Telegram Web
Forwarded from مصطفى بن إسماعيل القناوي (مصطفى إسماعيل)
طريقة التفقه عند أهل العلم.pdf
348.1 KB
مقال للأستاذ عمرو بسيوني عن طريقة أهل العلم في التفقه، مسألة المولد النبوي نموذجا
من شيوخي العجم
مولانا الأستاذ الشيخ نور الدين الأول القندهاري الباديزوي
من بلاد الأفغان، العلامة المحقق في علوم المعقول المنطق والفلسفة والكلام، والعلوم القديمة كلها كالهيئة والهندسة والحساب، وفي الفقه الحنفي
من أجل شيوخه الشيخ عبيد الله الأيوبي القندهاري المعروف بالفاضل القندهاري صاحب الحواشي المشهورة على عامة كتب الدرس النظامي في الفلسفة والمنطق والكلام والأصول والبلاغة.
أخذت عليه عامة كتب الدرس النظامي في هذه العلوم ولله الحمد
من إجازاته لي في الفلسفة
أليس الله قادرا على وقف كل هذا البلاء الذى يحدث للمسلمين؟ أنا أؤمن برحمته لكن لا أعلم لماذا لا يفعل؟

ج/ الله قادر على كل شيء، والعالم هذا كله ليس بشيء، ولا هو يهول الله ولا يتعاظمه ولا يجزع له ولا يعجله،

ولكنه وضع المقادير تجري بحكمته ، ليبتلي أولياءه ويمحصهم له فيجزل لهم المثوبة في الآخرة، ويظهر أعداءه فيوجبوا على أنفسهم الحجة بالعذاب الشديد في الآخرة،

والدار الآخرة هي الحيوان دار القرار، والدنيا لعب ولهو، والجنة دار السلام.
"هو الأول والآخر" الله هو ( الأول ) قبل كل شيء، وهو ( الآخر ) بعد كل شيء فكيف يمكن التوفيق بين كونه - سبحانه - ( الآخر ) بعد كل شيء وفكرة خلود الإنسان ( في الجنة مثلًا )؟ ألا يُعد الخلود لأهل الجنة مشاركةً لله سبحانه في البقاء السرمدي؟

ج)
لا، كما أن الحياة التي يحياها الأحياء ليست تقتضي مشاركته تعالى في الحياة، لأنها ناقصة ومجعولة.
فكذا الآخرية التي للإنسان، ناقصة مجعولة، ليست كاملة ذاتية.
وبينة ذلك أن حياة الإنسان سبقت بموت، فلم تكن حياته تامة ولا غنية بالذات، وكذا آخرية الإنسان ليست تامة ولا ذاتية، لأن كل حي كتب عليه الموت، فهو ملحوق بغيره يكون خلفه وعاقبته وآخره، والله تعالى آخر بعده، ثم هو آخرآخر حي فان، فتحقق أن الله آخر كل حي، ولا يتحقق أن حيا آخر بعد الله تعالى، ولذا ينادي الحق تعالى بذلك كما ثبت في الحديث الإلهي أنه ينادي فيهم قبل القيامة لمن الملك اليوم، ولذلك وصف تعالى نفسه بالوارث، فإن الوارث حقيقته الخالف الآخِر، فالوارث حقا هو الله تعالى لأنه آخر كل حي، وإليه يؤول الملك فينادي به عليهم ليظهر حقيقة ما كان مستورا بالغرور، ولذا اختص بوصف ملكية يوم القيامة لزوال الأغيار عن الاعتبار بالاغترار بالملك العاجل الظاهر. فهذا في الجملة نقصان آخرية غيره.
ثم كونه ليس ذاتيا بل مجعول = فهذا واضح لأنه بالخلق الإلهي والإمداد الدائم. ثم إنه مع التسليم أن الأولية المطلق والآخرية المطلقة من الكمال الإلهي المطلق، إلا أن تمام الكمال المراد في الأولية والآخرية هو حصول ذلك الاجتماع بينهما، ولذا يرى بعض العلماء أنه ينمبغي الجمع بينهما في الوصف فيقال الأول والآخر معا، وذلك لأن هذا الاجتماع يعني ثبوته وتحققه تحققا كاملا واجبا غنيا في نفسه محيطا بالوجود والموجود من أطرافه، زمانا، كما هو مكانا، كما هو علما، وحكمة، وقدرة، ورحمة، وغير ذلك، كما قال: وسعت كل شيء رحمة وعلما، فهو بكل شيء محيط، بجميع الاعتبارات، تبارك وتعالى.
كما أن العلماء ورثة الأنبياء، فعلماء السوء ورثة المتنبئين الدجالين، والله لا يُتم أمر المتنبئ الكذاب، ولا يُتم أمر عالم السوء، فيخذله الله ولا يلقي له القبول في الأرض قبولا عاما مستمرا، ولا يكون له من الظهور إلا ما هو من جنس إدالة المجرمين على المؤمنين، ونحوه من البلاء والفتنة، لا يكون له تمام، ولا قبول في قلوب المؤمنين.
وقد عصم الله هذه الأمة لأنها خاتمة الأمم ولله الحمد أن يكون علماؤها علماء السوء كما وقع لأحبار اليهود، وفي تاريخ المسلمين كثير من علماء السوء، فتنوا أنفسهم والناس، وكان لبعضهم صولة ودولة، ثم لم يتم أمرهم، ولم يكن لهم قدم صدق في الأمة، والحمد لله.
(1)
تكلمت عن أنظمة التراث السني المتأخر مرارًا من قبل، وأنها إجمالًا إما الغزالي أو التيمي.
ثمة نظامان للتفكير في التراث إذن، يُتعامل بهما مع المصادر الأصلية للدين، يقومان على مرتكزات معينة، فتمتد تبعًا لذلك إلى مديات معينة، ثم يكون لها مؤديات معينة.
المنظور الأول نَفْسِي في عامته، شكوكي، يحتار ويعظم الحيرة، ضيّق ومضيِّق، ومن ثم مغلَق.
المنظور الثاني موضوعي في عامته، عملي (برجماتي)، واسع، مفتوح.
نركز هنا على زاوية واحد من الملامح المشار إليها باختزال أمين.
(2)
قال الإمام الغزالي رحمه الله:
"المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدى به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل؛ فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه؛ قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة".
وقال الإمام الغزالي في السياق نفسه:
"فليتمسك [المريد] به [بالشيخ] تمسك الأعمى على شاطيء النهر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره، ولا يُبْقي في متابعته شيئًا ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ؛ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب".
(3)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"من أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين؛ فلا حاجة به إلى ذلك، ولا يستحب له ذلك، بل يُكره له.
وأما إن كان لا يمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك: مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم والإيمان، والذين يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم، أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه؛ فإنه يفعل الأصلح لدينه.
وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه.
وإلا فلو طلب الهدى على وجهه؛ لوجده.
فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين، وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة وسلوك طريق الابتداع ومفارقة السنة والاتباع؛ فهذا مما ينهى عنه ويأثم فاعله ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم".
=
(4)
يرتكز تصور الغزالي على وجوب اتباع الشيخ كوجوب اقتداء المأموم بالإمام، وقد قاسه على التقليد في الفروع أصالة: على أن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان ظاهرة. (هنا لابد أن نستحضر قول الفخر الرازي إن الحق صعب جدًّا).
فاتباع الشيخ عند الغزالي تفويض الحال إليه بالكلية، كالميت بين يدي غاسله،. وأنه على تقدير خطأ الشيخ فإنه ينتفع به أكثر من صواب نفسه. وذلك مقتبس من أن الصواب بالرأي غير مخلّص.
قلت: ولكن أصل ذلك كله إذا رجع على الشيخ نفسه، يعني كيف وصل الشيخ بعد السلوك، مرورا بشيخه إلى رسول الله، تبين أن متابعة رسول الله في الأصل تكفي، وكل واسطة من بعده ليس لها إلا البلاغ، وليس لها منصب عصمته فلا يجوز التفويض بالكلية لغير المعصوم.
والمعنى الأساس الذي يرتكز عليه التصور الصوفي، وعبر عنه الغزالي بعد أن ارتد على طريقة العقل والكلام كما صرح لابن العربي الذي ردّ عليه في ذلك بمرارة: هو الوصول الواقعي، فالمدعى عندهم أن الواصل لما وصل قد تحقق له الحق بالعيان أو حتى بالمباشرة، كمن دخل الحجرة وشاهد، كما يمثل الغزالي نفسه، فهو يأخذ بيد المريد السالك، وهنا غفل: عن أن المدعى أنه الواقع ليس بدليل أصلًا لأن صاحبه ليس بمعصوم فلا يكون المحل القابل معصومًا ويحتمل أن يتطرق إليه الخلل في تصوره وتصديقه، وهذا كثير جدًّا وعامة الشطح والأحوال المفضولة بسببه، كما ان هذا السبيل قصاراه أنه يفيد الإمكان، والإمكان ليس الوجوب، فليس هو كعلاقة الدلالة بالدليل، التي فيها الجبر العلي والمعلولي. وإذا كان كذلك كان اتباع هذه الطريقة نفسه من اتباع الرأي، فلا يخلّص.
==
(5)
يقدم ابن تيمية الرؤية المقابلة: فهو يضاد الاستدلال الأنطولوجي الواقعي في الشرعيات، لأنها فاقدة للحجية من جهة، ولأنها معرضة لكثير من الزلل من غير معصومين، وبسببها يرى أنه وقع فساد عريض في (الدول) والأديان. ويقدم ابن تيمية الرؤية التفاؤلية - حقا لقد كان الغزالي والرازي يعانيان من اكتئاب بدرجة ما -، فيرى أن الحق واضح، وكلما كانت الحاجة إليه أعم كان بيانه أظهر، ومهما اعترضه من معارضات فإنه يرى إمكان الوصول إلى الحق إذا بُذل الوسع، ومن ثم تجريد الاتباع للنبي لأنه المعصوم في البلاغ.
وهو ما يبلوره ابن القيم كعادته، ليقول في قلب النص الصوفي لمدارج السالكين: " فتجعل الرسول شيخك وأستاذك، ومعلمك ومربيك ومؤدبك. وتسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ. كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية. ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك.
وهذان التجريدان: هما حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. والله وحده هو المعبود المألوه، الذي لا يستحق العبادة سواه، ورسوله: المطاع المتبع، المهتدى به، الذي لا يستحق الطاعة سواه. ومن سواه: فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته. فيطاع تبعا للأصل".
ومع ذلك يفتح ابن تيمية الباب للتصور الواقعي البرجماتي، فليس ابن تيمية هدميًّا ولا عدميًّا، فيجيز الاستعانة بالوسائط للحاجة، سواء في التقليد الفقهي، أو السلوك الأخلاقي، ولكن فقط للحاجة، لا للأصالة، ولا لصعوبة الحق بالأساس، ولكن بالعَرض، ومع التقييد الدائم بعدم وجوب ولا جواز أصلًا أن يتابع غير المعصوم في كل شيء، وبخاصة إذا ظهر له مخالفته للحق. ويقرر إمكان متابعة الرسول قدر الاستطاعة لمن ليس بمجتهد، وأنه يكفيه السؤال عما أشكل عليه، وأن هذا كثير في المتوسطين.
(6)
هذه الرؤية الموضوعية الواقعية التفاؤلية تجعل ابن تيمية حسَّاسًا حتى تجاه العبارات الصوفية عن الخضوع لله سبحانه وتعالى نفسه، التي يختلط فيه القدر بالشرع، لأنه يعلم أنها خاضعة لتصور شامل عن العالم وعلاقة الإنسان به، فيرفض عبارة الشيخ عبد القادر في فتوح الغيب" (أن يكون العبد (مع الله) كالميت بين يدي غاسله)، فيفرق بين القدر وبين الأمر والنهي، بل ويجعل نفس امثتال الأمر والنهي الشرعي ينبغي أن يرجع إلى الحب، يعني الإرادة، لا نفي الإرادة واعتقاد أن هذا خضوع مستحب، ليقول:
"قول من قال: " إن العبد يكون مع الله كالميت مع الغاسل " لا يصح ولا يسوغ على الإطلاق عند أحد من المسلمين، وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر الله عليه، وإلا فإذا علم ما أمر الله به وأحبه؛ فلا بد أن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله"،
وقال: " فمن جعل الإنسان فيما يستعمله فيه القدر من الأفعال الاختيارية - كالميت بين يدي الغاسل - فقد رفع الأمر والنهي عنه في الأفعال الاختيارية وهذا باطل."
وقال: "كونه هو من أفعاله الاختيارية يصير مستسلمًا لما يستعمله القدر فيه: كالطفل مع الظئر والميت مع الغاسل؛ فهذا ما لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا محرم، وإن عُفي عن صاحبه، وحسب صاحبه أن يُعفى عنه؛ لاجتهاده وحسن قصده".
=
(7)
نعتقد أن النموذج الثاني أكثر قربًا من روح الدين الحنيفي السمح السهل، وأكثر فعاليّة في المجال العام كروحٍ للتدين النشط الواقعي والمرن والمفتوح على آفاق متجددة باستمرار.
درسان طويلان من دروسي في شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وفيهما شرح القاعدة السابعة من الرسالة التدمرية التي فيها بحث الملكة والعدم ورد شيخ الإسلام عليه.
وهذا الموضع هو أعوص بحثٍ في التدمرية، بل لم يقع له مثله في كتبه المطولة! ولذلك لم يشرحها عامة من شرح الرسالة التدمرية، فضلًا عن تصوير مباحثها بصورة صحيحة، ناهيك عن تحقيقها علميًّا.
أسأل الله أن ينفع بهما.
👇
لا تطلب العلم عند شرس الأخلاق طويل اللسان، بل ولا تظهر الاستفادة منه، فليست الاستفادة مقصورة عليه، ولن تجد عنده من الفائدة ما لا تجده عند غيره. ولو كان عنده علم نافع لانتفع به في نفسه قبل أن ينفع غيره. وليته يكون كالأرض الأجادب التي تنفع غيرها ولا تنتفع في نفسها، لهان الخطب، بل إنه يعكّر ما معه من ماء بشراسته وسوء خلقه، وعن قريبٍ تتأثر بهذا ولا تشعر، أو على الأقل تستسيغه وتراه مقبولًا، فتصير مسخًا مثله.
وعامة هؤلاء المتشيطنين المتلبسين بلباس العلم مدَّعون، يتحصنون بهذه البذاءة ليمنعوا الناس من محاققتهم في دعاويهم العريضة، أي أنهم يسوقون الهبل على الشيطنة. وكثير منهم مبتلى بالخمول أصلًا، ولو تُركوا من إثارة الجدل لزاد خمولهم ودُفنوا.
جواب قديم منذ سبع سنوات:

السؤال: هل عبارة "اللهم انشلني من ‍أوحال ‍التوحيد" في ما يعرف بالصلاة "المشيشية" التي يرددها بعض الناس تقبل التأويل أم أنها صيغة محرمة؟ والله يا شيخ أنا أسأل بسبب انتشارها بين الناس في بلدنا لا سيما بين النساء وفي البيوت.

الجواب: لها ثلاثة تأويلات عندهم، أن المراد ب‍التوحيد ما يقع للعرفاء من توهم الاتحاد الخاص، واستدلوا على ذلك بالسياق كما سأذكر. وقيل إن المراد بالتركيب: أوحال التوحيد يعني القادحة في التوحيد لا من نفسه بل بما يضاده من الشهوات والشبهات على نمط: مبطلات الوضوء، وقوادح الإيمان ونحو ذلك.
وعندي أن التأويلين ضعيفان، وأن مراده ب‍أوحال التوحيد نفس مراد عصريه ابن عربي من أن توحيد العوام شرك لأنه في حقيقته قطع للألوهية عن سائر الموجودات إلا واحد، وأن هذا حقيقة دعوة الرسل، وأن عابد الصنم مشرك من جهة تحديده الألوهية في الصنم حسب لا من جهة عبوديته غير الله، كما نص في الفتوحات في مواضع، وفي الفصوص في الفص اللقماني وغيره، ومما يدل على ذلك في صلاة ابن مشيش شيخ الشاذلي السياق، ولذا سبقها بقوله: زج بي في بحار الأحدية، وأعقبها بقوله: وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس إلا بها.
فثمة أحدية وثمة توحيد وثمة وحدة.
فالأحدية هي بساطة الواجب، و‍التوحيد هو تفريد العوام للواجب بوجود متعين، والوحدة هي غاية العارف من معرفة وحدة الوجود.
ومن ثم فهذا ذكر منكر محرم شركي لا يجوز التعبد به من عارف بمعناه، وينبغي التحذير منه والنهي عنه. ومن تأول معناه فهو معذور من انطباق الحكم عليه.
عندما تسيطر الأهواء وتطيش العقول في كل اتجاه، لا يبقى هناك مجال للوم على من يقال له إنه من العلماء أو العقلاء أو يُتوسّم فيه ذلك.
ومع هذه السيولة الرهيبة في القول، والهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه وإن لم يكن بأهلٍ، ومع التحزب والتفرق العظيم الذي يقاس القول على مقاسه؛ يغدو القول ولو محققًا مجرد قول بين أقوال أكثر منه وأعلى صوتًا وقبولًا ورواجًا، بل ربما يعود على صاحبه من الأذى ما لا يكافئ ما يتوخاه من المصلحة.
قال شيخ الإسلام: "إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق: فبالهدى يُعرف الحق، وبدين الحق يقصد الخير ويعمل به، فلا بد من علم بالحق، وقصد له وقدرة عليه.
والفتنة تضاد ذلك: فإنها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه، فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم / ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير.
ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة، فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده. ولهذا يقال: فتنة عمياء صماء. ويقال: فتن كقطع الليل المظلم، ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها، وخفاء العلم".
وقال الشيخ: "إذا اتفق من هذه الجهة شبهةٌ وشهوةٌ، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة؛ قامت الفتنة"، وقال: "والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها".
وقال شيخ الإسلام: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر عاجزين عن إطفاء الفتنة وكفِّ أهلها. وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}.
وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله". قلت: فكيف بالفتن المتوالية التي يرقق بعضها بعضها.
وقد جاء في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا: "ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، ورأيتَ أمرًا لا يدانِ لك به = فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أيامٍ الصبرُ فيهن على مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله".
قلت: فأمر بالتزام خاصة النفس، وذلك يكون بكثرة العلم والتفقه، ويكون بكثرة العبادة والتزكية. والكامل من جمع بينهما، ولا يصح أحدهما من غير حظٍّ من الآخر.
قال شيخ الإسلام: "فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر، بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب؛ سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب".
الكلام كثير، والعلم قليل، فخذ ما تعرف لنفسك، ودع ما تنكر لنفسك، ولا تقطع على ما لا تتيقن منه، والتقليد ليس بيقين بل ولا بعلم، فالحساب عند الله يوم القيامة كما قال تعالى: (وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا).
التفصيل والتركيب من آية العلم، ولاسيما في المسائل الكبيرة المركبة ذات الجهات، وخاصة حين تنزل على وقائع معينة.
وعامة الناس، وكثير منهم منتسبون إلى العلم، يرون أن المباشرة والبساطة والأقوال الساذَجة هي أمارة القول الحق، وأن التفصيل إما من مسالك المبتدعة أو هو مراوغة أو تمييع، والحال أن هذا ليس إلا ضجرًا ومللًا، والضجر ليس علمًا بل إما سوء خلق وضيق عطن أو عدم تأتٍّ ومطاوعةٍ للعلم، وكلٌّ ميسر لما خلق له.
فالحاصل أن النفور من هذا ناجمٌ عن ضعف التحقيق في العلم، ثم ضعف التحقيق في الدين لأن مقتضى الورع العدل والإنصاف، والعدل لا يكون إلا بالتفصيل وبيان الجهات المختلفة.
يقول الإمام النووي:
"فمن استطال شيئًا من هذا وشِبْهِه؛ فهو بعيدٌ من الإتقان، مُباعِدٌ للفلاح في هذا الشأن، فليعزِّ نفسَه لسُوء حاله، وليرجِعْ عما ارتكبه من قبيح فعاله.
ولا ينبغي لطالب التحقيق والتنقيح والإتقان والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة أو سآمة ذوي البطالة وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة، بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطًا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحًا مضبوطًا، ويحمد الله الكريم على تيسيره".
2024/10/09 04:26:44
Back to Top
HTML Embed Code: