Telegram Web
مضى على رسالتك خمسة آلاف وسبعمائة وستون دقيقة بالمناسبة لا أفتقدك، أقولها رغم: قراءة المزيد
أقرّ بصدقٍ: إنني أجهلُ تفاصيلَ حياتي، 
بل إنَّ الفزعَ يُراوِدُني كلَّ حينٍ 
من سؤالٍ مُحتمَلٍ عنها، 
فأعجزُ عن ردٍّ شافٍ، 
لا أدري أين استقرتْ بالضبط! 
أتراها شردتْ في فضاءٍ ما، 
أم ملّتْ من رتابتي فغادرتْ، 
أم ضاقتْ بكلِّ ما حولها؟ 
أجهلُ تفاصيلَ الرحيلِ، 
لكنّ يقيني يجلّي غيابَها الأبدي. 
يا لهذا الإعياءِ المُنهِكِ! 
أجوبُ الفضاءَ بلا وجهةٍ، 
فها أنا -بجديّةِ هذهِ المرّة- 
أضيعُ في متاهاتِ اللايقينِ، 
حتى الجلوسُ مكانَكَ صارَ 
مهمّةً شاقّةً كتسلّقِ الجبالِ.
يزحفُ القلقُ كالضبابِ
حينَ تتوقّفُ، فيخنقُ أنفاسَكَ،
يا لهذا الرعبِ المُفزِعِ: أن تبقى تائهًا
في فراغِ القراراتِ!
صَدِّقْ: لعلَّك تحملُ جوهرَ الحقيقةِ،
لكنَّها تتهاوى كالسرابِ إنْ نطقتَ بها بِصوتٍ مُتهدِّجٍ،
بينما يَصُولُ الباطلُ بِصَلفٍ،
يَرمي كلماتِ الزيفِ كسُيوفٍ،
وَعيناهُ تثقبُ جدارَ صمتِكَ بلا وَجَلٍ.
الحقيقةُ وحدَها لا تُنْجِيكَ،
فهيَ كطائرٍ أعزلَ يَحومُ في العاصفةِ،
حتّى تُنفخَ فيها نارَ القوةِ،
فتصيرَ درعًا يُحيطُ بِكَ،
أو جيشًا خلفَكَ يُرعدُ حينَ تهمسُ.
فالحقُّ لا يَحميكَ إلا إذا
صَيَّرتَهُ كَينونةً تُصارعُ مَعَكَ،
لا شاهدًا صامتًا يَتلاشى وَراءَكَ.
لا بدَّ لي من الإقرار؛ إنني من النفوس التي تَثْقُلُ على الوجود أخيرًا، أنا مِمَّن تفيضُ أحاسيسهم فوق الحدِّ، ويغْرقون في التأمُّل فوْق المُعتاد، أولئك الذين يشتاقون إلى همْساتٍ مُحدَّدة تلمسُ أعماقهم، فلا تدهشُهم إلّا العبارات النادرة التي رسموها قبل سماعها، والحركات غير المألوفة التي صوَّروها في خلدِهم. إنني من أولئك السُّكارى بالتميُّز، الذين يرفضون الرتابة، ويكرهون الأصداء المُكرَّرة، والأقنعة المُتشابهة.
"الآن.. أصبح بوسعي أن أروي ما مضى من أيامٍ وكأنه سردٌ لقصّةٍ لا تعنيني! هل تجاوزت الأمر؟ قد لا أكون تجاوزته بالكامل، لكنّي على الأقل لم أعد أخشى مواجهة ذكرياتي! اسمع مني حقيقةً: نحن لا ننسى يا رفيقي! تلك الأيام لن تتبدد مع الغيوم العابرة، بل ستبقى هنا، في أعماق هذا الصدر! ستتكدّس فوق بعضها، ستملأ القلب بأشواكها لسنواتٍ عديدة، لكنّها ذات يومٍ ستتحوّل إلى ممرٍّ عابر فحسب، وحينها سيخفت ذلك الألم الباهت، سنكفّ عن الدمع، ونرسم ابتسامةً هادئةً، كمن يودع مسافراً غادر إلى غير رجعة! ثق بي، هكذا ستُطوى الصفحة في النهاية."
ظللتُ ألزم الصمت دائمًا في أغلب الأحيان، وعلى الرغم من أنني أتوقُ أحيانًا إلى إطلاق هذا الكمّ الهائل المكبوت بأعماقي من الكلمات، إلا أنني لا أجد في حقيقة الأمر ما يُعبِّر عما بداخلي. ألا تتفق معي أن الامتناع عن النطق قد يكون أحيانًا هو الخيار الأوفى للحكمة؟
حين يمتلك الإنسان فكراً نيّراً يتجاوز به سطحيّةَ المُحيطين، قد يصير غريب الأطوار في عيونهم، فيُوصم بالانزياح أو الجمود أو حتى الجنون، لا لشيء إلا لأنه يغوص في أعماق القضايا حيث يكتفي الآخرون بالسباحة على السطح. فالعقل الذي يقرأ ما بين السطور، ويُحلِّل الأحداث بمنظارٍ فلسفيٍّ ثاقب، غالباً ما يسبق عصره بخطوات، فيتحوّل إلى كائن غريب في وطنه، يعيش غربة داخلية تشبه وحدةَ النسر بين سربِ الغربان. إنها المفارقةُ الأبدية: كلما ارتقى الوعي زادت المسافة بين صاحبِه والعالم، لكن تظلُّ تلك الغُربة ثمنًا نبيلاً لامتلاك رؤية لا ترضى بالسَّاذج ولا تستكين للظاهر.
إشكاليّة العمر في ربيع العشرينيات: أنَّك تحمل أعباء الدنيا كجبل فوق كاهل لم يعتَد الثقل بعد، فلا أنت طفل تلوذ بالدّموع في حضن والديك، ولا أنت ناضج بِما يكفي للخوض في ظُلمة الطَّريق بخبرتك. إنها مفارقة المرحلة التي تُحاصرك فيها الأسئلة من كلِّ جانب، بينما تشدّك الحيرة إلى وسَطِ المعركة بلا دِرع ولا سلاح. تشعرُ بأنَّك وحدك في وسط العاصفة، تُصارع لتُثبتَ أنك قادر على الوقوف مرارًا وتكرارًا، رغمَ أنَّ خطواتك الأولى ما زالتْ تترنَّح.
كثيرون يبحثون في ذاكرتهم عن صورهم الأولى، تلك التي حملتْ قلوبًا أخفَّ حملًا وأفكارًا أقل تعقيدًا، رغم ما شابها من جهلٍ بالحياة وقلّة خبرة بمتاهاتها. لقد كانت أيامًا بسيطة تتدفّق براءة، تُزيّنها ابتسامة صادقة لم تلوّثها شوائب الزمن. يُدرك المرء لاحقًا أنَّ السكينة التي افتقدها بعد ليست سوى حنين إلى ذلك الزمن الذي كان فيه القلب نقيًّا، والروح حرة طليقة من أثقال الوجود. ففي النهاية، لا يُعادل ثمن الرضا والسلام الداخلي أيّ كنز مهما عظُم.
ستدرك مع تراكم الأيام أن كثيرًا من جراحك لم تكن سوى وهم نسجته مخيلتك، وألمٌ افترضته قبل أن يلمسك، كمن يبني سدودًا في فراغ لا ماء فيه. لقد ظننت أن التعمق في تشريح الأحزان سيُريك جذرها، فإذا بك تحوّل رملًا طيّعًا إلى صخور تُثقل خطاك. الحقيقة التي ستُضيء لك لاحقًا هي أن الحياة لا تُحملق في تفاصيلها كشَعر تحت المجهر، بل تُعاش كنسيم يمرُّ دون أن يُسأل عن اتجاهه أو سرعته.
كم من مرة وقفت عند مفترق الألم تُراجع الخطى الماضية بحسابات معقدة، كمن يحاول حلّ لغز الريح بأرقام جامدة؟ وكم مرة نسيت أن بعض الدروب لا تحتاج إلا إلى خطوة واثقة فوقها، لا إلى خريطة مُزينة بالشكوك؟ إن العقل الذي يسبق القلب في كل خطوة، يشبه قاربًا يبحث عن قاع النهر قبل أن يبحر، فيضيع وقت الإبحار.
لا أحد يدرك حقيقة أن تواجه المحن بصمت عميق، أن ترسم ابتسامةً على شفتيك في لحظات تدفعك إلى الانكسار، لا أحد يعي معنى أن يشتعل قلبك بالأسى بينما تبدو للعالم كأنك في قمة الاتزان. إنها معاناة خفية، كأنك تحمل نارًا تتأجج في صدرك، ولا يسمع لهيبها سواك. تمر الأيام وأنت تبتلع آلامك، تتنفس بهدوء، وتتصرف وكأن كل شيء على ما يرام، بينما في داخلك عاصفة لا تهدأ.
لا أحد يفهم كم من المرات تغمض عينيك لتمنع دموعك من الانهمار، أو كم من المرات تتنهد في سرية لتخفف من ثقل الأحزان. أنت تعيش في عالمين: عالم ظاهري تظهر فيه القوة والثبات، وعالم باطني تغلي فيه المشاعر وتتصارع. إنها معركة صامتة، لا يعرفها إلا من خاضها، ولا يقدّرها إلا من عاشها. في النهاية، تبقى تلك الابتسامة التي ترسمها على وجهك لغزًا يحير من حولك، بينما أنت تعلم أنها مجرد قناع تختبئ خلفه، تحاول أن تحمي نفسك من نظرات الشفقة أو أسئلة الفضول. إنها قوة من نوع آخر، قوة تفرضها الظروف، وتصبح معها الصمت لغة، والابتسام درعًا، والثبات وهمًا تخفي وراءه كل ما لا تستطيع قوله.
النسيان فنٌّ يُعلّم النفس أن تتقبل الحقيقة كما هي، دون أن تُثقلها بأوهام الماضي أو توقعات لم تتحقق. إنه تمرين لتهذيب الخيال، كي لا يطغى على واقع الحياة ويُبعدنا عن إدراكها بوضوح. فمن خلال النسيان نتعلم أن نعيش اللحظة، ونحرر أنفسنا من قيود الذكريات التي لا تُفيد. هو ليس هروبًا، بل مواجهة شُجاعة للحاضر بقلب خفيف وعقلٍ صافٍ.
من أعظم النعم التي يُمنحها الإنسان هي القدرة على البدء من نقطة الصفر، مهما بلغت الصعوبات أو تعقّدت الظروف. أن يُمنح دائمًا قوة جديدة لنسير نحو الأمل، ونصنع من الخسائر فرصًا للتجدد. هذه القدرة هي هبةٌ إلهية تُذكرنا بأن النهايات ليست سوى بداياتٍ أخرى، وأن الحياة لا تنتهي عند الفشل، بل تبدأ من حيث نتعلم.
يتعلم المرء من تجاربه القاسية، عبر المواقف التي أودعها وجدانه واطمأن إليها. فكم من مرة خُدع فيها الإنسان بأشياء آمن بها، فإذا بها تتحول إلى جراح غائرة في أعماقه. إن الدروس الأليمة غالبًا ما تأتي من حيث لا يحتسب، من بين أحضان الثقة والانخداع. فالحياة تُعلّمنا أن ما نستودعه القلوب قد يصبح مصدر ألمنا، حين يتحول الأماني إلى خيبات. فنكتشف أن بعض الدموع هي ثمنٌ لسذاجة الإيمان بكل ما يلمع.
"كل عام وأنتم في ظلّ الأمل." للمتعبين الذين ضلّوا دروبهم، للذين تاهوا في زحام الدنيا ولم يجدوا مرفأً يلوذون به. للغرباء على أرصفة المدن، وللعابرين بين الحدود بحثًا عن ملاذٍ آمن. للأيتام الذين فقدوا سندهم، وللجرحى الذين يحملون أوجاع الحروب في صدورهم. للمقهورين في المنافي، وللمهمّشين في زوايا النسيان. لكل من يحمل جراحًا لا تُرى، ولكل من ينتظر بصيص نورٍ في ظلمة هذا العالم... عيدٌ يُلملم شتاتكم، ويُعيد لقلوبكم شيئًا من الدفء.
عيدكم عيدٌ يليق بصدوركم الواسعة، للصامدين في وجه العواصف، الذين يحملون أحلامًا أثقل من الجبال، للباحثين عن لقمة العيش في أرضٍ لا ترحم، وللحالمين بغدٍ أفضل وهم يعبرون بحار المعاناة، للأمهات التي تبكي في صمت، وللأطفال التي تبحث عن معنى للفرح في عيون الغرباء. لكل من كتبته الحياة في سجلّ المنكوبين، ولكل روحٍ لا تزال تؤمن بالخير رغم كل الظلام. عيدكم عيدٌ يُجبر كسركم، ويرسل إليكم حنين الأوطان في رياح العيد.
2025/03/31 21:48:13
Back to Top
HTML Embed Code: