tgoop.com/mesbah_qom/1127
Last Update:
🔻نحو خطابٍ إسلاميٍّ قرآنيٍّ..
روى الشّيخ الصّدوق بسندٍ صحيحٍ رسالةً للإمام الهادي (عليه السّلام)، موضوعها الجدل الدّائر في تلك الحقبة حول وصف القرآن بأنّه (مخلوق) أم لا، وفيها عباراتٌ تستوقف المرء.
قال -صلوات الله عليه-: "نحنُ نرى أنّ الجِدال في القرآن بدعةٌ اشترك فيها السّائل والمجيب، فتعاطى السّائلُ ما ليس له، وتكلَّفَ المجيبُ ما ليس عليه..والقرآن كلامُ الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكونَ من الضّالين".
لمّا قرأتُ الرّواية مرّ بذهني كثيرٌ من الجدالات حول الألفاظ المخترعة المستحدثة، والتي لكلّ منها ملفّ طويل الذّيل من الجدل والمحاججة بما يُجدي ولا يُجدي، ولستُ أعني بذلك الجدال الأخير، فنحن أمام ملفّات كثيرة من (كلب رقيّة) إلى (حسين العصر)، ثمّ (إنّا للحسين وإنّا إليه راجعون)، وعلى هذا فقِسْ، وإن لم تكن كلُّها سواء. ولن أتكلّم عن التّقييم الشرعي أو اللّغوي لهذه العبارات فأنزلق إلى ما أحبُّ الفرار منه، ولكن سأتكلّم في عموماتٍ تدور حول ما يحكم الخطاب العامّ ويُسْقِمُه.
أوّلاً: إنّ ما نعاصره في وقتنا الحاضر من نقاشات ذات مستوى متدنٍّ في هذه المواضيع يرجع إلى كثرة الاعتماد على نِتَاج الأذواق والسّلائق المُختلفة، وغَلَبة الاستحسان والهوى أحياناً، وهو ما يُنتج عباراتٍ مثيرةً للخلاف لعدم اتّحاد الأذواق، في حين أنّ تأصيل الخطاب والثّقافة بمرجعيّة القرآن الكريم والحديث الشّريف على المستوى الأسلوبيّ واللّفظيّ يوجب تقليل هذا النّشاز الحاصل.
ذاتٍ مرّة، كنت أتحدّث لبعض الإخوة حول مسألة روح المبالغة في الألقاب والأوصاف التي تشكّل ظاهرةً في كتب التّراجم عند متأخّري المتأخّرين وسريان ذلك إلى عصرنا الحاضر، وذكرتُ له مثالاً عن كتابٍ ألّفه شخصٌ ما في سيرة عالمٍ من الهند فذكر قبل اسمه سرداً من الألقاب والأوصاف في ستّ صفحات، كلُّ صفحةٍ منها تغيّر الماء الكرّ، فقلتُ له: لعلّ أحد دواعي التوسّع في ذكر الألقاب هو الاستخفاف بالمعاني المؤدّاة؛ فنحن لا نقيم وزناً لكلامنا، ونرى في ألفاظنا ابتذالاً وقصوراً عن أداء معانٍ ساميةٍ، ولا سيّما مع بُعدنا عن الاستضاءة بهدي القرآن، فأنا اليوم لو اقتصرتُ على وصف فقيهٍ بأنّه (صالح) لظُنَّ بي اللّمز والتّقليل من شأنه، والحال أنّ هذه مفردةٌ فاخرة شريفة، ويكفي في عظمتها أنّ الله تبارك وتعالى قد أكثر من وصف أنبياءه ورسله بها، وكان بعض الأنبياء يدعو الله أن يُلحِقَه بالصّالحين، فمفردة الصّلاح ثريّة غنيّة، إلّا أنّها اليوم لا تشفي الغليل، وليس هذا إلّا لسُقم السّلائق، وحبّ الارتفاع الذي جُبلت عليه طباعٌ كثيرةٌ، ولا سيّما أننا اليوم على أعتاب حقبة تكون فيها بعض الألقاب والأوصاف لا تسمن ولا تغني من جوع.
ثانياً: أصبح من الواضح أنّ إطلاق العنان لكافّة الأذهان نحو ميدان الابتكار يدفعُ بنا إلى المزيد من الفوضى في الخطاب المولِّد للجدليات الموسميّة، ولذا نحن بحاجة إلى تأصيل معتدل يبني خطابنا على أساس القرآن والسنّة لفظاً وأسلوباً، فتكون مصطلحاتنا ومفاهيمنا وأدبيّاتنا قرآنيّة، فهذا أسلم، بل إنّه أجلى في تعزيز الهويّة الإسلاميّة. على المستوى الشّخصي، لا أتفاعل كثيراً مع الألقاب المستحدثة مما لا أصل له في القرآن والسنّة؛ حتى ما لا يثير جدلاً أو ليس فيه نوع شبهة، ومن ذلك ما يتردّد في بعض المواضع -ولا سيّما بعض هيئات العزاء- من وصف الإمام الصّادق (عليه السّلام) بـ(شيخ الأئمّة)، أو ما اشتهر من وصف الإمام الرّضا (عليه السّلام) بـ(السّلطان)، وكلاهما ليسا من الألقاب الواردة في الرّوايات، ولا أقول إنّ فيهما إشكالاً واضحاً، وإنّما صارت النّفس تنفر من المستحدثات، فقليلٌ تعرفه خيرٌ من كثير يختلط عليك فيه غثُّه وسمينُه.
ومن هذا الباب ما قرأتُه في خطابٍ جاء بعد القصف الإيرانيّ للكيان الصّهيونيّ، فجاء فيه تمجيداً للعمليّة: (نباهي بالأكفّ التي جنت عنباً، وسلمت تلك الأقدام التي عَصَرتْ منه خمراً.. إذا كان هذا خمراً، فإنّه شرابٌ طهورٌ، فهؤلاء الأعزّاء قطفوا العنب وعُصِر بهذه الأيدي، وبهذا الشراب الطّهور يلتذّ المجتمع، وبه قضت غزّة العزيزة ليلتها في رغدٍ واستقرارٍ وهناء!)، ولا أريد القول بأنّ في المقام إشكالاً شرعيّاً، ولا أريد الخوض في جدليّات اللّغة والعُرف، بل أريد القول: انظر إلى أيّ حدٍّ نحنُ أسرى لخطابٍ قديم، أكل الدّهر عليه وشرب، لا يناسِبُ فئاتٍ وشعوباً كثيرةً لا تعيش في بعض الفضاءات الخاصّة التي يعيش فيها أصحاب هذا الخطاب، ولذلك لا زلنا عاجزين عن مخاطبة العالَم الإسلاميّ بلسان يكون لنا زَيْناً، فلا زلنا نخاطب النّاس بسليقة فئةٍ خاصّةٍ، ثم نزعم أنّ إسلامنا عالميٌّ، وحركتنا عالميّة، ثمّ نقوم بتصدير خطابٍ لولا اللّتيا والتي غفا في بعض أزقّة التاريخ.
BY مصباح الهداية
Share with your friend now:
tgoop.com/mesbah_qom/1127