Telegram Web
الواجبات أكثر من الأوقات، فالذي يهدر أوقاته يوميا في الإنترنت في الثرثرة في كل شيء أو المشاحنات والبثوث والمهاترات؛ يستحيل أن يكون قد قام بواجباته، بل يكون هذا بطّالا فارغًا متكاسلا، يركن إلى الهوى ويخدع نفسه.
والأقبح منه من يظن أنه قد بلغ المنتهى في طلب العلم، وأنه بذلك النشاط الإدماني يفيد الناسَ، وفضلًا عن أن بلوغ النهاية في العلم هو وهم محض، فإن أمثال هؤلاء جميعًا هم في الواقع ما زالوا يَحْبون في العلم، بل لو قدر أن شخصًا بلغ مبلغًا في العلم فإنه إن لم يواظب على الاستزادة والبحث فإنه كالذي ينفق حتى يفلس، وتلك آفة كثير من المتصدرين المسمَّينَ مشايخَ، فكيف بالمبتدئين؟
المحقق في العلم لا يكمل بقوة العلم فقط، بل يحتاج معها إلى قوة النفس والشجاعة، والحكمة.
وسبب ذلك أن المحققين في العلم هم قلة كما جرت سُنة الله، لأن الكثرة في كل شيء للمتوسطين، والنبهاء قِلة، وذلك يستلزم أن المحقق سيخالف ولابدّ كثيرًا من التقريرات التي يقررها المتوسطون ومن دونهم، وقد نبّه على هذا الملمح غير واحد من المحققين في العلوم، منهم ابن سينا، والغزالي، والفخر الرازي، وابن تيمية، وملا صدرا، وغيرهم.
فينتج عن ذلك أن يكثر الاعتراض عليه بحق وبباطل، مع البغي، والتحزب، والسفه والجهالة، وذلك فضلًا عن الحقد والحسد والغيرة والمنافسة وهذا وادٍ آخر واسع.
ومن واجَه الناس بما يخالف معهودهم؛ وجب أن يوطّن نفسه على الصبر على أذاهم، وأن يتسع صدره ولا يضجر، ولا يهن ولا يضعف، وقد أوصى القرآن بأمّات ذلك، فنهى نبيه: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)، (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)، وكما يحرص أن ينصف غيره من نفسه، فيجب أن ينصف نفسَه والحقّ الذي أداه إليه تحقيقه ولا يعطي لهم من حقه ليرضيهم أو ليوهم نفسه أنه يُنصف، وهذا من الصدق إذا رسخ في النفس ملكةً، وهذا كله راجع لقوة النفس وشدة عزمها، ويقينها وتوكلها على الله (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره ... ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا)، (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض).
كما يجب أن يكون حكيمًا رزينًا، فلا يتنازق بعلمه، ولا يغضب مخالفه ويكايده لمجرد اشتفاء نفسه، فإنك ما أغضبت إنسانًا فقَبِلَ منك.
ولا يمتنع أن يحقق في العلم من لا يتصف بذلك، لكنه لن يخلو من أحد آفتين، إما المداهنة وترك ما أنعم الله عليه فتنقلب الفضيلة في حقه منقصة، إذ الجهل في حق مثل ذلك الإنسان أنفع له من العلم، وإما أن يسكت فلا يُظهر ما أعطاه الله لهَلَعِ نفسه، فيكون كالأرض الأجادب الممسكة، لا نفع فيها، وكم ماتت صدور بما فيها فلم تحدث بنعمة الله عليها، ففات بذلك خير كثير على الناس.
أبدأ إن شاء الله في المرحلة الثانية من برنامج القراءة النصية لتراث شيخ الإسلام ابن تيمية عبر منصة التراث التيمي، أول شهر سبتمبر
بشرح كتاب: شرح العقيدة الأصبهانية
للاشتراك: الرابط
https://taymiya.com/nprogram/readtam/
يستكمل مشتركو برنامج "قراءة نصية لنصوص ابن تيمية" مشروعهم، بعد الانتهاء من الكتاب الأول، ويشرعون في قراءة متعمقة لكتاب "الأصبهانية"، وهذه فرصة للمشاركة في هذه المرحلة.📖

🔗للاشتراك ومزيد من التفاصيل: https://taymiya.com/nprogram/readtam/
تفشي الشراسة في المجتمع عمومًا، وبين المتدينين خصوصًا، وما ينتج عن ذلك من حدة في ردود الأفعال سلبًا وإيجابًا، له عوامل كثيرة اجتماعية واقتصادية وغير ذلك، ولكن من أهم عواملها: اضطراب القلب وقلقه وعدم اطمئنانه، وأهم أسباب ذلك قلة الاعتناء بتهذيب الباطن، الذي علاجه تجويد العبادة وكثرة الذكر.
قطعة (5) من تقريرات بعض الزملاء لدروسنا في شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
الرسول كان غني أم فقير ماليا ؟

ج/ الرسول أغناه الله بنص القرآن، وذلك قبل البعثة بكفالة من كفله، ثم بتزويجه خديجة عليها السلام وما كانت فيه من الثراء، ثم بما فرض الله له صيانة لجنابه الشريف من الأخماس والحقوق الشرعية، وقد تمّ ذلك بعد نحو أربع سنين من الهجرة لما كثر الجهاد وزادت حقوقه، وبذلك يجاب على ما ورد في بعض الأحاديث الثابتة من عسرته في بعض الأحيان في السنين الأولى بعد الهجرة قبل أن يشرع الجهاد،

فالإنصاف والصحيح من كلام العلماء في ذلك أن يقال إنه بعد الهجرة والجهاد كان غنيًّا بالقدرة والتصرف، وكان يجتمع عنده من المال الشيء الكثير، وهذا العباس أخذ من أمامه من المال ما يحمل إنسان قدر طاقته من دنانير الذهب، ولو قيل إن هذا كان عشرين كيلو فحسب، فهذا ملايين كثيرة،

ولكنه لم يكن واجدا للمال في كل حال بسبب نفقته في سبيل الله، وعدم رده السائل حتى لو سأله رداءه، وكان لا يستحل أن يبيت وفي بيته مال يوما أو يومين، وكانت مصارفه الشرعية من الأخماس ونحوها يجعل منها قوت أهله طعاما في أكثره، وينفق أكثرها في سبيل الله أيضا،

ومنع الشرع من إرث ماله وأراضيه، وأوجب عليه في أصح القولين نفقة ما عنده في الليلة والليلتين، ومات وكانت درعه مرهونة، وله مواعيد وهبات أنفذها أبو بكر كما في الصحيح، وكل ذلك ليدفع عنه الشرع الشريف الظنة والتهمة، وليكون خفيفا من حملها في الدنيا والآخرة، ويكون له ذخرها في الآخرة.
هذا اللقاء مدخل لكتاب الأصبهانية يتاح للجميع، يعرّف بالكتاب ومميزاته ويعدّ مزيد إيضاح لمن يرغب بالاشتراك في البرنامج.
اللقاء ضمن برنامج قراءة نصية لتراث ابن تيمية (المرحلة الثانية: كتاب العقيدة الأصبهانية).📖

🔗للاستماع : https://youtu.be/imIOuL2P-j8


🔗للاشتراك في البرنامج: https://taymiya.com/nprogram/readtam/
من شیوخی العجم
الشیخ محمد خاجه شريف رحمه الله شيخ الحديث بالجامعة النظامية بحيدر اباد، الملقب بعمدة المحدثين، قرأت عليه في زيارتي الأولى للهند، وأجازني في الحديث.
يبدأ الأمر بطلب مجرد المشروعية والاعتراف، ثم يصبح تقوية وتمكينًا، ثم يصل إلى الاستعلاء والبغي.
فالمنكر الذي كان يمارسه السلفيون من إنكار الأقوال السائغة المخالفة لهم، هو عينه ما يمارسه التقليديون الآن من إنكار الأقوال السائغة المخالفة لهم، والتي بعضها سائغة دون أقوالهم أصلًا، لكن هذه مسألة أخرى.
فالآن أصبح من لا يرى مشروعية عمل المولد مبتدعًا، مع أنه قول كثير من محققي أهل العلم، ومنهم فقهاء من كل مذهب من المذاهب الأربعة أصلًا.
فهذا ليس علمًا ولا هو مقتضى العلم، لأن العلم لا ينتج الظلم، والعلم والعدل قرينان وتوأمان. إنما هذه تكتيكات الجماعات الحزبية، التي تبدأ بسردية الاضطهاد، فالتمكين، فالاستعلاء والإرهاب الفكري ثم المادي.
درس المدخل إلى الأصبهانية (2)
نظام الموجودات بين المتكلمين والفلاسفة - وهو شرح لدرس من الشرح القديم على التجريد للشمس الأصفهاني

https://www.youtube.com/watch?v=qZHsm06RYEM
طالب العلم ومتذوق العلم.
متذوق العلم شخص له حب للعلم ومعرفة ببعض مسائله وكتبه وأعلامه، وقد يكون مخالطًا للعلماء أو طلبة العلم، لكنه ليس طالبا للعلم.
أما طالب العلم فهو من يجدّ فيه ويتعب، ويواظب ويستمر، ويمشي فيه على طريقةٍ وجادّة، ينهي الكتب تلي الكتبَ، ويرتقى ويحصّل ويلخص ويبحث ويناقش، حتى تكون له فيه ملكة.
فإذا كان غرضك العلم فلا يكن حظك من العلم مجرد ذوقه دون طلبه، ولا تكتف بمجرد المشاركة أو الفوائد أو المُلح، ثم يغرك التسويف وطول الأمل والأماني أنك طالب علم أو أن هذا طلب علم أو أنه سيؤدي بك إلى طلب العلم.
ثم ينبغي أن يعلم أن مجرد الذوق في العلم ليس عيبا، فذائق العلم خير من المثقف، ولكنه دون طالب العلم، والعلم من حيث هو أفضل من الجهل مطلقًا.
ولكن العيب هو التوهم من الذائق أنه طالب علم، لأن التوهم ينبني عليه آحكام وآثار، أهمها أن هذا التوهم يمنعه من طلب العلم الحقيقي وربما كان قادرا عليه أهلًا له، فيقعد به كسله وتوهمه، فيضيع نفسَه، وهذا داخل في معنى قول ربيعة الرأي: "لا ينبغي لأحد عنده شيءٌ من العلم أن يضيع نفسَه"، يعني بعدم تكميلها.
ومن مفاسده: أنه بتوهمه الذي يظن معه أنه طالب للعلم؛ يظن أنه مشارك معهم، وأنه له قول مسموع في العلم، فيخوض ويناقش ويبحث معهم بفطير رأيه وساذج نظره، فيقع في التعالم، وهو عامة من تراه من المتصدرين اليوم.
فلا يختلط عليك أن كون العلم من حيث هو أفضل من الجهل، لا ينافي أن الجهل قد يفضل العلم باعتبارات وجهات عارضة له، فهذا معنى قول أهل العلم إن الجهل في حق بعضهم أنفع من العلم، كالجهل في حق العالم الذي لم يعمل بعلمه، فهذا في (حق) شخص معين، يعني أنه بالاعتبار وليس أولًا وبالذات.
ومنه هذا الذي نقوله، أنه قد يكون العلم في حق هذا الذائق أقبح من الجهل في حق الجاهل البسيط الذي لا يتلبس بهذه المعايب، ولا ينافي هذا أن العلم في نفسه أحسن من الجهل، فلو وقف الذائق على حقيقة ما عنده وأنه محب للعلم وليس طالبا للعلم لكان أفضل من الجاهل بلا ريب.
1- الخلاف يقع في معرفة الأحكام الشرعية، والمصيب واحد في نفس الأمر على الصحيح الذي لا يعرف غيره عن السلف، وهو المذهب المعروف بمذهب المخطئة.
2- الخلاف ينقسم إلى سائغ وغير سائغ.
الخلاف السائغ هو الخلاف الذي أذن الله فيه ويثيب المصيب والمخطئ فيه، فالمخطئ فيه مخطئ في الوضع، لكنه طائع في التكليف لأنه فعل ما أُذن له فيه بل ما طُلب منه، وهو الاجتهاد، ولو ترتب عليه خطأ لم يؤاخذ عليه لترتبه على المأذون، وفروعه كثيرة في الشريعة كسراية التلف في الحد، فهو يثاب على الاجتهاد لا على الخطأ.
3- والخلاف غير السائغ هو الخلاف الذي لم يأذن فيه الله.
فحقيقته أنه خلاف لا يجوز، أي أن حكمه التكليفي الحرمة.
قال الشافعي في الرسالة: (الاختلاف من وجهين، أحدهما محرم، ولا أقول ذلك في الآخر.
قال فما الاختلاف المحرم؟
قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً: لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره: لم أقل أنه يُضَيَّق عليه ضِيقَ الخلاق في المنصوص). انتهى.
4- فالمخالف في الخلاف غير السائغ مخطئ قطعًا من جهة الوضع، ومرتكب لمحرم من جهة التكليف، فلا يستحق أجرا واحدا، لكن تأثيمه ليس بلازم، فقد يكون وقد لا يكون، وسيأتي مزيد في ذلك.
5- ضابط الخلاف السائغ: ما لم يخالف نصا أو إجماعا قديما أو ما في معناهما كالقياس الجلي [وخالف في القياس الجلي الحنابلة].
وهو الذي ينقض به حكم الحاكم.
وبالبناء على هذا الضابط فقد يتضح أن حكما ما غير سائغ، فيكون المخالف فيه قال قولا غير سائغ.
وقد يخفى تحقق هذا الضابط، فيقع الاجتهاد في نفس تحقيق هذا الضابط، فيختلف العلماء في سواغ قول ما من عدمه، ويجري فيه بحث تحقيق المناط. كما سيأتي قريبا.
6- مجرد وقوع الخلاف ليس ضابطا للخلاف السائغ.
فوقوع الخلاف هو خبر. أي أن إثبات الخلاف أو نفيه ليس أكثر من حكاية عن وجوده، ولا يستلزم ذلك أن يكون هذا الخلاف سائغا أو غير سائغ.
فخلاف المعتزلة ثابت، لكنه غير سائغ عند عامة مخالفيهم.
وخلاف الصفاتية في التأويل ثابت، لكنه غير سائغ عند كثير منهم، كأكثر الحنابلة المحرمين إياه.
والخلاف في ربا الفضل ثابت لكنه غير سائغ عند عامة العلماء.
والخلاف في المعازف ثابت لكنه غير سائغ عند كثير من العلماء.
والخلاف في المتعة ثابت لكنه غير سائغ عند عامة العلماء من أهل السنة.
فلا يلزم من ثبوت الخلاف ثبوت سواغه، لأن السواغ حكم شرعي على الخلاف، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده كما هو واضح، لأنه كسائر أفعال المكلفين، وجودها غير الحكم عليها.
وقد عُبِّر عن هذا بالقول المتداول:
وليس كل خلاف جاء معتبرا * إلا خلاف له حظ من النظر
وتقييده بالضابط المذكور فوق أحسن وأضبط، لأن الخلاف قد يكون من حيث هو له حظ من النظر وإنما يمنع منه تحقق أنه مخالف للإجماع القطعي أو الظني، فإن كثيرا من فائدة الإجماع إثبات إحكام النص وتعيين دلالته، ومن هذه الجهة يقول بعض العلماء: لو كان القول الفلاني قال به قائل لقلت به، رعاية لهذا المعنى، يعني أنه في نفسه معتبر لإمكانه من حيث اللغة أو من حيث دلالة أدلة أخرى، لكنه بالنظر إلى ما قيل في المسألة مهدَر.
7-
قد يُتَّفق على عدم سواغ الخلاف.
كعدم سواغ بعض الأقوال الشاذة التي خولف فيها النص أو الإجماع الثابت، لفواته على المخالف أو رده إياه من غير بينة، كالخلاف في جواز التيمم لرفع الجنابة، أو عدم إجزاء الماء في الاستنجاء من خارجِ الدبر، أو عدم جواز متعة الحج، أو عدم اشتراط الوطء في التحليل، أو إنكار القدر جملة، أو الرؤية، ونحوها من الأقوال التي تخالف النص الثابت أو حدثت بعد الإجماع القديم. وهذا باب واحد في الفقه والاعتقاد.
وقد يختلف في سواغ الخلاف نفسه، فإن ضابط الخلاف المذكور عنواني مناطي، ويبقى للاجتهاد مدخل في تحقيقه في أشخاص المسائل، كتحقيق شرط العدالة في أشخاص أئمة الصلاة المعينين.
8-
إذن ثبوت الخلاف لا يستلزم السواغ. فالأول واقعي والثاني شرعي اعتباري.
ثم إن عدم السواغ لا يستلزم عدم الإعذار. فالأول شرعي تكليفي، والثاني شرعي وضعي.
فالإعذار حكم ثالث من قبيل الحكم الوضعي، لأنه قائم على بحث الشرط والمانع.
فقد لا يُعذر القائل بقول سائغ (لنحو تخلف شرط القول، أو قيام مانعه، كإصابة الجاهل الحق من غير طريقه)، وقد يعذر القائل بقول غير سائغ لاشتباه أو تأويل، وعلى هذا بنى الشيخ رسالة (رفع الملام).
لذلك أبى أحمد أن يترك التحديث عمن يشرب المسكر غير العنبي، وقال إنه يلزم منه ترك الحديث عن عامة الكوفيين، فعذرهم وإن لم يسوغ خلافهم.
وهذه ولله الحمد طريقتنا، سلكنا فيها طريق الشافعي وابن تيمية ونحوهما من الأئمة المحققين في أصول العلم، فالشافعي في الأم قال إنه لا يقول على من أباح الأدبار والفضل والمتعة إنه استحل ما حرم الله، وهذا هو الإعذار، وإلا للزم إكفارهم أو تفسيقهم أو عقوبتهم، وليس معنى هذا أنه يسوغ الخلاف في ذلك، كما هو مبيَّن في تقرير فروعه، وكذا نص في باب الشهادات على قبول شهادات أهل الأهواء، وهذا إعذار لهم وإن لم يسوغ خلافهم
فالإعذار منفك عن عدم السواغ، والسواغ منفك عن وقوع الخلاف.
ومن خلط بين المقامات الثلاثة اضطربت أقواله وتناقضت ولا بد.
9-
فتحرر أن مجرد وقوع الخلاف، أو حتى وجود القول في مذهب من المذاهب الأربعة أو جميعها - وهذا الثالث أندر -، ليس مستلزما من حيث هو هو أنه سائغ، ولو سُلِّم أنه يسوغ كثيرا في حالة وقوعه في مذهب، أو غالبا أو دائما إن اتفق الأربعة عليه، لكنه يصح أن ألا يسوغ أحيانا أو قليلا أو نادرا، ولذلك اختلف علماء المذاهب في سواغ الخلاف بينهم في مسائل، ولم يسلموا أنه بمجرد وجود القول لدى مخالفيهم من مذهب آخر أنه يستلزم سواغه، لما قلناه لكم من أن وقوع الخلاف لا يستلزم سواغه.
فبعض الحنفية لا يسوغون خلاف الشافعي في أكل المذكى متروك التسمية عمدا، ويصرحون أنه خلاف غير سائغ، ولا يجوزون أكل هذه الذبيحة ولو حكم بها الحاكم، وهو قول أبي يوسف. وبعضهم يقول إن الرفع في الركوع غير سائغ وكذا القنوت في الفجر فلا يتابع فيه الإمام، ونظائر هذا معروفة في مظانها.
ولم يسوغ الحنابلة قتل مسلم بكافر، ولو قضى به القاضي نقض لمخالفته النص، وهو مذهب أبي حنيفة في الذمي، ونصُّ أحمد أنه لا يسوغ الاجتهاد في حل المسكر، وخالف فيه أبو يعلى، والحنبلي يحد الحنفي شارب العصير ولو لم يسكر في المشهور، بل وفي التفسيق ورد الشهادة به روايتان، ذكروا أن الأظهر عن أحمد تفسيقه وعدم الصلاة خلفه ورد شهادته وخولف في ذلك. وبينهم جميعا في تفاصيل الاقتداء في الصلاة خلاف بعضه مبني على ذلك.
وأمثلة ذلك كثيرة معروفة.
واتفاق المذاهب الأربعة على قول، أو على أقوال: لا يستلزم أن خلافه أو خلافها غير سائغ. وهذا أصله مسألة الخروج على المذاهب الأربعة.
فالمعازف محرمة في معتمد المذاهب الأربعة لكن كثيرا من أربابها يسوغون فيها الخلاف، وكثير لا يسوغونه.
المتعة محرمة عند عامة العلماء في المذاهب الأربعة وغيرها، ولكن رأى بعض العلماء كالعز بن عبد السلام أن الخلاف فيها سائغ لعدم خلوه عن مستند.
وإيقاع البدعي واحدا غير سائغ في معتمد الأربعة عند الجمهور، ولكن سوغه ابن كمال باشا، وهو اختيار الشيخ في الجملة كما لا يخفى.
والكلام في هذا يطول، لكن الغرض من الإطناب فيه تقريره وتوضيحه.
فمجرد الخلاف، ثم مجرد كونه في المذاهب الأربعة، أو بينها جملة وبين غيرها- وهذا أخص - ليس يصح ضابطا للسواغ طردا ولا عكسا.
ففي داخلها ما لا يسوغ عند بعضهم، وفي خارجها ما يسوغ عند بعضهم
كما تبين لك.
وهو في اختلاف الأربعة على أقوالٍ مبنيٌّ على القول بعدم جواز الخروج عن الأربعة، وهو قول باطل لبعض المتأخرين، وأقل ما يقال فيه إنه خلافي كما هو ثابت، ولو قيل إن هذا الخلاف فيه غير سائغ كان مصادرة أو دَورا، ثم على فرض ثبوته فمحله الفتوى لا الاختيار للعمل كما هو مبسوط في كتب المذاهب.
هذا في كونه لا يسوغ خلافها، أما في كونها إذا اتفقت على قول فيلزم أن يكون سائغًا، فهو مبني من جهةٍ على القول بعدم جواز الخروج على الأربعة، وقد تبين ما فيه، ومبني من جهة أدق على عدم تصور وقوع ذلك.
والحق أن اتفاق الأربعة على قول يكون غير سائغ - وأكرر التنبيهَ أن محل البحث أدق من كون قول غير الأربعة يسوغ فهذا قوي متجه بل الحق - يندر أو ينعدم، ولكن هذا من جهة الوقوع، والبحث بحث حُجيات، وحاصله أن دليل حجية الإجماع قاصر عن حجية إجماع الأربعة، كسائر الإجماعات الخاصة فاقدة الحجية، فليس هو حجة لأنه ليس إجماعا.
أما من جهة الوقوع فقد يندر أو لا يقع، ولكن هذا بحث مصداقي. كما قيل: إذا اتفق سفيان والأوزاعي ومالك على شيء فهو سنة. فهذا يعني من جهة المصداق لا الحجية، لتعذر المخالفة لأسباب غير ذاتية، أما الحجيات فهي ذاتية، أي تقع كبرى في مقدمات إثبات الأحكام.
فإن قيل ما الثمرة هنا في التفريق بين البحث الحُجي والمصداقي؟ قلت: هو ثمرة سائر البحث في الحجيات، أولًا: في صحة الإعذار، وثانيًا: في عدم جواز الاحتجاج بمجرد هذه الحجة على المطلوب إذا ثبت قصور حجيتها أو انعدامها، لأن الإثبات موقوف على الحجيات، فيستدل بالحجج فقط، فيرفع هذا من البحث ويصار إلى الأدلة.
==
أما بعد
فاعلم أن تحقيق هذه المقدمات التي ذُكرت خلاصتها فقط، وليس بحثها التفصيلي: كلها يتوقف عليه القول في عامة مسائل البدع التي اختلف فيها المتأخرون، لاسيما البدع الإضافية.
ومنها مسألة عمل المولد، والتي ليس غرضي فيها هنا الكلام في حكمها، ولكن فقط وصف الخلاف فيها، لكثرة ما وقع من اشتباه القائلين فيها، وخوض الأكثر فيها من غير أن يعقلوا عامة المقدمات المذكورة فضلا عن أن يحققوها، وبذلك تعلم أن الكلام في العلم ليس بسهل ولا يسير لمن رام فيه التحقيق ولم يرض بالقصور والضعف، فضلا عن التقصير الذي هو التخليط والاشتباه والتمويه، وهذا أقبح.
==
فالمولد:
لا شك أنه وقع فيه الخلاف، فهو خلاف ثابت متحقق في الخارج، منكره معاند.
لكن هذا منفك عن سواغ الخلاف فيه.
فالخلاف فيه سائغ أم غير سائغ؟ هذا بحث آخر.
والاستدلال بالوقوع على السواغ: خطأ كما تبين لك.
ومن ثم قال بعض العلماء إن الخلاف فيه غير سائغ مع قوله بالإعذار، كما هي طريقة شيخ الإسلام، وكما لدى بعض المالكية المطردين على أصول مالك في التشديد في أصل البدع وذرائعها.
فتبين أن القول بعدم سواغ القول بالمولد: قول صحيح من جهة البناء العلمي، ولا يرد عليه ثبوت الخلاف في المولد.
ثم هل الحكم بسواغ الخلاف على قول من يقول ببدعيته متصور؟ نعم. كسائر الأقوال الخلافية السائغية لدى المخطئة.
فتحقق أن نفس سواغ الخلاف في المولد ونحوه مختلف فيه، بين من يسوغه ومن لا يسوغه مع الاتفاق على المنع، أما من يبيحه فالسواغ مقدمة بدهية لديه بلا إشكال.
فهذا كالخلاف في نحو المعازف، هل الخلاف فيه سائغ أم لا؟ فنفس هذا الخلاف سائغ.
قد يقال إن عمل المولد هو قول المذهب الأربعة، فإذا سلم أن خلافه سائغ وساعدناكم على جواز الخروج على الأربعة، فكيف يكون قول الأربعة غير سائغ؟
فالجواب من وجوه: الأول: أنه إذا سلم أنه قول الأربعة فليس قولهم حجة لازمة، والبحث بحث حجيات، فلا يصح الاستدلال بمجرده على السواغ.
الثاني: وهو المنع، وهو الحق، فإن أصل المسألة وأصل البحث فيها حادث بعد الأربعة إجماعا، فليس للأئمة الأربعة قول فيها.
فقصارى ما يقال إن قول الفقهاء من المذاهب الأربعة بنوع من التخريج على أصول هؤلاء الأئمة.
فهنا يقال: وفي المذاهب الأربعة من خالف هؤلاء في هذا التخريج وحكموا بالمنع، لاسيما من الحنابلة والمالكية، بل وبعض الحنفية، بل بعض مخالفيهم أجل رتبة منهم لأنهم موصوفون بالاجتهاد المطلق أو في المذهب فهم أقعد بأصول هؤلاء الأئمة.
وليس للكثرة هاهنا مدخل في الترجيح، لأن قوة المقلدين متقاربة، وهي يغر توارد المجتهدين الذي لأجله ندر أن يتفق الأربعة مثلا على غير سائغ. فكيف والخلاف محقق بين المتأخرين. فلم يبق إلا الشهرة، وهي نسبية، وليست حجة.
فالغرض أن من يسلط الإنكار على من يقول بعدم سواغ المولد أصلا، ومن ثم يرتب عليه عدم جواز الإنكار على المولد لأنه خلافي: غالط في فهم المسألة، مشتبه في أن وقوع الخلاف في المولد يستلزم أن الخلاف سائغ، وأن من يمنعه لابد أن يلتزم سواغ القول الآخر، وقد تبين أن هذا كله خطأ.
ومن ثم نعم يصح للعالم الذي يختار بدعية المولد أن يختار أن الخلاف فيه غير سائغ فينكر على فاعله. وكون أن للإنكار آدابا وأحكاما فهذا صحيح مسلم يجب التزامه من كل أحد، لاسيما مع الإقرار بأن عامة المخالفين مقلدون أصلا، ثم إن وقوع الخلاف في نفسه يورث شبهة قوية لدى المخالف تنفع في الإعذار كما ذكرناه في انفكاك الإعذار عن السواغ وهو كثير في مسائل الخلاف غير السائغ في الأصول والفروع، ثم أن للمصالح والمفاسد مدخلا في ذلك فقد يترتب على البدعة المفضولة مصالح دينية أخرى خصوصا مع رجحان انشغال القابل بأضداد ذلك من الملهيات غير الدينية فضلا عن المحرمات، وهذا النظر الثالث في الإعذار أحسن من النظرين الأولين لأنه يفيد إضافة الثواب للمحتفل مع إعذاره، وإن كان ثوابه لجهة أجنبية لكنها متلبسة بالمولد في الخارج، وتلك الثالثة طريقة الشيخ التي ذكرها في كتاب الاستقامة، وهي فقه عال، ذكرناه قديما في كتابات أخرى.
ثم يقال: الإنكار لا يسوغ في مسائل الخلاف، فهذا أولا في السائغ، وقد تبين لك ما هذا البحث، أما غير السائغ فيسوغ فيه الإنكار من العالم بأنه غير سائغ وإن كان الإنكار سيبقى ناقصا لأنه في غير المعلوم الضروري قد يعتذر المنكَر عليه بالتقليد، لكن المقصود أن الإنكار لا ينحصر في الضروري، ولكن يدخل فيه غير السائغ ولكنه في درجة أقل لأن الإعذار ثابت في كثير من غير السائغ، وهو نادر في الضروري فافترقا.
ثم الإنكار في مسائل الخلاف السائغ فيه تفصيل آخر، حققه غير واحد من العلماء، وهو أنه إن أريد بالإنكار القطع بالتخطئة فضلًا عن التأثيم أو التفسيق فلا شك أن هذا باطل بل هو بغي محرم. ولكن لا يلزم من ذلك عدم التناصح والبيان، بل والمناقشة والبحث من قادر عليه، فمنع هذا والقول إنه من الإنكار في مسائل الخلاف: باطل، مخالف لعمل السلف والخلف، فكلام السلف وتناصحهم في مسائل الخلاف أكثر من أن يحصى، وأما عند الخلف فهو موضوع الخلافيات والطرق، بل تعمقوا فيه بما هو مذموم، كما يعلم في موضعه. فمجرد النقاش والدعوة والتناصح هذا حقٌّ يقع بين أصحاب الخلاف السائغ.
فالمقصود أن نفس الإنكار درجات، وكثير ممن يقول: (لا إنكار في مسائل الخلاف) عندما يعمم معنى الإنكار ولا يسلم أنه رتب درجات: لا يكون غرضه إلا مجرد قطع البحث، والأخذ بالتقليد المطلق، والحوالة على المجهول، وهذا أيضًا باطل.
==
فاعلم أن المذكور هو بحث التحقيق في هذا الباب، وفيه جمل وضوابط مهمة، أهم من خصوص البحث في المسألة.
وإذا تبين لك ذلك: عرفت ما في كلام عامة من يتصدر للكلام في هذه المسألة وما يشبهها من قصور وتقصير، وتخليط وتمويه على ضعاف طلبة العلم، وأصحاب الهوى والتحيز المرضي، فيشتبه عليهم ما هو علم بما ليس بعلم.
طبعا هذا هو البحث العلمي لمن ينشده ويطيقه.
أما الواقع فكثير من هؤلاء وممن يدعي أنه من المشايخ فإنما لا ينكر فقط على من ينكر على المحتفل بالمولد، بل ينكر على نفس القول ببدعية المولد، ويسمي نفس القول ببدعية المولد بدعة بل أنه من أشنع البدع، بل يصف القائل به بأنه حمار، وهكذا مما اتصل به علمُنا وحِسُّنا.
فهؤلاء فقراء، رزقهم الله العلم والتقوى.
2024/10/09 02:25:32
Back to Top
HTML Embed Code: