tgoop.com/Tachfin2023/951
Last Update:
القول الفصْل في إلزام الشك في العقل
اعلم وفقك الله أن إلزامنا للملاحدة أنهم لا يملكون أن يصدقوا الضروريات كامتناع اجتماع النقيضين، وصدق الحواس ونحوه؛ يعود إلى نكتة واحدة: هي أن نظريتك في المعرفة ينبغي أن تكون متسقة مع نظريتك في الوجود، ونحن ندعي أن نظريتهم في الوجود أي نفي وجود الإله الكامل، تناقض نظريتهم في المعرفة التي تجزم بصحة بعض الضروريات.
فإن الضرورة صفة للعلم وليست صفة للمعلوم، فإننا نجزم بأن الشيء ضروري لأننا لا نستطيع أن ندفعه عن أنفسنا، لا لأن المعلوم ذاته يحمل صفة الضرورة بذاته. ولكن إن كان الجزم بصحة هذا العلم يناقض تصورك للوجود، فإن المتعين أن تحكم عليه بأنه حكم الوهم كما هو مذهب طوائف من المشائين ونحوهم، كما في قولهم في التحسين والتقبيح.
ولأن بالمثال يتضح المقال أقول: هب أن رجلا يقول أن قتل الأطفال الرضع قبيح أخلاقيا، لكان ذلك حكماً موافقاً لفطرته؛ ولكن قد تكون نظريته في الوجود أن الأطفال أرواح شريرة هي أصل الفساد والدمار في العالم. فهذا حكم أخلاقي موافق للحق، ولكنه غير متسق مع نظرته.
وكذلك نقول في أمر الملحد، فإن من ينفي وجود إله كامل، ليس له أن يجزم بأن عقله قادر على أن يبلغ الحقيقة أصلا؛ وبيانه من وجوه، لعل من أيسرها أن يقال: أن الملحد في أقل أحواله -أي إن لم يكن داروينيا يجزم بأن مصدر العقل عشوائي- يجعل مصدر العقل مجهولا، أي يقول بإمكان وجود ما لو وُجد لبطلت حجية العقل؛ فتصوره للوجود لا يمنع من وجود ما يخدعه، كإله ناقصٍ أو شيطانٍ يُلبّس عليه. وإذا كان الأمر كذلك، فقد تساوى عنده وجود هذه المخادعات وعدمه، ومن ثم لزم الوقف في صدق العقل والحس.
فلا يمكن تأسيس المعرفة إلا بالقول بامتناع وجود ما يخدعنا، وهذا الامتناع لا بد من تعليله بمسبب وجودي أنطولوجي في الخارج، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح. وليس في الإلحاد إثبات هذا المسبب ومن ثم تعيَّن الشك في العقل. ولا سبيل إلى تعليل ذلك إلا بإثبات إله واجب كامل، والتعليل بمنافاة ذلك لحكمته جل ثناؤه.
فالأمر عند الملحد في مصدر العقل أشبه براوٍ مجهولٍ عند علماء الحديث، فهذا يُرد حديثه ولا يحتج به، فلا يفيد لا العلم ولا الظن الراجح؛ لأنه قد استوى معرفيا عندنا كونه صادقا من كونه كاذبا، وكونه حافظا من كونه ضعيف الحفظ، وما دخل عليه جنس هذا الاحتمال -الذي هو تكافؤ- بطل به الاستدلال، ولو رجحت أحد الاحتمالين كان ترجيحا من غير مرجح. فالموقف المتسق مع نظرية أي ملحد في الوجود أن يتوقف في صحة الضروريات.
بل إن سفسطة هيوم في حجية الاستقراء المعروفة في كتب نظرية المعرفة وفلسفة العلم، ليست إلا اطرادا في إلحاده ودهريته، فإن حجية الاستقراء تعود إلى أن العلم بمجموعة جزئيات في حيز معين بتراكم واستفاضة العادة، يُمَكِّن من الكشف عن نمط ونظاميات سببية داخل هذا الحيز. ولكن مع ذلك ما الذي يضمن لنا في الواقع الخارجي اطراد وبقاء هذا النظام السببي على ما هو عليه حقا؟ لا شيء إلا حكمة الله سبحانه وتعالى، فإن لم تؤمن بالإله رأسا لم يبقى تحت يدك شيء تُسند إليه وتعلل به هذا الاطراد.
وهذا - أكرمكم الله تعالى - منتهى الكلام في هذا الباب، ولباب العقول والألباب، ومترع في المسألة من التحقيق والتدقيق، يشهد له كل منصف بالصواب.
#إلحاد
BY كَشكولُ تاشفين
Share with your friend now:
tgoop.com/Tachfin2023/951