Warning: Undefined array key 0 in /var/www/tgoop/function.php on line 65

Warning: Trying to access array offset on value of type null in /var/www/tgoop/function.php on line 65
6014 - Telegram Web
Telegram Web
الرواية المثالية (قصة قصيرة)

هل كان (الأستاذ) جمال موهوبا حقا؟
ليس عن موهبته في مهنته أسأل؛ فالحقيقة أنه لا يملك مهنة محددة!
لقب أستاذ الذي كان يصر أن يسبق اسمه ويغضب إذا انتُزع منه؛ لم يكن لأنه يعمل أستاذا في جامعة أو مدرسة أو حتى حضانة لقد كان يصر على تعريف نفسه دائما بهذا اللقب بعد ذلك المقال اليتيم الذي نشرته تلك الجريدة المغمورة وقرر بعده أنه صار من أهل الفكر والقلم
صار (الأستاذ) جمال
لكن هل كان موهوبا حقا؟
الحقيقة أن الإجابة بالنفي أو التأكيد تعتبر صعبة جدا في مجاله خصوصا أنه لم يختبر قط اختبارا حقيقيا يجعلك تقيمه من خلال كتاباته التي كانت تعيش معه وحيدة في شقته التي تبدو كأنها مقبرةٌ للأحلام المؤجلة والأوراق المنسية.
الكتب والكراريس المهترئة تتكدس في كل زاوية من منزله كشواهد قبورٍ لأفكارٍ لم ترَ النور
فناجين القهوة الباردة تتراص على سطح مكتبه المترب لترسم لوحة سيرالية لا تلخصها إلا كلمة الإهمال وعدم الاكتراث

جمال لم يكن شخصا سيئا بل هو أقرب للاحترام بشكل عام رغم بطالته المقنعة
هو في الحقيقة كان عاطلا عن العمل لكنه لا يعترف بذلك أبدا
أنا أستاذ... مفكر.. أديب.. صاحب قلم
من أين ينفق؟
لا أحد يدري.
ربما من بقايا ميراث قديم وهو عموما لا تظهر عليه علامات التبذير ونحافته الشديدة وعظام وجهه الناتئة تبين أنه الطعام والشراب لن يشكلا عبئا على ميزانيته
مشكلته جمال الكبرى كانت في إجابة سؤالنا الأول
نعم لقد كان موهوبا بل صاحب موهبة استثنائية
لكن كما قلت لك ليست موهبة الكتابة أعني!
إنها موهبة أخرى ربما لو استغلها في الكتابة لكان أكثر نجاحا
كانت لجمال قدرة عجيبة على نسج رواياتٍ بديلة لكل موقفٍ مُحرج أو خطأ يقترفه أو تقصير يرتكبه
رواياتٍ تُبرئ ساحته دائماً وتُلقي باللوم على أي شيء آخر...
الكون..
الظروف..
سوء الطالع..
أو حتى الهواء الملوث الذي يُفسد مزاجه.

ذات ظهيرةٍ صيفية لزجة كان لدى جمال موعد مع "الحاج عرفان"
والحاج عرفان رجل أعمال ثري قرر فجأة بغير سبب مفهوم أن يستثمر بعضاً من أمواله التي يبدو أنه لا يعرف كيف ينفقها فقرر أن يفتتح دار نشر
ربما كان ذلك لاستكمال وجاهة ما.. أو إظهار صورة ثقافية أنيقة تتآزر مع ثروته لتعطي سمعة يحتاج إليها
أياً كان السبب فلقد أدى لذلك الموعد مع الأستاذ جمال
لقد سمع "الحاج عرفان" عن عبقرية الأستاذ جمال (غالبا من الأستاذ جمال نفسه، عبر صديق مشترك تم تلقينه جيداً!)،
أبدى الحج عرفان استعداداً مبدئياً لنشر روايته الأولى التي كانت لا تزال مجرد فكرةٍ ضبابية في رأس صاحبنا.
في ذلك المطعم الفاخر الذي لا يقدر جمال على ثمن بعض المقبلات فيه جلس الحج عرفان ينتظر
ساعة مضت
والثانية
والثالثة
تأخر "الأستاذ جمال" عن الموعد ثلاث ساعاتٍ كاملة
لم يكن السبب حادثاً مرورياً مروعاً أو وعكة مفاجأة
فقط استيقظ جمال متأخراً
بعد ذلك قضى ساعةً كاملة يتأمل السقف ويتساءل عن جدوى الحياة
ثم ساعة أخرى يبحث عن قميصه "المكوي الوحيد" الذي اكتشف فجأة أنه غير نظيف
ثم نصف ساعة أخرى في جدالٍ عقيم مع سائق التاكسي حول تعريفة العداد.

حين وصل أخيراً إلى المطعم الذي اختاره "الحاج عرفان" والذي كان قد بدأ بالفعل في تناول طبق المقبلات الرئيسي ووجهه يكاد ينفجر من الغيظ وقد تحول إلى بركانٍ من الصبر النافد والغضب المكتوم.

لكن "الأستاذ جمال" لم يرتبك.
موهوب هو كما أخبرتك
بثبات انفعالي استدعى إلى ذهنه جعبة المبررات وأخرج منها أحدث إصدار، مُطعّماً ببعض التنهدات المُتقنة ودمعتين كاذبتين كادتا أن تنهمرا:
"يا حاج عرفان، لن تُصدق ما مررتُ به! لقد تعرضتُ لسلسلةٍ من النحس المتتالي الذي لا يُصيب عادة إلا المبدعين!
لقد تعطل المنبه، وانقطعت المياه، واحترق قميصي المفضل، وسائق التاكسي كان يقود بسرعة السلحفاة المصابة بالروماتيزم...".
استرسل جمال في التفاصيل، مضيفاً بعض "الكوارث" الصغيرة على الطريق كازدحام الطرق وإصلاحات في بعض الكباري وإشارة مرور حمراء استمرت لدقائق تبدو كالأبدية.
الكون كله بدا يتآمر ليحول بيننا وبين هذا اللقاء المنتظر يا حج عرفان
هل صدقه عرفان؟
ربما..
وربما أراد أن يصدق فهكذا حال العباقرة المثقفين تعاكسهم الظروف
وما أدراك أنت يا عرفان بالثقافة وصعوباتها؟
يبدو من صدق لهجة الأستاذ جمال أن الأمر فعلا حقيقي وأن الظروف تعاكس المثقفين الأفذاذ
هكذا أقنع نفسه بل وقد بدأ يتعاطف ويشفق على جمال من قسوة ظروفه واليوم الصعب الذي مرّ به
هذا الصدق الظاهر يصعب ألا يتقبل
لكن كيف أجاد جمال تلك القدرة لهذه الدرجة
في البدء كان جمال يعلم في قرارة نفسه أنه يُبالغ
4👍1
يُضخّم
يختلق.
لكن مع تكرار هذه "الروايات" في مواقف مختلفة، ومع سهولة تصديق البعض لها (أو تظاهرهم بالتصديق ترفعاً عن الجدال)، بدأ شيءٌ غريب يحدث في عقله الباطن.
لقد بدأت تلك الروايات تتسلل إلى قناعاته وتُصبح جزءاً من شخصيته
لم يعد يرى نفسه أبدا مُهملاً أو مُقصراً،
لقد صار يرى نفسه دائما في صورة ذلك الإنسان المرهف الحسّ الذي تتربص به الظروف وتُحاربه الأقدار.

لم يعد يشعر بوخز الضمير حين يُخلف وعداً، أو يُهمل واجباً، أو يجرح شعوراً.

دائماً هناك "رواية مثالية" جاهزة، تُفسر كل شيء وتُبرر كل فعل.
حين كسر مزهرية نادرة كانت تخص جدته نظر إلى شظاياها المتناثرة وقال بحزنٍ مصطنع: "يا لهذه الأرضية المائلة! يبدو أنها صُممت خصيصاً لإسقاط الأشياء الثمينة!".
وحين ضُبط يوما يتلصص على فتاة تسكن البناية المجاورة ويحاول مضايقتها؛ ظل يؤكد أنها هي المتسببة في ذلك بسبب ملابسها وإشاراتها التي لا تغيب عن ذكي مثله
حتى حين أضاع مخطوطة كان قد استأمنه عليها صديق عمره الكاتب؛ لم يعتذر، بل قال بحزنٍ مصطنع: "يا لصعوبة الحفاظ على الأوراق الثمينة في هذا الزمن الذي يعجّ بالتيارات الهوائية المفاجئة!". وهكذا بدأ يُصدّق ذلك حقاً، بل وكاد أن يكتب قصيدة عن "الأوراق المتطايرة وأحزان المبدعين".
سنواتٍ طويلة عاشها جمال في ذلك العالم الموازي الذي صنعه بخياله
عالمٌ لا أخطاء فيه
لا مسؤولية
ولا ندم.
فقط هو... والظروف اللعينة التي هي دائماً خارجة عنه
"الآخرون" دائما هم السبب
الظروف هي أصل كل الكوارث

مع الوقت بدأ أصدقاؤه القلائل في الانسحاب بهدوء
ومن يتحمل كل هذا القدر من الأخطاء التي لا يتبعها قط أدنى اعتراف بخطأ؟!

الفرص الحقيقية أصبحت نادرة كابتسامةٍ مبتهجة على وجه مكتئب أو كثناء ومجاملة تخرج من فم فظ غليظ
الكل صار يعرف أن جمال محترف إضاعة فرص
طبعا هو كان دائماً يجد "رواية" تُفسر كل ذلك
"إنهم لا يفهمون عمق معاناتي!"
"هذا المجتمع السطحي لا يُقدّر الأرواح المرهفة!".
الحج عرفان كان على ما يبدو آخر الفرص
المشكلة أن الأمر تكرر
التأخر وعدم تنفيذ أي وعد بتسليم الرواية أو حتى جزء منها كل ذلك كان السمة الواضحة في علاقتهما
بل هي السمة التي تميز شخصية جمال تحديدا
هو لا يجيد إلا التأخر والتقصير والخطأ ثم اختلاق الروايات التي تبرر ذلك
واستمر تدفق المعاذير لشهور حتى جاء ذلك اليوم.
كان "الأستاذ جمال" يجلس في مقهاه المعتاد، ينتظر "الحاج عرفان" لمناقشة "التفاصيل النهائية" لعقد الرواية (التي لا يعلم عرفان أنه لم يكتب منها سطراً واحداً بعد).
هذه المرة تركه الحج عرفان يحدد الزمان والمكان تسهيلا عليه وحتى يتسنى له الوصول بسهولة لذلك اختار جمال مقهاه الأثير الذي يجاور بيته
رغم كل ذلك تأخر كعادته وإن لم يصل تأخره لساعات كالمرات السابقة
حين وصل لم يجد "الحاج عرفان"
تعجب
الرجل منضبط في مواعيده جدا وكأنه عقرب الدقائق في ساعة بيج بين الشهيرة
كيف تأخر هذه المرة؟
توجس الأستاذ محمود وسأل النادل هل سأل عليّ أحد؟
لا يأ أوستاذ جمال ما فيش حد سأل عليك
جلس جمال مرددا : الغايب حجته معاه..
مرت ساعة..
ثم التالية.
بدأ جمال يشعر بالضيق
في الساعة الثالثة استشاط غضبا
"يا له من رجلٍ لا يحترم المواعيد!"
تمتم لنفسه.
"أكيد المؤامرة المعتادة تستمر على مستقبلي!".

وبينما هو يُعدّ في ذهنه خطوط "رواية" غالبا لن يكتبها سيكون موضوعها عن إهمال رجال الأعمال للمثقفين وتعاليهم على أصحاب المواهب الحقيقية أمثاله إذ اقترب منه النادل، وبيده ورقة صغيرة مطوية.
ناولها لـ"الأستاذ جمال" قائلاً: "هذه تركها لك رجل وقال أنها من الحاج عرفان،".

فتح "الأستاذ جمال" الورقة بلهفةٍ مشوبةٍ بقلق حذر وبدأ يقرأ

"عزيزي الأستاذ جمال،
أعتذر عن عدم تمكني من الحضور اليوم. لقد تعرضتُ لسلسلةٍ من "الظروف القاهرة" التي لا تُصيب إلا من يُحاول مساعدة الآخرين.
لقد تعطل المنبه، وانقطعت المياه عن الفيلا منذ الصباح! وكذلك الكهرباء وهذا لم يحدث من قبل
أما سائق سيارتي فقد أصيب بمغصٍ كلوي مفاجئ في منتصف الطريق
ثم هاجمتني من كلاب الشوارع واضطررت للهرب منهم عبر ضواحي القاهرة لأفاجأ بمجموعة من البلطجية تثبتني وتأخذ كل ما كان معي من مال أعددته لك كمقدم تعاقد
يبدو أنه النحس الذي طالما حدثتني عنه قد انتقلت عدواه إلي بسبب تكرار لقاءاتنا

أو ربما كنتُ فقط أشاهد فيلماً من أفلامك الخيالية وأنا لم أزل الآن نائما لم أستيقظ!
على أية حال، يبدو أن "الكون" لا يريد لنا أن نلتقي اليوم كما لم يرد أن تأتي في موعدك بالأمس
أو ربما تحتم (الظروف) عليّ أن أبحث عن كاتبٍ تكون "رواياته" أقل إرهاقاً لعقلي وقدرتي على التصديق
كاتب لا يتآمر الكون كله ضده أو أقل جلبا للـ(نحس) الذي أخبرتني أنه يلازمك
6
سأتركك الآن لتُكمل روايتك عن "المؤامرة الكونية ضد المبدعين" فلربما تجد ناشراً آخر يُصدّقها...
أو ربما لا.
مع خالص تمنياتي لك بالتوفيق في معركتك الدائمة مع (الظروف) (وقليلاً من الحظ في إيجاد منبهٍ يعمل فما أقل تلك المنبهات اليوم
محبكم المخلص/ الحاج عرفان

جلس "الأستاذ جمال" والورقة ترتعش في يده، ووجهه يتلون بألوان الطيف كلها

للمرة الأولى منذ زمنٍ طويل، لم يجد في جعبته "رواية" جاهزة.
شعر بذلك الفراغ الذي كان يهرب منه دائماً، وذلك الصمت الذي كان يخشاه، مع لسعةٍ حادة من لزوجة بضاعته التي رُدت إليه..

"الحاج عرفان" يسخر منه بوضوح صارخ
ويستخدم ببراعة نفس منطقه السخيف
نفس أسلوبه اللزج
نفس مبرراته الواهية
وليوجه له بكل ذلك صفعةً قاسية.
لأول مرة يشعر أنه قد أُسقط في يده
بما سيجيب هذه المرة وهذه أعذاره ومبرراته يحفظها جيدا
هل يفكر حقا في الاعتذار؟!
ماذا؟
ما هذه الكلمة أصلا؟
آسف..
أنا غلطان.. حقك عليّ..
ما هذه الألفاظ الغريبة التي لم يتعودها؟
مستحيل طبعا..
اعتذار = اعتراف
يعني أنه مخطيء وليس الآخرون هم المتسببون في فشله وعجزه وتقصيره
هذه مفردات رواية خيالية
وهو لا يحب هذه النوعية من روايات الفانتازيا
هو يحب أن تكون الرواية دائما مثالية لا يشوبها خلل أو خطأ إلا من الشرير
والشرير قطعا في روايته ليس هو
غالبا هو هذا الكاتب الآخر الذي أشار له الحج عرفان في رسالته
ألم يتحدث عن استبداله بكاتب آخر تكون "رواياته" أقل إرهاقاً لقدرته على التصديق و لا يتآمر الكون كله ضده وأقل جلبا للنحس
بلى.... بلى..
الآن قد وجدتها
ها هي المؤامرة تتضح خيوطها القذرة من جديد
الحج عرفان الذي لم ينل حظا من الثقافة ولا يمكنه أن يكتب رسالة بهذه السلاسة واللغة المنضبطة؛ يقينا قد عثر على كاتب منافس وهو الذي أقنعه أن يتخلى عني بل وكتب له هذه الرسالة الساخرة الحقيرة..
نعم... هذا ما حدث
تنفس "جمال" الصعداء واعتدل في مجلسه واتسعت ابتسامته لتبدي أسنانه الصفراء النخرة
الآن فهم كل شيء وتلاشت الأفكار الدخيلة من رأسه
والفهم مريح جدا يا صديقي
تماما كما الأعذار والمبررات
وكما تتميز تلك الرواية التي يجيدها جمال ولا يجيد غيرها!
الرواية المثالية..
5
في ذلك الموقف العصيب كانت الريحُ تحمل إليهم أحياناً عبقاً خفيفاً من نعيمٍ لا يطالونه، وأحياناً أخرى، وهجاً حارقاً من جحيمٍ يرتعدون منه.
ها هم يقفون هناك، على ذلك السور الشاهق الذي يفصل بين عالمين، لا إلى هنا ينتمون، ولا إلى هنالك بعد ينتسبون.
حائرون هم..
وجوههم تحمل مزيجاً غريباً من الأمل والخوف وقلوبهم تتأرجح بشدة كبندول ساعةٍ لا يستقر بين الطمع في رحمةٍ واسعة والخوف من عدلٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها..
من شرفتهم العالية تلك؛ يرون المشهدين بوضوحٍ لا تخطئه عين.
عن يمينهم، تمتد بساتين مذهلة تضيء بأنوار باهرة تنافس أنوار وجوه باسمة ناضرة يسمعون ضحكات أهلها الصافية، ويرون محياهم الذي يعكس سكينةً لا توصف
عندئذ يُسارعون بإلقاء السلام، بلهفة المشتاق الذي يرى وطنه من بعيد ولا يستطيع الوصول إليه
"...سَلَامٌ عَلَيْكُمْ...".
يُلقون التحية وثمة حزن ممزوج بأمل وألم
حزن على كونهم لم يدخلوها لكن خيطاً لا يزال يربطهم بذلك النعيم
خيط من الطمع في رحمة تسبق غضب مولاهم
ثم، حين تُصرف أبصارهم قسراً، أو ربما بفضولٍ مرتعب، نحو الجهة الأخرى، يرون تلك الحفرة السحيقة التي تتلظى بنيرانٍ هائلة لم يسبق لهم أن تخيلوا معشارها
ثم يلمحون وجوها يعرفونها
وجوه سوداء كالحة تتعالى من حناجر أصحابها صرخاتٍ تُفتت الصخر
يشعرون بوهج الجحيم يلفح وجوههم حتى على هذا البعد والارتفاع
حينئذ، تنتفض قلوبهم فزعاً، وترتفع أصواتهم بدعاءٍ ضارع يمزق سكون الموقف:
"...رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".

موقف عصيب هو كما ترى!
أن تقف على الحد الفاصل بين السعادة الأبدية والشقاء المقيم، لا تدري إلى أيهما المصير.
أن ترى النعيم بعينيك وتشتهيه بكل جوارحك، وترى العذاب وتخشاه بكل ذرةٍ في كيانك، وتظل معلقاً في تلك المنطقة الرمادية تنتظر كلمة الفصل التي تحدد مصيرك
ترى كم سيمكثون؟
يوما أو بعض يوم؟!
أم سنة أم ألف سنة... الوقت له يومئذ حسابات أخرى
إنهم أهل الأعراف
قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، كما رجّح كثير من المفسرين؛ فكان جزاؤهم هذا المشهد الصعب من الحيرة والقلق الذي قيل أنه من جنس عملهم وترددهم وتذبذبهم في الدنيا.

هذا المشهد يا صديقي هو، في تصوري، قلب سورة "الأعراف" النابض والذي حملت اسمه ..
هو المدخل الذي يُلخص رسالتها الجوهرية.

هذه السورة المهيبة، التي تأتي بعد زلزال سورة "الأنعام" العظيمة التي أسست لكل ما يرسخ تعظيم الله في القلوب
تأتي سورة الأعراف بعدها لتشير إلى معنى "الاختيار الحاسم".
سورةٌ تقف بك على هذه "الأسوار" الفاصلة في حياتك الدنيا لتؤكد لك بوضوحٍ لا لبس فيه: لا مكان هنا للتردد الطويل، ولا مجال لأنصاف الحلول والوقوف في المنتصف بين الحق والباطل فالحياة رحلةٌ قصيرة، والطرق أمامك واضحة، وعليك أن تختار، وأن تحسم أمرك، وأن تسلك طريقك بقوةٍ ويقين، قبل أن تجد نفسك واقفاً على "أعراف" الآخرة، تتأرجح بين أملٍ ضئيل وخوفٍ عظيم.

حين تُقلّب صفحات المصحف لتصل إلى سورة الأعراف ستشعر بهيبةٍ خاصة وكأنك تدخل إلى ساحة معركةٍ أزلية تتصارع فيها قوى النور والظلام، والإيمان والكفر، والثبات والتردد.
واحدةٌ من "السبع الطوال"؛ تلك الجواهر التي أُعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم مكان التوراة، ومن أخذها فهو "حَبْرٌ" أي عالمٌ راسخ، كأنما حاز مفاتيح الفهم العميق لدين الله كما صح ذلك عن رسوله صلى الله عليه وسلم
ولا عجب، فكثافة معاني السبع الطوال وعمق تأثيرها لمن فهمه ووعاه يبين سبب هذه المكانة
أتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ إحدى السبع الطوال كاملةً في صلاة المغرب
أتدري ما هي؟!
إنها سورة الأعراف يا عزيزي
ترى أي رسالة تلك التي أراد أن يوصلها النبي باختياره هذه السورة ليجعلها في صلاة المغرب؟!
هذه السورة الطويلة، بما تحمله من قصصٍ ومواعظ وأحكام، يختارها النبي ليقرأها في صلاةٍ يُعرف عنها قصر القراءة نسبياً،ة!

لعل في ذلك إشارةً إلى حاجتنا الماسة لرسالتها في كل حين، خصوصا في ذلك الوقت الذي يلتقي فيه النهار بالليل، وتتهيأ فيه النفس للقاء ربها في موتة صغرى مؤقتة بقلبٍ قد حسم أمره واختار طريقه.

السورة تبدأ بذلك التوجيه الإلهي الحاسم والمباشر وكأنه نداءٌ من السماء يخترق حُجب الغفلة:
(كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ).
لا للحرج يا محمد
لا للضيق أيها المؤمن
لا للشك أيها الإنسان!
خيارك الوحيد هو يقينٌ كالجبال الرواسي حين يأتي الأمر إلى هذا الكتاب المنزل وهذه الشريعة التي يحملها
خيارك هو اتباعٌ كاملٌ، لا تردد فيه ولا تلكؤ، لما جاء فيه من هدى ونور:
4👍2
(اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ).
هذا هو خيارك الأول والأوحد الذي تتفرع عنه كل الاختيارات الأخرى
فهل ستتبع ما أنزل ربك، أم ستتبع أهواءك وأهواء أولياء الشيطان؟
ثم يأتي ذكر الميزان
ذلك القسطاس المستقيم الذي لا يظلم مثقال ذرة، ليُحدد مصير هذا الاختيار: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ).
الأمر واضح كما ترى والخيار محدد
إما فلاحٌ أبديٌّ لمن ثقلت موازينه بالإيمان والعمل الصالح، وإما خسارةٌ ما بعدها خسارة لمن خفّت موازينه بظلمه لنفسه وكفره بربه.
لا مجال إذاً لمنطقةٍ رماديةٍ دائمة، فالنهاية إما إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نارٍ وقودها الناس والحجارة.

ولكي تُجلي لنا السورة طبيعة هذا الصراع وهذا الاختيار = تأخذنا في رحلةٍ عبر الزمان لتستعرض نماذج هذه الاختيارات

رحلة آسرة ومُزلزلة، نُشاهد فيها كيف دارت رحى المعركة بين الحق والباطل منذ فجر الخليقة.
تبدأ السورة بالقصة الأم، قصة أبينا آدم عليه السلام، وكيف وسوس له الشيطان، ذلك العدو الأول، ليُخرجه من الجنة.
ثم تستعرض أمامنا موكب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم واحداً تلو الآخر
كلٌّ منهم يحمل نفس الرسالة، ويواجه نفس الجحود والعناد النابع من داء عضال اشتركوا فيه جميعا

"الكِبر"ذلك الداء الذي يكمن خلف كل ضلالة، وذلك الخيط الأسود الذي يربط بين كل قصص الهالكين في هذه السورة.

إن من الملاحظات المهمة جدا والمتكررة في سورة الأعراف الحديث عن الكبر وأهله
فيما يزيد عن عشرة مواضع تقريبا حدثنا الله عن الكبر وحذر من عاقبته ومآله وبين طريقة المتكبرين وأسلوب تفكيرهم وانحراف نظرتهم وتفكيرهم
بداية من إبليس حين سأله الله عن سبب امتناعه عن السجود رغم العلة المركزية التي لا يملك معها مخلوق أن يرفض
"إذ أمرتك"
هكذا بينها الله في خاتمة السؤال "ما منعك ألا تسجد"
الله يأمرك
وأنت تعرفه وتدرك جلاله وعظمته فأنت كنت تعبده يوما مع الملائكة
ورغم ذلك تأبي أن تمتثل!
إنه الكبر في أبشع صوره
"أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِی مِن نَّارࣲ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِینࣲ"
هكذا كانت الإجابة والقياس الفاسد الذي جسد تلك المشاعر الحقيرة
مشاعر الكبر
وهذه هي..
أنا خير ..
رؤية النفس
الشعور بالخيرية والأفضلية
الإحساس بالغرور المقيت
عندئذ تبدأ رحلة الهبوط والصغار التي ترتبط بالكبر تصريحا
"قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا یَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِیهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِینَ"
هنا كانت العقوبة والمعاملة بنقيض القصد
الصغار في مقابلة الاستكبار
والهبوط في مواجهة العلو
فَمَا یَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِیهَا
تلك هي القاعدة
هنالك لا مكان للمتكبرين
الجنة دار المتواضعين الهينين اللينين
هاهنا ليس ثمة مكان للكبر
الجنة ليست دارا للمتكبرين
ثم تستمر سورة الأعراف في بيان عاقبة من سار على منهج إبليس وحسم اختياره..

"وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"[الأَعۡرَافِ: ٣٦]

" إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ٰ⁠بُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُجۡرِمِینَ" [الأَعۡرَافِ: ٤٠]
معنى آخر للكبر تظهره هاتين الآيتين
الاستكبار عن الآيات
التعالي على البينات الواضحات
بطر الحق ورده حين يأتي كما صح عن النبي حين عرّف الكبر
" بطر الحق وغمط الناس"
والمصير واضح
نار وطرد ومنع من أي فرصة لدخول الجنة إلا في حالة واحدة
أن يدخل حبل سميك غليظ إلى ثقب إبرة
حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ
الأمر مستحيل كما ترى
وقد حسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"

و أهل الأعراف الذين سميت السورة باسمهم يرون تلك الأمارات بوضوح يوم القيامة حين يتعرفون على سيما أناس كانوا يعرفونهم في الدنيا
هاهم يصطرخون في النار
لكن نداء أهل الأعراف قد بلغهم
" وَنَادَىٰۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡأَعۡرَافِ رِجَالࣰا یَعۡرِفُونَهُم بِسِیمَىٰهُمۡ قَالُوا۟ مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنكُمۡ جَمۡعُكُمۡ وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ"
تأمل الصفة التي تذكرهم بها أهل الأعراف الكبر مرة أخرى!
2
لكنه هاهنا كبر من نوع آخر
إنه التعريف النبوي الثاني
"غمط الناس".
التعالي على الخلق وازدراؤهم
" أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمۡتُمۡ لَا یَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحۡمَةٍۚ"
الإشارة هنا للجهة الأخرى
لأهل الجنة
الذي كان الأولون يستضعفونهم ويستعلون عليهم ويغمطونهم
الآن تأتيهم البشرى
"ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ لَا خَوۡفٌ عَلَیۡكُمۡ وَلَاۤ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ"
ولقد كان هذا دأب جل أعداء الأنبياء والصفة المشتركة التي أظهرتها السورة في أغلب قصصها
الملأ المستكبرون
هذا ما أطلق على ثمود قوم صالح عليه السلام
" قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِۦ لِلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُوا۟ لِمَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُمۡ أَتَعۡلَمُونَ أَنَّ صَـٰلِحࣰا مُّرۡسَلࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قَالُوۤا۟ إِنَّا بِمَاۤ أُرۡسِلَ بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ"
واستمر الوصف مطردا
" قَالَ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوۤا۟ إِنَّا بِٱلَّذِیۤ ءَامَنتُم بِهِۦ كَـٰفِرُونَ"

وهو ذات ما قيل عن أهل مدين في مواجعة سيدنا شعيب عليه السلام
" قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ یَـٰشُعَیۡبُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَكَ مِن قَرۡیَتِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَـٰرِهِینَ"
وهو نفس ما وصف به فرعون وآله وكان ما قابلوا به آيات الله
" فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَایَـٰتࣲ مُّفَصَّلَـٰتࣲ فَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ قَوۡمࣰا مُّجۡرِمِینَ"
مشترك لفظي واحد لا يتغير.. "استكبروا"
مشترك يبين أنهم قد حسموا الأمر واختاروا الكبر

وليس شرطا أن يأتي الكبر بلفظه بل لقد فهم ضمن سياق ما فعلوه وقابلوا به دعوة الأنبياء
أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَاۤءَكُمۡ ذِكۡرࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلࣲ مِّنكُمۡ لِیُنذِرَكُمۡۚ
تكررت تلك الجملة التي تبين أصل الكبر في رفض الأقوام لأنبيائهم!
جملة تشي بما يعتمل في الصدور..
مجرد رجل يذكرنا ويعظنا
لم تقبل القلوب المتكبرة ذلك
لذلك قد لا تجد خطيئة بعد الكفر بالله والشرك به أشد بغضا في قلوب الخلائق كالكبر وأهل الكبر
أولئك الذين تقطر حروفهم ومواقفهم بالعلو وتنضح نظراتهم واختياراتهم بالغرور والشعور بالفضل ورؤية النفس
مَن لسان حالهم دوما: أيها الناس قد أكرمكم الله بوجودنا بينكم وامتنَّ عليكم بأعظم نعمه حين وُلدتم في عصر يتشرف أن عشنا فيه!
قوم لا ينقصهم إلا أن يصرحوا باستحقاقهم عبودية غيرهم ويطالبوا الخلق ألا يفتروا عن التسبيح ليلا ونهارا بحمدهم
حقا لست أدري والله كيف يطيق الواحد من هؤلاء نفسه فضلا على أن يطيقه من حوله

ثم تبدأ سورة الأعراف في ذكر عقوبات الكبر العاجلة وأولها الطبع على القلب!

ذلك القلب القاسي الغليظ الذي قُدَّ من صخور الكبر وكُسي بِرَانِ العلو وأحاطت به أسوار الغرور
مثل هذا القلب يُطبع عليه فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ولا يتلذذ بنعمة الأخوة والمحبة
والأخطر أنه يُصرف عن طريق الحق

"سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَایَـٰتِیَ ٱلَّذِینَ یَتَكَبَّرُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن یَرَوۡا۟ كُلَّ ءَایَةࣲ لَّا یُؤۡمِنُوا۟ بِهَا وَإِن یَرَوۡا۟ سَبِیلَ ٱلرُّشۡدِ لَا یَتَّخِذُوهُ سَبِیلࣰا وَإِن یَرَوۡا۟ سَبِیلَ ٱلۡغَیِّ یَتَّخِذُوهُ سَبِیلࣰاۚ"
يالها من عقوبة
أن يصرف الله المتكبر عن طريقه
أن تعمى عينه عن رؤية الحقائق الجلية
أن يختار دوما سبل الشر ويرفض باستمرار ولوج أي سبيل خير ورشد..
وأن يمسخ الله قلبه في الدنيا

فإن أصر واستكمل تسلق تلك الأوهام التي اغتر بها فإنه لا يلبث إلا ويهوي في يوم يُحشر فيه أمثاله كالذر يطؤهم الناس بأقدامهم!
هكذا وصفهم النبي ﷺ في ذلك اليوم العصيب
يُحشَرُ المتكبِّرون يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجالِ يغشاهم الذُّلُّ من كلِّ مكانٍ"

أولئك الذين ملئوا الأرض كبرا وعلوا ها هم قد صاروا في حجم الحشرات وذلة هوام الأرض
بل أشد هوانا
ومن يهن الله فما له من مكرم

ثم يكمل النبي ﷺ حديثه عن إيلامهم وإذلالهم جزاءً وفاقا على استكبارهم الأول
"يُساقون إلى سجنٍ في جهنَّمَ يُقالُ له : بُولَسُ تعلُوهم نارُ الأنيارِ يُسقَوْن من عُصارةِ أهلِ النَّارِ طِينةَ الخَبالِ"
أي ذلة وأي هوان!
سقياهم عصارة إخوانهم المستكبرين وعرق أوليائهم المتعالين
فليذوقوه إذا في هذا اليوم فلطالما ذاقوا طعما آخر لم يقبلوا التلذذ بغيره
طعم أنفسهم
أما ما يريده الله ويحبه فشيء مختلف تماما
إنه ما اختار أن يختم به هذه السورة العظيمة ممتزجا بعلامته العملية
سجدة
سجدة ختمت بها السورة وتبين فيها صفة من هم عند ربك
ومن يحبهم ويرتضيهم
{ إِنَّ ٱلَّذِینَ عِندَ رَبِّكَ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَیُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ یَسۡجُدُونَ ۩ }
1👏1
لكن السورة لا تكتفي بعرض نماذج الكبر الصريح، بل تُقدم لنا نموذجاً آخر، أكثر تعقيداً وإثارةً للتأمل
نموذج يُحذرنا من أن العلم والمعرفة قد لا تكون عاصماً من السقوط إذا لم يُصاحبها تواضعٌ وخشية
إنه بلعام بن باعوراء وكل من تنطبق عليه الصفات الواردة في الآيات
ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته، علّمه اسمه الأعظم كما قيل
كان مجاب الدعوة
لكنه – ويا للمأساة – اتبع هواه، وانسلخ من تلك الآيات، وأخلد إلى الأرض، فكان مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175-176].

تشبيهٍ قرآنيٍّ بليغٍ ومُزلزل!
أن يتحول العالم الذي أوتي آيات الله إلى كلبٍ يلهث وراء الدنيا وحطامها الفاني!
لكن ما الذي أوصله إلى هذا الدرك الأسفل؟ إنها ببساطة اختيارات آخر تم حسمها
"اتباع الهوى" و "الإخلاد إلى الأرض".
حين يُصبح حب الدنيا والتعلق بزينتها هو الدافع والمحرك، وحين يُصبح الهوى هو المعبود المطاع من دون الله، فلا قيمة لعلمٍ ولا لمعرفة، بل قد يكون هذا العلم حجةً أكبر على صاحبه.
قصة بلعام هي صيحة تحذيرٍ لكل من أوتي علماً أو مكانة إياك والكبر، إياك واتباع الهوى، إياك والإخلاد إلى الأرض، فإن السقوط قد يكون مدوياً ومخزياً.

وفي مقابل هذه النماذج المظلمة التي اختارت الخيارات البائسة؛ تعرض السورة النماذج المقابلة التي حسمت أمرها ولم يكن في صدورها حرجا
نماذج النور والهدى
أولئك الذين اختاروا طريق الله ورسله، وثبتوا على الحق، وتحملوا الأذى، وسعوا في الإصلاح.
أبرز نماذج هم في السورة أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم ومعهم أتباعهم بإحسان من اختاروا خيارهم ومضوا على سبيلهم
في السورة ذكر اللأنبياء الكرام، نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى، ومن آمن معهم
أولئك الذين حسموا أمرهم، واختاروا طريق الحق، وتحملوا في سبيله الأذى والتكذيب، وثبتوا عليه حتى أتاهم نصر الله أو لقوا ربهم على ما عاشوا عليه.

إنهم الذين وصفتهم السورة بوصف جامع محكم
(والَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170].
تأمل الكلمة
"الْمُصْلِحِينَ"
الذين لم يكتفوا بصلاح أنفسهم بل سعوا في إصلاح مجتمعاتهم ونهوا عن المنكر، فاستحقوا ولاية الله ورضوانه ونجاته
درجة متقدمة جدا من حسم الاختيار وتحديد الوجهة جعلت منهم أصحاب بذل وسعي وجهد لإصلاح غيرهم
وهم مع سعيهم لهذا الإصلاح الذي يتخطاهم؛ لا ينسون أنفسهم ولمةا يتغافلون عن صلاحهم الشخصي فكانوا من الصالحين الذين ذكرتهم السورة أيضا..
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف: 196].

لكن بين هذين الفريقين؛ هنالك تلك المنطقة التي بدأنا بها حديثنا وحملت السورة اسمها
منطقة "الأعراف"
منطقة الحيارى والمذبذبين.

ولعل من أبرز تجليات هذه الحيرة وذلك التذبذب ما تعرضه السورة من قصة بني إسـ.ر.ائـ.يل.
أولئك الذين رأوا من آيات الله ما لم تره أمة غيرهم
فُلق لهم البحر، أُنجوا من فرعون وجنده، أُطعموا المن والسلوى وتفجـ.رت لهم الأعين من الأرض..
ثم ماذا؟!
بمجرد أن مروا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم، قالوا لنبيهم بوقاحة منقطعة النظير: (يَا مُوسَىٰ اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
وفي غيبة سيدنا موسى القصيرة لمناجاة ربه؛ صنعوا عجلاً جسداً له خوار وعبدوه من دون الله!
هذا التذبذب والانتقال السريع بين الإيمان والكفر..
بين رؤية الآيات وعبادة دليلٌ صارخ على عدم رسوخ الإيمان وعدم حسم الاختيار والوجهة الأمر الذي سيؤدي لا محالة إلى سهولة التأثر بالشبهات والشهوات.

وأوضح الأمثلة على ذلك التباين بين أصناف السورة الثلاثة والتي تفترق على أساس الاختيار والحسم = قصة "أصحاب السبت"
تلك القرية التي كانت حاضرة البحر يتعيشون على صيد الأسماك فكان الابتلاء في هذا الأمر تحديدا
لقد ابتلوا بأن تأتيهم الأسماك يوم السبت شُرّعاً ظاهرة سهلة المنال، وفي غير يوم السبت لا تأتيهم.
وليس شرطا أن عدم إتيان الأسماك يعني استحالة الصيد ولكن فقط سيكون الأمر بحاجة إلى بعض الجهد بينما في السبت سيكون الأمر سهلا في المتناول
1👏1
لكنه محرم
حُرم عليهم الصيد في ذلك اليوم الذي كان محل الاشتهاء وفي ذلك نموذجا لنوع متكرر من الاختبار
أن تكون المعصية سهلة في المتناول فيظهر القادر على كبح جماح نفسه ويتمايز الذي لا يفكر إلا في نيل شهوته
ولقد وقع ذلك التمايز بالفعل لكن ليس إلى فريقين كالعادة؛ فريق اعتدى وفريق اتقى
فريقٌ تحايل على أمر الله وفريقٌ لم يكتف بعدم الاعتداء ولكنه أيضا قام بواجبه في نهي المعتدين ونصحهم ودعوتهم..
وثمة فريق ثالث لم يحسم الأمر وليتم به النموذج المصغر لموقف الأعراف
هذا الفريق الثالث يظهر من لغة خطابه أنه لم يكن من المعتدين في السبت
لكنهم أيضاً لم ينهوا المعتدين
ويا ليتهم اكتفوا بتلك السلبية وتركوا من ينهى ويعظ يكمل مساره الإصلاحي بل حالوا تثبيطهم و قالوا للواعظين بتيئيس وتعويق : "...لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا...".
هنا كانت إجابة الحاسمين الذي اختاروا لأنفسهم أن يكون لهم دور في الإصلاح
" قَالُوا۟ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ"

وحين بينت سورة الأعراف نزول العذاب على المعتدين، ونجاة الناهين عن السوء سكت القرآن عن مصير هذا الفريق الثالث! ويا له من سكوتٍ يحمل كل المعاني المحتملة والتي أطال المفسرون في ذكرها فمنهم من قطع أنهم عذبوا مع من عذب ومُسخوا مع من مُسخ
ومنهم من ذكر أن أمرهم متروك إلى الله وأن هذا السكوت عنهم سكوت تحقير لهم كما حقروا أنفسهم بتخاذلهم وتثبيطهم
أيا كان ما وقع بهم فثمة وعيد مبطن لمن اختار تلك المنطقة الرمادية
أو إن شئت فقل لم يختر.. ولم يحسم

رسالة مطردة في السورة تبدأ قبل كل ذلك بكثير
تبدأ في مفتتح رحلة الإنسان على هذه الأرض
بل وقبل أن تطأ قدماه ترابها
تأخذك السورة إلى مشهدٍ تأسيسيٍّ عظيم، مشهد "الميثاق" في "عالم الذر":
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 172].
إنه العهد الأول والاختيار الفطري
ميثاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإقرار بربوبيته ووحدانيته.
هذا المشهد يُلقي بظلاله على كل قصص السورة، ليُبين لنا أن الكفر والشرك والضلال ليس هو الأصل في الإنسان، بل هو اختيار منحرف عن هذه الفطرة، ونقضٌ لهذا العهد. وأن كل رسولٍ يُبعث إنما يأتي ليُذكر الناس بهذا الميثاق، وليُعيدهم إلى نقاء الفطرة الأولى.
إن الاختيار الذي تطرحه سورة الأعراف ليس اختياراً من فراغ، بل هو اختيارٌ بين الوفاء بهذا العهد الأصلي، أو نقضه واتباع خطوات الشيطان.
بين التمسك بنور الفطرة، أو الانغماس في ظلمات الكبر والهوى.
وأمام كل هذه النماذج، وهذا الصراع المحتدم، تأتي التوجيهات القرآنية في السورة كأنها طوق نجاة
بل كأنها دليل المسافر في هذه الرحلة الحياتية المليئة بالمنعطفات
تأتي رسالة الأعراف صيحة مدوية: أن اختر طريقك بوضوح!
لا تكن من أهل الأعراف
لا ترضى بالمنطقة الرمادية، ولا تقف متفرجاً بينما تستطيع تقديم شيء ولو صغر
ولو كانت كلمة أو نصيحة أو تذكرة
ولا يكن في صدرك حرج من كتابك وتمسك به بقوة، كما أُمر بنو إسـ.ر.ائـ.يل في السورة:
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأعراف: 171]
قوة في الإيمان وقوة في الالتزام
قوة في العزيمة وفي اليقين
في الإصلاح والنصيحة
كن من المصلحين الذين لا يُضيع الله أجرهم لا من المثبطين المُعَوِّقين الذين قد يشملهم الهلاك مع الهالكين.
استغث بربك وتضرع إليه ليلهمك رشدك ويعينك على حسم اختيارك وسلوك سبيله "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [الأعراف: 55].
لا تتبع خطوات عدوك الأول والأخطر والذي أقسم على غوايتك منذ اللحظة الأولى حين نزع عن أبويك لباسهما ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما ولترتدي أنت لباسا آخر وجهتك إليه السورة
"...وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ..." [الأعراف: 26].

ولا تنسَ أبداً خطورة الكِبر، ذلك الداء العضال الذي كان سبب سقوط إبليس وهلاك الأمم التي تسننت بسنته في الكبر والجحود.
تواضع لله و تواضع لخلقه
اقبل الحق ممن جاء به، ولا تستكبر عن آيات الله، فـتصرف عنها
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].
2
وأيّ عقوبةٍ أشد من أن يُصرف المرء عن آيات ربه وعن طريق هدايته؟!
عقوبة عاجلها التمادي في هذا الكبر المانع عن أوضح معاني التواضع لله
السجود
ذلك المعنى الذي تختم به السورة، في أول سجدة بترتيب المصحف
تلك التي تُذكرنا بالنموذج الأعلى للعبودية الخالصة
عبودية الملائكة المقربين
(إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ۩).
مخلوقات لا تعرف الكبر ولا التردد أو التذبذب
خيارها المحسوم؛ تسبيحٍ دائم وسجودٍ خالص.
وكأن هذه الرسالة الختامية لتلك الرحلة المهيبة
رحلة الحسم والقرار
تلك التي تنتهي بذلك الفعل الذي يظهر خيارك المطلق
خيار السجود
خيار العبودية

الحلقة الثامنة من #قبل_أن_تتلو
13👍3
عودة للملخص اليومي لسور القرآن ووصلنا بفضل الله لسورة النبأ
6👍3
قناة د. محمد علي يوسف
Audio
ملخص معاني سورة النازعات
ملخص معاني سورة عبس
دون استئذان أو مقدمات تفاجئك أحيانا وخزةٌ حادةٌ تؤرق ذلك الجزء المنسي في نفسك
ذاكرتك
حنينك إلى الماضي
وخزة لا تؤلم لكنها أقرب إلى قرصة بعوضة ضئيلة لكنها قد توقظك من نوم عميق وتؤرقك ما تبقى من ليلتك
تُعيد تشغيل مناطق مغلقة في روحك المُنهكة.
هذه الوخزة قد تطلقها رائحة غبارٍ على كتابٍ قديم وجدته أمامك بينما تعيد ترتيب مكتبتك القديمة
أو ربما لحنٌ يتسرب إلى مسامعك عبر مذياع سيارة أجرة فوجدت نفسك بلا قصد تردد كلمات مضت عقود على آخر مرة سمعتها ..
حيٌ قديم من أحياء القاهرة مررت منه قدرا ولمحت ذلك الأفيش القديم على جدار متهالك لم تنجح السنين في طمس معالم وجه الممثل الذي يتصدرها والذي كان يوما نجم الشباك الأول في زمن ولى.
أي مؤثر قد يطلق هذه الوخزة؛ لتجد نفسك فجأة قد رجعت بالعمر وركبت روحك آلة زمنية عادت بك في رحلة خاطفة تجاوز الربع قرن لتصل إلى تلك الحقبة المحببة
التسعينات
ذلك العقد العجيب الذي قضيت فيه زهرة شبابك ووقفت فيه مع رفقائك على عتبة عالمٍ جديد تستطلعه بفضول ممتزج بجهل متسائل عن طبيعة الحقبة القادمة
هل تكون جنةٌ موعودة؟
أم جحيمٌ مُقنّع؟
كنت تتساءل ثم تعود إلى حقبتك التي تنتمي إليها (وربما لازلت تفعل)
حقبة التسعينات.
تلك الفترة التي أتأملها بعد كل وخزة لكن من موقعي كأربعينيٍّ يكافح للحفاظ على بقايا رشاقته الذهنية والجسدية ويحاول جاهدا أن يصمد ولا يخر أمام تقلبات أشد قسوة مما كان يتوقع يوما!
ولتبدو تلك الحقبة كأنها "العصر الذهبي" المفقود.
أعلم.. أعلم.. ستسارع بإخباري بحكمة أن (النوستالجيا) أو الحنين إلى الماضي كاذب بطبعه.. وأنه يُجمّل ذلك الماضي نظرا لكونه قد مضى بالفعل فيُلقي عليه الحنين غلالةً وردية تُخفي أي قبح كان يوما هنالك
حسنا... سأعترف بذلك ضمنيا.. نعم الماضي ليس دائما مثاليا ولا مكتملا... نحن فقط ننسى اللحظات السيئة ولا نحاول استدعاء إلا جميل الذكريات
هذه طبيعتنا كبشر
لكن دعك من النوستالجيا فما أشعر به تجاه تلك الفترة يتجاوز مجرد الحنين لأيام الصبا التي كنا فيها أكثر صحةً وأقل هماً وأكثر سذاجة أو غباءً.. ربما!
تصوري عن التسعينات يا صديقي أنها تشبه صالة انتظارٍ واسعة تفصل بين زمنين.
زمن الأمس البطيء، الذي كان يسير بإيقاع أقرب لخطوات البشر
وزمن الغد الصاروخي الذي نعيشه الآن والذي يسير بسرعةٍ تجعل كثير منا يلهث خلفه دون فرصة لالتقاط الأنفاس

في صالة انتظار التسعينات كان هناك متسعٌ من الوقت للتنفس
للتفكير
للاختيار.
التكنولوجيا كانت قد بدأت تطلّ برأسها، لكنها لم تكن قد أحكمت قبضتها الخانقة على أعناقنا بعد.
محدثك في هذه الفضفضة كان منذ صباه محبا جدا للتكنولوجيا وإلى يومنا هذا يحاول أن ينهل من كل جديد منها فلا داعي إن كنت من جيل z أو الذي يليه أن تظن بمحدثك أنه سيهاجم التكنولوجيا من منطلق عجزه عن مواكبتها
لكن حبي لها لن يمنعني من المقارنة بين زمان كانت تلك التقنيات جزءا من الحياة يحاول تسهيلها وزمان آخر يكاد يتنفسها

كانت الحياة في التسعينات كما أتذكرها، ذات "حجم إنساني".
كان بإمكانك أن تنتظر برنامجك المفضل أمام التلفاز في موعدٍ محدد، لتشعر بلذة الترقب.
نفس الترقب الذي نشعر به ويمثل جزءا أساسيا من المتعة حين يقترب الموعد الشهري لصدور عدد جديد من سلاسل روايات الجيب
أتذكر مشاعر الفرحة والشغف وأنا في طريقي لبائع الصحف البعيد عن بيتي والذي أشد إليه الرحال لأنه يبكر يوما واحدا في جلبها مقارنة بباقي بائعي الصحف
لا تدري ما هي الصحف يا بني... حسنا أنا أعذرك فأنت لم تشهدها في زمان المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهاتف
إني يا عزيزي مخلوقات منقرضة كانت تحوي الأخبار و(التريندات) ومقالات الرأي والتحقيقات وربنا بعض المسابقات والإعلانات وصفحات الرياضة والحوادث وكانت مطالعتها من طقوس الصباح لآبائنا وأجدادنا
نعم... لم تعد موجودة اليوم وانقرضت كما انقرضت شرائط الفيديو والكاسيت
أعرف أنك أيضا ربما لم تدرك تلك الأشياء التي كانت تحمل معنى البساطة وتحمل عبق الذكريات على مادة صلبة وليس على خوارزميات الأثير عبر الإنترنت
وذلك الأخير "الإنترنت" كان شيئاً أسطورياً نسمع عنه في البداية ونهابه
ثم بدأ يصل إلينا تدريجيا متطلبا طقوساً خاصة للاتصال به عبر خط الهاتف الأرضي مصدرا لأصوات صاخبة مخيفة تشبه صوت احتضار غلاية قديمة.
الكمبيوتر نفسه كان جهازاً ضخماً كئيبا بلونه (البيج) الذي لا يتغير وببطء كالسلحفاة كانت يعطينا مرادنا من الألعاب البدائية غالبا..
لكنه كان كافيا..
وكان كل ما سبق يترك المساحة لنظل بشرا وليكون تواصلنا حقيقيا
كان بإمكانك أن تزور أقاربك دون موعدٍ مسبق، لتتناول معهم الشاي وتتبادل أخباراً حقيقية، لا مجرد "إيموجي" باردة على جروب عائلي ممل عبر شاشةٍ لامعة.
7👍3
2025/07/09 20:28:27
Back to Top
HTML Embed Code: