Telegram Web
من يعمل سوءا يجز به ..!!

الحمد لله المتفرد بالملك والخلق والتدبير، يعطي ويمنع وهو على كل شئ قدير، له الحكم وله الأمر وهو العليم الخبير، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه وهو اللطيف القدير .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها صادقا من قلبه من أهوال يوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين
يا من إذا وقف المسيء ببابه ..... ستر القبيحَ وجاد بالإحسانِ
أصبحتُ ضيف اللهِ في دار الرضا .... وعلى الكريم كرامةُ الضيفانِ
تعفوا الملوكُ حين النزول بساحتهم ..... فكيف النزولُ بساحةِ الرحمنِ
واشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صاحب الشفاعة ، ولا يدخل الجنة إلا من أطاعه ، سيد الأولين ، والآخرين ، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين ، ومن سار على دربهم ، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعـــد :

عبــــاد الله : - إن لله سنن في هذا الكون يسير عليها لا تتخلف ولا تتبدل ، بها تنتظم الحياة ويقام الحق ويسود العدل وتطمئن النفوس وتحفظ الحقوق وتؤدى الواجبات وهي سنن تجري في جميع أحوال البشر وعلاقاتهم مع ربهم ودينهم ومع بعضهم ومع الكون من حولهم .. إنها سنة الجزاء من جنس العمل
فجزاء العامل من جنس عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر قال تعالى ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( 7/ الزلزلة) .. وقال تعالى : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء: 123ـ 124) وقال صلى الله عليه وسلم : (أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به...)(الطبراني في الأوسط (4429) وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: "إسناده حسن".) .. يقول ابن القيم رحمه الله في "مفتاح دار السعادة" (1/71) : " تظاهر الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل " انتهى .. اعمل ما شئت .. فإذا عملت خيراً ستجد الخير في الدنيا قبل الآخرة وإن عملت شراً مهما كان صغيراً أو كبيراً ستجد الجزاء في الدنيا قبل الآخرة وما ربك بظلام للعبيد .. قال تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا )(10-12 نوح )
وقال تعالى في (سورة الأعراف 163) : (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) فاعتدوا فكان الجزاء: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (البقرة 65). عوقب هؤلاء الذين احتالوا على أمر ربهم أنهم مسخوا قردة خاسئين، والذنب الذي فعلوه أنهم فعلوا شيئاً صورته صورة المباح ولكن حقيقته غير مباح، فصورة القرد شبيهة بالآدمي، ولكنه ليس بآدمي، وهذا لأن الجزاء من جنس العمل.. و من طال وقوفه في الصلاة ليلاً ونهاراً لله ، وتحمل لأجله المشاق في مرضاته وطاعته ، خف عليه الوقوف يوم القيامة وسَهُل عليه ، وإن آثر الراحة هنا والدعة والبطالة والنعمة ، طال عليه الوقوف ذلك اليوم واشتدت مشقته عليه . وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله : ( ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلا * إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلا) (الانسان 26-27) فمن سبح الله ليلاً طويلاً ، لم يكن ذلك اليوم ثقيلاً عليه ، بل كان أخف شيء عليه ..ولما سئل الحسن البصري : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورأً من نوره".
أيها المؤمنون /عباد الله : - لنتذكر جميعاً هذه السنة الإلهية في عباداتنا وأعمالنا وسلوكياتنا وعلاقاتنا لتستقيم نفوسنا على الحق والخير في زمن كثر فيه البغي والظلم والتعدي والكبر وسوء الظن والتقصير والتفريط في الحقوق والواجبات ولنبحث عن الجزاء الطيب بحسن العمل .. قال أحد الصالحين: (الحسنة لا تضيع على ابن آدم .. والذنب لا ينسى ولو بعد حين .. و الديان هو الله عز وجل حي لا يموت .. ويا ابن آدم اسخر كما شئت .. واضحك على من شئت .. واعتدي على من شئت .. واجرح من شئت .. وأحسن إلى من شئت ..واظلم من شئت .. واسفك دم من شئت .. وتكبر على من شئت .. فلا يضيع عمل عامل منكم عند الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة إن خيراً فخير وإن شراً فشر ..
قال تعالى ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( غافر: 40) ..وقال تعالى (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129).. قال ابن كثير رحمه الله : أي نسلط بعضهم على بعض ، وننتقم من بعضهم ببعض جزاءً على ظلمهم وبغيهم .. ) وقال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله -: "ولذلك كان الجزاء مُماثلاً للعمل من جنسه في الخير والشر، فمَن سَتَر مُسلمًا ستَره الله، ومن يسَّر على مُعسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفَّس عن مؤمنٍ كُرْبة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أقال نادمًا أقال الله عثرتَه يوم القيامة، ومن تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورتَه، ومن ضارَّ مسلمًا ضارَّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه، ومن خذَل مسلمًا في موضع يجب نصرتُه فيه خذَله الله في موضِع يجب نصرتُه فيه، ومَن سمَح سمَح الله له، والراحمون يرحَمهم الرحمن، وإنما يرحَم الله من عباده الرحماء، ومن أنفَق أنفَق الله عليه، ومن أوعى أوعى عليه، ومن عفا عن حقِّه عفا الله له عن حقِّه، ومن تجاوَز تجاوَز الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه"؛ (إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/214) .. بروا آبائكم يبركم أبنائكم قبل أكثر من خمسين عام حج رجل مع والده الذي بلغ من العمر عتيا وكانوا وقتها يركبون الجمال وهم في قافلة فأراد الرجل الكبير أن يرتاح قليلاً من السفر وحرارة الشمس تحت ظل شجرة واستمرت القافلة بالسير وجلس الابن مع أبيه فلما ارتاح قليلاً حمل أبيه على ظهر وانطلق يجري به ليلحق بالقافلة يقول الابن : فجأة وإذا بأبي يبكي ودموعه تنحدر على كتفي فقلت مالك يا أبي والله أنك أخف على ظهري من نسمة الهواء قال: والله ما أبكي من أجل هذا ولكني في هذا المكان قبل فترة من الزمن حملت أبي على ظهري فتذكرت قول الله تعالى ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) (الرحمن60-61)
عبــــاد الله : - غابت هذه السنة الربانية من حياتنا إلا من رحم الله فخسرنا الكثير من الأجور والحسنات وحرم الكثير منا رحمة الله وتوفيقه ولطفه ومضى قطار العمر ونحن في غفلة فما زادت حياتنا إلا تعاسة وشقاء و رأينا سنن الله تجرى على الأفراد والمجتمعات والشعوب والدول ولم نتعظ وضعفت صلتنا بربنا وقصرنا في عباداتنا وزادت المعاصي والمنكرات وسفكت الدماء وظهر الظلم والبغي واستطال المسلم في دم أخيه وغرضه وماله دون وجه حق فساءت العلاقات وثارت الخلافات وتأججت العصبيات ودمرت القرى والمدن وذهب الأمن واستوطن الخوف في كثير من بلاد المسلمين كل ذلك بسبب الذنوب والمعاصي حتى نسينا أمر الله فنسينا ووكلنا إلى أنفسنا جزاءاً وفاقاً .. ولو أننا وضعنا سنة الجزاء من جنس العمل نصب أعيننا حكاماً ومحكومين ، أحزاباً وجماعات ، أغنياء وفقراء ، أقويا وضعفاء ، رجالاً ونساء لصلحت أحوالنا واستقامت نفوسنا وتبدلت أحوالنا .. فكفوا أيديكم وألسنتكم وأموالكم ومناصبكم عن البغي والحرام والظلم والعدوان واعلموا أن إمهال الله عقوبة واستدراج فلا يغتر أحد بحلم الله .. وتذكر يا من تتجرأ على النفوس المعصومة وتسفك الدماء المحرمة أن الجزاء من جنس العمل عاجلاً أو آجلاً وقديماً قالوا بشر القاتل بالقتل هذا في الدنيا ويوم القيامة أشد وأنكى وهذا ما أكَّده سيدنا سعيد بن جبير رضي الله عنه للحجاج, عندما قال له الحجاج: ويلك يا سعيد, قال له: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.. قال: اختر لنفسك أيَّ قِتْلَةٍ تُريد أن أقتلك؟ فقال: بل اختر أنت لنفسك يا حجاج؛ فوالله لا تقتلني قِتْلَةً إلا قَتَلَكَ الله مثلها يوم القيامة .. ويا أيها الظالم رويداً .. رويداً .. لا تلومنّ إلا نفسك وكما تدين تدان وإن ربك لبلمرصاد .. لقد بلغ الفساد والظلم والبغي بالبرامكة وقد كانوا وزراء الدولة العباسية مبلغاً عظيماً إلى جانب الإسراف والتبذير حتى قاموا بطلاء قصورهم بماء الذهب فإذا أشرقت الشمس في الصباح انتشر الضوء الوهاج في أرجاء المدينة وضاقت أحوال الناس في عهدهم .. والرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول : (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ) (رواه مسلم ) .. واستمرت حياتهم دون رادع يردعهم أو واعظ يكف بغيهم وظلمهم حتى جاء الخليفة هارون الرشيد وقضى عليهم ووضع لهم حد وألقى بهم في السجون .. فقال ابن ليحي البرمكى وزير هارون الرشيد و هم في السجن و القيود على أيديهم وأرجلهم: يا أبت بعد الأمر و النهى و النعمة صرنا إلى هذا الحال !!! , فقال : يا بنى ...
دعوة مظلوم سرت في جوف الليل غفلنا عنها , و لم يغفل عنها الله ... وصدق الله إذ يقول (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. مهطعين مقنعي رؤوسهم، لايرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء.".(إبراهيم 42-43) .... اللهم أحفظنا بحفظك الذي لا يرام واحرسنا بعينك التي لا تنام و استرنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة،
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ..
الخطـبة الثانية : - عبـاد الله : - لكل عمل جزاء في الدنيا والآخرة فاختر لنفسك يا عبدالله ما شئت فإنك مجزي به .. لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه ولم يكن بين إسلامه وبين موته إلا سنوات قليله .. فكان نعم الرجل الرشيد في قومه الحريص على دينه وأمته المجاهد في سبيل ربه ، قائم الليل وقارئ القرآن والمنفق في سبيل الله ، جرح في عزوة بني قريظة وانفجر جرحه ومات فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عرش الرحمن اهتز لموته وشيعته الملائكة فقد حكم في بني قريظة بالحق ولهجت ألسنة الأمة بالثناء عليه وخلد ذكره فلا يسمع أحد به إلا ترضى عنه وغيره كثير من الصحابه .. قال النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وجنازةُ سعدٍ موضوعةٌ اهتزَّ لها عرشُ الرحمنِ فطفِقَ المنافقونَ في جنازتِهِ وقالوا ما أخَفَّها فبلغَ ذلكَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال إنَّما كانت تحملُهُ الملائكةُ معهم .) (الألباني/ السلسلة الصحيحة: 7/1051) .. فقدموا لدينكم ومجتمعاتكم وأوطانكم أعمال ومواقف تحفظ البلاد والعباد وينتشر بسببها الأمن وتقوى روابط الأخوة بين أفراد المجتمع ويزدهر الوطن فيكون الجزاء عظيماً في الدنيا والآخرة وكذلك الأوطان والشعوب والتاريخ لا يمكن أن ينسى العظماء في حياتهم وبعد مماتهم .. يقول الإمام الشافعي:
قد مات قوم وما ماتَتْ فَضائِلُهم ... وعاش قومٌ وهُمْ في النّاس أموات
يا أيها المسلم ويا أيتها المسلمة قدموا في حياتكم أعمالاً صالحه ليوم لا ينفع فيه إلا العمل الصالح وتذكروا أن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان ولا يظلم ربك أحداً قال تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].. اللهم يا من لا تَمِلُ من حلاوة ذكره ألسنة الخائفين و لا تَكِلُ من الرغبات إليه مدامع الخاشعين أغفر لنا ذنوباً حالت بيننا و بين ذكرك و أعفوا عن تقصيرنا في طاعتك و شكرك و أدم علينا لزوم الطريق إليك و هب لنا نوراً نهتدي به إليك ..واحقن اللهم دمائنا واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين .. ثم أعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56).. اللهم صلي وسلم وبارك أطيب وأزكي صلاة وبركة على نبينا وأمامنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. والحمد لله رب العالمين.
١-تزييف الحقائق وحصائد الألسن..!!
٢-قل الله ينجيكم منها..!!
٣-غزة ونصرة المظلوم..!!
٤-المنافقون وأوقات الأمة الحرجة..!!
٥-كيف تكون أعبد الناس..!!
من يعمل سوء يجز به..!!
خطبة جمعة بعنوان:

“معايشة النصر والفرج
قبل وقوعه منهج نبوي"

الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كتب على عباده الإيمان والعمل الصالح، وجعل الصبر والتوكل على الله مفتاح الفلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد المتفائلين وقدوة العاملين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي المقصرة أولًا بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].

عباد الله، حديثنا اليوم عن قضية عظيمة تهم كل إنسان يسعى للنجاح والتغيير والنصر والتمكين والفوز في الدنيا والآخرة، وهذا مفهوم إسلامي عظيم يعزز اليقين والتفاؤل، ويرسخ الإيمان بوعد الله وصدق موعوده مهما كانت التحديات والصعاب والابتلاءات ..

إن المؤمن يعيش بثقته بالله و توكله عليه، متفائلًا بما وعده الله به، ومتيقنًا أن العاقبة للمتقين، حتى لو كانت الظروف المحيطة حالكة أو العقبات كبيرة. ومن خلال قصص النبي ﷺ وأصحابه، نتعلم كيف عاشوا النجاح قبل أن يتحقق، وكيف ثبتوا على الإيمان حتى جاء النصر من عند الله.

إن كثير من أبناء الأمة اليوم ينهزمون قبل انتهاء المعركة ويفشلون قبل انتهاء الجهد وييأسون في وسط الطريق وهذه الأمور ليس من سمات المسلم الحق والمؤمن الصادق الواثق بربع المتوكل عليه.

عباد الله: في غزوة الخندق، كان المشهد شديدًا وصعبًا على المسلمين، حيث تجمع الأحزاب من كل مكان يريدون القضاء على الإسلام. كان المسلمون في حال من الجوع والخوف والحصار، حتى قال الله تعالى عنهم: ﴿ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب: 10].

في هذا الموقف العصيب، بينما يحفر النبي ﷺ الخندق مع أصحابه، اعترضتهم صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها، فجاء النبي ﷺ وأخذ المعول، وضربها قائلًا: “بسم الله.” وفي أول ضربة قال: “الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام!”، ثم ضرب الثانية وقال: “الله أكبر، فُتحت فارس!”، ثم ضرب الثالثة وقال: “الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح اليمن!”.

تأملوا أيها الأحبة! في وقت الحصار والجوع والخوف، يبشر النبي ﷺ أصحابه بفتح أعظم ممالك الأرض. هذا هو الإيمان بالله، واليقين بنصره.

وفي موقف آخر يعزز هذا اليقين، كان النبي ﷺ في طريق الهجرة إلى المدينة، وقد خرج سراقة بن مالك في أثره طمعًا في المكافأة. فلما أدرك النبي ﷺ دعاه إلى الإسلام، وقال له: “كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟”

سراقة، وهو مشرك في ذلك الوقت، يستمع إلى هذا الوعد الغريب. كسرى أعظم ملوك الأرض آنذاك، ومع ذلك النبي ﷺ يرى هذا المستقبل المشرق. وتمر الأيام، ويأتي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويُفتح ملك فارس، ويُلبس سراقة سواري كسرى.

أي يقين هذا؟ وأي ثقة بالله؟

أيها المؤمنون: ، يقول النبي ﷺ: “أُريت في المنام أن أصحابي يركبون البحر كالملوك على الأسرة.” [رواه البخاري].

هذا الحديث كان في مكة قبل أن يكون للمسلمين قوة أو جيش. ومع ذلك، بشر النبي أصحابه أنهم سيغزون البحر، وكان أول من حقق هذا الوعد الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

ومن كلماته المشرقة ﷺ، قوله: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل.” [رواه أحمد].

لقد كان هذا الوعد في زمن بدا فيه الإسلام محاصرًا. ومع ذلك، عاش النبي ﷺ وأصحابه هذا اليقين، فعملوا وبذلوا حتى انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.

وأيضا ما أخرجه البخاري من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال ﷺ: «قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».

وقد تحقق هذا الوعد، حيث عم الأمن والأمان في زمن الخلفاء الراشدين، وأصبحت الطرق آمنة بفضل من الله وتطبيق شريعته.

أيها الإخوة، القرآن الكريم مليء بالقصص التي تعزز مفهوم معايشة النجاح والنصر والفرج وقوعه فهذا يوسف عليه السلام عاش يقين النجاح وهو في السجن، وقال لصاحبيه: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: 41]. وكان يعلم أن الله سيخرجه من السجن، وأن رؤياه
وهذا موسى عليه السلام حينما أدركه فرعون وجنوده عند البحر، قال قومه: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، فرد موسى بكل ثقة: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].

أيها المسلمون إياكم واليأس .. إياكم والهزيمة والاستلام عيشوا النجاح والنصر والتمكين حتى قبل وقوعه لانه محقق لا محالة والله لا يخلف وعده .. قلت قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه ..

الخطبة الثانية:
الحمدلله وكفى وسلاماً على عباده الذين اصطفى اما بعد:
عباد الله: يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الغار: “يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا.” فقال له النبي ﷺ: “يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”

قال ابن القيم رحمه الله: “إذا أوصدت الأبواب في وجهك، فتذكر أن الله قد يفتح لك بابًا لم يخطر على بالك.”

أيها المسلمون؛ علينا أن نثق بوعد الله، وأن نعمل على تحقيق الأهداف التي رسمها لنا الإسلام.
فمعايشة النجاح والنصر تعني أن نخطط، ونسعى، ونعمل بجد، ونتوكل على الله ونبذل من الاسباب ما استطعنا ، وعلينا الصبر عند الأزمات فكل عقبة هي جزء من طريق النجاح، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 6]، وعلى المسلم كذلك أن يتفائل ولا ييأس ولا ينهزم أو يستسلم فهو في كن الله ورحمته وملكه قال تعالى: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 87].

عباد الله : علينا أن نزرع الأمل في الآخرين، فالتفاؤل والإيجابية تنتقل إلى من حولنا، فتكون سببًا في تحفيزهم للعمل والنجاح.

أيها الإخوة المؤمنون، لنكن من المؤمنين بوعد الله، العاملين على تحقيقه، ولنعيش بروح الأمل والتفاؤل، موقنين أن الفرج قريب، وأن النصر مع الصبر، واليسر مع العسر.
عباد الله : في ظل ما يجري من أحداث جسام على ثرى الأرض المباركة فلسطين وغزة، وهي على شدتها تمثل إرهاصات لقرب تحقق وعد الله ونصره على الصهاينة المحتلين والمعتدين؛ ففي معركة اليوم الجارية سقط صنم الدولة الصهيونية وتهشمت صورة جيشها، وأساء وجهها طائفة مؤمنة صدق فيهم وصف الله تعالى: ﴿عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً﴾ [الإسراء:5]، نسأل الله أن يرزقنا الثقة به، والعمل لنصر دينه، وأن يجعلنا من المتفائلين بنصره الموقنين بوعده.
ثم اعلموا أن الله تبارك وتعالى قال قولاً كريماً تنبيهاً لكم وتعليماً وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: )إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وارض اللهم عن بقية الصحابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وأعل كلمتك العليا إلى يوم الدين، وانصر عبادك المجاهدين في فلسطين وغزة وفي كل مكان ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب الدعوات اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين والحمد لله رب العالمين .
.
من أسباب صلاح القلب:

المداومة على العمل الصالح ( 1 )

الحمد لله الذي تفرد بالعز والجلال، وتوحد بالكبرياء والكمال، وجلّ عن الأشباه والأشكال أذل من اعتز بغيره غاية ، الإذلال، وتفضل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض ومفاتيح الأقفال، لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه وهو الخالق الفعال.. واشهد إن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد وهو علي كل شيء قدير ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدٌ عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال وعلي آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه و من اتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين، أما بعـــد:
عبـاد الله : - أيها المؤمنون: القلب ملكٌ والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده ، والقلب عليه تدور سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة وإن الشقاء والتعاسة التي يعيشها كثير من الناس إنما سببها عدم راحة القلوب والصراع الذي تعيشه البشرية اليوم أفراد وجماعات ودول قد لا يدرك الكثير أن سبب ذلك فساد القلوب .. والقلق والهموم التي اجتاحت العالم يعود سببها إلى ضيق القلوب وقسوتها وبعدها عن غذائها الروحي وأسباب حياتها ، فالقلب وعاء كل شيء في حياة الإنسان ، فكان من أسباب صلاحه المداومة عللا العمل الصالح الذي يمده بأسباب الحياة،
و العمل لا يكون صالحا إلا بأن يكون موافقا لشرع الله تعالى، وأن يكون خالصا لوجهه سبحانه، فخرج عن دائرة العمل الصالح كل عمل مخترع لم يأت به الشرع، وكل عمل أريد به غير وجه الله تعالى؛ فقد يخلص المتعبد في عبادة مخترعة ولا يقبل ذلك منه، كما في الحدث الصحيح: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، وقد يعمل المرء عملا موافقا للشرع لكنه غير مخلص فيه لله تعالى فلا يقبل منه كذلك ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) {البيِّنة:5} وبفقد الإخلاص أو الموافقة يكون العمل فاسدا.
فالصلاة والصيام وقراءة القرآن ، و الحج والعمرة، و الذكر والدعاء وبذل المعروف وتقديم النفع والصدقة ومساعدة المحتاج، وغيرها ، كلها أعمال صالحه ، وإن من أعظم آثار المداومة عليها، صلاح الأحوال، ومنها صلاح القلوب التي إذا صلحت صلح سائر الجسد، وصلحت أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) [محمد: 2]. أَيْ: أَصْلَحَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَقُلُوبَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَصْلَحَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ في الدنيا والآخرة.
فالمداومة على الصلاة تصلح القلوب بالنهي عنِ الفحشاءِ والمنكر والتي مصدرها القلب؛ قال - تعالى -: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) [39]، وتُزكِّي أنفسَهم، وتُقوِّمُ سلوكَهم؛ فعن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسولَ الله - صلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّم - قال: (أَرَأَيْتُمْ لو أَنَّ نَهْرًا بِبابِ أَحَدِكم، يَغْتَسلُ منه كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟)، قَالُوا: لا يَبْقى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قال: (فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطايا) (رواه الترمذي).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق) فقال: (إنه سينهاه ما تقول) (رواه أحمد)
و المداومة على الأعمال الصالحات سبب لطهارة القلب من النفاق ونجاة العبد من النار، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) (أخرجه الترمذي)
معاشر المسلمين: ومن ذلك: المداومة على قراءة القرآن واستماعَه رغبةً في الهدى، وطلبًا للزُّلفَى – فإن ذلك من أعظم أسباب لين القلوب ورقَّتها وصلاحها ؛ قال - تعالى -: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) [ق: 37]، وقال - تعالى -: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ) [الزمر: 23].
يقول ابن أبي العز -رحمه الله-: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق، وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه" (شرح العقيدة الطحاوية(274).
ومن ذلك المداومة على ذِكر الله، وحضور مجالس الذِّكر؛ ومجالس الصالحين، فإنها تجلو عن القلوب صَداها، وتُذكِّرها بحقوق مَولاها، وتُحرِّضها على شُكر نعماها، والتوبة إلى الله من خَطاياها؛ قال - تعالى -: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) [الرعد: 28 - 29].
قال ابن القيم رحمه الله:كان إذا حدق بنا الخصوم، وأرجفوا بنا، وألبوا علينا، واعترتنا المخاوف من كل جانب؛ أتينا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: فوالله ما إن نرى وجهه حتى يذهب ذلك عنا جميعاً لما يرون في وجهه من الإنارة، وما يرون فيه من المعاني الدالة على انشراح الصدر، وثبات القلب والتقى والرجاء والخوف من الله، فإن الوجه مرآة للقلب ولهذا قيل:'ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه' .
ودخل رجل على عثمان رضي الله عنه، فقال عثمان:" أيعصي أحدكم ربه ثم يدخل علي؟ فقال الرجل: أَوَحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني كيف علمت؟- فأخبره أنها فراسة المؤمن حيث يكون الوجه مظلماً لما في القلب من الظلمة، ويكون الوجه مشرقاً لما في القلب من الإشراق.
عباد الله والمداومة على الدعاء، باب من أبواب الراحة القلبية، حينما يلجأ العبد إلى ربه ومولاه؛ لأنه على يقين أنه ما بعد الدعاء إلا الإجابةُ، قال الله - تعالى -: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [البقرة: 186]، وليُكثر المؤمن من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالثبات على الدِّين، حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يلهج دومًا بهذا الدعاء: (يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)؛ (الترمذي 3522، عن أم سلمة، بسند حسن)، وليستعن بالله - تعالى - في دفع خطرات السوء إذا هيجها الشيطان، أو عوارض الدنيا، وليقل مع الصحابة والصالحين: ( وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا ) [الحشر: 10]، واسأل الله دومًا أن يعينك على قلبك.
ومن آثار المداومة على الأعمال الصالحة على القلب بجميع أنواعها ، تكاثر الحسنات، قال ابن عباس رضي الله عنه:'إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق' .
فالمعصية تورث الذل ولا بد؛ فالعز كل العز في طاعة الله تعالى، قال سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (10) سورة فاطر. أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعته, وكان من دعاء السلف: "اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك". وقال الحسن البصري –رحمه الله-: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
وقال عبد الله بن المبارك –رحمه الله-:
رأيت الذنوب تميت القلوب*** وقد يورث الذلَّ إدمانُها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
الخطــبة الثانـية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المؤمنون: والمداومة على العمل الصالح طريق للقلب السليم الذي لا يدخل المرء الجنة إلا به، و من بدل وقصر وفرط وغير ولم يثبت على الخير فلا يلومن إلا نفسه، فعن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بموعظة، فقال: (إنه سيجاء برجال من أمَّتي، فيُؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ، أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 117، 118]، قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتَهم)؛ رواه البخاري (6526)، ومسلم (2860).
والمداومة على العمل الصالح يورث القلب أنساً بالله وقرباً منه؛ فإن المعاصي تصرف القلب وتشتته وتبعده عن الله، وتوقع الوحشة بين العبد وربه،
والعمل الصالح والمداومة عليه يسد على الشيطان مداخله إلى القلب، والتي يأتي منها أمراضه ويحدث من خلالها فساده،
ومن ذلك أن المداومة على العمل الصالحة نوع من المجاهدة للوصول إلى صلاح القلب واستقامته ، يقول ابن المنكدر رحمه الله وهو من علماء التابعين:" كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي'[ نزهة الفضلاء 607] . فصار في حال من العبودية عجيب كان يقول:'إني لأدخل في الليل فيهولني فينقضي وما قضيت منه أربي' . ما معنى هذا الكلام ؟ يقول: إذا أقبل الليل ودخلت فيه، وبادرت فيه إلى الصلاة، وخلوت بربي؛ لم يمض إلى شيء حتى انقضى هذا الليل، وتصرمت ساعاته، ولم أشعر بذلك، ولم يحصل ما كنت أؤمله من طول المناجاة، فهي قصيرة في نظره لشدة شغفه وتعلقه بذلك
إننا حينما نصلي كأن الواحد منا طائر في القفص يبحث عن الحيلة كيف يتخلص، ولو كانت قلوبنا عامرة بمحبة الله والإقبال عليه؛ لم نشبع من صلاتنا وعبادتنا، وكم رأيت من الصالحين من يتعجب أن فلاناً من الناس لربما بكى في القراءة في الصلاة السرية، وأي عجب في هذا هو يناجي ربه كيف تعجبون من هذا .. !! وأي مقام هو أعظم من مقام العبد بين يدي ربه وخالقه يناجيه وينطرح بين يديه في أذل الصور التي يعبد بها العبد نفسه ويذلل جبهته في السجود والركوع وهل هناك تذلل أكثر من مناجاة الله عز وجل والخضوع بين يديه والجبهة على الأرض ؟
عباد الله: وهناك أعمال صالحة، كقيام الليل ، والصدقة، ومساعدة اليتيم والمسكين، وإدخال السرور على الآخرين وغيرها، ولا شك أن المداومة عليها تورث القلب اللين والطمأنينة والسعادة والراحة ، فاصلحوا قلوبكم عباد الله وأمدوها بأسباب الحياة والصلاح، وحافظوا على الأعمال الصالحة والمداومة عليها .
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
.
من أسباب صلاح القلوب:

المسارعة في الخيرات ( 2 )

الحمد لله الذي تفرد بالعز والجلال، وتوحد بالكبرياء والكمال، وجلّ عن الأشباه والأشكال أذل من اعتز بغيره غاية ، الإذلال، وتفضل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض ومفاتيح الأقفال، لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه وهو الخالق الفعال.. واشهد إن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد وهو علي كل شيء قدير
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدٌ عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال وعلي آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه و من اتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين أما بعد
أيها المؤمنون: إن القلوب تتعرض كل يوم للإمتحان و الإبتلاء كما تتعرض الأجساد والدول والشعوب والمجتمعات فأيما قلب ثبت على الحق والخير ولم ينحرف إلى الباطل والشر سواء كان ذلك في الإيمان والصلة بالله أو في العبادات أو في السلوك والأخلاق والمعاملات فذاك قلب المؤمن يجد به سعادة الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة .. قال صلى الله عليه وسلم : " تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا فأيُّ قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادّا كالكوز مُجَخيِّا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه " (رواه مسلم (1/128-129).
وإن من أسباب صلاح القلوب، المسارعة إلى الخيرات، والتنافس على الطاعات والقربات،
فمن ذلك: تلاوة كتاب الله بالتدبر والتفهم لمعانيه، فالقراءة بالتدبر من أعظم ما يصلح القلب ويشفيه من أمراض الشبهات والشهوات، لما في القرآن من البراهين الجلية والمواعظ البليغة .
وقد سمى الله القرآن روحًا في قوله : " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا " [الشورى: 52] لأنه تحيا به القلوب، كما أن الروح يحيا بها البدن .
وأوصى نبينا صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن، وجعله روحًا للمؤمن، عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً جاءه فقال : أوصني، فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك، فقال : «أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض» (رواه أحمد ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة) .
قال ابن القيم: (فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه، والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام، فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به) (التفسير القيم) .
عباد الله: ومن المسارعة إلى الخيرات: دوام ذكر الله عز وجل على كل حال، باللسان والقلب، فنصيب المؤمن من حياة القلب وطمأنينته ومحبته لربه على قدر نصيبه من الذكر .
يقول تعالى : (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، ويقول صلى الله عليه وسلم : «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت» (رواه البخاري) .
وقال صلى الله عليه وسلم : «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (رواه مسلم) .
يقول ابن القيم : (وقد جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر، فمن أراد محبة الله عز وجل فليلهج بذكره.. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف حال السمك إذا فارق الماء ؟... والذكر قوت القلوب والروح فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي، وقال : هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء لسقطت قوتي) (الوابل الصيب) .
وأقل ذلك أن يحافظ المسلم على الأذكار أدبار المكتوبات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار الأحوال المتنوعة، وهي مدونة في كتب السنة والأذكار .
ومن المسارعة إلى الخيرات، المحافظ على الصلوات في أوقاتها، والصوم، وإخراج الزكاة لمستحقيها، والدعاء، ففي ذلك تطهير للقلب من أدران الذنوب والمعاصي، وفي ذلك تزكية للنفس وتطهيرها، وفيه راحة للقلب وطمأنينة للنفس.
قال تعالى: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 37]،
قال تعالى : ( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:89/90] .
ومن المسارعة إلى الخيرات، بذل المعروف، وتقديم النفع، ومساعدة المحتاج، والعطف على المسكين والأرملة واليتيم، قال صل الله عليه وسلم: (ن أردت تليين قلبك , فأطعم المسكين و امسح رأس اليتيم ) (السلسلة الصحيحة” 2 / 533)
معاشر المسلمين: ومن المسارعة في الخيرات وأثر ذلك في إصلاح القلوب، أن فعل الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات، يمد القلب بأسباب الحياة وفي ذلك كان التنافس وكانت الدرجات، قال تعالى ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) [فاطر : 32].
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل بتوجيهاته على إصلاح القلوب، فإذا صلح، صلحت سائر الأعضاء، وكان الوسائل التي أتخذه النبي صل الله عليه وسلم لإصلاح القلوب وتزكية النفوس، الدعوة إلى التنافس والسباق والمسارعة إلى الخيرات ، فكان يوجه أصحابه إلى التنافس على فضائل الأعمال والعبادات والطاعات وما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم فعن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ،
وقال " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلا أنْ يَسْتَهِمُوا عليه لاسْتَهَمُوا. وَلَوْ يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إليه. ولَوْ يعلمون ما في العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوا " (متفق عليه)..
وقال صلى الله عليه وسلم ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا من الجنة كلما غدا أو راح). البخاري،الفتح (2/173) برقم 662) ..
وعن عبدالله بن عمرٍو وأبي هريرة أنهما سَمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد مِنبَرِه: (لينتهيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجمُعات، أو ليَختمَنَّ الله على قلوبهم ولَيَكونُنَّ مِن الغافلين)؛ رواه مسلم، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقَنطرين) (رواه أبو داود وصححه الألباني).
وكان صلى الله عليه وسلم يحذر من إنحراف النفوس عن هذا الطريق فتتحول المنافسة على الدنيا وشهواتها واموالها ومتاعها فتضعف القيم ويندثر الدين وتسوء الأخلاق وتزيد الهموم وتفسد القلوب، وهذا ما يعيشه كثير من الناس اليوم، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا شَدَّادُ بْنَ أَوْسٍ ! إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ قَدِ اكْتَنَزُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ،فَاكْنِزْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ :اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ , وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ ،وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ , وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ ،وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ , وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا , وَلِسَانًا صَادِقًا ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ "(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3228) ..
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه
أيها الناس: انظــروا إلى هذه الصورة الناصعة والتي تبين كيف كان التنافس بين الصحابة والمسارعة إلى الخيرات وعلى ماذا كانوا يتنافسون ويتسابقون ؟ وبماذا أثمرة هذه المنافسة؟ .. يأتي الفقراء من الصحابة إلى رسول الله يشتكون الأغنياء،
هل لأنهم لم يعطوهم مما أعطاهم الله، أو أنهم لم يتفقدوا جائعهم ومحتاجهم، أو لأنهم يأكلون أفضل منهم ويلبسون أحسن منهم، .. كلا لم يكن ذلك هو السبب، بل قالوا : يا رسول الله ! ذهب أهل الدثور بالأجور . يصلون كما نصلي . ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ؟ قالوا : نعم .. قال : تسبحون في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين ، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين، إنكم إذا فعلتم ذلك، سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم،
فرح الفقراء بذلك، فلما قضيت الصلاة فإذا لهم زجل بالتسبيح والتكبير والتحميد، التفت الأغنياء فإذا الفقراء يسبحون، سألوهم عن ذلك ، فأخبروهم بما علمهم النبي عليه السلام، فما كادت الكلمات تلامس أسماع الأغنياء، حتى تسابقوا إليها ،
وإذا أبو بكر يسبح ،وإذا ابن عوف يسبح ، وإذا الزبير يسبح ، فرجع الفقراء إلى النبي عليه السلام، فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء بما علمتنا ففعلوا مثلنا، فعلمنا شيئاً آخر، فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) ( وأصل الحديث في مسلم ورواه بطرقه ابن حبان وابن خزيمة) ..
قال أمير المؤمنين على ابن أبي طالب رضي الله عنه وهو يصف الصاحبة ومسارعتهم إلى الخيرات « لقد رأيت أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً .. بين أعينهم كأمثال ركب المعز من كثرة السجود قد باتوا لله سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله ... كانوا إذا سمعوا آية من كتاب الله مادوا كما يميد الشجر في يوم ريح عاصف، وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأنّ القوم باتوا غافلين »قال تعالى ( إِنَّمَاالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَاتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال 2).
لذلك كانوا أصلح الناس قلوباً، وأصدقهم لهجة، وأكثرهم أعمالاً، وأقومهم هديا، وأصلحهم أحوالاً ..
فأصلحوا قلوبكم عباد الله بالمسارعة إلى الخيرات والتنافس على الطاعات والقربات، والإخلاص لرب الأرض والسماوات.
أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، ، وأحسنها حالا
هذا وصل الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطبين الطاهرين.
.
من أسباب صلاح القلوب:

الموعظـــــــة الحسنة (3 )

الحَمْدُ لله الدَّاعي إلى بابه، الموفِّق من شاء لصوابِهِ، الحافظ لمن توكل عليه ولاذ بجنابه أحمده على الهدى وتَيسيرِ أسبابِه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له شهادةً أرْجو بها النجاةَ مِنْ عقابِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمَلُ النَّاس عَملاً في ذهابه وإيابه، ...
ألا يامحبَ المصطفى زد صبابةً ... وضمخ لسان الذكرِ منكَ بطِيبهِ
ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامةُ حُب اللهِ حُب حبيبهِ
صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ أفْضل أصحَابه، وعَلَى عُمر الَّذِي أعَزَّ الله بِهِ الدِّيْنَ واسْتَقَامَتِ الدُّنْيَا بِهِ، وَعَلَى عثمانَ شهيدِ دارِهِ ومِحْرَابِه، وعَلى عليٍّ
المشهورِ بحَلِّ المُشْكِلِ من العلوم وكَشْفِ نِقابه، وَعَلَى آلِهِ وأصحابه ومنْ كان أوْلَى بِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً أما بعــــــــــد:-
أيها المؤمنون: إن الإسلام دين يخاطب العقل والوجدان، ولا يهمل شيئاً من الجوانب الإنسانية على حساب جوانب أخرى. ولكل من العقل والوجدان أساليب تناسبه وتنفذ إليه. فالدليل والبرهان والمقارنة أساليب تخاطب العقل بقصد تأهيله إلى إدراك المعارف الموصلة إلى اللَّه، فيقول اللَّه سبحانه وتعالى في خطاب للعقل: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس:78-79]
وجعل التأمل والنظر وإثارة الشعور وأساليب لمخاطبة الوجدان لكي تسمو الروح وتكتسب القدرة على التذوق الرفيع الذي يوصلها إلى حب اللَّه والاستقامة على شرعة، يقول اللَّه سبحانه وتعالى في خطاب الوجدان: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل:62-63]
فكان من أساليب إثارة الشعور والوجدان لإصلاح القلوب، المواعظ والتذكير،
و الموعظة من وعظ، وهو النصح والتذكير بالعواقب، وهو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب.
عباد الله: إن المواعظ - سِياطُ القُلوب، تؤثّر في الإنسان كتأثير السِّياط في الأَبدان! وفي ذلكَ يقول ابنُ رجب رحمه الله: «إن المواعظ سِياطٌ تُضربُ بها القلوب فتؤثّر فيها كتأثير السِّياط في البَدن! والضربُ لا يؤثّر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده».
كان كثيرٌ من السَّلف إذا خرجوا من مجلس سَماع الذِّكر خرَجوا وعليهم السَّكينة والوقار حتى كأنهم ينسون دنياهم التي اعتادوا عليها وكأنهم صاروا في فَلَك آخر، لا تطأ أرجلُهم الأرض التي تُقِلُّهم، ولا تُؤْويهمُ المنازلُ التي تُظِلُّهم.
ومما يدلُّ على عظم شأن الموعظة الحسنة أن الله - تبارك وتعالى - سمَّى القرآن الكريم موعظة؛ فقال - سبحانه -: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) [النور: 34]، وقال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) [يونس: 57]، وقال - سبحانه -: ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) [آل عمران: 138]، وقال - جل جلاله -: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه ) [البقرة: 231].
وجعل الله القرآن موعظة للمؤمنين بالله واليوم الآخر؛ فقال - سبحانه -: ( ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) [البقرة: 232].
والكافرون هم الذين لا تؤثِّر فيهم الموعظة، فقال - سبحانه - يحكي مقالة عادٍ قومِ هود لنبيِّهم: ( قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ) [الشعراء: 136].
ومما يدلُّ على عظم شأن الموعظة، أن الاستجابة للموعظة خيرٌ كبير، وقبولها منجاة من عذاب الله؛ قال الله - تعالى -: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) [النساء: 66]، وقال في آيات تحريم الرِّبا: ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [البقرة: 275]، وقوله ( فَلَهُ مَا سَلَفَ )؛ أي: لا يستردُّ منه ما أخذه من الربا قبل نزول التحريم.
وجاء في كتاب الله أن الذِّكرى تنفع المؤمنين الذين يخشون ربهم؛ فقال - تعالى -: ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) [الذاريات: 55]، وقال: ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) [ق: 45]، وقال - سبحانه -: ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَ) [الأعلى: 10]، والتذكير يكادُ يكون مرادفًا للموعظة.
معاشر المسلمين: ﺇﻥ ﻣﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﺎ ﻳﺤﻴﻲ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ، ﻓﺄﻋﻄﻨﻲ ﺍﻟﺴﻤﻊ ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺍﻟﺠﻮﺍﺭﺡ ﻭﺍﻷﺭﻛﺎﻥ ﺣﺘﻰ ﻧﻤﺮ ﻓﻲ ﻣﻮﻋﻈﺔ ﻗﺮﺁﻧﻴﺔ: ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺟﻞ ﻓﻲ ﻋﻼﻩ : (ﻳَﺎ ﺃَﻳُّﻬَﺎ ﺍﻟﻨَّﺎﺱُ ﺇِﻥَّ ﻭَﻋْﺪَ ﺍﻟﻠَّﻪِ ﺣَﻖٌّ ﻓَﻼ ﺗَﻐُﺮَّﻧَّﻜُﻢُ ﺍﻟْﺤَﻴَﺎﺓُ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ ﻭَﻻ ﻳَﻐُﺮَّﻧَّﻜُﻢْ ﺑِﺎﻟﻠَّﻪِ ﺍﻟْﻐَﺮُﻭﺭُ * ﺇِﻥَّ ﺍﻟﺸَّﻴْﻄَﺎﻥَ ﻟَﻜُﻢْ ﻋَﺪُﻭٌّ ﻓَﺎﺗَّﺨِﺬُﻭﻩُ ﻋَﺪُﻭًّﺍ ﺇِﻧَّﻤَﺎ ﻳَﺪْﻋُﻮﺍ ﺣِﺰْﺑَﻪُ ﻟِﻴَﻜُﻮﻧُﻮﺍ ﻣِﻦْ ﺃَﺻْﺤَﺎﺏِ ﺍﻟﺴَّﻌِﻴﺮِ) [ﻓﺎﻃﺮ 6-5:] .
ﺗﺮﻯ ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻏﺮﻫﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻫﺬﻩ ﺳﻬﺎﻣﻬﺎ ﺗﺼﻴﺐ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺑﺴﻬﻢ ﻓﺘﺮﺩﻳﻪ ﻫﺎﻟﻜﺎً ﻭﺗﺴﻠﻤﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﺍﻟﻤﻈﻠﻢ ﺍﻟﻤﻄﺒﻖ ﻋﻠﻴﻪ، ﺳﺎﻟﻜﺎً ﺳﺒﻴﻞ ﻣﻦ ﺳﺒﻘﻮﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻮﺍﺕ ﺍﻟﻬﺎﻟﻜﻴﻦ، ﻭﻗﺪ ﺧﺮﻗﺖ ﺍﻟﻘﺒﻮﺭ ﻣﻨﻬﻢ ﺍﻷﻛﻔﺎﻥ ﻭﻣﺰﻗﺖ
ﺍﻷﺑﺪﺍﻥ ﻭﻣﺼﺖ ﺍﻟﺪﻡ ﻭﺃﻛﻠﺖ ﺍﻟﻠﺤﻢ؟
ﺗﺮﻯ ﻣﺎ ﺻﻨﻌﺖ ﺑﻬﻢ ﺍﻟﺪﻳﺪﺍﻥ؟! ﺃﻟﻴﺴﺖ ﻗﺪ ﻣﺤﺖ ﺍﻷﻟﻮﺍﻥ ﻭﻋﻔﺮﺕ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺤﺴﺎﻥ ﻭﻛﺴﺮﺕ ﺍﻟﻔﻘﺎﺭ، ﻭﺃﺑﺎﻧﺖ ﺍﻷﻋﻀﺎﺀ ﻭﻣﺰﻗﺖ ﺍﻷﺷﻼﺀ؟! ﺃﻟﻴﺲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﻨﻬﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺳﻮﺍﺀ؟! ﺃﻟﻴﺴﻮﺍ ﻓﻲ ﻣﺪﻟﻬﻤﺔ ﻇﻠﻤﺎﺀ؟!
ﻗﺪ ﻓﺎﺭﻗﻮﺍ ﺍﻟﺤﺪﺍﺋﻖ ﻓﺼﺎﺭﻭﺍ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺴﻌﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻀﺎﻳﻖ .
ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻨﺎﺩﻱ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻳﻨﺎﺩﻱ : ﻳﺎ ﺳﺎﻛﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻏﺪﺍً ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻏﺮﻙ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ؟!
ﺃﻳﻦ ﺩﺍﺭﻙ ﺍﻟﻔﻴﺤﺎﺀ؟ ﺃﻳﻦ ﺭﻗﺎﻕ ﺛﻴﺎﺑﻚ؟ ﻟﻴﺖ ﺷﻌﺮﻱ! ﻛﻴﻒ ﺳﺘﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺧﺸﻮﻧﺔ ﺍﻟﺜﺮﻯ؟ ﻭﺑﺄﻱ ﺧﺪﻳﻚ ﻳﺒﺪﺃ ﺍﻟﺒﻠﻰ؟
ﻭﺍﻟﻤﻮﺕ ﻓﺎﺫﻛﺮﻩ ﻭﻣﺎ ﻭﺭﺍﺀﻩ ﻓﻤﺎ ﻷﺣﺪ ﻋﻨﻪ ﺑﺮﺍﺀﻩ ﻭﺇﻧﻪ ﻟﻠﻔﻴﺼﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻪ ﻳﻌﺮﻑ ﻣﺎ ﻟﻠﻌﺒﺪ ﻋﻨﺪ ﺭﺑﻪ
ﻭﺍﻟﻘﺒﺮ ﺭﻭﺿﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ ﺃﻭ ﺣﻔﺮﺓ ﻣﻦ ﺣﻔﺮ ﺍﻟﻨﻴﺮﺍﻥ ﺇﻥ ﻳﻚ ﺧﻴﺮﺍً ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻩ ﺃﻓﻀﻞ ﻋﻨﺪ ﺭﺑﻨﺎ ﻟﻌﺒﺪﻩ ﺃﻭ ﻳﻚ ﺷﺮﺍً ﻓﺎﻟﺬﻱ ﺑﻌﺪ ﺃﺷﺪ ﻭﻳﻞ ﻟﻌﺒﺪ ﻋﻦ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﺪ
ﺇﻧﻬﺎ ﺍﻟﻤﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻴﻲ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ!
ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: (ﻳَﺎ ﺃَﻳُّﻬَﺎ ﺍﻟﻨَّﺎﺱُ ﻗَﺪْ ﺟَﺎﺀَﺗْﻜُﻢْ ﻣَﻮْﻋِﻈَﺔٌ ﻣِﻦْ ﺭَﺑِّﻜُﻢْ ﻭَﺷِﻔَﺎﺀٌ ﻟِﻤَﺎ ﻓِﻲ ﺍﻟﺼُّﺪُﻭﺭِ ﻭَﻫُﺪًﻯ ﻭَﺭَﺣْﻤَﺔٌ ﻟِﻠْﻤُﺆْﻣِﻨِﻴﻦَ) [ ﻳﻮﻧﺲ 57:] .
ﻧﻌﻢ , ﻣﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻫﻲ ﻋﻼﺝ ﻗﺴﻮﺓ ﺍﻟﻘﻠﺐ، وصلاح لفسادها، ﻓﺈﺫﺍ ﻏﻔﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻓﻼ ﻳﺤﻴﺎ ﺇﻻ ﺑﻤﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﻟﻴﺲ ﺃﺣﺴﻦ ﻟﻠﻘﻠﺐ ﻣﻦ ﻣﺪﺍﻭﻣﺔ ﺫﻛﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺸﺮﻁ ﺃﻥ ﻳﺘﻮﺍﻃﺄ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺍﻟﻠﺴﺎﻥ، ﻭﻻ ﺃﺣﺴﻦ ﻣﻦ ﺳﻤﺎﻉ ﺍﻟﻤﻮﺍﻋﻆ ﻭﺍﻟﺘﺪﺑﺮ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﺑﻤﺎ ﺗﺴﻤﻊ، ﻭﺣﺘﻰ ﺗﻨﺘﻔﻊ ﺑﺎﻟﻤﻮﺍﻋﻆ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﻞ،
ﻗﺎﻝﺳﺒﺤﺎﻧﻪ: (ﻭَﻟَﻮْ ﺃَﻧَّﺎ ﻛَﺘَﺒْﻨَﺎ ﻋَﻠَﻴْﻬِﻢْ ﺃَﻥِ ﺍﻗْﺘُﻠُﻮﺍ ﺃَﻧﻔُﺴَﻜُﻢْ ﺃَﻭِ ﺍﺧْﺮُﺟُﻮﺍ ﻣِﻦْ ﺩِﻳَﺎﺭِﻛُﻢْ ﻣَﺎ ﻓَﻌَﻠُﻮﻩُ ﺇِﻟَّﺎ ﻗَﻠِﻴﻞٌ ﻣِﻨْﻬُﻢْ ﻭَﻟَﻮْ ﺃَﻧَّﻬُﻢْ ﻓَﻌَﻠُﻮﺍ ﻣَﺎ ﻳُﻮﻋَﻈُﻮﻥَ ﺑِﻪِ ﻟَﻜَﺎﻥَ ﺧَﻴْﺮًﺍ ﻟَﻬُﻢْ ﻭَﺃَﺷَﺪَّ ﺗَﺜْﺒِﻴﺘًﺎ * ﻭَﺇِﺫًﺍ ﻟَﺂﺗَﻴْﻨَﺎﻫُﻢْ ﻣِﻦْ ﻟَﺪُﻧَّﺎ ﺃَﺟْﺮًﺍ ﻋَﻈِﻴﻤًﺎ * ﻭَﻟَﻬَﺪَﻳْﻨَﺎﻫُﻢْ ﺻِﺮَﺍﻃًﺎ ﻣُﺴْﺘَﻘِﻴﻤًﺎ) [ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ 68-67:] .
ﻓﺒﺎﻻﺗﺒﺎﻉ ﻫﺪﻯ ﻭﺛﺒﺎﺕ ﻭﺍﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﻭﺣﻴﺎﺓ ﻷﻭﻟﻲ ﺍﻷﻟﺒﺎﺏ.
أيها المؤمنون: لقد كان صل الله عليه وسلم يحي النفوس ويصلح فساد القلوب بالمواعظ، وجعل الموعظة وسيلة من وسائل تزكيتها،
عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ » [رواه الترمذي (2676) وابن ماجه (42)]
نعم .. ذرفت العيون ووجلت القلوب، وهذا ما نحتاجه لنصلح فساد قلوبنا، وحتى نتأسى بالصالحين من قبلنا،
إن المواعظ التي تُرقِّقُ القلوب وتَجْلي الصدور، لها منازلُ عُليا في تاريخنا البعيد والقريب، قد ضمَّتها نفائسُ الأَسفار التي خاطَبتِ الأمة، وبَلَغت أنوارُها الدَّهماء والعامّة؛ وقد حُفظت هذه النفَّائسُ لتكون للناس الزادَ ليوم المَعاد.
خرج هارون الرشيد يوماً في رحلة صيد فمرّ برجل يقال له بُهلول قد اعتزل الناس وعاش وحيداً ..فقال هارون : عظني يا بُهلول قال : يا أمير المؤمنين !! أين آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك ؟ قال هارون : ماتوا ..قال : فأين قصورهم ؟ قال : تلك قصورهم .. قال : وأين قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم ..فقال بُهلول : تلك قصورهم .. وهذه قبورهم .. فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟ قال : صدقت .. زدني يا بهلول .. قال : أما قصورك في الدنيا فواسعة فليت قبرك بعد الموت يتسع فبكى هارون وقال : زدني فقال : يا أمير المؤمنين : قد ولاك الله فلا يرى منك تقصير ولا تفريط فزاد بكاءه وقال : زدني يا بهلول .. فقال : يا أمير المؤمنين :
هب أنك ملكت كنوز كسرى ... وعُمرت السنين فكان ماذا ؟
أليس القـبر غـاية كـل حيٍ ... وتُسأل بعده عن كل هذا ؟
قال : بلى .. ثم رجع هارون ولم يكمل رحلة الصيد تلك .. و انطرح على فراشه مريضاً .. ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت.
عباد الله: والناس بعد سماع المواعظ ينقسمون إلى عدة أقسام، قال ابن رجب:
فمنهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر ولا يزداد هدى ولا يرتدع عن ردىء ,وهؤلاء شر الأقسام ويكون ما سمعوه حجة عليهم فتزداد به عقوبتهم وهؤلاء الظالمين لأنفسهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [النحل:108].
ومنهم من ينتفع بما سمعه وهم على أقسام:
فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات ويوجب له التزام الواجبات "وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين"
ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات والتورع عن دقائق المكروهات ويشتاق إلى إتباع آثار من سلف من السادات "وهؤلاء السابقون المقربون".
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه
أيها الناس: والموعظة مطلوبة من كل مسلم ، حسب علمه وقدرته، وبآدابها وشروطها، فنحتاج للموعظة في البيوت مع الأهل والأولاد، ونحتاجها مع الزملاء والأصدقاء، ونحتاجها في المجالس والمنتديات، ونحتاجها في مساجدنا ومدارسنا، ونحتاجها في التناصح والتذكير متى ما دعت إليها الحاجة.
وعلى الإنسان كلما شعر بقسوة قلبه أن يبحث له عن واعظ يذهب إليه ليذكره ويعظه، كما يذهب إلى الطبيب الماهر ليعالجه من أمراض الجسد، فالمواعـظ تـريـاق الذنـوب ,فلا ينبغى أن يسـقى التـريـاق إلا طبيـب حـاذقُ معـافى، فأمـا لـديـغ الهـوى فهو إلى شـرب التـريـاق أحوج من أن يـسـقيـه لغيـره.
وغـيـر تقي يـأمـر الناس بالتقى *** طبـيب يـداوى النـاس وهـو سقـيمـ
يـا أيـها الرجـل المـقـومـ غيـره *** هلا لنـفسك كـان ذا التـقويــمـ
فابـدأ بـنـفـسك فانههـا عن غـيها *** فإن انتـهـت عنـه فأنـت حـكيمـ
فهناك يقـبل مـا تقـول ويقـتدي مثلـه *** بالقـول منـك وينفـع التعليمـ
لا تنـه عن خُـلق وتأتي مثـلــه *** عــار عـليك إذا فـعلت عـظيـمـ
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
.
من أسباب صلاح القلوب:

طلب العلم الشرعي (4) .. !!

الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: تصاب القلوب بأمراضٌ حسيّة وأمراضٌ معنوية، والأمراض الحسيّة تؤدي إلى الموت وفقدان الدنيا أما الأمراض المعنوية - وهي أشد خطورةً - تؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) [الحج: 11]، وللأسف أن الناس في هذا الزمان يهتمون بعلاج الأمراض الحسيّة أكثر من اهتمامهم بالأمراض المعنوية، وإن من أسباب صلاح القلوب، طلب العلم الشرعي ، ذلك بأن العلم الشرعي
قال ابن رجب معرّفا بهذا العلم: (فالعلم النافع هو ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل..) .
وقال ابن حجر: (والمراد العلم الشرعي الذي يفيد ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه)
معاش المسلمين: العلم الشرعي هو ميراث النبوة ، وعلى قدر حظ الناس منهم يكون حظهم من وراثة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قدر ذلك يكون صلاح القلوب والأحوال، ومن هنا فإن طلب العلم أغلى ما أنفقت فيه أعمار البشر وأموالهم ، وإن لحظة ينفقها الإنسان في عمره لا يستفيد فيها علما ، ولا يقصد فيها إلى طاعة ، لجدير بأن تطول عليها حسرته !
ولهذا لم يأمر الله جل وعلا نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته من بعده أن يزدادوا من شيء شيئا إلا أن يزدادوا من العلم، فقال جل وعلا في سورة طه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه:114].
ورفع الله أهل العلم على سائر المؤمنين لما حصلوه من العلم فقال جل وعلا (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11]، فكل مؤمن يرفع الله جل وعلا بإيمانه، وكل صاحب علم صحيح من أهل الإيمان فإنه مرفوع على غيره درجات، وهذا من فضل الله جل وعلا على أهل العلم.
و من وفق لهذا العلم، فقد وفق لأعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة علم ذلك:
قال الله تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [ آل عمران: 18].
وقال تعالى: (لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) [ النساء: 162].
عباد الله: إن طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين من أسباب صلاح القلوب وذلك من عدة أوجه نذكر منها:
أن طلب العلم الشرعي، يعصم القلوب بتوفيق الله من الانحراف والضلال، ويحميها من الوقوع في البدع والمحدثات، والشركيات والضلالات، ويحملها على تعظيم الشعائر والحرمات، والتجافي عن المنكرات والموبقات، بخلاف العابد الجاهل، فإنه قد يقع في شيء من هذه المخالفات بسبب جهله، وربما يتقرب إلى الله بما لم يأذن به الله، كحال عباد النصارى، ومن شابههم من جهلة عباد المسلمين الذين يتعبدون بالبدع والمحدثات، أو يتقربون إلى أصحاب القبور بأنواع القربات، ويشركون بالله تعالى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
2024/12/03 04:57:49
Back to Top
HTML Embed Code: