Warning: Undefined array key 0 in /var/www/tgoop/function.php on line 65

Warning: Trying to access array offset on value of type null in /var/www/tgoop/function.php on line 65
6034 - Telegram Web
Telegram Web
وبدلاً من أن تُرسل لصديقك رسالة جافة عبر الواتس وهو ربما يجلس في الغرفة المجاورة كان يمكنك أن تقف تحت شرفة بيته وتنادي عليه بصوتٍ عالٍ أو بصافرة مميزة اتفقتم عليها في شلتكم فلا تمر ثوانٍ إلا ويرد عليك بمثلها من داخل غرفته ثم يسارع بالنزول لتتجولا ساعات مشيا على الأقدام أو على دراجتيكما

أنا حقا أفتقد تلك "الخشونة" المحببة في حياة التسعينات.
خشونة الصورة عبر التلفاز الصغير
خشونة الصوت في شريط الكاسيت، خشونة علاقات تتطلب جهداً حقيقياً للحفاظ عليها
خشونة الأخطاء التي كنا نرتكبها ونتعلم منها دون أن تُسجل علينا عبر أثير لا يمكن السيطرة عليه.
الآن، كل شيءٍ تغير
ظاهره مصقولٌ ناعمٌ لكنه في كثير من أحواله مزيفٌ... لكن بشكلٍ مُتقن.

في التسعينات الحياة لم تكن مثالية
الزحام والفقر والمشاكل والجهل والقبح كل ذلك كان حاضرا بلا شك
ربما أكثر مما هو موجود الآن.
لكن ثمة "وجه إنساني" كان أكثر وضوحاً. شيءٌ آخر..
شيءٌ أفتقده بشدة في عالمنا "المُلمّع" و"المُعقّم" و"المُبرمج" هذا..
الناس في الشوارع
إعلانات المحلات
ألوان الملابس...
كان هناك شيءٌ أقل بريقا
أقل تصنعاً
ربما هي "العفوية"
ربما "البساطة"
ربما ذلك الشعور بأنك لا تزال قادراً على مفاجأة الحياة ومفاجأة نفسك، بأن مصيرك ليس مجرد خوارزميةٍ معقدة تُحدد ما ستراه وما ستشتريه وما ستُحبه وما ستكره
شيءٌ أقرب إلى الفطرة ربما؟
لا أستطيع أن أجزم.
لكنني أعرف الآن، حين أعود بذاكرتي من جولتي في مدينة التسعينات إلى هذا الزمان لأبحث عما تبقى منها؛ لا أكاد أجد شيئا..
الآن، كل شيءٍ محسوب
كل شيءٍ مُوجه
كل شيءٍ ظاهر
نعيش في "فقاعة" كبيرة
نرى نسخةً مُنقحة من الواقع، ونتفاعل مع نسخٍ مُنقحة من الآخرين.
حتى مشاعرنا أصبحت تخضع لـ"تريندات" اللحظة.
يفرح أغلبنا لنفس السبب، ونحزن معا لنفس السبب
ونغضب من نفس الشخص... وكأننا قطعانٌ تُساقُ بعصا الراعي الرقمي.
الآن أبحث عن شوارع مدينة التسعينات فلا أجدها
فقط أجد شوارع اكتسبت ملامح شرسة، عدوانية، لا ترحم.
لم تختفِ فقط معامل تحميض الصور الفوتغرافية وتليفونات العملة وكبائن (ميناتل) التي كنا نُدبر ثمن مكالمتها بصعوبة، ولكن اختفت أيضا أشياءٌ أخرى أهم..
أو كادت أن تختفي
مساحات الصبر.. التسامح
(العادية) الجميلة
تلك التي كنا نظنها باقية معنا للنهاية.
أن تكون شخصا عاديا وتستمتع وتسعد في الوقت نفسه
نعم... كان هذا متاحا في التسعينات
لا تحتاج إلى حمى السعي لتحقيق كل شيء ولا يلزم دائما فلتر يخفي عيوبك ولا تأسرك مباديء التنمية البشرية المرهقة
عادي... وفي الوقت نفسه مبسوط وراضي
الآن، كل شيءٍ مُتاح
كل شيءٍ سهل
كل شيءٍ سريع...
لكن هل زال السأم؟
هل انعدم الملل؟
الحق أنه قد تضاعف!
حتى المفاجآت أصبحت مُبرمجة
العلاقات تُدار عبر شاشاتٍ باردة.
فقدنا لذة الانتظار ومشقة البحث ومتعة الاكتشاف البطيء.
أصبحنا نُريد كل شيءٍ "الآن"، وبأقل مجهودٍ ممكن
تحولنا إلى مستهلكين شرهين لكل شيء: للمعلومات
للمشاعر
للعلاقات
للحياة نفسها.
هل كانت التسعينات أفضل حقاً؟
لا أملك إجابة قاطعة فلكل زمن حسناته وسيئاته وكل جيلٍ يرى في ماضيه جنةً مفقودة.
لكن ما أنا متأكدٌ منه، أن تلك الفترة كانت "مختلفة"..
كانت تحمل توازناً ما بين الإنسان والآلة
بين الواقعي والافتراضي
بين الجهد والراحة.
توازن افتقدناه الآن بشدة، ونحن نغرق في بحر لامتناهي من التقنيات والأجهزة، ونشعر بأننا نركض بأقصى سرعة في مكاننا، كفأرٍ في عجلة، لا ندري كثيرا إلى أين نسير.. ولا لماذا نركض أصلاً.
قد تراني مجرد كهل يتذمر..
رجلٌ ينتمي إلى زمنٍ ولى ويرفض الاعتراف بأن العالم قد تغير وأن قطار التقدم قد فاته.
حقك يا عزيزي أنا نفسي مع كل وخزة ذكرى حدثتك عنها أشعر بأنني قطعة أثرية من عصر سابق
شريط كاسيت في زمن "سبوتيفاي"
رسالة ورقية في زمن "الواتساب".
جزء من جيل ينتقده كثير ممن حوله بسبب ذلك الحزن الدائم على شيء مفقود، وتلك المرارة التي يحملها تجاه هذا الواقع "المُعلّب" الذي نعيشه
قد تكون محقا لضيقك من أمثالي ممن لا ينسون بسهولة و قد أكون أنا مُخطئاً في كثير من مقارناتي لكن أرجو أن تعذر إشفاقي والأسى الذي يخيم علي حين أرى أجيالا لا تعرف معنى الانتظار، ولا قيمة الجهد، ولا لذة المفاجأة غير المتوقعة...
أسى حين أتأمل السعي المحموم نحو "السهولة" و"السرعة" و"الراحة" في كل شيء والتي أفقدتنا أشياء ثمينة لا تُشترى. وأفقدتنا جزءاً من إنسانيتنا ربما..

وهنا تكمن في تقديري أهم مآسي جيلي - جيل الثمانينات والتسعينات
من لحقوا بـالجيل الأكبر سنا
8👍5
من رأى آباءً يعودون من أعمالهم في الثانية ظهراً ليأخذوا قيلولةً تكاد أن تكون مقدسة
من تذوق طعم الحياة وهي تسير بإيقاعٍ يسمح بالتنفس والتواصل الحقيقي.
وفجأة، وبدون مقدمات كافية، وجدوا أنفسهم في قلب عاصفة التواصل والتقدم والتي عزلت كل منا في فقاعته الرقمية الخاصة.
الجيل الذي بتعبير كتبه أحد الفضلاء "اتخضّ"
رأينا العالمين
تذوقنا طعم الشيئين
وأجدنا التعامل مع كل منهما
نفهم الجيل الأكبر
ونتفهم الأصغر ولسنا بمعزل عنه
لكن للأسف ليس كثير من يفهمنا ويقدر ما مررنا به
جيل الألفية الجديدة والجيل z كما يسمونهم
أولئك الذين وُلدوا وفي أيديهم هواتف ذكية، لن يفهموا أبداً تلك "الخضّة"
لن يعرفوا كثيرا مما نتحدث عنه وكيف كان يمكن للحياة أن تكون عادية وهادئة
وجميلة في الوقت نفسه
ولا تثريب عليهم فهم يشبهون زمانهم أما نحن.... نحن نشبه أطلال زمنٍ جميل
لن يعود...
نعم يا عزيزي
التسعينات ولّت ولن تعود.
وهذه حقيقةٌ يجب أن نتقبلها برضا وتسليم لأمر الله الذي يُقلّب الأيام كيف يشاء ويداولها بيت الناس
الدنيا كلها، بما فيها من عقودٍ وأزمان، ليست سوى "كَرْكَبَة" كبيرة سنتركها خلفنا يوماً ما.
لكن، اسمح لي يا صديقي، اسمح لي بين الحين والآخر، أن أفتح "درج الذاكرة" المترب، وأُخرج من (كراكيبه) شريطا قديماً أقلبه بين يديك ثم نبتسم سويا بينما نتذمر زماناً كانت فيه الحياة أصغر كثيرا وأبسط مما هي عليه الآن
أبسط وربما أجمل.. رغم كل شيء.
17👍9😢5
كان الليلُ ينسج خيوطه الأخيرة فوق رمال تلك البقعة إلى جوار ذلك البئر الشهير

ليلٌ مُثقلٌ بالترقب، مُشبعٌ بهمس الدعوات الخافتة.
وهناك في عريشٍ متواضعٍ أُقيم على عجل إلى جوار شجرة وقف رجلٌ تتضاءل أمام هيبته جيوش الأرض كلها
رجلٌ يحمل على كاهله مصير أمةٍ لم تُولد بعد، ورسالةً ستُغير وجه التاريخ.
لم يكن نائماً في تلك الليلة الحاسمة كجُلِّ أصحابه الذين غشيهم النعاس أمنةً من ربهم
لقد اختار أن يبيت ساجدا وقائماً ورافعاً يديه إلى السماء حتى يسقط رداؤه الشريف عن منكبيه، ودموعه تتساقط على لحيته كحبات لؤلؤٍ في ليلةٍ مقمرة.

صوته.. ذلك الصوت الذي اعتاد أن يصدع بالحق في وجه الباطل، كان الآن يتهدج بالانكسار والضراعة.
يناجي ربه بكلماتٍ تخرج من قلبٍ يفيض يقيناً وحباً وخوفاً ورجاء:
"اللهم أنجز لي ما وعدتني..
اللهم آت ما وعدتني..
اللهم إني أنشُدك عهدَك ووعدَك
اللَّهُمَّ لَا تُودِع مِنِّي.. اللَّهُمَّ لَا تَخْذُلنِي.. اللَّهُمَّ لا تَتِرنِي
اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض بعدها أبداً!
اللهم إنَّهم عراة فاكسُهم
اللَّهمَّ إنَّهم جياعٌ فأشبعهم".
ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها ويلحّ طوال الليل حتى انبلج الصبح فتعالى صوته بالضراعة ويداه ترتفعان أكثر وأكثر حتى سقط رداؤه عن منكبيه
هنا استشعر صاحبه حاله فأتاه مسارعا
أخذ سيدنا الصديق رضي الله عنه رداء النبي صلى الله عليه وسلم الذي سقط فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه مطمئناوومشفقا: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك

"لقدْ رأيْتُنَا ليْلةَ بَدْرٍ وما فينا إنسَانٌ إِلَّا نائم، إِلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِنَّه كان يُصلِّي إلى شجرةٍ، ويدْعو حتَّى أَصْبَح"
هكذا أيضا وصف حاله في تلك الليلة سيدنا علي رضي الله عنه
وكذلك فعل سيدنا ابن مسعود وغيرهم رضوان الله عليهم جميعا
كلهم أجمعوا على هذا المشهد ليلة تلك الغزوة
الاستغاثة والدعاء الذي لم يكن دعاء قائدٍ يطلب نصراً لجيشه وحسب
لقد كان دعاء نبيٍّ يخشى على رسالة ربه، دعاء عبدٍ يعلم عند أول لقاء يواجه فيه أعداءه أن القوة ليست في العدد ولا في العدة، بل في مددٍ من السماء لا ينقطع.

ومن هنا كانت تلك الضراعة الرهيبة والتوجه وخالص الابتهال ولتسكن نفوس علمت أن وسيلته مستجابة واستغاثته مسموعة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم

هذا المشهد، يا صديقي، مشهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستغيث بربه عشية بدر، هو المفتاح الحقيقي لفهم سورة "الأنفال".
السورة كلها، من أولها إلى آخرها، هي صدى لهذه الاستغاثة الصادقة، وتجسيد واقعي لتلم الاستجابة الإلهية العظيمة.

إنها ليست سورة غنائم وحرب وحسب كما قد تتصور من اسمها وارتباطها بتلك الغزوة العظيمة ولكنها سورة الدعاء المستجاب والاستنصار والتدخل الإلهي المباشر في معركةٍ تبدو فيها كل موازين القوى المادية مختلة.

حين تستمع إلى آياتها الأولى، تشعر وكأنك لا تزال تسمع همس تلك الدعوات النبوية، وترى وميض تلك الدموع الطاهرة.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

ويا لها من استجابةٍ سريعة ومباشرة

استغاثةٌ من الأرض، فمددٌ من السماء.
ألفٌ من الملائكة ينزلون تباعاً، كأنهم سيوفٌ نورانية تُسلّ من أغماد الغيب لتُثبّت قلوب المؤمنين وتُزلزل أقدام الكافرين.
ثم يُتبعها الله بالبشرى والطمأنينة: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
ك
كأن الرسالة واضحة تقطع أن: اطمئنوا يا أهل الإيمان، فما هذا المدد الملائكي إلا علامةٌ على قرب النصر
لكن تذكروا دائماً أن النصر الحقيقي، جوهره ومصدره، ليس من الملائكة ولا من قوتكم وعدتكم ولكن هو "من عند الله" وحده
العزيز الذي لا يُغلب
الحكيم الذي يضع كل شيءٍ في موضعه.

سورة "الأنفال" تأتي مدنية بعد سورتين مكيتين كدُرةٍ فريدة في عقد الجزء التاسع، كأنها فجرٌ يبزغ بعد ليلٍ طويل من القصص الفاصلة والمواعظ الفارقة.
سورةٌ تحمل في طياتها عبق النصر الأول، وصدى التكبيرات التي زلزلت الأرض تحت أقدام الباطل، ودموع الفرح التي اغرورقت بها عيون المؤمنين وهم يشهدون وعد الله يتحقق.
سورة "بدر" كما كان بعض السلف يسمونها
بدر!
ذلك اليوم الذي سماه الله في السورة "يوم الفرقان"، يوم التقى الجمعان
يومٌ لم يكن مجرد معركةٍ عسكرية، بل كان علامةً فارقة في تاريخ الدعوة، ومنطلقاً لأمجاد أمةٍ كُتب لها أن تحمل رسالة النور إلى العالمين.
👍32
لكن، يا للعجب! هذه السورة العظيمة التي تحتفي بأول نصر مؤزر للمسلمين، لم تُسمَّ "سورة النصر" مثلا (وثمة سورةٌ أخرى تحمل هذا الاسم وتتحدث عن فتحٍ آخر)،
لم تُسمَّ أيضا في المصحف بـ"سورة بدر" ،
لقد اختار لها الله اسماً قد يبدو للوهلة الأولى أقل بريقاً وأكثر إشارة لشيء متعلق بالدنيا
"الأنفال"!
مرادف لكلمة أخرى معروفة وهي الغنائم
والغنائم لفظ أشهر ووقعه معروف ولسانه عربي فصيح لكنه لم يكن اللفظ المختار
وكأن اختيار كلمة الإنفال التي هي من النفل
الزيادة
تلك الزيادة
العطية التي تأتي بعد المعركة
تلك الشرارة التي قد تُشعل نار الخلاف أو تُطفئ جذوة الإخلاص إن لم تُضبط بضوابط الشرع وحكمة القيادة.
والأهم أن تُعرف ماهيته
مجرد نفل وزيادة وليس الأساس الذي تقوم عليه الأشياء!
هي ضمنيا رسالةٌ تحذيريةٌ مبكرة تُلقى على مسامع الأمة المنتصرة و كأن السماء توجههم: إياكم أن تُشغلكم "الأنفال" عن الغاية الأسمى!
إياكم أن يستدرجكم بريق الدنيا وزينتها فتنسوا لماذا خرجتم، ولأجل من قاتلتم، وإلى من يرجع الفضل في نصركم!
إن هذه المكاسب المادية، مهما عظُمت، هي مجرد "نفل".. زيادةٌ عابرة، ليست هي الجوهر ولا المقصد.
الدرس أعمق، والغاية أسمى.
هذا المعنى يتجلى بوضوحٍ في مطلع السورة، الذي يبدأ بسؤالٍ عن هذه الأنفال نفسها:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1]
السؤال عن الغنائم، هذا الاهتمام البشري الطبيعي بما خلفته المعركة من مكاسب، يأتي الجواب بعده ليُعيد البوصلة إلى الاتجاه الصحيح.
"قل الأنفال لله والرسول"
الأمر كله مردّه إلى الله، هو الذي يملك كل شيء، وهو الذي يُشرّع كيف تُقسم هذه الأموال.
ثم يأتي التوجيه الرباني المباشر، كأنه يقول: قبل أن تنشغلوا بهذا العرض الزائل، هناك ما هو أهم وأبقى.
"فاتقوا الله"
اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية
أصلحوا قلوبكم معه.
ومع بعضكم البعض
"وأصلحوا ذات بينكم"
طهروا صفوفكم من أي خلاف أو ضغينة قد تُفسد فرحة النصر وتُضعف قوتكم.

"وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"، فالإيمان الحقيقي يقتضي طاعةً كاملة وتسليماً لأمر الله ورسوله، خاصةً فيما يتعلق بهذه الأمور التي قد تختلف فيها الأنفس كالأموال والغنائم
توجيهٍ حكيم يضع الأساس المتين للحفاظ على النصر وصيانته من آفات التعلق بالدنيا والتنازع عليها، تلك الآفات التي كانت سبباً في مرارة وقعت لاحقاً.
يوم أُحد!
وكأن "الأنفال" هنا، في سياق بدر، تُعلمنا كيف لا يُخسر النصر بعد أن تم نواله وأنعم به الله على المؤمنين.

من هنا، يا عزيزي، تتكشف لنا في ثنايا هذه السورة العظيمة قاعدتان ذهبيتان وأصلان راسخان، قد يظنهما البعض متعارضين أو متناقضين، لكنهما في الحقيقة كجناحي طائرٍ لا ينهض ولا يحلق إلا بهما معاً.
قطبا رحى النصر، ومفتاحا الفهم العميق لسُنن الله في خلقه وأمره:

القاعدة الأولى: النصرُ بيدِ الله وحده... فإليه الملتجأ وعليه التكلان والتعلق به وحده دون سواه
القاعدة الثانية: الأخذُ بكل الأسباب الممكنة وبذلُ الوُسع قدر الاستطاعة امتثالاً وتسننا وليس تعلقا
التكامل بين هاتين القاعدتين هو ببساطة المسار الذي ترسمه السورة التي تحدثك عن النصر الأول
أما الأولى فحقيقةٌ ساطعة في ديننا كالشمس في كبد النهار
قاعدة تتردد أصداؤها في آيات السورة بشكلٍ لافتٍ ومؤثر وكأن القرآن يريد أن يغرس في قلوبنا يقيناً لا يتزعزع بأن النصر ليس مجرد نتيجة لمعادلاتٍ مادية أو حساباتٍ بشرية وأرقام جافة جامدة
النصر ابتداءً = قرارٌ إلهي، وتدبيرٌ سماوي، وفضلٌ رباني يُؤتيه من يشاء.
تأمل هذا الإعلان الصريح الحاسم، الذي يأتي كجوهرةٍ تتلألأ في سياق الحديث عن المدد الملائكي
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10].
استثناء منفي يفيد القصر والحصر بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا خيارات أخرى
النصر منحصر في كونه "من عند الله"، لا من عند الملائكة، ولا من عند المؤمنين، ولا من عند أي قوةٍ مخلوقة.
هو محض عطاء من العزيز الذي لا يُغالب، والحكيم الذي يضع نصره في الموضع الذي تقتضيه حكمته.
تأمل تعضيدا لهذا المعنى كيف ينسب الله لنفسه، في هذه السورة المدهشة، كل شيء!
كل تفاصيل النصر وأفعال المؤمنين
سياق عجيب يُجرّد المؤمنين من أي شعورٍ بالاستحقاق الذاتي أو الاغترار بالقوة.

فتجد الإعداد النفسي والمعنوي، وتلك التهيئة الربانية التي سبقت المعركة، كانت منه سبحانه وحده:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ..
👍41
تأمل المصدر
ممن؟
منه
هو
وحده
.. وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ
من الفاعل هنا أيضا؟
هو وحده لا شريك الله الذي ينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
.. وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ)
نعاسٌ يُغشى العيون المتعبة فيُبدل خوفها أمناً
وماءٌ ينزل من السماء فيُطهر الأبدان والأرواح، ويُذهب وسوسة الشيطان، ويربط على القلوب المتأرجحة، ويُثبّت الأقدام على أرض المعركة.
يا له من تدبيرٍ إلهيٍّ شامل، يهيئ الظاهر والباطن لخوض غمار المواجهة!
وكله منسوب إليه.... وحده سبحانه

حتى تلك الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي قلّلت عدد الأعداء في عينيه لئلا يتسلل الوهن إلى قلوب أصحابه:
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الأنفال: 43].
تأمل مرة أخرى. من الفاعل؟
رؤيا من الله، هدفها السلامة من الفشل والتنازع، لأن الله عليمٌ بما تخفي الصدور من ضعفٍ بشري.
وهذا التقليل المتبادل في أعين الفريقين عند اللقاء، لم يكن مجرد خدعة بصرية، بل هو تقديرٌ إلهيٌّ دقيق ليقضي الله أمراً كان مفعولاً:
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [الأنفال: 44].
هو أيضا الذين أراهم عدتكم قليلة ليستهينوا بكم
في كل مرة هو.. وحده
وكأن الله يُهيئ مسرح الأحداث بكل تفصيلة؛ ليُظهر قدرته وحكمته،
كل الأمور، في بدايتها ونهايتها، ترجع إليه وحده.
حتى قرار الخروج للمعركة نفسه
كل ذلك كان بتوجيهٍ وتدبيرٍ من الله
و رغم كراهية بعض المؤمنين لذلك في البداية يأتي فعل الإخراج منه هو أيضا
(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) [الأنفال: 5].

تحديد المكان والفئة...
مواجهة (النفير) ذلك العدو المدجج بالسلاح بدلاً من (العير) القافلة غير المحاربة...
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 7].
إن النفوس البشرية تميل إلى الأسهل والأقل خطورة، لكن إرادة الله كانت أن يُحق الحق ويُبطل الباطل، حتى لو كان ذلك عبر مواجهة الفئة "ذات الشوكة".
والمهم معنا في سياق حديثنا أنه هو..
هو وحده من يفعل..
ويقضي..
(إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا...) [الأنفال: 42].
هذا التلاقي غير المتوقع، في مكانٍ غير مخطط له، هو أيضاً من تدبير الملك وحده
وليُنفذ أمره ويتم قضاؤه الذي لا رادّ له.

بل إن ذروة الحدث، الفعل القتالي نفسه، وتلك الرمية النبوية المباركة، يرفعها الله عن قدرة البشر المحدودة وينسبها إلى ذاته العلية، ليُعلمنا أن الأسباب مهما عظُمت، فالفاعل الحقيقي هو الله:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الآنفال: 17].
تأمل بقلبك.. "ما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى"...
تجريد كامل للفعل البشري من تأثيره الذاتي، ورده إلى مصدر القوة والتأثير الحقيقي!
و كل هذا ليُبتلى المؤمنون بلاءً حسناً، وليُمتحن إيمانهم ويقينهم، وليُظهر لهم كيف يكون النصر حين يُنسب الفضل لصاحبه.
أما الإمداد بالملائكة، تلك القوة الغيبية التي لا تراها الأعين لكن آثارها تُرى في ثبات المؤمنين ورعب الكافرين = فلم تكن إلا استجابةً لتلك الاستغاثة الصادقة التي انطلقت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 9-10].
من الذي أمدَّ؟
من الذي بشَّر؟
من الذي طمأن؟
ومن الذي ثبَّتَّ ونصر؟
الإجابة واحدة
إنه الله..
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.. )
👍4👏1
وحيٌ مباشرٌ للملائكة و أمرٌ إلهيٌّ واضح بتثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم
بل حتى تحديد أماكن الضرب
.. فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ).
أي تأييدٍ وأي رعايةٍ أعظم من هذه؟

حتى مشهد النهاية، وقبض أرواح الكافرين وهم في سكرات الموت، كان بأمرٍ من الله وتنفيذٍ من ملائكته
(وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الأنفال: 50].
مشهدٌ مرعبٌ يُصوّر نهاية كل مستكبرٍ معاند، ويُظهر كيف أن انتقام الملك جل جلاله لا يُفلت منه من مجرم مهنا بلغت قوته.
هيمنة إلهية كاملة على كل مجريات الأحداث و كأن السورة تقول لنا بلسانٍ مبين:
إياكم أن تغتروا بقوة أو تخطيط أو أسباب، فالنصر في النهاية لا يأتي إلا من عند الله.

علّقوا قلوبكم به وحده، وتوكلوا عليه حق التوكل، واعلموا أن الأمر كله بيده، يُقلّبه كيف يشاء، فينصر من يشاء، وهو العزيز الحكيم.
لا تستغربوا إذاً إن رأيتم قلةً مؤمنة تنتصر على كثرةٍ كافرة، فالله هو الذي يؤيد بنصره، وهو الذي يُوهن كيد الكافرين ذلك الذي قد يبدو قوياً ومنظماً، لكنه أمام قوة الله يصبح هشاً ضعيفاً.
(ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 18].
لذلك كله فإن الله هو حسبك
هو كافيك
وهو الذي يؤيدك بنصره وبالمؤمنين الصادقين.
(وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 62].
هكذا تترسخ أولى قواعد السورة بوضوح لا مزيد عليه
لكن، هل يعني هذا اليقين المطلق بأن النصر من عند الله أن يركن المؤمنون إلى الدعة والتكاسل مكتفين بالمعتقد منتظرين أن تتنزل الملائكة لتدفع عنهم وهم يغطون في نوم عميق؟!
حاشا وكلا!
ذلك فهمٌ سقيمٌ للتوكل بل هو تواكلٌ مذمومٌ تتكامل القاعدة الثانية في السورة مع الأولى لتنفيه..
قاعدة تُؤصلها سورة الأنفال بقوةٍ لا تقل عن الأولى
الأخذُ بكل الأسباب الممكنة وبذلُ الوُسع قدر الاستطاعة؛ امتثالاً وتسننا وليس تعلقا..
قاعدة تقطع ببساطة أن السماءُ لا تُمطر ذهباً ولا نصراً
هكذا سنن الله الربانية في خلقه
الله ينصر من ينصره
الله جعل الأسباب طريقا للنتائج
إذا شاء جاءت النتائج بغير السبب بل وبضد السبب أحيانا
لكن هذه استثناءات محدودة والأصل أن تسعى.. "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى"
لماذا طُلب من السيدة مريم وهي في خضم لحظات الولادة الصعبة وذلك البلاء الشديد أن تهز بيدها جذع نخلة
ألم يكن الأمر ممكن بأي طريق آخر؟
بلى... ممكن طبعا
لماذا أُمر سيدنا أيوب عليه السلام أن يركض برجله ثم يغتسل بذلك المغتسل البارد؟
ألم يكن الشفاء مقدورا ولا يلزم أي عمل؟
لماذا كان على سيدنا موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه كل مرة أو يلقيها بأمر الله لتتحول إلى ثعبان مبين أو ينفلق بحر عظيم أو تتفجر الأرض بالأعين؟
ألم يكن كل ذلك متاحا بمجرد الدعاء ودون أي فعل؟
لماذا كان على سيدنا نوح عليه السلام أن يبذل كل هذا الجهد ليبني سفينته التي سماها الله بعد ذات ألواح ودُسُر
قطع من الخشب ومسامير..
وهل هي من أنجته؟
هل هي من حملته؟
مجرد ألواح وقوائم وبعض الحديد.. أخشاب ومسامير هل مثل ذلك هو ما يصمد أمام أعتى طوفان واجتياح موج عرفته الدنيا؟
هل مثل ذلك ما يحمل نواة العالم الجديد وينقذ الأجناس البشرية وغير البشرية ويجري بهم في موج كالجبال؟
كل ما سبق من أمثلة وأسئلة إجابته ببساطة = قاعدتنا الثانية في سورة الأنفال
لابد من بذل..
لابد من سعي وعمل وجهد ...
هذا ما على الجوارح... أما القلب فمتعلق بتلك القاعدة الأولى التي أسهبنا في الحديث عنها
وكأن كل قاعدة منهما تخاطب محلا مهما في ذلك المخلوق المكلف ليحدث تمام التكامل
قاعدة تخاطب القلب عقديا وتغرس فيه معاني التوكل وأخرى تخاطب الجوارح وتجيب السؤال العملي
سؤال كيف نكون أهلاً لهذا النصر الإلهي؟

سورة الأنفال في غالب آياتها تُجيب عن ذلك السؤال بوضوحٍ وتفصيل، كأنها تضع للمؤمنين "خارطة طريق" نحو النصر والحفاظ عليه وبيان شروط استحقاقه

من هنا تدرك معنى الأمر بالإعداد الشامل الذي وجهت إليه السورة بقطع وحسم

(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60].
👍4
تأمل اللفظة الجامعة
"ما استطعتم"
كلمةٌ تفتح باب الاجتهاد إلى منتهاه
ابذلوا وسعكم وأقصى مستطاعكم
أما كلمة قوة فأتت نكرة للعموم ولتشمل كل أنواع القوة..
قوة الإيمان واليقين
قوة العدة والعتاد والتقدم
قوة التخطيط
قوة الاقتصاد والإنتاج،
قوة البيان والتأثير..
قوة الوحدة والتماسك..
ثم "رباط الخيل"
كلمة ترمز لكل وسائل الاستعداد والتقدم والتي تتطور بتطور الزمان والمكان وتلقي في الروع شعورا بالجهوزية الدائمة التي يهابها كل عدو لله سواء كان ظاهراً نعرفه، أو خفياً لا نعلمه لكن الله يعلمه.

بعد ذلك تأتي الطاعة المطلقة لله والرسول كسبب آخر يُستجلب به النصر. وكصمام أمان يحفظ الأمة من التفرق والضياع ومفتاح توفيق وحبل نجاة لا ينقطع:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الآنفال: 20-22].
تحذيرٌ شديد اللهجة من التولي عن أمر الله ورسوله بعد سماع الحق، ومن التشبه بأولئك الذين يسمعون بآذانهم ولا تعي قلوبهم، حتى يصبحوا كشرّ الدواب، صماً عن سماع الحق، بكماً عن النطق به، لا يعقلون ما فيه صلاحهم ونجاتهم.
إنها دعوةٌ للاستجابة الفورية لما فيه حياتنا الحقيقية، حياة القلوب بالإيمان، وحياة المجتمعات بالعدل والرحمة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24].

ثم الثبات والصبر عند لقاء العدو، فهما السلاح الذي لا يُهزم، مع الإكثار من ذكر الله الذي هو مصدر القوة والطمأنينة في أحلك الظروف..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45].
السورة تقرن بين الثبات في الميدان، والذكر الكثير باللسان والقلب، مؤكدة كونهما من أهما سبل الفلاح والنصر.

ثم تنتقل إلى أحد أهم أسباب النصر الذي حدثتنا عنه منذ بدايتها "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"
حديث سورة الأنفال عن الوحدة وإصلاح ذات البين ونبذ التنازع والتفرق لا يمكن أن يمر مرور الكرام دون وقوف عليه وتدبره
إن فساد ذات البين والتشرذم والفرقة داء يفتك بالأمم ويُذهب بقوتها وهيبتها، ويجعلها لقمةً سائغة لأعدائها:
"وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [الأنفال: 46].
المسار واضح تحذرنا منه السورة بحسم
تنازع سيؤدي حتماً إلى الفشل وذهاب "الريح" وضياع القوة والهيبة والنصر.
أما الصبر على تجاوز الخلافات والحفاظ على الوحدة؛ فهو مفتاح البقاء والقوة.
قواعد سهلة يسيرة ولكنها حازمة قاطعة تؤكد السورة بها على ضرورة تآلف القلوب ووحدتها وكونها نعمةٌ إلهية لا تُشترى بأموال الدنيا كلها
(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 62-63].

هذا التأليف بين القلوب هو منةٌ ربانية، وفعل إلهيٌّ لا يقدر عليه بشر
وهو من أهم أسرار قوة المؤمنين وتماسكهم.

وأخيراً وليس آخرا تحدثنا السورة في أكثر من موضع عن الأساس الذي تنبني عليه كل هذه الأسباب
الإيمان الحق
جوهر كل خير.
السورة تصف المؤمنين الصادقين مرتين بأنهم "أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا"
وتربط هذا الوصف بصفاتٍ عمليةٍ تُظهر حقيقة إيمانهم الذي لا يقتصر على مجرد الادعاء باللسان:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 2-4].
تأمل الكلمة..
"المؤمنون حقاً"...
يا لها من عبارةٍ تهزّ الوجدان!
تُرى، هل خطر ببالك يوماً أن تكون واحداً منهم؟
أن تُسجّل اسمك في هذه القائمة الشريفة
قائمة المؤمنين بحق
وكأن ثمة إشارة ضمنية بمفهوم المخالفة أن هناك مؤمنين بغير حق
👍5
مؤمنون زائفون
وهذه حقيقة يدركها كل من أدرك مفهوم الإيمان وليس أولئك الذين يظنون أنهمة مجرد تصديق نظرب
لو كان الإيمان مجرد "تصديق" وانتهى الأمر، لكان إبليس – نعم إبليس نفسه! – من كبار المؤمنين!
هل سمعتَ يوماً أن إبليس يُنكر وجود الله؟
كل الآيات التي يتحدث فيها إبليس تبين كونه يصدق بوجود الله بل ويُقسم به وبعزته أحياناً وهو يُخطط لغوايتنا.
لكن الله، في كتابه العزيز، وصفه بأنه: "{أبى واستكبر وكان من الكافرين}".
تأمل الكلمة جيدا
"من الكافرين"... رغم تصديقه بوجود الله، ورغم اعترافه به
إلا أنه كافر، بل هو رأس الكفر ومنبعه.
و لماذا؟
ببساطة لأن "المعرفية" وحدها لا تكفي. ة التصديق الذهني إذا لم يتبعه "قبولٌ" بالقلب و"انقيادٌ" بالجوارح = يصبح مجرد "معلومة" باردة لا قيمة لها؛ بل قد تكون حجةً على صاحبها.
إبليس عرف ربه، لكنه رفض أن يطيعه
أبى أن يسجد لآدم تكبراً وحسداً.
قلبه لم ينقَد، وجوارحه لم تستسلم.
تماماً كقوم فرعون الذين قال عنهم ربنا: "{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً}". أنفسهم كانت "مستيقنة" بحقيقة آيات موسى، لكن ألسنتهم "جحدت" وقلوبهم "استكبرت".
الموضوع إذاً ليس مجرد كلمةٍ تُقال، ولا شعارٍ يُرفع، ولا حتى "يقينٍ ذهني" بارد
"المؤمن حقاً" له صفاتٌ عملية
له بصماتٌ واضحة في حياته وسلوكه
له خصائص ذكرها ربنا جل وعلا في آياتٍ كثيرة من كتابه العزيز، منها تلك الآيات التي نحن بصدد الحديث عنها من سورة الأنفال واقترنت بذلك اللقب الشريف في موضعين
لقب "المؤمنون حقا"
هل لاحظتَ كيف بدأت الآيات وكيف انتهت؟
لقد بدأت بأداة الحصر والقصر "إنما"
و كأنها منذ البدء تقول: "هؤلاء، وفقط هؤلاء، هم المؤمنون الذين يستحقون هذا اللقب بجداره".
ثم، بعد أن ذكرت صفاتهم العملية، عادت لتُؤكد الوصف الشريف
"أولئك هم المؤمنون حقاً".
وبينهما، بين البداية والنهاية، تجد تلك المواصفات الذهبية والشروط التي تؤهلك لوضع اسمك في تلك القائمة الشريفة.
وهي ليست شروطاً تعجيزية، وليست طقوساً غامضة.
إنها صفاتٌ تنبع من قلبٍ حي، وتُترجم إلى سلوكٍ عملي
"إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ"
ذكرهم ليس مجرد ذكرٍ باللسان، بل كلمات تنبع من القلب وتحركه
توقظ فيه الخشية والإجلال والمحبة. قلبٌ وجل يرتجف لذكر الله، كأوراق الشجر حين تُداعبها نسمات الفجر.

"وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا"
استماعهم للقرآن ليس مجرد استماعٍ عابر، بل تدبر يزيد منسوب اليقين في القلب ويقوي جذور الإيمان، ويقربهم من ربهم وكأن كل آيةٍ يستمعون إليها = جرعةٌ جديدة من النور والهداية.

"وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"
التوكل الذي يصاحبنا طوال السورة.. ها هو يبرز من البداية
ثقةٌ مطلقة الله ﷻ و قلبٌ يعلم أن الأمر كله بيد الله، فيُفوّض إليه أموره كلها، ويستعين به في كل شؤونه.
ثم تأتي العبادة
"الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ"
ليست مجرد حركات جافة تؤدى بل "إقامة" بقلبٍ حاضر وروحٍ خاشعة تلخص تلك الصلة المباشرة بين العبد وربه.

"وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"
ليس فقط المال، بل من كل ما رزقهم الله من علمٍ ووقتٍ وصحةٍ وجاه.
إنفاقٌ في سبيل الله، شكراً للنعمة، وتطهيراً للنفس، وسعياً لمرضاة الرب.

يا لها من صفات! ويا لها من حياةٍ تلك التي تُعطّرها هذه الخصال!
حياةٌ يمتزج فيها الخوف بالرجاء، والعلم بالعمل، والتوكل بالسعي، والعبادة بالإنفاق. تلك هي الحالة الإيمانية التي يحياها المؤمنون حقاً في كل لحظةٍ من لحظات حياتهم.
هي صفات المؤمنين حقاً، الذين لهم الدرجات العلى عند ربهم، والمغفرة الواسعة، والرزق الكريم الذي لا ينقطع.
ثم تعود الكلمة لتتكرر مع صفات أخرى في خاتمة السورة لكي يحيط المعنى السامي بأولها ومنتهاها
تأمل معي هذه الكلمات التي تأتي في خواتيم السورة، كأنها تُلخص رحلة المؤمنين الصادقين في هذه الدنيا، وتُبيّن الثمن الذي دفعوه ليستحقوا هذا اللقب الرفيع:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 74].
مرة أخرى "أولئك هم المؤمنون حقاً"!
نفس الختم، نفس الشهادة الربانية تعود لتتردد مرة أخرى، كأنها ختمٌ نهائي يُؤكد على أهمية ما سبق ويُضيف إليه بُعداً آخر من أبعاد الإيمان الحقيقي يأخذ منحىً مختلف يكمل الصورة السامية..
منحى التضحية والبذل والعطاء.
لم يعد الأمر يقتصر على وجل القلب وزيادة الإيمان والتوكل والصلاة والإنفاق (وهي أمور عظائم بلا شك!).
لكن الأمر هنا يمتد ليشمل أفعالاً كبرى وتضحيات تُثبت صدق الإيمان في أشدّ المواقف وأصعب الظروف
👍41
إيمان حق يُترجم إلى أفعالٍ عظيمة
بتبدأ بفعل "آمَنُوا" وهو الأساس الذي لا بد منه
التصديق الذي يتبعه انقياد.
ثم تقرنه بفعل آخر
"وَهَاجَرُوا"
إنهم المهاجرون إذاً
أولئك الذين تركوا الأوطان والأموال والأهل، فراراً بدينهم، وبحثاً عن بيئةٍ يعبدون فيها ربهم.
يا لها من تضحية!
أن تقتلع جذورك من أرضٍ ألفتها، وتُهاجر إلى المجهول، لا لشيءٍ إلا لمرضاة الله.
"وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
بذلوا النفس والنفيس، وضحوا بأموالهم وأنفسهم، لا لدنيا يصيبونها، ولا لغنيمةٍ يقتسمونها، بل "في سبيل الله" وحده، لإعلاء كلمته ونصرة دينه.
ثم الوجه الآخر من العملة الغالية للرعيل الأول
الأنصار..
"وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا"
أولئك الكرام، الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم لإخوانهم المهاجرين
آووهم، نصروهم، واسوهم، وقاسموهم أموالهم وديارهم، في ملحمةٍ من الإيثار والتضحية لا مثيل لها في تاريخ البشرية.

هؤلاء أيضاً، يا صديقي، هم "المؤمنون حقاً"!
أولئك الذين لم يكتفوا بإيمان القلب وعبادة الجوارح في حدود ذواتهم، بل حملوا همّ هذا الدين، وضحّوا من أجله، وبذلوا في سبيله، وآووا ونصروا إخوانهم.

إيمانهم لم يكن مجرد شعورٍ داخلي أو طقوسٍ فردية، بل كان حركةً وعملاً وبذلاً وتضحية.
وكأن السورة، بهذا التكرار البديع للفظ "المؤمنون حقا" تُحيط بهذا المعنى السامي – معنى "الإيمان الحق" – بسياجٍ من الصفات القلبية والعملية، الداخلية والخارجية
تبدأ بصفاتٍ تتعلق بعلاقة العبد بربه وبكتابه وبنفسه (الوجل، زيادة الإيمان، التوكل، الصلاة، الإنفاق)
ثم تختم بصفاتٍ تتعلق بعلاقته بدينه وأمته ومجتمعه (الهجرة، الجـ.هـ.اد، الإيواء، النصرة) وليكتمل بذلك عقد الإيمان، وليتضح أن "المؤمن حقاً" هو ذلك الإنسان المتكامل، الذي يجمع بين صلاح الباطن وصلاح الظاهر، بين عبادة الخالق والإحسان إلى المخلوق..

فما أجملها من رحلةٍ تلك التي تبدأ بوجل القلب عند ذكر الله، وتنتهي ببذل النفس في سبيل الله وما أروعها من منزلةٍ تلك التي يصل إليها من جمع بين هذه الصفات كلها، فاستحق أن يُقال له: "أنت مؤمنٌ حقاً، لك عند ربك مغفرةٌ ورزقٌ كريم!".

وهكذا تتكامل صفات الأمة المنصورة في السورة
قلبٌ مُعلقٌ بالله، يعلم يقيناً أن النصر من عنده وحده، لا من قوة العتاد أو كثرة العدد أو براعة التخطيط.
وجوارحٌ عاملةٌ، تأخذ بكل سببٍ متاح، وتبذل أقصى ما تستطيع من جهدٍ واستعداد، وتتحلى بصفات الطاعة والثبات والوحدة والصبر والإخلاص.
هذا ببساطة هو التوازن الدقيق الذي تُعلمنا إياه سورة الأنفال
التوازن بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب
بين الإيمان بالغيب والعمل بالشهادة
بين تعليق القلب بالسماء وتحريك الجوارح في الأرض.
هي دعوةٌ دائمة لكل مؤمنٍ ومؤمنة أن يوازنوا بين هذين الجناحين؛ فلا يغتروا بقوتهم وأسبابهم فينسوا فضل الله، ولا يقعدوا عن العمل زاعمين التوكل منتظرين تحت الأغطية الناعسة
سورة الأنفال التي هي "بيان الانتصار" بيان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميد = تنتج أمة تجمع بين الأمرين، مستمدة العون والتوفيق من الله العزيز الحكيم، الذي ينصر عباده المؤمنين
ويُحق الحق بكلماته.. ويقطع دابر الكافرين.

الفصل الثامن مت سلسلة #قبل_أن_تتلو
👍10
ملخص معاني سورة التكوير
5
ملخص معاني سورة الانفطار
#ورد_القرآن_اليومي
1
أعتذر آسفا اليوم عن البث القرآني الأسبوعي على وعد باستكماله إن شاء الله يوم الثلاثاء القادم
👍12
مخنوق..
هكذا يكون الوصف باختصار حين يأتيك ذلك الضيف فتتغير ويسألك من حولك... مالك؟

كان يوما عاديا.. لم يحدث شيء جديد ولم أكن أنتظر شيئا مقلقا لكنني شعرت به يزحف نحوي كضيف ثقيل لم تتم دعوته؛ رغم ذلك أصر على الحضور..
جلس على صدري كصخرة باردة وبدأ يطبق على أنفاسي شيئا فشيئا!
لم يكن ألما جسديا واضحا لكنه ذلك الشعور الذي لعلك عاينته من قبل وتعبر عنه تلك الكلمة الموجزة
مخنوق
ذلك الشعور اللزج الذي لا تعرف له سببا ولا تجد منه مهربا..
وكأن جدران الغرفة تضيق والهواء النقي يشح والروح تبحث عن نافذة تتنفس منها فلا تجد إلا المزيد من الجدران الصماء!

تلك اللحظات القاسية التي يزورنا فيها هذا الضيف غير المرحب به فتبدأ في تقليب صفحات يومك كأنك تبحث عن دليل إدانة أو عن تفسير منطقي لذلك الثقل الذي يجثم على روحك..
هل هو همٌّ قديم عاد ليطل برأسه القبيح؟
أم هو خوف من غد مجهول يحمل في طياته ما لا تطيق؟
أم هو مجرد إرهاق تراكم حتى كاد أن يسقطك أرضا؟
أم هي تلك الغصة التي تعقب الذنب وتمثل بقايا فطرة تؤذيها المعصية ويخنقها البعد عن الطاعة
أم هو عرض لتلك المشاهد الدموية اليومية التي لا تنقطع ولا تجد أمامها إلا عجزك القاسي وتقصيرك المتراكم؟
هل هو صدى تلك الأسئلة التي لم تزل تدق على أبواب عقلي وقلبي بلا هوادة؛ أسئلة أهرب منها في ضجيج النهار لكنها تطاردني في سكون الليل وتترك في روحي هذا الأثر الثقيل كأنها دَيْنٌ ثقيل لم أسدده بعد..

أم هو كل ذلك؟
أحيانا تجد طرف خيط يفسر لك ذلك الشعور.. وأحيانا أخرى يظل السبب غائبا مختبئا في زوايا الروح المظلمة، ويبقى الضيق هو الحقيقة الوحيدة الماثلة كشبح لا يريد أن يرحل..
في هذه اللحظات وأنت تتأرجح بين الرغبة في الصراخ لعل الصوت العالي يزيح هذه الغمامة وبين اللجوء إلى صمت مطبق كأنه استسلام مؤقت للمعركة؛ يبدو العالم كله باهتا فاقدا لمعناه كلوحة فنية سُكبت عليها ألوان رمادية فمحت كل بهجتها ثم تتساءل في قرارة نفسك : هل أنا وحدي من يرتدي هذه "النظارة المعتمة" التي تحول كل شيء إلى هذا اللون الكئيب؟
هل هذا الضيق الذي أشعر به هو ضريبة الوعي في زمن يفضل الغفلة والسطحية؟
هل لأنني أرى ما لا يراه الكثيرون وأشعر بما لا يشعرون به وأدرك عبثية الكثير مما يتهافتون عليه؟
هل لذلك يضيق صدري بهذا الهواء الملوث بالزيف والسطحية؟!
سرعان ما أحاول طرد تلك الأسئلة المتعالية التي تقطر تزكية للنفس وتصغيرا للخلق... لست بدعا من الناس ولا تضع نفسك في منزلة ليست لك..
لكن لماذا هذا الشعور؟
ربما لا تكون المشكلة في العثور على إجابة وافية مقنعة
ربما كان الأهم أن توجه النفس إلى التعامل الصحيح مع هذا الشعور المقبض وإن لم تدرك سببه
هنا أخاطب نفسي محاولا إقناعها
يا نفس.. دعينا لا نستسلم لهذا الضيف الثقيل دون مقاومة..
دعينا لا نتركه يطفئ كل شموع الأمل في داخلنا
أليس من الممكن في خضم هذا الاختناق أن تكمن بداية الترياق
إن أول ما عليك فعله يا نفسي؛ أن تعترفي بوجود مشكلة..
لا تنكريها ولا تقصري الحل على محاولة الهروب منها إلى المزيد من الضجيج الملهي
تأملي جيدا ملامح ذلك الضيف الثقيل وأخبريه بوضوح: أعرف أنك هنا وأنك رغم كونك غير مرغوب فيك ستمكث بعض الوقت لكنني لن أسمح لك بأن تسلبني كل شيء
أحيانا تكون هذه المواجهة الصادقة قادرة على إفقاده شيئا من هيبته وقوته

ثم تذكري يا نفسي أنك لست وحيدة في هذا..
جل الأنفس - بدرجات متفاوتة - يزورها هذا الشعور من حين لآخر..
إنه جزء من إنسانيتنا..
من ضعفنا..
من حاجتنا الدائمة إلى سند وقوة أكبر منا..
هذا الضيق ليس عارا ولا نقصا
هو تذكير متكرر بأننا بشر نحتاج إلى الله في كل لحظة
فابحثي يا نفس عن "نافذة" تتنفسين منها..
نافذة تدخل إلى صدرك هواء نقيا من السكينة والطمأنينة..
قد تكون هذه النافذة متمثلة في سجدة خاشعة تبثين فيها كل ما يثقل كاهلك لخالقك؛ فتشعرين بأن جبالا قد أزيحت عنك
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
أليس هذا هو المفتاح الذي يفترض أن يكون يقينا في قلبك؟
أليست غصة الذنب المظلمة تتبدد بأوبة إلى براح التوبة وسعة الاستغفار
ربما تجدين النافذة في حديث سلس تتجاذبين أطرافه مع صديق يفهم صمتك قبل كلامك وصنو روح يشاركك همومك دون أن يثقل عليك
وقد تكون نافذتك في صفحات كتاب جيد يلامس جراحك ويقدم لك بعض العزاء أو الفهم
وقد يكون الأمر أبسط فتتمثل نافذتك في جولة تتمشين فيها وحيدة تحت قبة السماء تتأملين عظمة الكون فتصغر في عينيك همومك الصغيرة
بل حتى في قدح من القهوة تتناولينه ببطء وأنت تراقبين الحياة من نافذة بعيدة وكأنك تأخذين استراحة قصيرة من معركة "التفكير الزائد" الذي لا يؤدي إلا إلى المزيد من الحزن والإحباط والقعود
👍7
عندئذ لعلك تدركين حقيقة أن أي تفكير تجدين نهايته حلقة مفرغة من الألم والعجز فهو قطعا ليس المسار الصائب الذي أراده لك الله بل قد يكون محض نزغات من الشيطان ليحقق أحد أهم مقاصده
﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾

وأخيرا يا نفسي يا من ابتليت بـ"حمى الكتابة"؛ اسكبي هذا الاختناق على الورق..
حولي هذه الزفرات المؤلمة إلى كلمات تتنفس..
فالقلم أحيانا يكون أصدق طبيب للروح حين تخرجين ما في صدرك من ضيق وألم وأسئلة حائرة؛ وتعطينه شكلا على الورق أو خوارزميات الشاشات= فإنك بذلك تخففين من ثقله
وربما تجدين فيه معنى أو جمالا لم تكوني ترينه من قبل
من هنا قد يكون هذا الاختناق هو المخاض الذي يسبق ولادة فكرة جديدة أو قصة مؤثرة أو تأمل مهم يضيء لك وللآخرين بعض دروب الحياة

الخلاصة يا نفس.. حاولي فلا توجد حلول سحرية ولا طرق مختصرة للخروج من هذا النفق الخانق
لكن ثم باب مفتوح دائما في نهايته وتكليفك أن تحاول الوصول إليه والطرق عليه عساه يفتح فينفذ النور الذي يبدد ذلك الشعور المظلم
المهم ألا تيأسي يا نفس من رحمة ربك وتذكري أن أشد ساعات ظلمة الليل هي آخرها..
ومهما طالت فإن الفجر سينبلج لا محالة وكذلك هذا الاختناق؛ مهما اشتد فسيعقبه بإذن الله فرج قريب وروح تتنفس بعمق من جديد كأن لم يكن بها ما يضنيها ويثقلها..
9👏2👍1
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
5
أذنبت؟
نعم... قطعا فعلت.. فليس من معصوم اليوم...
لكن هذه هي بداية القصة
وهل للذنب قصة؟!
سؤالٌ قد يبدو غريباً، لكن الإجابة، يا صديقي، هي "نعم" مدوية.
لكل ذنبٍ نرتكبه، و لكل خطيئةٍ نقع فيها، لكل هفوةٍ نتعثر بها... لكل شيء مما سبق قصةٌ تُنسج خيوطها في الخفاء
قصةٌ أبطالها نحن، وأنفس أمارة والشيطان
ثم تجليات رحمة الله التي تسبق غضبه.

تبدأ القصة غالباً بلحظة ضعفٍ بشري، بتسلط غفلةٍ كغيمةٍ سوداء حجبت شمس التقوى، أو ربما بمجرد "شرود" في زينة الدنيا وشهواتها المزينة..
ثم تزلّ القدم، وتجد نفسك قد سقطت في وحل معصية، أو اقترفت خطيئةً كنتَ تُقسم أنك لن تقربها.
هنا، يفرح الشيطان فرحته الأولى، يسجل نقطةً في معركته الأزلية معنا.
لكن، مهلاً! هذه أيضا ليست نهاية القصة، بل هي مجرد بدايتها.
بداية تصحبها خصيصة لاسم من أسماء الله الحسنى..
الستير..
في هذا المشهد من القصة - قصة الذنب - لا يفضح الله المذنب مباشرة بل يُرخي عليه سدول ستره الجميل، فلا يراه الناس وهو على تلك الحال!
ثم يأتي تجلٍ لاسم آخر
الحليم جل وعلا
فمن عجائب حلمه بعد انقضاء الشهوة والفراغ من الذنب أن يأمر صاحب الشمال – ذلك الملك الموكل بتسجيل السيئات – أن يرفع القلم عنك لست ساعات كاملة؛ لا يكتب فيها الذنب... لعلك تنتبه.. لعلك تندم.. لعلك تعود عندئذ يُلقي بذلك الذنب في بحر النسيان كأن لم يكن.
فإن طالت غفلتك قليلاً وتخطت حاجز الساعات الست فإن الحليم لا يعجل عليك بعد
سيبسط إليك يده ويأتيك نداؤه بالنهار لتتوب إن كنت قد أسأت بالليل
أو ربما تُبسط لك يده بالليل لتتوب إن كنت قد أسأت بالنهار.
ثم، في جوف الليل الآخر وفي تلك الساعات المباركة التي يهدأ فيها الكون وتصفو فيها الأرواح، سيناديك نداء آخر
"هل من تائب فأتوب عليه؟
هل من مستغفر فأغفر له؟"
تأمل توالي فرص التطهير التي لا تُقدّر بثمن!
فهل انتهت قصة الذنب بعد؟
لا يا صديقي لا تتعجل
إن مرّ كل ذلك، ومضت الساعات والأيام وربما السنين، وأنت لم تزال غافلاً، مُصراً، مُسوفاً... حسنا.. سيُكتب الذنب ويستقر في صحيفة السيئات
لكن لحظة.. كتابته نفسها لها شأن
قصتنا قصة ذنب
ذنب واحد يا عزيزي..
وهكذا سيُكتب..
واحد فقط لا زيادة عليه إلا إن كان استنان شر فله من الوز مثل أوزار من تبعه
ما دون ذلك سيكتب وحيدا
ثم يكون في مشيئته...
نعم... ليس معنى كتابته أنه سيؤدي لا محالة إلى عقوبة
بل هو في المشيئة
مشيئة الله إن شاء عفا
وإن شاء عاقب.
بل وقد يُبدل الذنب إلى حسنة
تصور...
الله يبدل تلك السيئات حسناتٍ، إن أجدت هذا الفن الجميل الذي أسميه فن التوبة!

"فن" الخروج من ضيق الذنب إلى سعة المغفرة
من "غصة" المعصية إلى "انشراح" الطاعة.

هذا "الفن" العظيم، الذي خاطب الله به الأمة كلها فقال: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
فنٌ له شروطٌ بسيطة يسيرة في مجملها يا لسعادة من أكمل قصة ذنبه بتحقيقها
شروط هي ليست مجرد قواعد جامدة، بل هي منهج حياةٍ يستصحبه المؤمن في كل أحواله.
أولها، وذلك ليس خاصاً بالتوبة وحدها بل هو أساس كل عبادة، الإخلاص.
أن تكون توبتك هذه خالصةً لوجه الله، لا لمخلوقٍ تُرضيه، ولا لدنيا تُريدها، ولا لخوفٍ من فضيحةٍ أو عقوبةٍ من بشر.
فقط لله المستحق وحده لأن يُتاب إليه، ولأنك ترجو مغفرته ورحمته، وتخشى عقابه.

ثم يأتي الركن الأعظم، الذي لخّص به النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة التوبة كلها: "الندم توبة".
قد يقول قائل: "وهنا مكمن الصعوبة! فالندم شعورٌ قلبي لا أملكه!".
وهذا صحيحٌ نظرياً.
لكن من أراد التوبة بصدق، سيبذل وسعه ليُحرّك هذا القلب القاسي ويُوقظ فيه شعور الندم.
كيف؟
بأن يتأمل أمرين: جلال من عصى
وبشاعة ما اقترف، وسوء عاقبته إن لم تُغفر.
بهذا الذنب قد عصيتَ خالقك، رازقك، من أنعم عليك ابتداء و القادر على أن يسلب منك كل نعمه في لحظة!
عصيته بما يُغضبه ويُسخطه، وبما قد يُعرضك لعقوبةٍ في الدنيا
(لعلها هذه الغصة التي تشعر بها، هذا الشعور المقبض بالوحدة والتخلي عن حصون التوفيق الإلهي!)
وعذابٍ أليمٍ في الآخرة إن لم تتب.
قل لي بربك، إذا تفكرتَ في هذا بصدق، ألا يرتجف قلبك ندماً وأسفاً؟
فإن ندمتَ؛ أبشر
قد حققتَ الشرط الثاني.
وإن لم تندم فوراً، فلا تيأس، لعلّ الران الذي يعلو قلبك سميكٌ بعض يحتاج إلى مزيدٍ من المجاهدة والتفكر.

بعد ذلك يأتي بعد ذلك قرار الإقلاع الحاسم.
تلك اللحظة التي تقول فيها لنفسك وللشيطان بقلبٍ يملؤه الصدق: كفى!
انتهى الأمر
لن أعود!.
قرارٌ قد تكون صعوبته في لحظة اتخاذه، لكن ما بعده أيسر وأحلى.
20👍2
مواجهةٌ مباشرة مع الهوى، وقمعٌ للشهوة، ورفضٌ لمبارزة الله بالخطايا.
بدون هذا القرار القاطع، فما التوبة إلا دعاوى وأماني كاذبة.
ثم أخيراً تختم قصة الذنب بالعزم الأكيد على عدم العودة.
والعزم هنا ليس مجرد أمنية، بل هو انعقاد نيةٍ صادقة، وتأدبٌ مع الله، وحسن ظنٍّ به أنه سيُعينك على الثبات.
لا أتحدث عن ذلك الذي يُضمر العودة في قلبه، فهذا كاذبٌ على نفسه وعلى ربه.
بل أتحدث عن ذلك الذي يعزم بصدق، حتى لو كان يعلم من نفسه ضعفاً واحتمالية سقوط.
فإن سقط مرة أخرى = عاد فتاب، ثم عاد فتاب، لا يكل ولا يملّ، فإن الله لا يملّ حتى تملوا.
لكن ختام القصة لا بد أن يكون بعزمٍ على عدم تكرارها
تكرار "قصة الذنب".

وإن كانت هناك حقوقٌ للعباد قد ضُيعت بسبب هذا الذنب، فلا تكتمل التوبة إلا بردّ هذه الحقوق أو الاستحلال من أصحابها.

هذه هي، يا صديقي ببساطة فصول القصة
"قصة الذنب"
قصة يرويها لنا لطف الله ورحمته،
فإذا شعرتَ يوماً بذلك "الضيف الثقيل" يجثم على صدرك، بتلك "الغصة" التي تُعكر صفو حياتك فلا تبحث كثيرا عن السبب.
ابحث أولاً في غرفات قلبك وتأمل في أي فصول القصة أنت
ربما ستجد هنا أو هناك بعض #كراكيب الذنوبٍ المنسية التي تحتاج إلى يدٍ نادمة وعزم تائب ليُعيد إليها ترتيبها ونقاءها
أو يعيد كتابة فصول القصة كما ينبغي أن تُكتب وليتغير اسمها من قصة ذنب إلى اسم أكثر إشراقا
قصة توبة
24👍2
2025/07/09 16:45:43
Back to Top
HTML Embed Code: