Warning: Undefined array key 0 in /var/www/tgoop/function.php on line 65

Warning: Trying to access array offset on value of type null in /var/www/tgoop/function.php on line 65
6117 - Telegram Web
Telegram Web
ملخص معاني سورة الفجر
#ورد_القرآن_اليومي
3🥰1👌1
ملخص معاني سورة البلد
#ورد_القرآن_اليومي
كلنا أبناء لأبوين
وبعضنا آباء…
في رحلة حياة كلٍّ منّا يظهر هذان الشاطئان
شاطئٌ نرسو عليه أبناءً
وآخر قد نُبحر منه آباء.
وبين المدِّ والجزر على ضفاف الشاطئين، بين الحنين إلى حضنٍ يأوينا، والحرص على روحٍ استودعناها؛ تمضي رحلتنا.
نقف أحيانا في المنتصف، نحمل في قلوبنا طاعةً ندين بها، وفي أكفّنا أمانةً سنسأل عنها.
هذه هي حكاية الإنسان، معلّقة بين ماضٍ صنعهُ ومستقبلٍ يصنعه.
لكن… هل جرّبت أن تتأمل رحلة أبٍ وابنٍ بلغتا الكمال كله متجسدا في شخص؟
إن أردتَ أن ترى ملخص تلك الرحلة، في جلالها وجمالها وألمها، فلا بد أن تتوقف طويلًا عند رجلٍ كانت حياته هي الرحلة ذاتها.
رجلٌ كانت بُنُوَّتُهُ آيةً في البرّ، وفي أُبُوَّتُهُ مدرسةً في الفداء والحب.
سيدنا إبراهيم.
رحلة إبراهيم عليه السلام تبدأ من فتًى يدعو أباه لطريق الله ويواجه عناده وبطشه بآيات عملية تقطر براً…
ثم يرتحل ليصير هو نفسه أبًا يعاين المسؤولية ويدفع الثمن
أبي الأنبياء
هكذا يرتبط وصفه دائما
أب..
أبانا..
"ملة أبيكم إبراهيم..
هكذا دعاه القرآن
في غمرة تأملنا لنبوته ورسالته وتوحيده الخالص، قد نغفل أحيانا عن ذلك الجانب الآخر الذي لا يقل أهميةً ولا روعةً في سيرته العطرة
إبراهيم الإنسان، إبراهيم "الوالد" الذي حمل في قلبه حناناً يفوق الوصف
وإبراهيم "الابن" الذي ضرب أروع الأمثلة في برّ أبيه ودعوته بالحكمة واللين، حتى وهو على غير ملّته.
تبدأ القصة بمشهدٍ يمزّق القلب.
فتىً صغير، أشرق في روحه نورٌ لم تره عينَا أبيه
يقف أمام والده "آزر"
لم يكن الأب هنا مجرد أبٍ يخالفه الرأي
لقد كان صانعًا للضلال.
تخيّل وجع الفتى وهو يرى أباه، أصله الذي منه نبت، ساجدًا لحجرٍ لا يسمع ولا يُبصر.
هنا كان على إبراهيم أن يختار بين برّ الطاعة الصامتة، وبرّ المحبة الناصحة.
فاختار الثانية، لأنها الأبقى والأصدق.
بصوت يقطر رقةً وعطفا وحرصا،ة ناداه: "يَا أَبَتِ".
لا ليُعيّره بجهله أو يسخر من ضلاله، بل ليُخاطبه بأرقّ عبارات البنوة وأصدق مشاعر الحرص والشفقة:
"يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا" (مريم: 42-45)
كررها أربع مرات
كأنها موجات حنانٍ تتكسر على صخرة العناد..
دعوةٌ عقلانية تخاطب الفكر والمنطق: "يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا؟"
ودعوةٌ بالعلم: "يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا".
ودعوةٌ بالتحذير والترهيب : "يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ".
ودعوةٌ بالإشفاق والحرص : "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ".
لم يكن هذا حوارًا بين نبيٍّ وكافر، بل كانت مناجاةَ قلبِ ابنٍ يخشى على أبيه من النار.
وأيُّ توازن بارٍّ هذا الذي يجمع بين الثبات على الحق وبين اللين في دعوة أقرب الناس تجسدت في نداءات قلبٍ يفيض حباً وحناناً وخوفاً على أبيه من مصيرٍ مظلم.
لكن الحب لا يفتح دائمًا الأبواب المغلقة. لقد جاء الردّ جافًا
الأب، بسلطة الأبوة وعناد الكفر، يردّ على هذا النصح المخلص بالتهديد والوعيد: "قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا" (مريم: 46). يا له من جفاء! يا لها من قسوة!
تهديد بالقتل
وأمر بالهجر والطرد
هنا ينسحب الفتى بأدبٍ سماوي، تاركًا خلفه جسرًا من السلام: "قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي".
ولقد وفى بوعده
ظلّ يستغفر طويلًا، حتى تبيّن له أن أباه قد اختار العداوة لله.
وهنا، جاءت اللحظة الأصعب
والأكمل
لحظة التبرؤ.
قرارٌ مؤلم، اتخذه قلبٌ وصفه القرآن في نفس السياق بأنه "لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ".
"أوّاه"، أي كثير التأوه والتوجع
كأن قراره خرج ممزوجًا بآهات الألم على أبيه.
"حليم"، لأنه صبر وأمهل ودعا حتى آخر لحظة.
لكن حين تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه امتثالاً لأمر الله، مقدماً الولاء للعقيدة على وشيجة الدم، وهذا من كمال إيمانه وطاعته.
"وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍۢ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّۭ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ" (التوبة: 114).
3🥰1
إن نبي الله إبراهيم يعلمنا في كل اختيار أن أعظم البرّ هو أن تقدّم محبة الله على كل وشيجة، حتى لو تمزّق القلب وتأوه الفؤاد
كان هذا هو إبراهيم الابن
ثم دار الزمان، وتبدّلت الأدوار.
النهر الذي جرى من الأب إلى الابن، صار الآن ينبع من قلب الابن الذي سيصبح أبًا.
وهنا، يبدأ الفصل الثاني من فصول رحلتنا إبراهيم أباً.

لم تكن أبوّته مجرد فطرة، بل كانت رسالة. حين تاق قلبه بعد طول انتظار إلى ذرية، كانت دعوته همسًا خالصًا: "رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ".
حين دعا إبراهيم عليه السلام ربه بالذرية، لم يكن دعاؤه مجرد دعاء رجل يريد من يرثه أو من يحمل اسمه
هنا تبدأ أولى دروسه لنا في تلك المرحلة
مرحلة الأبوة ليس أهم ما فيها وجود الأبناء
ولكن صلاحهم هو الأهم
ما قيمة أبناء يذيقون المرء ويلات الجحود والصدود ويتجرع المرء بهم صنوف العقوق والنكران؟
وهل الفكرة في الذرية كمبدأ أم في طبيعة تلك الذرية
يجيبك دعاء خالص من إبراهيم:
"رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ"
هذا هو المراد إذاً
ذرية صالحة طيبة
هنا يأتيه الجواب السماوي: "فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ".
لم يقل المبشر غلاماً وحسب
بل "حليماً"
وكأنما يُصنع هذا الابن على عين الخلق الحسن وينشأ على الحلم والأناة.
عطاءً يليق بصفاء الدعاء
ولقد رسم القرآن مشاهد متكررة من رحلته التربوية العجيبة. مشاهد تتشابك فيها القلوب، ويلتقي فيها الحنو بالفداء، وتذوب فيها الأنانية أمام عظمة الإيمان.
تبدأ رحلة الأبوّة الإبراهيمية بمشهدٍ يعجز العقل أحيانا عن استيعابه.
بأمرٍ من الله، يأخذ السيدة هاجر ووليدهما إسماعيل، ويتركهما في وادٍ لا زرع فيه ولا ماء، ولا أنيس سوى وحشة المكان.
لحظةٌ من التسليم المطلق.
يتركهما ويمضي. فتتعلق به هاجر، وتسأله السؤال الذي يختصر كل شيء: "يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"
فلا يجيب.
تكرر السؤال،
فلا يلتفت. فتسأله السؤال الذي يفتح كل الأبواب المغلقة: "آللهُ أمرك بهذا؟".
هنا فقط، يجيب بنبرةٍ ثابتة تختزن كل اليقين: "نعم".
فقالت كلمتها التي صارت أنشودة لكل المتوكلين: "إذًا لا يُضيّعُنا ".
لكن، هل لم يتأثر قلب إبراهيم؟
هل النبوة تعني عدم وجود مشاعر؟
كلا.
ما إن توارى إبراهيم خلف الثنيّة، حتى استقبل القبلة، ورفع يديه، وانفجر ذلك القلب الأوّاه بدعاءٍ خالد
دعاءٍ هو وثيقة تأسيس تلك البقعة المباركة
دعاءٌ كشف عن كل مخاوفه وأولوياته كأب وكما ينبغي أن تكون الأبوة
"رَّبَّنَآ إِنِّىٓ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجْعَلْ أَفْـِٔدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىٓ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ".
تأمّل محتويات هذا الدعاء!
إن أول ما طلبه لهم لم يكن طعامًا أو شرابًا
بل ابتداءً "لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ".
لقد وضع لهم الغاية قبل الوسيلة.
ثم طلب لهم الأمان القلبي قبل الأمان الجسدي: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ".
لم يطلب أجسادًا تأتي، بل قلوبًا تحبّهم وتأنس بهم.
ثم أخيرًا، طلب الرزق المادي: "وَارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ" ثم أعاد ربطه بالغاية الأولى: "لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ".
يا لها من أبوّة!
تترك فلذة كبدك في صحراء قاحلة، وأول ما يشغل بالك هو صلاتهم، وعلاقتهم بالناس، وشكرهم لله.
ولم يكن هذا دعاء اللحظة فقط
لقد كان منهجه الدائم.
كان يعيش دائما يحمل هم الخوف على عقيدة ذريته.
هو، إمام الموحدين الذي حطّم الأصنام بيده، كان يدعو خاشعا: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ".
يا لله!
إن كان خليل الرحمن يخشى على نفسه وبنيه من الشرك، فمن يأمن البلاء بعده؟
كان دعاؤه هذا درسًا في أن الإيمان ليس شهادةً تُنال مرة واحدة، بل هو مجاهدة مستمرة وخوفٌ دائم من الزيغ.
وكان يوصي بدعامة هذا الإيمان: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي".
انظر إلى الترتيب: يبدأ بنفسه "اجعلني"، لأنه يعلم أن الأب الفاقد للشيء لا يعطيه..
ثم يلحق به ذريته "ومن ذريتي"، لأنه يعلم أن صلاحهم هو امتدادٌ لصالحه.
بذلك الغرس الذي يحدوه الدعاء نشأ الغلام
لم يأتِ ليكون قرة عينٍ في كنف أبيه فحسب، بل جاء ليكون بطلًا في أعظم مواقف التسليم والانقياد حين بلغ معه السعي، وتجلّى الامتحان الأعظم: "إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ..."
لم يكن ذلك مجرد أمر بل درس في التدرج التربوي العميق.
لم يأمره مباشرة، بل أشركه في القرار: "فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ"...
4👍3😍1
وكأنه يقول له: تأمل، تعمق، قرر أن تطيع الله من داخل ذاتك لا من قهري.
وعبر بوابة هذه التربية الراقية جاءت الإجابة التي تقطر تسليما من الابن الصالح
"يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين"
تذكر هذا النداء؟
نعم هو نفس نداء إبراهيم لأبيه منذ عقود
يا أبت
لقد استطاع الوالد أن يورث الولد وهو حي يرزق
ورثه برا وأدبا
ثم تسليما وانقيادا لأمر ربه ومولاه
وحين فدى الله إسماعيل بكبشٍ عظيم، كان الدرس الأبلغ أن الولد لا يُفتدى بالمال أو الجاه، بل يُفدى بالإيمان والتسليم لأمر الله. وأن أعظم ما يُقدمه الأب لولده ليس كنوز الدنيا، بل قدوة الطاعة، وميراث التوحيد، ودعوةٌ صالحةٌ لا تنقطع.

وثمة مشهد آخر جمع الأب والابن
مشهد في ظلال الكعبة
حين أمر الله إبراهيم بإعادة بناء أول بيت وضع للناس يوما
هنا جاء الوالد يخبر ولده الذي أبدى استحسانا وفرحا
"وتُعينني".
هكذا كانت الكلمة التالية من الأب
كلمة صغيرة في مبناها لكنها هائلة في معانيها.
أن تقول لابنك: ساعدني، تعاون معي، كن شريكي في الطاعة.
لا تُلحقه بجوارك كعامل يُنفذ وحسب، بل كـ"شريك".
تربّي فيه روح المشاركة لا الاتباع الأعمى. تزرع فيه أن الطاعة لا تُملى
بل تُعاش.
هنا تسترجع عبارته: "إني أرى في المنام أني أذبحك... فانظر ماذا ترى" وتضمها إلى قوله: "وتعينني" لتدرك كونه يُربّيه على أن يكون صاحب قرارٍ في لحظة الذبح
وصاحب مسؤولية في لحظة البناء.
أي تربية هذه؟
تربية تصنع قادةً
تزرع في النفس الطاعة الواعية والإدراك للقيمة التي يمكنك أن تحققها
ثم تأمل جمال المشهد وهم يرفعان القواعد معاً
الأب يقف على صخرة
والابن يناوله الحجارة بدأب وصبر
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ... رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا".
و لا يكتفي إبراهيم بالعمل، بل يُعلّم ابنه أن العمل لا يُثمر ما لم يُقبل، وأن البناء لا يُعظَّم إلا بالدعاء.
إنها لحظة البناء المشترك
جسداً وروحاً، بناء ودعاءً، قيمة ومقاما عملٌ وذكر. حجارةٌ وطاعة.
ما أجمل البيوت التي تُبنى بهذه القواعد!

تمر الأعوام وتختلف المرحلة لكن الرحلة تستمر
في الأمور الأسرية والمبادىء الاجتماعية كان إبراهيم أيضا أباً حكيماً ومُربياً واعيا.
في صحيح البخاري حين زار ابنه إسماعيل في مكة، ولم يجده، وخرجت إليه امرأته، سألها عن عيشهم وحالهم. فلما شكت وتذمرت، قال لها: "فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: غيِّر عتبة بابه".
وحين جاء إسماعيل وفهم الرسالة، طلّقها. ثم تزوج أخرى، فجاءه إبراهيم مرة أخرى، وسأل زوجته الجديدة عن حالهم، فحمدت الله وأثنت عليه وذكرت طيب عيشهما. فقال لها: "إذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يُثبّت عتبة بابه".
فقه أبوي عميق!
يختبر صلاح البيت، ويراقب مستوى الشكر والرضا، ويُعين ابنه على حسن اختيار الزوجة الصالحة التي هي أساس استقرار الأسرة
كل ذلك بحكمةٍ وإشارةٍ لطيفة، لا بتدخلٍ مباشرٍ أو فرض رأي.
لقد كان إبراهيم دائما أبًا يورّث الدين والعقيدة، لا المال والعقار.
"وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ".
هذه هي الوصية الأغلى، الميراث الأبقى، التي امتدت عبر الأجيال حتى طبّقها حفيده يعقوب وهو على فراش الموت، حين سأل بنيه: "مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟" لقد كان هنا كجده
يطمئن على حفظ الميراث الأهم
ميراث التوحيد وثمرة الغرس الأبوي الأولى من كل غرس

ومن كل هذا الغرس، نبتت شجرة الفداء، وشراكة البناء، وحكمة "عتبة الباب"، ووصية الموت على الإسلام التي تدفقت كالنهر حتى وصلت إلى يعقوب وبنيه.

وهكذا كانت حكاية الخليل.

حكاية وشيجتين من نور: وشيجةُ البرّ الصابر مع أبٍ كافر، ووشيجةُ الحب الباني مع أبناءٍ مؤمنين، ربط بينهما بدعاءٍ لم ينقطع، وخوفٍ لم يهدأ، وحبٍّ لم يفتر.
وبين الوشيجتين، ترك لنا إرثًا لا يبلى خلاصته أن الأبوّة ليست سلطة وحسب ولكن احتواء ومسؤولية ودعاء.
والبنوّة ليست طاعة عمياء، بل هي حرصٌ ورقّة. والحب الحقيقي، كل الحب، هو أن تأخذ بيد من تحب، وتسير معه في طريق الله
فلنتأمل، أيها الآباء وأيها الأبناء، في مدرسة "الخليل" هذه. ولنتعلم منها كيف يكون البرّ الحقيقي بالوالدين، وكيف تكون الأبوة المسؤولة التي تُربّي أجيالاً من الموحدين الصالحين
ولنسأل أنفسنا: ولنسأل أنفسنا: هل نحن فعلا نحاول أن نتأسى بسيدنا إبراهيم في برّه أو في رعايته لأبنائه؟
هل نترك لأولادنا "بيتًا" للطاعة والعبادة، أم مجرد "عقارٍ" يتنازعون عليه؟
4👍4🤩1
هل ندعو لهم بالصلاح والتقوى، أم نكتفي بالدعاء لهم بالنجاح الدنيوي؟
إن سيرة إبراهيم، كأبٍ وكابن، هي نبراسٌ يُضيء لنا دروب التربية والعلاقات الأسرية.
فلنقتبس من نوره، ولنسعَ جاهدين لأن نكون قدر الوسع على خُطى هذا الخليل العظيم، الذي ملأ الأرض نوراً، وترك لنا إرثاً خالداً من التوحيد والتسليم والعبودية الحقة لله رب العالمين.
6👍5
قريتنا قطعةٌ جلد منسية على جدار الزمن.. مجعّدة، جافة توشمها ندوبٌ لا يعرف أحدٌ متى حُفرت.
قرية تشبه رئة عجوزٍ مصابٍ بالربو؛ يتنفس بصعوبة، يشهق غبارًا ويزفر حكاياتٍ لم تكتمل.
الهواء فيها ثقيل، مُحمّلٌ برائحة القهوة المغلية والغبار القديم والأسئلة التي لم تُطرح.
في هذا المكان، لم تكن الآلام والمصائب حدثًا استثنائيًا
لقد كانت جزءًا من دورة الفصول، كشمس تموز اللاسعة وصقيع شباط القارص.
كنا دوما نرتدي تلك الآلام كما نرتدي معاطفنا البالية.
قريتنا التي عُرفت قديما بأنها تلفظ الغرباء كما يلفظ البحرُ قمامة السفن؛ كانت قد ابتلعت بعض الأرواح الغريبة على مضض.
أرواح لم تدخل من بوابة القرية الواسعة، بل تسللت عبر ثقوب حفرتها جرذان الماضي ووسعها الزمن..
لم يسأل أحد من أين أتت، فالأسئلة في قريتنا ترفٌ لا نملكه، أو ربما فضولٌ قد يكلفك ذاكرتك كلها.
أنجس هذه الأرواح كان المعلم سامي!
"ساكن السور" كما أطلقنا عليه في همساتنا.
رجلٌ ناعم أملس له لكنة أعجمية جاء من أقاصي البلاد وبنى بيتًا لا يشبه بيوتنا من حجر غليظ له ملمس يشبهه نعومته رفع قواعده على بستان وارف الظلال كان يوما مملوكا لأحد أجدادنا
بين عشية وضحاها وجدنا سامي قد بنى بيته القميء على أطلاله ثم أحاطه بسورٍ لا قِبَل لنا برؤية ما خلفه.
ثم كان وجوده حقيقةً فيزيائية دامغة، كصخرةٍ سقطت من السماء في منتصف طريقنا.
كان المعلم سامي أشبه بخطأ إملائي في نصٍ يُزعم أنه مقدس!
وجوده يفسد المعنى كله، لكن لا أحد يجرؤ على تصحيحه.
وجهه مرآة تعكس الشمس فقط، ولا تعكس ملامح وجوهنا أبدًا عيناه بحيرتان من الزيت البارد، لا تعكسان شيئًا، لا فرحًا ولا غضبًا
يبتسم دوما بنعومة مريبة ولا تبدو عليه انفعالات البشر
يمشي يوميا متبخترًا في سوق القرية وهو يلقي النظرات على دكاكين أهلها كما لو كانت حقّه المؤجل.
لم يكن دائما بحاجة للكلام، فأفعاله كانت لغته الوحيدة
لغة الإزاحة، والاستبدال، والوجود الذي يمحو وجود الآخرين بهدوء بارد.
تتسع أسواره يوما بعد يوم دون أن نلحظ ذلك إلا متأخرين
على الجانب الآخر من القرية كان دوار الحاج فِراس
بخلاف المعلم سامي كان الحاج فراس يحمل شيئا من ملامحنا..
يرتدي عمامتنا وتزين وجهه لحية وقورة.. كان يتقن الحديث عن جراحنا القديمة بطلاقةٍ لا تكون إلا عند استرجاع الماضي
كان صوته عميقا جهوريا يشبه رعدًا بعيدًا، يعد بالمطر ولا يأتي إلا بالريح.
يتحدث دائما عن "الكرامة" و"الثأر" كأنهما سلعتان في دكانه المكتنز.
ثأر؟!
ممن؟
الحاج فراس كان صاحب تاريخ طويل في البلطجة حتى أننا تساءلنا كثيرا متى اكتسب لقب "الحاج" وكيف؟
إن يده كانت دوما ملطخة بدماء أبناء قريتنا الذين تجرأوا يوما على الاختلاف معه!
لطالما سفك دماءهم بتلك اليد الغليظة أو بأيدي أتباعه الذين يعرف كل من في القرية أنه من يقف خلفهم كل مرة!
لكنه حين يتحدث كان يصر على تجاهل كل ذلك مبديا العداوة للمعلم سامي وحسب..
على أكتاف شباب القرية كان يربت أحيانا ويملأ رؤوسهم بأناشيده عن المجد الذي ينتظرهم خلف السور إذا هم اتبعوه ودكوا بيت المعلم سامي فوق رأسه
يعدهم بذلك ويمنيهم فيذهبون معه خلسة ثم يختفون، واحدًا تلو الآخر، كحصى يُلقى في بئرٍ لا قرار له.
في قريتنا عشنا لعقود بين شقي رحى تغول الأول وابتسامته القاسية، وضجيج الثاني الأجوف وتغافله عن تاريخ دموي غادر لا يستطيع هو نفسه إنكاره.

لكن الأمور لم تقف عند ذلك
منذ فترة ليست بالبعيدة قرر يحيى - ذلك الفتى اليافع حفيد عم جابر - أن يقطف تينة من شجرة زرعها جده يوما في البستان الذي اغتصبه المعلم سامي.
ولم يتردد الأخير
ببروده المعهود أطلق عليه رصاص بندقيته التي لا تخطيء هدفها من خلف سوره المنيع
أرداه مباشرة
طلقة واحدة كانت تكفي، نظيفة لم تكلفه الكثير ولم تغادر وجهه الابتسامة الخبيثة..
ثم أكمل تقليم وروده الجميلة التي تزين بستانا لم يكن يوما له.
العم جابر بكى حفيده كثيرا ودار في شوارع القرية مستصرخا أهلها
يا قوم هذا ليس أول من أردتهم بندقية سامي..
لطالما أردَت أولادي وأحفادي لمجرد أنهم اشتاقوا إلى أشجار غرستها يوما بيدي..
ولن يكون الأخير... طالما ظل سامي في الجوار وفي يده بندقيته الطائشة..
واساه أهل القرية وأعينهم تفيض بالدمع وألسنهم تحدو مسيرته بالدعاء
والحج فراس لم يسكت
لقد أرغى وأزبد وتوعد المعلم سامي بالويل والثبور..
لكنه الآن منشغل بتلك المشاجرة المحتدمة في ركن القرية والتي يخوضها صديقه المقرب الأسطى بشير ضرغام..
لطالما كان الحج فراس حاميه في القرية والمدافع الأول عنه رغم كل ما أظهره بشير من وضاعة وخسة
😢61👌1
ودموية
لكن بشير مؤخرا كان قد تجاوز كل ما يمكن تصوره جرائم في حق أبناء القرية خصوصا في بيت أولاد سمير الذين عانوا طويلا من جبروته حتى فاض بهم الكيل وطردوه من القرية ولم يستطع فراس أن يدافع عنه هذه المرة..
تنفسنا الصعداء مؤقتا وظننا نحن أبناء القرية أن الأمر قد انتهى
حتى جاء ذلك اليوم الذي قرر المعلم سامي أن يسكت الحاج فراس.
يبدو أن ضجيج فراس صار يزعجه أو ربما طمع كعادته في دكانه والعمارات المجاورة التي يمتلكها
أطلق المعلم سامي بضع رصاصات من بندقيته الشهيرة أصابت بعض أبناء من عائلة فراس
عندئذ تحول ضجيج فراس إلى غضب حقيقي
ربما لم يتصور يوما أن توجه بندقية سامي إلى صدور أولاده
لكن الأمر قد وقع وسبق السيف العذل
جمع فراس من تبقى من أبنائه وأحفاده وقرر أن يدافع عما تبقى من كرامته
استيقظت القرية على أصوات لم تعتدها
صراخ يصدر من خلف السور يختلط بصوت البندقية
أيعقل هذا؟
لم نتعود أن نسمع صرخات من بيت سامي ولم تألف آذاننا أصوات أبنائه وبناته يصيحون
فراس وأولاده يوجهون بنادقهم ومقاليعهم إلى السور وسامي يرد عليهم ببندقيته الدقيقة
في الصباح رأينا آثار المعركة ولأول مرة لاحظنا شروخا في السور المنيع
للحظات شعرنا بنوعٍ من الارتياح المشوب بحذر
تنفست القرية الصعداء وسرى فيها شعورٌ غريبٌ بالانشراح يشبه شعور أسير سمع حارسيه يتشاجران.
لكن سرعان ما تصدر المشهد تساؤل يتعالى وبدأ أهلها يختلفون في إجابته
إلى من نميل وننحاز؟
أغلبنا رفض هذا السؤال أصلا فيستحيل أن يتبادر للذهن مجرد تخيل أن قبول سامي الغريب الغاصب الذي يكتم وجوده أنفاسنا
إن فراس يشبهنا كثيرا وبيته أقرب لبيوتنا!
لكن يده لم تزل تقطر منها دماء أبنائنا..

جلس المعلم أبو حامد على المقهى يجادل أصدقاءه في هذا السؤال
أبو حامد كان خبازًا وصار الآن بلا مهنة بعد أن استولى سامي على مخبزه ومن قبله ماكينة طحينه
نظر إلى كفيه المغبرتين برماد فرنه القديم وقال دون أن ينظر لأحد: "أحدهما سرق مني مهنتي ومصدر رزقي، والآخر سرق مني ابني الذي كان سيأكل رغيفا كنت سأخبزه.
أيُّهما أشد إيلامًا، الجوع أم الفقد؟".
جلست أم عماد بائعة الجرجير على الناصية والتي ارتدت السواد حتى بهت لونه، مرة على زوجها الذي أردته بندقية سامي من خلف السور، ومرات على أبنائها الذي صرعهم تباعا بشير الديب بمباركة الحاج فراس
قالت بصوتٍ خفيض كحفيف الأوراق اليابسة: "الفرق بينهما بسيط جدًا. الأول يقـ.تـ.لك ويتركك جثمانك في العراء. أما الثاني، فيأمر رجاله بقـ.تـ.لك ثم يأتيك مساء معزيا ومتوعدا بثأر من الأول".
في كنفها كان يجلس كريم ابنها الأخير الذي تبقى من مذ.بـ.حة بشير
سألها وهو يتكور في حضنها هربًا من أصوات الرصاص
أمي متى سينتهي كل ذلك؟
صمتت أمه طويلاً، كأنها تبحث عن إجابة. ثم مسحت على شعره وهي تتأمل كل جدار بكى في هذا الزقاق، وكل قلبٍ انكسر، كان لأحدهما يدٌ فيه..

من بعيد تعالت في شوارع القرية صيحات العم جابر التي صارت خلفية المشهد منذ سنين
هذه المرة كانت مختلفة تحمل شيئا من الفرحة بعد تلك الشروخ التي رآها على جدار سامي..
لكن صيحات فرحه لم تخل من تساؤل
لماذا الآن؟
لماذا لم يحركك دم يحيى وإخوانه؟
ها أنت قد أثبتت أنك تستطيع شرخ الجدار فلماذا كان الانتظار؟
في تلك الليلة، كان الصمت أثقل من كل الليالي.
لم يكن هناك ضحكٌ أو صراخ.
كان هناك شيء آخر، شيء يشبه صوت صفيرٍ خافتٍ ومستمر، كأن أداتين حادتين تُسنّان على بعضهما في مكانٍ بعيد، ونحن نسمع صداه في عظامنا.
في ركن المقهى وأصوات القتال تتعالى قال العجوز ضرغام والذي فقد بصره منذ سنوات في مشاجرة مع أحد حراس السور: "هل تظنون أنهما يتقاتلان من أجلنا أم أننا مجرد الحجر الذي يشحذان عليه سكاكينهما؟
وهل يتقاتلان حقًا أم أنهما فقط يحددان حجم نصيب كل منهما من مقبرتنا؟".
لم يجبه أحد.
لكن السؤال اخترقنا كشظية باردة.

عند الفجر، ساد صمتٌ ثقيل…
خفتت أصوات البنادق.
يبدو أن الرصاص وحجارة المقاليع قد نفدت... مؤقتا!

خرج الناس من بيوتهم ببطء، لا ليتفقدوا من انتصر، بل ليتأكدوا أنهم ما زالوا أحياء.

على أطراف القرية، ظلت جدران فراس مشروخة لكن السور لم يزل واقفًا… ربما أعلى قليلًا من الأمس.

لم تُرفع راية.
لم تُقم جنازة.
لم تُكتب خطبة نصر.
تجول الناس في الأزقة التي تشققت، وجدران بيوتهم تنزّ دخانًا خفيفًا.
ثمة شيء يشعرون أنه قد فُقد
إنها أم عماد
عند مدرسة القرية وجدوا جثتها ترقد إلى بجانب جدارها وإلى جوارها يقف كريم الابن الأخير يكتب شيئا على الجدار بالطبشور وعيناه خاويتان
اقترب الجمع وقرأوا ما خطته يمينه
"حين تختلف الذئاب، لا تصدق أن الفريسة بخير"
كتبها كريم ثم مشى بخطوات ثابتة لم تعد تشبه خطوات صبي
مضى إلى بيتٍ مهجور في طرف القرية…
ثم بدأ يبني حوله سورًا صغيرًا..
11😢5👏2👍1
ملخص معاني سورة الشمس
#ورد_القرآن_اليومي
2
ثمة شعور ربما تعرفه، وإن لو لم تجد له اسمًا محددا.
ذلك الإحساس الخفي بأنك غريب عن المكان..
تجلس في غرفةٍ ممتلئة بالضحكات والأحاديث، لكنك تشعر بأنك خلف زجاجٍ غير مرئي يفصلك عنها.
تسير في شارعٍ هو شارعك..
بين بيوتٍ هي بيوت أهلك.
لكنك تشعر أنك سائحٌ أبدي في مدينةٍ لن تمنحك مفاتيحها أبدًا.
وليس أصعب من أن تكون مغتربًا في مكانك
تحيا بين أناسٍ يشبهونك، لكنك تشعر أنك لست معهم..
نغمةٌ شاردة في سيمفونيةٍ لا تعزف لحنك
طائرٌ حطّ في سربٍ لا يعرف لغة تغريدك.
لستَ منبوذًا، ولستَ مكروهًا، لكنك ببساطة غريب.
أن تكون الجذور تحت قدميك، ومع ذلك تشعر بأنك مقتلعٌ منها.
هذا الشعور..
هذا الحنين الأزلي إلى مكانٍ لا تعرفه!
إلى دفءٍ لم تختبره، إلى سكونٍ لم تجده!
ثمة نبيّ أشعر دوما عند مدارسة سيرته أنه يجسد ذلك المعنى..
نبيّ هو أبو كل الغرباء، وإمام كل مسافر على طريق الله
رفيق كل من ساروا في الأرض وأرواحهم تتطلع إلى السماء.
إنه إبراهيم عليه السلام...
من جسدت حياته الغربة، والحنين، والترحال السرمدي.
نبيّ أولئك الذين لم تتسع لهم الأرض، فحملوا أوطانهم في قلوبهم ومضوا.
هو نبيّ أولئك الذين ساروا في الأرض ولم يشعروا أنها لهم..
من حملوا حقائبهم نحو المجهول بحثًا عن أرض ربما لم تُخلق بعد..
عن دارٍ لم يسكنها بشر..
عن بقعةٍ يكون فيها النقاء أكثر من الضجيج، والحقيقة أعمق من الزيف.
نبيّ من شعروا بالبرد في زحام الناس، فوجدوا الدفء في الخلوة مع الله ومناجاته.
سيرة سيدنا إبراهيم ليست مجرد تاريخٍ لنبي، بل هي أنشودة مطمئنة لكل روحٍ شعرت بالغربة في هذا العالم.
في عصر أهله مهووسون بالاستقرار.
نكدح أعمارنا من أجل بيتٍ نمتلكه، قطعة أرضٍ نورّثها، وظيفةٍ نتقاعد منها.
الاستقرار في نظرنا هو الأمان، والتجذّر هو النجاح.
سيدنا إبراهيم يغير هذه المعادلة بهدوءٍ وصمت.
لقد كان نبيا بلا جغرافيا ثابتة
تأمل خارطة حياته العامرة
من "أور" الكلدانيين في العراق البابلية، إلى "حران" في تركيا، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، ثم عودةً إلى فـ.لـ.سطين، ثم رحلةٌ إلى وادٍ قاحلٍ سيُعرف لاحقًا باسم مكة.
هل ترى مستقرًا؟
هل ترى وطنًا جغرافيًا؟
ذلك القلب المنشغل لا مدينة تسعه، َلا أرض تحتضنه بالكامل
لا مكان يقول عنه "هذا بيتي".
كان يصل فلا يستقر، ويرحل فلا يودع.
كأنه كان يعلم بفطرته أن هذه الأرض كلها مجرد محطة عبور..
فندقٌ كبير نقضي فيه ليلة أو عمرًا، لكننا جميعًا سنغادر في الصباح.
إبراهيم لم يحمل مفاتيح بيت ثابت
لم يسع لاقتناء أرضً
لم يزرع شجرةً لمجرد أن يعود إلى ظلها.
لقد كان هو نفسه شجرةً تمشي، تضرب جذورها الإيمانية في كل أرضٍ يصلها، فتترك فيها أثرًا طيبًا، ثم تقتلع نفسها ببساطة لتمضي دون أن تلتفت، كأنما تقول للدنيا بلسان الحال: "لستِ لي، ولستُ لكِ. أنا فقط عابرٌ سبيل إلى الله".
يعلمك سيدنا إبراهيم أنك ضيف عابر
و الضيف يا عزيزي لا يتشبث بأثاث أصحاب البيت.
لقد كان غريبا منذ البدء
إن الغربة الحقيقية لا تبدأ بالرحيل الجسدي.
إنها تبدأ بالانفصال الداخلي.
تبدأ في تلك اللحظة التي تنظر فيها حولك إلى ما يقدّسه الناس، وما يتفقون عليه، وما يعتبرونه الحقيقة المطلقة، ثم يهمس شيءٌ في أعماقك: "هذا ليس الصواب".
وهكذا بدأت غربة إبراهيم عليه السلام..
لم تبدأ يوم حزم أمتعته وخرج من "أور". لقد بدأت قبل ذلك بسنوات، ربما وهو غلام يافع يخطو أولى خطواته ينظر إلى أبيه وهو ينحت بأنامله أصنامًا من حجر، ثم ينحني لها في خشوع.
أو بدأت في تلك اللحظة التي صاح فيها عقله وروحه معًا: "هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا!".
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}
هذا السؤال لم يكن استفهامًا، بل كان إعلان غربة.
إعلان انفصالٍ عن العقل الجمعي، وتمردًا هادئًا على المألوف.
لقد قال "لا" في وجه من حوله الذين يقولون "نعم"
وكانت هذه هي هجرته الأولى.
الهجرة من حال القطيع المشرك إلى التفرد الحنيفي..
من العادة إلى الحقيقة
من الطمأنينة الزائفة إلى البحث المقدّس عن الإله الحق.
كل منا قد يعيش لحظته الإبراهيمية حين يرفض فكرةً سائدة لأنها لا تتفق مع فطرته، أو يتجنب طريقًا سهلًا لأنه لا يؤدي إلى الله.
وفي تلك اللحظة، حتى لو لم تتحرك قدمك شبرًا واحدًا، تكون قد هاجرت.
"والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه". متفق عليه..
من ذاق طعم الإيمان الحقيقي، يعرف جيدا هذا الشعور بالاغتراب عن هذا العالم.
يعرف كيف تصبح الدنيا فجأةً أكثر صخبًا وأقل دفئًا.
كيف تصبح المتع العاجلة باهتة، والأهداف المتعارف عليها؛ تافهة.
7
كيف تفقد الأشياء بريقها حين لا يكون في القلب يقينٌ أكبر منها يمنحها المعنى.
البعض يختزل ذلك الشعور ويوصمه بأنه "اكتئاب" والحق أنه صحوة قلب..
إنه الحنين الإبراهيمي الذي يستيقظ بداخلك..
صوت الفطرة الذي يخبرك أنك مخلوقٌ لشيء أعظم من مجرد الأكل والشرب والعمل والنوم.
أنك مسافرٌ في رحلة قصيرة، وأن محطتك النهائية ووجهتك ليست هنا.
سيدنا إبراهيم هو نبيّ أولئك الذين يوجهون قلوبهم إلى الله، لا إلى الناس...
هو صاحب الإعلان الذي يجب أن يكون شعار كل مؤمن:
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].
هذا التوجّه هو بحد ذاته غربة عن كل الوجهات الأخرى التي يتجه إليها العالم المادي..
وهنا يبرز وصفه مرة أخرى
"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..."
لقد كان أمةً وحده.
أمةً من القيم المتفردة في مواجهة عالمه الذي كاد يخلو من القيم.
أمةً من اليقين في مواجهة صحراء من الشك.
أمةٌ لغرباء سأتون يوما ليقتفوا أثره.
أمةٌ من المهاجرين بأرواحهم قبل أجسادهم.
أمةٌ من الباحثين عن النقاء في عصور الكدر والسكون الإيماني في عهد الضجيج والصخب.
وحين تجلس وحيدًا في ليلك تكابد وحدتك وتشعر بأن قلبك يشتاق إلى شيء مفقود لا تجده في هذه الدار
حين تشعر أنك غريبٌ بين أقرب الناس؛ فلا تخف.
أنت لست وحدك.
أنت تسير على خطى أبيك إبراهيم.
أنت من أمّته.

#أبيكم_إبراهيم 8
#الذي_وفَّى
16👍4😢1
في تلك البقعة المباركة والتي بدأت قبل أعوام تجذب البشر بعد أن كانت يوما قفرا موحشا وتحت سماءٍ صافية تتلألأ فيها النجوم كجواهر منثورة على قطيفةٍ سوداء؛ وقف الرجل الأمة
لم يكن حوله أنيس ولا جليس
لا صوت سوى حفيف الريح وهي تداعب الرمال، ولا ضوء سوى ذلك الذي ينبعث من النجوم البعيدة
ومن يقينٍ أعمق وأشدّ سطوعاً ينبع من قلبه السليم.
كان قد أُمر بأمر عجيب
أمر يتجاوز حدود المنطق الأرضي
أمر لا يستجيب له إلا قلبٌ كقلبه
قلبٌ قال يوما دون ترددٍ أو مراء: "أسلمت لرب العالمين".
لقد أُمر بأن يرفع صوته في هذه الصحراء شبه الخاوية ليُنادي في الناس بالحج إلى بيتٍ لم تكد تكتمل قواعده إلا منذ أيام!
أيُّ أناس هؤلاء الذين سيُلبون نداءه في هذا القفر؟
وأيُّ صوتٍ بشريٍّ يمكن أن يخترق صمت هذه الصحراء الشاسعة ليصل إلى آذانٍ لم تُخلق بعد أو اإلى قلوبٍ تسكن في أقاصي الأرض؟
لوهلةٍ تساءل هذا النبي الخليل، ليس شكاً في قدرة ربه، حاشاه!
بل استشعاراً لضآلة الوسيلة البشرية أمام عظمة التكليف الإلهي: "يا رب، وما يبلغ صوتي؟".
هنا أتته الإجابة التي تطمئن كل قلبٍ مؤمن، حين تسقط حسابات البشر وتبرز القدرة الإلهية المطلقة
"عليك النداء، وعلينا البلاغ".
ولقد فعل..
أذّن إبراهيم عليه السلام..
لم يكن أذانه مجرد صيحة في وادٍ سحيق، ولا لحناً تُطرب له الآذان.
لقد كان نداءً من نوعٍ آخر
نداء انطلق من أوتار قلبه الموصول بالسماء، ليخترق حجب الزمان والمكان، ويستقر في أرواح لم تكن قد رأت نور الدنيا بعد.
كان همساً خفياً زُرع في فطرة كل مؤمن، بذرة حنينٍ دُفنت في أعماق كل قلبٍ يتوق إلى خالقه.
لم يكن نداؤه مجرد موجات صوتية تتشتت وتضيع عبر الأثير.
لقد كان بثًا مباشرًا للشوق..
صرخة حنينٍ عبر الزمن، أطلقها من قلبه الغريب لتصل إلى كل قلبٍ غريبٍ سيأتي بعده.
إن أذان إبراهيم لم ينتهِ بمنتهى صوته، بل ظلّ يتردد صداه عبر القرون بنداءٍ ليس له لحن، لكنه يوقظ أعمق الأوتار النائمة في النفس المؤمنة ويتمدد كجذور شجرةٍ مباركة، يستدعي كل روحٍ تشعر بالغربة في هذا العالم، وتتوق إلى موطن مفتقد.
"وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج: 27).
وعد إلهي عجيب!
"يأتوك"...
ليس بدافع الفضول السياحي، ولا لمجرد أداء عبادةٍ موسمية روتينية
بل يأتي كل منهم كمن يستجيب لنداءٍ قديمٍ يسكن في أعماقه
كمن يتبع خيطاً خفياً يقوده إلى مصدر راحته وسكينته.
يأتون "رجالاً" على أقدامهم، شوقاً وتعظيماً
ويأتون على "كل ضامرٍ" من الإبل النحيلة التي أضناها السفر..
سيقدمون من كل فجٍّ عميق..
من كل زاويةٍ من زوايا الأرض وكأن قلوبهم تحمل بوصلةً لا تُخطئ طريقها إلى هذا البيت العتيق الذي لم يجذبهم إليه نداء يقول فقط: "تعالوا إلى البيت" ولكن لسان حال يهتف: "يا كل الغرباء في الأرض، يا كل الباحثين عن وطنٍ للروح، هنا مكانكم. هنا ستجدون الدفء الذي تبحثون عنه".
لهذا، لم يجعل الله البيت مجرد مكان للزيارة
بل جعله مثابة
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا}.
مثابة!
أي كلمة هذه؟
مكانٌ يُثابُ إليه!
يُرجعُ ويُعَادُ إليه مرة بعد مرة.
ليس إذاً وجهة سياحية، بل نقطة أصل تعود إليها الروح المغتربة لتُصلح بوصلتها، وتتذكر من أين أتت، وإلى أين تمضي.

لقد بنى إبراهيم للغرباء وطنًا من نوعٍ آخر
وهذا ببساطة هو أصل ذلك الشعور الغامض في قلب المسلم الصادق المحب..
ذلك الحنين الذي لا يُقاوم، الذي يغمر قلب كل من تطأ قدماه أرض مكة لأول مرة.
تشعر وكأنك قد عدت!
لكنك سرعان ما تتساءل: عدتُ إلى ماذا؟
أنا لم أكن هنا من قبل!
لم أعش في هذه الشعاب الضيقة ولم أتربَّ على عتبات هذا الحرم المهيب، ولم أعرف وجوه الخلق هنا ولا تفاصيل هذه الجغرافيا القاسية.
مع ذلك، ثم شيء خفيّ عميق، أصيل بداخلك يصرخ: "أخيراً... قد عدتُ إلى البيت!".
هو ليس شعوراً يمكن تفسيره بمنطق مادي، ولا من خلال التجربة الحسية المباشرة.
هو شعورٌ من نوعٍ آخر
شعور أسميه "ذاكرة الفطرة"
تلك الذاكرة التي سبقت الولادة و نقشت فيها "لبيك اللهم لبيك" قبل أن ينطق بها اللسان.
في مكة.. لا تشعر أنك في مكان جديد تكتشف معالمه بل أنت في أرضك القديمة أرض تعرفك قبل أن تعرفها وتحنّ إليك قبل أن تراها.
وكأن بينك وبين حجارتها الصماء عهداً قديماً، وميثاقاً غليظاً، لا يراه الناس بعيونهم، لكنك تشعر به ينبض في قلبك، كأنه نُقش هناك بمدادٍ من نورٍ لا يمحوه الزمن.
هذا الحنين الجارف..
هذا الانجذاب الروحي لم يولد من فراغ.
10
هو ببساطة صدى ذلك النداء الأول
نداء إبراهيم عليه السلام الذي رفعه وحيداً في صحراء موحشة، وأعلى صوته بأمر ربه، فبلغ نداؤه الآفاق، واخترق حجب القرون، واستقر في قلوب الملايين الذين ما زالوا يُلبّون نداءه حتى يومنا هذا وسيظلون بإذن الله يُلبّون ما بقيت السماوات والأرض ويتوافدون إلى ذلك المكان الذي كان يوما موحشا فصار من أكثر بقاع الدنيا جذبا للخلق وجمعا للناس إن لم يكن أكثرها
إن المنطق البشري المعتاد يقول: إذا أردت أن تبني مشروعًا ناجحًا أو تؤسس مركزاً دينياً عالمياً، أو موضعاً مقدساً يقصده الناس من كل حدبٍ وصوب، لاخترتَ له أفضل البقاع وأخصبها وأكثر مدنها ازدحاما حيث تكثر المياه، وتخضرّ الأرض، وتتوفر مقومات الحياة والاستقرار
لكن إبراهيم فعل الضد تمامًا واختار منطق السماء الذي يتجلى في اختيار هذا المكان بالذات
إبراهيم، ذلك النبي الذي بُعث ليكسر منطق المادية ويُقيم مراد الله؛ أُمر بأن يرفع قواعد البيت في وادٍ جاف، لا زرع فيه ولا ماء، لا يسكنه أحد، ولا يمرّ به إلا القليل النادر من قوافل التجارة.
مكان خالٍ من البشر، خالٍ من كل مؤشرات الجدوى الاقتصادية أو الاجتماعية.
مشروعٌ محكوم عليه بالفشل بكل المقاييس الدنيوية المادية المباشرة.
و يوما ما في ذلك الوادي المقفر وقبل تمام البناء بأعوام لم يدعُ ربه أن يرزق أهله ماءً وزرعًا فقط
لقد أطلق تلك الدعوة العجيبة التي بدأت تاريخ أم القرى
لم يطلب في دعائه أن تأتي الأجساد فقط، بل طلب ما هو أعمق وأبقى
"رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ..." (إبراهيم: 37).
لم يقل "أجسادًا" بل طلب "أفئدة".
لم يقل "تأتيهم"، بل "تهوي إليهم".
والهُويّ ليس مجرد مجيءٍ أو قدوم، بل هو سقوطٌ من علوٍّ
اندفاعٌ قويٌّ، انجذابٌ لا يُقاوم، بدافع الشوق والحب، لا بدافع العادة أو الإكراه.
إنه لم يطلب مجرد زيارة، بل طلب عشقًا وتعلقا واشتياقا.
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (البقرة: 127).
كان يرفع بناءً من حجرٍ وطين، لكنه في الحقيقة كان يبني "وطناً للقلوب"
مأوى للأرواح التائهة، قبلةً للنفوس المشتاقة.
ولأن إبراهيم.. الغريب الأول؛ دعا الله أن يجعل للغرباء بعده مكانًا يجدون فيه أنفسهم فلا يشعرون بالوحشة حين تتوجه قلوبهم إلى الوجهة الصحيحة
لم يكن بيتاً محصوراً بحدودٍ جغرافية ضيقة، بل بيتاً تتجاذبه الأفئدة بالفطرة، وتنجذب إليه الأرواح بالحب.
لهذا السبب، لا تُقاس المسافة إلى مكة بالأميال والكيلومترات، بل تُقاس بشدة الحنين وعمق الشوق.
ولهذا، تركض قلوبنا إلى مكة قبل أقدامنا. ولهذا، يسبق الدمعُ الطواف، وتسبق الآهاتُ السعي، ويسبق العشقُ كل خطوةٍ يخطوها الحاج أو المعتمر نحو ذلك البيت الأول والذي أعاد بناءه الغريب الأول.
"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مباركا" [آل عمران: 96]
"أول بيت".
تأمل الكلمة
لم يقل: أول بيتٍ لله مع أن هذا هو مفهوم الآية
لقد قال: "أُول بيتٍ وُضع للناس".
"للناس"
نحن..
من نحتاج المكان لنقترب من ربه ومولاه.
"للناس"
لكل الناس، لكل الأعراق والأزمان
بيتٌ للجائع، للغريب، للتائه، للفقير، وللقلب الممتلئ، والقلب المثقوب.
قال مجاهد رحمه الله : "هو أول بيتٍ عُبد الله فيه على وجه الأرض، بناه الملائكة قبل آدم، ثم بناه آدم، ثم رفعه إبراهيم." بيتٌ يتجاوز التاريخ، كما تتجاوز مكة الجغرافيا.
وإن إبراهيم عليه السلام... ذلك الغريب الذي قضى حياته مهاجراً، متنقلاً، باحثاً عن اليقين كما ذكرنا في الفصل السابق؛ لم يكن يبحث عن استقرارٍ دنيويٍّ زائل.
لقد كان يعلم أن وطنه الحقيقي ليس على هذه الأرض الفانية.
لكنه، رغم غربته الظاهرية، بنى لنا جميعاً، نحن الذين أتينا من بعده، "وطناً للقلوب" لا حدود له ولا يُصنّف على أنه شرقيٌّ أو غربيّ.
وطنٌ أسواره من الحنين، وأرضه من الطواف، وسماؤه من الدعاء، وهواؤه من التلبية، وماؤه من زمزم.
لقد كان الخليل أول من دعا ربه أن يكون هذا البيت مأمناً للناس، وملاذاً للخائفين، ووجهةً لكل من شُرخت أرواحهم في متاهات الدنيا وضجيجها.
فأجابه الله، وبارك دعاءه، وحفظ بيته، وجعل أفئدة الناس تهوي إليه من كل فجٍ عميق.
ولقد سار الغرباء من بعده، جيلاً بعد جيل، على نفس الطريق، يتبعون خطى ذلك الغريب الأول..
يُلبّون نداءه الذي لم ينقطع، ويجدون في رحاب بيته العتيق سكينةً وطمأنينة وروحانية لا يجدونها في أي مكانٍ آخر.
7
ومنذ آلاف السنين، لا يزال نداء إبراهيم يتردد. ليس في الهواء الذي نتنفسه، بل في أعماق أرواحنا.
كل من لبّى هذا النداء، وقصد بيت الله الحرام، كان في الحقيقة يستجيب لنداءٍ فطريٍّ كامنٍ في داخله.
كان يتبع خُطى إبراهيم المهاجر، الذي ترك كل شيءٍ وراء ظهره، وارتحل إلى ربه، وبنى من صحراء قاحلةٍ جرداء مكاناً مقدساً لا تزال قلوب الناس تهوي إليه، كما تهوي الطيور إلى أعشاشها بعد طول غياب، وكما يحنّ الغريب إلى وطنه بعد طول اغتراب.
وما زال البيت قائماً... شامخاً، بسيطاً، مهيباً.
وما زالت الأرواح تعود..
تبحث عن سكينتها
عن طهارتها
عن قربها من خالقها.
وما زالت إجابة النداء تتردد في الآفاق: "لبيك اللهم لبيك... لبيك لا شريك لك لبيك".

#أبيكم_إبراهيم 9
#الذي_وفَّى
12👍1
ملخص معاني سورة الليل
#ورد_القرآن_اليومي
1👍1
2025/07/09 03:13:14
Back to Top
HTML Embed Code: