Telegram Web
[ سَابِقُوا .. وَسَارِعُواْ ]

[ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ]آل عمران:133. إذا كنتَ بمفردِك، وفي عمَلٍ فرديٍّ؛ سَارِع إلى فِعلِ الخَيرِ، ولَا تتَواكَل، ولَا تُؤَخِّر الواجبَ عَن وقتِه، ولَا تُرجِئ عملَ اليومِ إلى غَدٍ؛ فإنَّك لَا تَضمَنُ غَدَاً .. وقال تعالى:[ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ ]الحديد:21. أمَّا إذَا كُنتَ في جماعَةٍ، وفي عملٍ جماعيٍّ؛ ولَك أقرَان يُنافِسُونَك على فِعلِ الخَيرِ، فسَابِقْهم، واسبِقْهم إلى فِعلِ الخيرِ، ولَا تَدَعْهم يَسبقُونَك .. فالمسَارَعَةُ؛ عندما تَنطلقُ إلى فعلِ الخيرِ مِن غيرِ مُنافِسٍ ولَا مُسَابِقٍ .. والمسَابَقَةُ؛ عندما تَكونُ في جماعَةٍ، ولك أقرانٌ يُنافِسُونك، ويُسَابقُونَك إلى فِعلِ الخيرِ .. والسِّبَاقُ، والمسَابَقَةُ أشَدُّ سَعيَاً مِن مجرَّدِ الاسْرَاعِ مِن غَيرِ منَافِسٍ ولَا مُسَابِق!
[ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ]طه:111. مَنْ حَمَلَ شِركَاً، وأتَى رَبَّهُ مُشرِكَاً .. قَد خَابَ، وخَسِرَ!
حيثُما تمرُّ على قولِه تعالى:[ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ]الحجرات:12. وقوله تعالى:[ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ]البقرة:173. عليك أن تقفَ، وتحطَّ رَحْلَ التَّفكرِ، والتَّأمُّل، والتدبُّر؛ لتَستشعرَ عظيمَ النِّعمَةِ، والفضلِ .. فأنتَ أمامَ نعمةٍ عظيمَةِ الشَّأنِ تَستوجبُ عليك مَزيداً مِن الشُّكرِ، والتَّحمِيد .. تَصوَّر ـ يا عبدَ الله ـ لو أن اللهَ تعالى قد أغلقَ دُونك بابَ التَّوبَةِ، والمغفرةِ، ومنَعَ عنك التَّوبَةَ .. وحالَ بينك وبينَ التوبَةِ، والاستغفَارِ .. ولو تُبتَ، واستغفَرتَ، لن يَتُوبَ عليك، ولن يَغفرَ لك .. وأنتَ الذي تُخطئ في الليلِ والنهارِ، تحتَاجُ للتوبةِ والاستغفارِ على مَدارِ الوَقت .. فأيُّ خُسرانٍ .. وأيُّ شَقاءٍ .. وأي همٍّ تَعيشُه، وتُكابِدُه .. وأيُّ نَعِيم تَسعدُ به مع هذا الشَّقاءِ، والحُرمَان؟! [ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ]، [ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ]؛ ما أعظمَها وما أجملَها مِن كلماتٍ .. ومَا أعظمَها وما أجملها مِن نعمةٍ لو عرَفنا قَدْرَها، وفضْلَها .. اللهمَّ لَكَ الحمدُ حمدَاً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، عدَدَ خَلْقِكَ، ورِضَا نفْسِك، وزِنَةَ عَرشِك، ومِدَادَ كلماتِك، لأنَّكَ التَّوابُ الرَّحيم، وأنَّك الغفُورُ الرَّحيم .. وأنَّك لم تمنَع عن عبادِك التَّوبةَ والمغفرَة، وأنَّك تَتوبُ على مَن تابَ، وتَغفرُ لمَن استغفَرَ وأنابَ .. وأنَّك لم تجعَلْ وسِيطاً بينَك وبينَ قبُولِ تَوبةِ، واستغفَارِ، ودُعاءِ عِبادِك!
[ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ]هود:40. ظلَّ نوحٌ عليه السلام يدعُو قومَه إلى الإسلام ألفَ سنَة إلا خمسين عاماً؛ مَا يُعادلُ عمر عشرةَ أجيالٍ متَتَالية .. ومع مضي تلك السِّنين الطويلةِ، وبذل الجهدِ الكبيرِ الذي يَليقُ بنبيٍّ من أولي العَزم، لم يُؤمن مع نُوحٍ، ويُتابِعُه إلى ما كان يَدعُو إليه من التَّوحِيد، والدِّينِ الخالِص إلا قَليل؛ قِيلَ بضعة أنفارٍ؛ عشرةٌ أو يَزيدُون .. وقيل كانوا ثمانين نَفراً .. وفي ذلك من العِبَر والدَّلالات العَدِيدَةِ، التي تُعِين الدَّاعيةَ المسلم في دعوتِه إلى اللهِ، مِنها: أن الحقَّ لا يُعرَف بعدَدِ أتباعِه، ولا بالكثرَةِ، وإنما يُعرَف بموافقةِ الحقِّ المنزَّلِ مِن اللهِ؛ فما وافَقَ الحق المنزَّل مِن اللهِ؛ هو الحقُّ، وهو الجماعة التي يَنبغي التزامُ غَرْزِها، وتَكثيرُ سَوادِها .. ومِنها: قلَّة الأعوان، والأنصَارِ؛ لا يَنبغي أن تُضعِفَ الداعيَةَ إلى اللهِ، وتُثنيه عن الدعوةِ إلى اللهِ، أو تحملُه على الشكِّ بصِدقِ وصوَابِ ما يَدعُو إليه، ومِنها: الصبرُ على الدعوةِ إلى اللهِ مهمَا طالَ الطَّريقُ، وطالَ الزَّمنُ، وكانت التَّكاليف .. وتحملُ تَبعات الدَّعوةِ إلى اللهِ؛ بغضِّ النظرِ عن النتيجةِ .. فالداعيةُ إلى اللهِ عليه أن يمضي في دَعوتِه إلى اللهِ، وفقَ مَنهجِ اللهِ إلى نهايَةِ الطريقِ، وحتَّى يأتيَه اليَقِين .. ولَا يُسألُ بعد ذلك عن نتائجِ دَعوتِه، كما أنه لن يُسألَ عن هدايَةِ الناسِ هِدايَة تَوفِيق؛ لأن هِداية التَّوفيق بيدِ اللهِ تعالى وحده، ومنها: مَهمَا طَالَ الطَّريقُ، وطالَ الزَّمَن، واشتدَّت التَّكاليفُ، لا يجوزُ للداعيةِ إلى اللهِ أن يَلتفتَ إلى المناهجِ المنحرفَةِ، والملتويةِ، والطُّرُقِ القَصيرَةِ، والمغريَةِ، والمريَحةِ، والأقَل كُلفَة، المخالِفة لمنهجِ الله .. بزعمِ تحصِيلِ المصَالحِ، والمنَافِع!
[ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ]التوبة:74. كلمةُ الكُفر التي كفُرُوا بسببها بعدَ إسلامِهِم .. هي سَبُّ الدِّينِ، والطَّعْنُ به .. وفيه أن المرءَ قد يَكفرُ، ويَخرجُ من الإسلامِ بكلمةٍ، وبما يقولُه بلسانِه؛ سواءٌ كان مُعتقداً مُستحلاً لما يقُول أم غير مُعتقدٍ .. فالسبُّ، والطَّعنُ بالدِّينِ كفرٌ لذاتِه؛ لَا يَشترَطُ له انعقادُ الاستِحلالِ في القَلْبِ .. وهذا يَستدعي مِن المرءِ أن يُراقِبَ نفْسَه، ويُشدِّدَ المراقبَة على لسانِه، وبخاصَّة عند الغَضَب .. ويجتهدُ أن لا يقولَ إلَّا خَيراً .. قال صلى الله عليه وسلم:" وهل يَكُبُّ الناسَ على منَاخرِهم في جهنَّم إلا مَا نطَقتْ به ألسنَتُهم، فمن كان يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيقُلْ خيرًا، أو يَسكتْ عن شرٍّ، قولُوا خَيراً تَغنَموا، واسكتُوا عن شرٍّ تَسلَموا ".
[ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ]التوبة:12. فيه أنَّ مَن يَطعَن بالدِّين، ويتمادَى بسَبِّ الدِّين، وسَبِّ اللهِ، ورُسُلِه .. ليسَ كافِراً وحَسب، بَل هو إمَامٌ مِن أئمةِ الكُفْر .. وكُفرُه مُغَلَّظٌ أشَدُّ مِن ذَوي الكُفْرِ المجرَّد.
مَا مِن شيءٍ في الوجُودِ إلا لحِكْمَةٍ بالِغَةٍ، عَلِمَها مَن علِمَها، وجَهِلَها مَن جَهِلَها، فإن عَرفتَها ـ أو عرفتَ بعضَاً مِنها ـ فاحمدِ اللهَ تعالى، وإن جَهلتَها ـ أو جَهِلْتَ بعضَاً مِنها ـ فافْزَعْ إلى الرِّضَا والتَّسْلِيم، واعلَمْ أنَّ اللهَ تَعالى لا يَصدُرُ عنه إلَّا حَقٌّ، وعَدْل.
[ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ]الحشر:19. نَسُوا حقَّ اللهِ عليهم، فعاقَبَهم اللهُ مِن جِنسِ فِعلهم؛ فأنسَاهُم حقَّ أنفسِهم عليهم، والغايَةَ مِن وجُودِهِم .. فعاشُوا التِّيهَ والضَّياعَ .. حتى أنَّ أحدَهم يتَساءَلُ تَائهاً حَائِراً:" جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين، وَلَكِنّي أَتَيتُ .. وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ، وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ .. كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَستُ أَدري هَل أَنا قائِدُ نَفسي في حَياتي أَم مَقُود .. أَتَمَنّى أَنَّني أَدري، وَلَكِن لَستُ أَدري "!!
[ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ]؛ حزيناً؛ وذلك لَمَّا عبدَ قومُه العِجلَ مِن ذَهَبٍ، الذي صنَعه لهم السَّامِري، [ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ]؛ بشعرِ رأسِ أخِيه، [ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ]؛ فنهاهُم هارُون عن عبادَةِ العِجْلِ فلم يَنتهوا، واستضعفُوه، ولم يَسمعُوا مِنه، وكادُوا أن يقتلُوه .. فلم تَكُن لهارُون عليه السلام عليهم نفس قوَّة وهيبَة موسى عليه السلام، ونفس سُلطتِه، [ فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ]الأعراف:150. هارُون عليه السلام هو أخٌ لموسَى عليه السلام من أبوَيه، ومعَ ذلك هارُون لم يخاطِب أخاه موسى بقولِه يا ابنَ أبي .. وإنما قال يا ابنَ أُمِّي؛ استِعطَافاً لأخِيه موسَى، وتَذكيراً له بأن كلاهما قد اجتمَعَا في بطنٍ واحِدٍ؛ وهو ألصقُ مَكانٍ لمعاني الرَّحِم، والترَّاحُمِ، والرِّفقِ .. وكذلك لِمَا كان بينَ موسى وبينَ أمِّه المؤمنة الصَّابرة من مواقف إيمانيَّة عظيمَة؛ عندما ألقَته في اليمِّ ـ بوَحي مِن اللهِ ـ وهو طفلٌ رَضيعٌ؛ لتدفَع عنه القتلَ، وشَرَّ فرعون، وجُنده .. وبما للأمِّ من حقٍّ مغلَّظ ـ أغلظ من حقِّ الأبِ ـ يحملُ الأخَ على أن يرحَم أخَاه، ويَعطُفَ عليه، ولا يَأخذه بالشدَّة والقُسْوةِ .. وأنَّ أمَّه التي ضحَّت وخاطَرت مِن أجلِه بالكثِير، والتي يحبها موسى كثَيراً، لا تَقبلُ، ولَا تَرضَى مِنه هذه الشدَّة بحقِّ أخِيه هارُون .. كلُّ هذه المعَاني الآنفةِ الذِّكر ـ وربما غيرها ممَّا لا نعلَمُه ـ اختزلهَا هارُون عليه السلام بقولِه يا [ ابْنَ أُمَّ ] .. وما إن سمعَ موسى عليه السلام هذه الكلمَات مِن أخِيه هارُون، إلَّا وهَدَأ غضَبُه، وقال معتَذراً، ومُستَسمِحاً، ودَاعياً لنفسِه ولأخِيه هارُون:[ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ]الأعراف:151.
b 36.pdf
951.2 KB
هذا الكتاب " أحكام ومسائل رمضانية "؛ تناولنا فيه جميع الأحكام ذات العلاقة بصيام شهر رمضان .. وهو مترجم إلى الإنكليزية، والفرنسية، والفارسية، فمن أرادها فهي منشورة في الموقع، قسم المؤلفات .. والحمد لله رب العالمين.
[ وَاللَّهُ يَقْضِي ]؛ يحكمُ على الأشيَاءِ، [ بِالْحَقِّ ]؛ فلَا يَصدرُ عنه إلا حقٌّ .. وما يَقولُ اللهُ عنه أنَّه حقٌّ؛ فهو الحقُّ، وما يقولُ عنه أنه باطلٌ فهو الباطلُ .. وما يقولُ عنه أنَّه خيرٌ؛ فهو الخيرُ، ومَا يقولُ عنه أنه شرٌّ؛ فهو الشرُّ .. وما يقولُ عنه أنه حَلالٌ، فهو الحَلالُ .. وما يقولُ عنه أنه حرَامٌ، فهو الحرَامُ، فمردُّ الحُكمِ على الأشياءِ مَدْحاً أو ذَمَّاً إلى اللهِ وحده سُبحانه وتعالى؛ لأنَّه هو الأعلَم، وهو الخالِقُ، وهو الربُّ، وهو الإلهُ، والمعبُودُ بحقٍّ، [ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ]؛ وهم الطواغِيت التي يَعبدونها مِن دُونِ اللهِ، على اختلافِ صورِها، وأجناسِها، ومسمياتِها، [ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ]غافر:20. ذِي بال .. فقضَاؤهم وحكمهم على الأشياءِ باطلٌ، وضَعيفٌ يَعتريه النَّقصُ، والضعفُ، لا يُلتفَت إليه .. ضرره يَغلبُ نَفعَه .. فليسَ من حقِّهم وخصوصياتِهم أن يحكموا على الأشياءِ مدْحَاً أو ذمَّاً؛ لأنهم مخلُوقُون، ومربوبُون، ومجبُولُون على العَجْزِ، والقُصورِ، والضَّعفِ، والجَهلِ .. فما يقولُون عنه زيناً قد يَكُون شيناً في ميزانِ الله، وما يقولُون عنه شيناً، قد يكون زيناً في ميزانِ اللهِ .. وما يَستحسنونَه اليومَ قد يستقبحُونَه غَداً، وما يَستقبحُونَه غداً، قد يَستحسنونَه في اليومِ التَّالي؛ فهذا متوقعٌ مِنهم؛ لأنهم مخلوقُون، ومجبولُون على الخطأِ والقُصورِ .. قالَ رجلٌ أمامَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ مَدْحي زينٌ، وإنَّ ذمِّي شينٌ، قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" ذاكَ اللهُ الذي لا إله إلَّا هو ". من أعظمِ الشركِ، والبلاءِ الذي ابتُلي به الناسُ أنَّهم يَردُّون معرفَةَ الحقَّ، والباطلِ .. والخيرِ، والشرِّ .. والقُبحِ، والحسنِ لغيرِ اللهِ .. ويجعلُون هذا الغَير ـ أياً كانت صفته، وكان اسمه ـ حَكماً في معرفَةِ حقيقةِ الأشياءِ، وشريكاً للهِ في الحكمِ على الأشياءِ، وتحديدِ صِفَةِ الأشياءِ .. وهذا الخلافُ في تحديدِ من له الحقُّ في الحكمِ على الأشياءِ مَدحاً أو ذمَّاً .. مِن أكبرِ الأسبابِ في عمليةِ الصِّراعِ والتدافُعِ بين الحقِّ والباطِلِ، بين المؤمنِين والكافرِين عبر التاريِخ كُله، وفي زمانِنَا، وكلِّ زمانٍ، وإلى أن تقومَ السَّاعَةُ!
" ارفع راسك فوق .. أنت سوري حر "؛ يبدو هذا الشعار لا يشمل السوريين المسجونين ظلماً وعدواناً، منذ أكثر من عقدٍ في سجون لبنان، سجن رومية وغيره .. ذنبهم أنهم من أنصار الثورة؟!!
" ارفع راسك فوق .. أنت سوري حر"؛ هذا الشعار حرام على السوريين إلى أن يحرروا آخر أسير سوري مظلوم في سجون لبنان، وغيرها .. وإلى أن يحرروا آخر شبر من أرض سوريا من أيدي الشيوعيين الانفصاليين الإرهابيين قسد ...!
أعرف أن الملفات الاقتصادية والسياسية التي تنشغل بها حكومتنا السورية كثيرة .. وهي هامة .. ولكن لا أعرف ملفاً الانصراف إليه، والاهتمام به، أوجب وأهم من ملف السجناء السوريين المظلومين، ومعهم الشيخ أحمد الأسير، وإخوانه، في سجون لبنان؛ سجن رومية وغيره، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا من أنصار الثورة السورية .. قال صلى الله عليه وسلم:" فكُّوا العاني "؛ أي الأسير، وقال:" إنَّ على المسلمين من فيئهم أن يُفادوا أسيرهم ". ومن حق المسلم على المسلم أن لا يُسلِمه للظلم، وللظالمين!
[ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ]؛ لِمَن وقعَ في اليَأسِ، والقنُوطِ، [ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ ]الحجر:49-50. لمَن وقعَ في الجفَاءِ، والإرْجَاءِ!
[ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ]؛ يومٌ لَكَ، ويومٌ عَليك، يَومٌ تَنالُ مِن عدوِّك، ويومٌ يَنالُ عدوُّك مِنك، يومٌ تَنتصرُ، ويومٌ تُهزَم فيه، يومٌ تَدُولُ، ويَوم تُدَالُ .. هكَذا هو الحَال، وهكذا هي الحيَاة؛ فلا عِزٌّ يَدُوم، ولا مُلْكٌ يَدُوم، يُعِزُّ اللهُ مَن يَشاءُ، ويُذلُّ مَن يشَاءُ، يَرفعُ مُن يَشاءُ، ويخفضُ مَن يَشَاء .. فلَا شِدَّةٌ تَدُومُ، ولَا رَخاءٌ يَدُوم، ولرُبَّما اتَّسَعَ مَضِيقٌ، وضَاقَ واسِع، [ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ]؛ وهذا مِن البَلاءِ، والتَّمحِيصِ، وليتَحقَّق معنى الاختِبَار في الأرضِ؛ ليُعرَف المؤمنُ الصَّابرُ، الشَّاكِرُ، الذي يَأخذُ بأسبَابِ النَّصرِ والتمكِين، مِن غَيرِه، [ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ]آل عمران:140. ولكي يَصطَفي مِن عِبَادِه المؤمنِين الشُّهدَاءَ .. ويُرسِلُ إلى النَّارِ حطَبَها، ووقُودَها .. وهذا مِن مُقتَضيَاتِ ولوازِمِ المُدَاولَةِ، والانتِقَالِ مِن حَالٍ إلى حَال!
[ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ]؛ مُشركاً، [ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ]طه:74. هذه عقُوبَةُ مَن يموتُ على الكُفْرِ والشِّرْكِ .. أمَّا مَن يموتُ مؤمناً، وعلى التَّوحِيدِ؛ مَهمَا كان منه مِن ذَنبٍ أو تَقصيرٍ فإنه يُترَك إلى مشيئةِ اللهِ؛ إن شاءَ عذَّبَه، وإن شاء عَفَا عَنه .. ولو عَذَّبَه لا يخلِّدُه في النَّارِ خلُودَ الكافِرِ المشْرِك.
س: انتشرت بين الناس هذه الصيغة من الدعاء:" الله يحفظكم من البلاء، ومن كل بلاء "؛ فهل هذه الصيغة في الدعاء صحيحة ...؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين. ابتداء لا يجوز للمرء أن يسأل الله البلاء، أو أن يستشرف البلاء، ويعرض نفسه للبلاء، ولما ليس له به طاقة؛ فهذه تزكية للنفس على الله .. وتهلكة نُهينا عنها .. لكن إذا نزل به البلاء، عليه أن يصبر، ويحتسب، ولا حرج أن يأخذ بالأسباب الممكنة التي تدفع عنه البلاء، أو تخفف منه .. كما يجوز له أن يسأل الله تعالى أن يرفع عنه البلاء .. وأن يسأله اللطف أو التخفيف في البلاء .. وأن يسأله العفو والعافية .. فهذه المعاني جائزة، يجوز للمرء أن يسألها من ربه سبحانه وتعالى .. أما الصيغة الواردة في السؤال:" الله يحفظكم ـ أو الله يحفظني ـ من البلاء، ومن كل بلاء "؛ فهذه الصيغة أتحفَّظ عليها، لا أستحسنها، بل ولا أرى جوازها، وذلك لمعنيين: أولهما؛ أن هذه الصيغة في الدعاء تتصادم مع الغاية من الوجود والحياة؛ وهي أن الحياة الدنيا ـ شئنا أم أبينا، كما أرادها الله ـ دار اختبار وبلاء، لا يمكن أن تخرج عن هذا المعنى، والتوصيف، كما قال تعالى:[ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ]الملك:2. [ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ]الأنعام:165. [ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ]هود:7. [ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ]محمد:31. والبلاء يكون في الخير والشر؛ كما قال تعالى:[ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ]الأنبياء:35. فمن نشد حياة بلا بلاء، تخلو من البلاء، ومن دون بلاء .. عليه أن ينشد الحياة في كوكب آخر غير كوكب الأرض .. وأن ينشد حياةً لا موت فيها. ثانيهما، أن البلاء أمر حتمي للمؤمن، لا مفر، ولا خلاص منه، لا بد من أن يصيبه شيء من البلاء .. فمن يطلب أن لا يبتلى قط؛ كمن يطلب أن لا يكون مؤمناً .. قال تعالى:[ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ]البقرة:155. وقوله:[ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ ]؛ هذا الشيء؛ يزيد حيناً، وينقص حيناً، وفق مشيئة الله تعالى .. وفي الحديث عن سعد بن أبي وقاص، قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال:" الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يُبتلى العبد على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه .. ". وعن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حرَّهُ بين يدي فوق اللحاف. فقلت يا رسول الله ما أشدها عليك! قال إنَّا كذلك يُضَعَّفُ لنا البلاء ويُضعَّف لنا الأجر ". قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال:" الأنبياء "، قلت يا رسول الله ثم من؟ قال:" ثم الصالحون؛ إنْ كان أحدُهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء ". وفي رواية:" أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم العُلماء، ثم الصالحون ". وقال صلى الله عليه وسلم:" إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السَّخَطُ ". وسئل رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال:" الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الناس على قدر دينهم؛ فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه ". وفي الحديث القدسي:" يقول الله تعالى ــ لنبيّه عليه الصلاة والسلام ــ: إني مبتليكَ، ومُبتلٍ بك "مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم:" إن الرجلَ ليكونُ عند الله المنزلةُ، فما يبلُغها بعملٍ، فما يزالُ يبتليه بما يكرهُ حتى يُبلِغَهُ إيَّاها ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء أعرابيٌّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" هل أخذتكَ أم مِلْدَم ــ يعني الحمّى ــ؟" قال: وما أم مِلدم؟ قال:" حرٌّ بين الجلد واللحم "، قال: لا، قال:" فهل صُدِعت؟"، قال: وما الصداع؟ قال:" ريح تعترض الرأس، تضربُ العروقَ "، قال: لا، قال: فلما قام، قال:" من سرَّه أن ينظر إلى رجلٍ من أهلِ النار " أي فلينظره. وغيرها كثير من النصوص التي تفيد أن المؤمن لا بد من أن يطاله نصيبه المكتوب من البلاء .. وأن البلاء سنة من سنن الله في خلقه ماضية لا يمكن ردها أو إبطالها إلا في موضع واحد فقط؛ وهو الجنَّة، جعلني الله وإياكم من أهل الجنَّة.
2025/02/17 10:51:06
Back to Top
HTML Embed Code: