tgoop.com/HAIDERQAHTAN95/20958
Last Update:
كيف تبدأ القصيدة؟
علي محمود خضيّر
ثمة أجوبة لهذا السؤال بعدد من كتبوا الشعر في العالم. كلّ شاعر مدين لنا بإجابة، بل كلّ قصيدة هي جواب مستأنف لسؤال لا ينفد. وأجمل محاولات الكشف عن بداية القصيدة تلك التي تنمو خارج الشعر؛ قراءةً وتأثراً، مستلهمةً الخصوصية الفردية لكل شاعر، تجربة حياتية أو معرفة تجيءُ من الاطلاع والبصيرة. إن ماهية إجابة شاعر ما عن سؤال بداية القصيدة ترشدنا إلى حقيقة قصيدته، مهما كانت تلك الإجابة، وإن تضمنّت: الجواب بـ «لا أعرف»، ونحوه. مرّة قال بيكاسو “حتى أعرف ما أُريد رسمه عليَّ البدء بالرسم”. ويصلح هذا القول مذهباً في التأليف، يرى الكتابة، والشعر منها، وظيفة، أو حرفة، تُعرف بالخلق المستمر، المنضبط، كالآلة. وأحسبُ أن بيكاسو لم يقصد تهيئة لحظةٍ طقوسيّةٍ “مفتعلة”، بقدر ما كانت لحظته “الشعريَّة” حاضرة بشكل شبه دائم؟ مادة خام. إنّها كامنة خلف الستارة، تنتظر ايماءته لتبدأ. تماماً كما تنطوي حنجرة البلبل على تغريدته، كامنةً، يستدعيها بإشارة منه لا نصل أسبابها. البعض الآخر يجلس منتظراً أن تجيء القصيدة، وتفرض بدايتها، وأولاء، لا يسعون في سبيلها إما انشغالاً في الظرف الحياتي القاهر أو خياراً ذاتياً مغامراً. بداية القصيدة، بالأخص في وقتنا الراهن، حيث القارئ بلا صبر؛ صراط ملتبس الاستقامة، لديك أول بضع كلمات، هي فرصتك مع قارئك، إما أن تنجو وتحتفظ به لنهاية القصيدة، أو تسقط حرّاً في جحيم الـ “تايم لاين”. استجابة الشاعر لتلك المعادلة أسقطته في ابتذال “بدايات” قصائده، كتابةً وأداءً مسرحياً أمام “الجمهور”.
تبدأُ القصيدة بهاجس؟ بفكرة؟ بترنيمة؟ بسحر الخيمياء في كلمات امتزجت، مصادفةً أو بفعل تأثير، وأحدثَ امتزاجها وقعاً في نفس الشاعر؟ فبدأَ رحلتَه في استكمال ذلك السحر والاشتمال على نواحيه. وكمْ من قصيدة ليتها ظلّت فكرة، وكمْ من قصيدة ليتها ظلّت سابحة في سديم الخيمياء اللامكتمل.
أرى، في أغلب الظن، أن مبتدأ القصيدة، يأتي دائماً من خارج الشاعر، إشارة يجري تسلّمها ثم ترجمتها، ولا أعني هنا ما عرف، في السائد، بالوحي الشعري، أو شيطان الشعر، ربّاته، قل ما شئت. إنّ القصيدةَ ردّةُ فعل لفعل يختلف من كاتب لآخر. يبدأ بمشهد ماديّ ولا ينتهي بقراءة مقالة في الأمراض الوبائيّة. الشاعر وحده من يستطيع استخلاص الشعري من سواه في ما يحيطه، مرئياً كان أم لا مرئياً. وبالقدر الذي يصفو فيه الكاتب من درن الاشتباك مع الفوضوي من الحدث اليومي، مُنتَقياً الجوهري فيه، تكون القصيدة حاضرة وصافية وفي حالة بداية مستمرة.
القصيدة حدث غير عادي في مسار أحداث عادية ورتيبة، مثلما هي تكوين شديد الانضباط في بيئة عشوائيّة. لا أتذكر من القائل: “امنحني فقط الجملة الأولى والباقي عليَّ”، الحقُّ أن الجملة الأولى هي المُشكل، كأنّها إذن تضم في غضونها القصيدة كلها، كما يرى الطفل في الأربعين يوماً الأولى بعد ولادته حياته الآتية كلها كما تخبرنا الأسطورة.
بداية القصيدة ونهايتها مرتبطتان. فلقتا حبّة. توأمان سياميان يفصل الشاعر بينهما ليحقق فقط برهان الارتباط المعقود سلفاً في رحم الاستعارات اللانهائية. كأنّ القصيدة نذر مدّخر للحظتي البداية والنهاية، كناية واستعاضة عن لحظتي ولادة الشاعر وموته. يموت الناس ويولدون مرّة واحدة، بينما يولد الشاعر مع كل قراءة لقصيدته.
BY كــاف ↶
Share with your friend now:
tgoop.com/HAIDERQAHTAN95/20958