tgoop.com/aLonging/5045
Last Update:
كبرت وأنا أعلم أن خالي هاجر في شبايه لبلاد أوروبا الباردة، لهذا ولد حضوره الوحيد من مخيال أمي، من حكاياتها عن نزوات أخيها الأصغر وقصصه، نزوات مُضحكة ومُبكية وجميلة، كل حكاية جديدة ترويها عنه تُكمل صورته، تضخ الحياة في صورته الشبحية المُعلقة على الجدار، كان يتشكل أمامي ببطء حتى لحظة بعينها، لحظة فرغت فيها جُعبة الحكايات، لم يعد هناك شيئًا جديدًا ليُروى، لقد حكت عنه كل شيء. تحول الرجل من شبح يزداد حضورًا، لدائرة مُكتملة من الحكايات، نسق مٌغلق على ذاته، عقيم عن ولادة جديد، صار شبحًا ينتمي للذكرى، مهما إستعدته يبهت بالوقت.
عندها خلقت أمي حيلة جديدة، تقول "لو كان هنا لفعل كذا"
يحضر الغائب كإحتمال جمالي يُزين حكايات الواقع بنهاية بديلة، بمُقاربة أكثر نزقًا أو حكمة، نجحت أمي بفطرة حكاء لا يدري أنه يُمارس ألاعيب سرد في تحويل رجل غائب إلى إحتمال بارز بحضوره، إمكانية مُعلقة دومًا جوار الحوادث تُشير لسيناريو آخر.
عندما مرض خالي بشدة، وجاء لزيارتنا كان أربعينيًا، لم يعد يٌشبه حكايات شبابه القديمة، كان أكثر هدوءًا حتى من إستحضاره كإحتمال نزق، لهذا مارست أمي حيلتها الأخيرة، جعلته بخفة إلهامًا خفيًا يحيا كطيف في أفعالنا نحن، تُخبرني أنني أملك عاداته البسيطة، لثغة اللسان في الراء، سُمرة البشرة، الحُب المفرط للحلوى والسكريات، يملك أخي الأكبر عشقه للكورة وتملك أختي جُرأته ونزقه، أعُيد تدويره فينا، بحيلة بسيطة صارت كل حكاية نخلقها، وكل نزوة نجترحها، تضخ بعضًا من حياة في طيفه.
كان خالي يحتضر من المرض والسرطان بينما أمي تقوم بجمالية بإحياؤه بكل حيل السرد والحكايات، قيومة على سيرته دون كلل، كأنها بفراغها من خلقه هنا، سيموت هناك، لم تتوقف أمي عن إعادة تخليق أخيها الغائب أبدًا، وظل أخي حيًا، كأن رابطة جمال ما ولدت من الحكايات والواقع.
ماتت أمي قبل أخيها، توقفت ربة السرد عن نسج الحكايات، وإحتمالات الجمال، وإلهامات الطيف، وكأن أخيها كان مُعلقًا على حافة سردها، لم تمض أعوام قليلة حتى إرتحل لربه. ودٌفن جوار الملاك الذي حرس حكايته، وأحال بسحر ما كل غيابه لحيل جمالية من الحضور.
بعد أمي تعلمت القلق من كل شيء، لكنني إمتلكت طمأنينة لليوم الذي تفرغ فيه جُعبتي من حكاياتي عنها، علمتني أمي كيف يُمكن إستعادة الغياب بصيغ شتى، تحيا أمي في قلبي بحكايات قديمة، تحيا كإحتمال جمالي يهمس لي كل مرة: لو كُنت هنا كنت فعلت كذا، تحيا أمي كإلهام وطيف في كل جمال أبذله للعالم، وأنا أوقن أن فيه بعضًا منها، مثلما تسري الحياة من الجذر الخفي للثمرة التي يراها العيان.
إمتلكت أمي الجمال الكافي لتمنحني تعويذة إستعادة لا تبلى للغائب، لم تكن تبذلها عمدًا، لم تمنحها لي كدرس يجب حفظه، كانت فقط امرأة تُحب أخيها الأصغر، تُحييه بحيل قلبية، وبمراقبة حبها وحده تعلم قلبي أن يطمأن لو إنتهت حكاياته عنها، أنني أملك جمالًا يُحييها من جديد حتى موعدنا معًا".
BY حنين الشوق❤
Share with your friend now:
tgoop.com/aLonging/5045