومن أطلق لسانه وأهمله.. سلك به الشيطان كل طريق.. أيها المسلمون: وإذا كان اللسان بهذه الأهمية في حياة الإنسان فإنه ينبغي عليه أن يستعمله في الخير وفي ما يقربه من الله سبحانه وتعالى القائل ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَـاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].

إن اللسان في الإسلام له أهمية عظيمة في سعادة الفرد وصلاح المجتمع ولذلك فقد تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية عنه وكيفية حفظه واستعماله وحذرا من آفاته ومزالقه… ذلك أن الكلمة التي تنبع منه لها منزلة عظيمة عند الله ولها تأثير في حياة الفرد في الدنيا والآخرة فقد يكون الكفر بكلمة قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا..) [المائدة:17].
ويكون الإسلام كذلك بكلمة فقد وصف الله عباده بقولهم: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران:53].
ويكون الزواج بكلمة ويكون الطلاق بكلمة وتقوم الحروب بكلمة وتقطع الأرحام بكلمة وتحقن الدماء بكلمة وتطيّب الخواطر بكلمة وتمتلئ القلوب غيظًا وحنقًا بكلمة ويصبح الحق باطلاً والباطل حقًا بكلمة زور وبهتان، ويسقط العبد من نظر الله بكلمة ويرتفع مقامه عند الله بكلمة..
لذلك فقد دعا الإسلام إلى حفظ اللسان واستعماله في الخير وحذر من الغفلة عن هذا العضو الصغير في جسد الإنسان والذي قد يكون سببًا في سعادته أو سببًا في تعاسته في الدنيا والآخرة عن معاذ رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: «لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره اللّه عليه: تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال: ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ)[السجدة:16] حتى بلغ (يعملون) ثم قال: ألا أخبركم برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه: قلت: بلى يا رسول اللّه قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله"، قلت بلى يا رسول اللّه، قال: فأخذ بلسانه، قال: "كف عليك هذا". فقلت: يا نبي اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال:" ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم» [أخرجه أحمد والترمذي].

عبــــــاد الله: – لقد عُني الإسلام بأمر اللسان أيما عناية، وبين منزلة الكلمة وأثرها فحث ربنا جل وعلا في محكم التنزيل وعلى لسان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه على حفظ اللسان وصيانة المنطق، ومجانبة الفحش والبذاء، فقال جل وعلا: (وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا) [الإسراء: 53].
ووصف الله عز وجل ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل من القول، فقال عز شأنه: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَـاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ) [المؤمنون: 1 ـ 3]، وقال سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ)[القصص: 55].

إن حفظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان، كما في الحديث عند الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» [صححه الألباني في صحيح الترغيب(2554، 2865)].
بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج، فقد روى الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»[حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1962).]، قال الإمام النووي رحمه الله: "معنى ((تكفر اللسان)) أي: تذل له وتخضع" [رياض الصالحين، حديث رقم (1529)]…

أيها المؤمنون: إنه لمن العجب أن الإنسان يسهل عليه البعد عن أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه حفظ لسانه، حتى ترى ذلك الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول… دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6] وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:11] وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا.. فاللهم إنا نسألك خير القول وخير العمل وخير الذكر وخير الدعاء برحمتك يا أرحم الراحمين…، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه

الخطــــبة الثانــية : الحمد لله وكفى وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد:
عبـــاد الله:- هل يمكن أن يصبح الحق باطلاً والباطل حقًا؟ وهل يمكن أن تقلب الحقائق وتزيف الوقائع والأحداث؟ وهل يمكن أن تؤخذ الحقوق من أصحابها وتعطى لمن لا يستحق ويقتنع الآخرين؟ وهل يمكن أن يتهم الإنسان بما ليس فيه ويصدق الناس من حوله؟ وهل يمكن أن تقوم حروب وصراعات ومشاكل بين الأفراد والأسر والمجتمعات والدول دون أن يكون هناك سببٌ حقيقي يلمسه الجميع؟ وهل يمكن أن يقتنع كثير من الناس يومًا بأن المظلوم هو الجاني وأن الظالم هو الضحية؟.. أقول نعم قد يحدث ذلك عندما يضعف الإيمان ومراقبة الواحد الديان وعندما تفسد القيم والأخلاق..
أقول نعم قد يحدث ذلك في عصر الحضارة المادية وثورة الاتصالات والفضائيات وشبكة المعلومات عندما لم يحسن استخدامها..
أقول نعم قد يحدث ذلك.. وعندما نبحث عن الأسباب نجد أن اللسان ومنطق الإنسان وكلامه سبب رئيس في ذلك.. فكم من معاصٍ وذنوب كان سببها اللسان، وكم من حقائق زورت وأحداث تم تزييفها وإخراجها على غير حقيقتها، وكان السبب في ذلك اللسان.. وكم من دماء سُفكت وأموال تم الاعتداء عليها وحقوق سُلبت وكان السبب في ذلك اللسان..
وما يحدث في غزة وفلسطين اليوم من قتل وتدمير وحرب إبادة جماعية وتطهير عرقي من قبل الصهاينة ومن يقدم لهم الدعم من دول الغرب وتزييف الحقائق والتاريخ لدليل صارخ على ذلك، فقد أصبحت الضحية جلاد والجلاد ضحية في وسائل الإعلام وفي أقبية السياسة ومنظمات القرار الغربي، وأصبحت قضية فلسطين العادلة قضية مشوهة من قبل هؤلاء ولقد حاولوا طمس معالمها عشرات السنين، ولكن هيهات فأصحاب الأرض ما باعوا ولا تنازلوا ولا ضعفوا ولا استكانوا بل صمدوا وصبروا ودافعوا عدوهم بما يمتلكون من وسائل وإمكانيات بين أيديهم وكشفوا للعالم صورة هذا المحتل البغيض ومن يدعمه ويسكت عن جرائمهم وأثبتوا أن هذا الجيش الذي لا يقهر قد تم قهره وإذلاله فبعد 110 يوم من القتل والتدمير لم يفلح في تركيع الفلسطينيين واخراجهم من بلدهم وكسر شوكتهم رغم الجراحات والدماء والإشلاء ، و إن على المسلمين أن ينصروا إخوانهم أهل فلسطين وأهل غزة، دول وحكومات ومؤسسات وأفراد كلا بما يستطيع لآن هذا واجب ديني وإنساني، قال صلى الله عليه وسلم ( ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته". (رواه أحمد)، هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللهم اجعل لإخواننا في غزة وفلسطين من كل هماً فرجاً ومن كل ضيق مخرجا ومن كل عسر يسرا ومن كل بلاء عافية .. اللهم أنزل عليهم من الصبر والنصر والثبات واليقين أضعاف ما نزل بهم من البلء اللهم مكن لدينك وكتابك وعبادك الصالحين ، اللهم عليك باليهود المعتدين ومن ناصرهم، اللهم لا تحقق لهم غاية ولا ترفع لهم راية واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية .. يا قوي يا عزيز.
اللهم أصلح أولادنا واجعلهم قرن أعين لنا في الدنيا والآخرة
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا وردنا إلى دينك رداً جميلاً.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغاراً .
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
.
قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا ..!!

الخطبة الأولى :
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه يليق بجلاله وعظمته، اللهم لك الحمد أنت أحق من ذكر وأحق من عبِد، لك الحمد أنت أجود من سئِل وأوسع من أعطى وأرأف من ملك، أنت المليك لا شريك لك، وأنت الفرد الذي لا ندّ لك، كلّ شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصَى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، القلوب لك مفضية، والسرّ عندك علانية، والحلال ما أحللت، والحرام ما حرّمت، والدين ما شرعت، والأمر أمرك، والخلق خلقك، ونحن عبيدك بنو إمائك.. ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، أحسن الناس خَلْقاً وخُلقاً .. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واستن بسنته وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: مع فتن الحياة وكثرة مشاكلها وصراعاتها وابتلاءاتها يحتاج المسلم إلى قوة يلجأ إليها يستمد منها الخلاص والنجاة، وإن أعظم قوة يلجأ إليها المسلم هي قوة الله، وإن أعظم طريق يسلكه المسلم هو الطريق الذي يوصله إلى الله، وإن أعظم باب يطرقه المسلم فيسأل حاجته هو باب الله، وإن أعظم ركن يستعين به المسلم على أمور الدنيا والآخرة هو التوكل على الله، وإن أعظم الأمنيات التي يسعى المسلم لتحقيقها في حياته لا تتحقق إلا بتوفيق الله ورضاه ..
فهو -سبحانه وتعالى- القادر على كل شيء والذي بيده كل شيء والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فكم نحن بحاجة إلى اللجوء إلى الله في كل ما يعرض علينا اليوم من فتن ومشاكل ومصائب، وحروب وصراعات، وظلم وعدوان أو فقر وحرمان أو مرض في الأبدان أو غير ذلك مما لا يملك كشفه وإزالته إلا الله وحده قال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام:14] ..
فالله -سبحانه وتعالى- هو الركن الشديد ذو القوة المتين .. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون" (صحيح مسلم: 4/2148).
وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرعد: 2].. لذلك ينبغي أن لا تُعلق الآمال إلا به ولا يطلب إلا منه ولا يخضع العبد إلا له ولا يمتلئ قلبه إلا بحبه ولا يطلب رضاه ..
بهذه العقيدة يعيش الفرد المسلم والمجتمع المسلم حياة سعيدة طيبة بعيدة عن القلق والاضطرابات النفسية وكثرة الهموم مهما كانت الظروف وضاقت الأحوال فلا يعلق المسلم آماله إلا بالله في أي شيء من أمور الدنيا أو الآخرة …
أيها المسلمون: إن اللجوء إلى المولى سبحانه في أوقات الشدة والرخاء، وفي كل ما يعرض للعبد من سوء وبلاء، هو دأب الأنبياء والصالحين من عباد الله تعالى، فما من نبي من الأنبياء أصابه ضر ومصيبة إلا ولجأ في دعائه وتضرعه واستغاثته إلى الله مالك الملك، ومدبر الأمر، وخالق الكون فيكشف الله ما نزل به، ويرفعه درجات، ويزيده من فضله وعنايته، فالله أكرم من أن يرد سائلًا، أو يخيب ظن قائلًا؛ كيف وهو القائل: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [غافر: 60]؟
ورد في السِّيَر أنه لما عاد -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، وقد رُجم بالحجارة من قبل السفهاء والمجانين وسُدت في وجهه طرق البلاغ لدين الله لم يزد على أن قال كلمات يطلب فيها رضا ربه قائلاً: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل عليَّ غضبك، أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
فماذا كانت النتيجة؟ لقد أعزه الله ونصره، وأيده بجنوده، ونشر دينه في الآفاق وجعل ذكره على كل لسان إلى يوم القيامة.
و ركب يونس -عليه السلام- البحر، فساهم مع ركاب السفينة التي أشرقت على الغرق؛ أيهم يُلقى منها لتخفيف حمولتها، فكان من المدحضين، فأُلقي في لجج البحار، وانقطع عنه النهار، والتقمه الحوت، فصار في ظلمات بعضها فوق بعض، فأين التجأ؟! وبمن اعتصم؟! لقد نادى في الظلمات: (أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87]، فسمع الله نداءه
وأجاب دعاءَه، فنجَّاه من الغم، وكذلك ينجِّي المؤمنين ..
أيها المؤمنون/ عباد الله: لقد لجأ كثير من الناس عند الشدائد والمحن والفتن إلى قوتهم وجاههم وأموالهم، وأحزابهم وجماعاتهم وقبائلهم، واعتمدوا عليها، وغرتهم أنفسهم وزين لهم الشيطان أعمالهم وصدهم عن طريق الله، ولم يلجئوا إليه بالتوبة والدعاء والاستغفار والتضرع، فما نفعهم ذلك في شيء، ولم يجدوا لذة الراحة ولا برد اليقين، ولا سلموا من فتن الحياة ومشاكلها؛ ذلك أن من مقاصد الفتن والمشاكل والابتلاءات تربية النفوس وخضوعها للحق والشرع وتضرعها بين يدي الله قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: 42-44]..
وانظروا لمن لجأ إلى غير الله!! هل وجد النجاة وهل وصل إلى مبتغاه؟! .. هذا ابن نوحٍ -عليه السلام- قال تعالى عنه: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)[هود: 42، 43] ..
عباد الله: إن على المسلم أن يلجأ إلى الله في سائر أحواله وظروفه ويتضرع بين يديه ويرجوه، ويتوسل إليه بأن يصلح أحوالنا، ويحفظ علينا ديننا، ويعصم دماءنا وأموالنا، وأن يؤمن خوفنا، ويكفينا شر الأشرار وكيد الفجار ومكر الليل والنهار، ومهما كانت المصائب والأزمات والحروب والإبتلاءات شديدة وقاسية ويكاد لا يرى في أحداثها بصيص أمل أو طريق نجاة إلا أن المسلم واثق من ربه متوكلاً عليه ولذلك يدرك بأن الله موجود ومطلع على عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم وهو سبحانه من سينجيهم، ويكف بأس عدوه عنهم،

إن مسنا الضر أو ضاقت بنا الحيل *** فلن يخيب لنا في ربنا أملُ
الله في كل خطب حسبنا وكفى *** إليه نرفع شكوانا ونبتهلُ
من ذا نلوذ به في كشف كربتنا *** ومن عليه سوى الرحمن نتكلُ
فافزع إلى الله واقرع باب رحمته *** فهو الرجاء لمن أعيت به السبلُ
اللهم اهدنا بهداك ولا تولنا أحداً سواك قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية : الحمد لله وكفى وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد:
أيها المؤمنون: يا أهل غزة وفلسطين ، أعلموا أن النصرَ مع الصبر، وإن الفرجَ مع الكرب، ومهما تفاقُمت المحن، واشتدت الفِتن، فإن في طيِّ كلِّ محنةٍ مِنحة، ومع كلِّ بليةٍ عطية، ولا تخلو رزيةٌ من مزية .. والإسلامُ لا يتألقُ إلا في أجواء التحدي، والمسلمون لا يعودون إلى دينهم إلا إذا أحسوا بالخطر، ف( لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) [النور: 11]، {سَيَجْعَلُ اللهُ بعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 216]، و( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) [آل عمران: 179]، ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران: 146]، و( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )} [يوسف: 90] .. و( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ) [يوسف: 21]، فاثبتوا على دينكم وأرضكم والجأوا إلى الله بعد قل الناصر وتنكر القريب وتجهم البعيد وظننتم أن لا ملجأ ولا نجاة وتسآءل الناس من ينجيكم من هذا الكرب ومن هذه المحنة العظيمة وبعد أكثر من 100 يوم من الدمار والقتل والإبادة فليكن شعاركم ( قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ )[الأنعام: 64].. فالله معكم حافظاً وناصراً وعيناً، وعلى المسلمين جميعاً أن يقوموا بواجبهم تجاه المسجد الأقصى وأرض فلسطين وغزة الجريحة التي تقاوم كل هذا العدوان والهمجية وحرب الإبادة والقتل والتدمير بعزيمة واصرار ورباطة جأش وصمود اسطوري، وإنهم لمنصورون -بإذن الله- قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
2025/05/30 07:47:59
Back to Top
HTML Embed Code: