لم يكن سيدنا إبراهيم عليه السلام مجرد رجل يؤدي واجب تبليغ الرسالة ثم يمضي وقد فعل المطلوب منه..
لقد كان قلبه يحمل شيئا أعمق..
همٌّ تجذر في روحه وكان ينضح دائما على كلماته ودعواته!
همّ هداية الناس.
همٌّ يشبه ذلك الذي يحويه قلب من كان أباً حنوناً أو صديقاً مشفقاً أو جاراً عطوفا مهتما بأحوال جيرانه.
لم تكن عظمة توحيده لتُقسّي قلبه على الخلق، ولم تكن غربته في الحق لتُنسيه مشاعر الرحمة بمن ضلّوا الطريق مخلوطة بالخوف على مصيرهم
لم يكن من أولئك الذين يسيرون وحدهم في دروب النجاة متجردين من الالتفات إلى من خلفهم.
بل كان قلبه ممتلئاً بالإشفاق والحرص على من تعثروا في الطريق.
حين نتأمل سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام، سنجد أن ذلك الحنان النبيل والحرص العجيب الذي ملأ قلبه تجاه الناس، كل الناس، حتى أولئك الذين عادوه وآذوه وكذّبوه.
كان هذا دائما أحد أبرز ملامح شخصيته
"فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [إبراهيم: 36]
يا الله!
ما أرق هذا القلب!
هذه الآية العظيمة وذلك الدعاء الجميل تلخص ذلك المعدن الإبراهيمي النفيس.
تأملها جيداً..
الشق الأول طبيعي ومتوقع
من تبعه فهو منه!
حسنا... لكن ماذا عن الشق الثاني؟
"ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيم"
من عصاه..
هل صار مباشرة عدوا يتمنى هلاكه ويدعو عليه؟
الإجابة واضحة في كلماته
ليس فيها دعاء بالهلاك على من عصاه، ولا شماتة بمصير من أعرض عن منهجه، بل سعة صدر، وامتداد أفق، وخوف صادق على مصيرهم، مع يقين برحمة الله التي يتمنى أن تتسع لهم
لقد فوّض أمرهم إلى رحمة الله الواسعة وكأنه يهمس في أذن كل عاصٍ: "لا تيأس، فباب ربك مفتوح، ورحمته تسعك إن عدت".
إنه دعاء الوالد الشفيق على أبنائه التائهين، لا دعاء المنتصر الذي يُحصي غنائمه.
هذا هو إبراهيم الذي وصفه الله: "{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}" [التوبة: 114].
قيل من معاني "الأوّاه": رقيق القلب، الذي يئنّ لمصاب الخلق، ويحمل همّ هدايتهم.
وطبعا "الحليم"... الذي يملك نفسه عند الغضب، ولا يعجل بالعقوبة، ويصفح ويعفو.
هذه الصفات ليست مجرد حُليٍّ لفظية، بل هي جوهر شخصيته، وسرّ عظمة دعوته.
إن حرص سيدنا إبراهيم على الخلق لم يكن ينبع من ضعفٍ في الحق الذي يحمله، أو من مداهنةٍ للباطل الذي يُحاربه.
بل كان ينبع من امتلاء قلبه بالرحمة التي هي ثمرة الإيمان الحقيقي.
كلما ازداد نور التوحيد رسوخاً في القلب، كلما اتسعت مساحات الرحمة والشفقة على عباد الله.
وهذا معنى دقيقٌ يغيب عن كثير من الطائعين الذين يظنون أن الغيرة على الحق تستلزم القسوة على الخلق، وأن الثبات على المبدأ يعني بالضرورة غلظة القلب وفظاظة اللسان.
إن نبي الله إبراهيم يُعلّمنا أن الرحمة الحقيقية ليست مرادفاً للتساهل في الحق، بل هي مزيجٌ متجانس من الثبات على المبدأ والشفقة على من ضلّوا عنه.
حين وقف أمام قومه الذين يعكفون على تماثيل لا تنفع ولا تضر، لم يكن سؤاله الأول لهم نابعا إلا من عمق الرحمة
سؤال يهدف لإيقاظ فطرتهم النائمة
"مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ" (الأنبياء: 52).
كأنه يربت على أكتافهم برفقٍ ويقول: "يا قوم، أفيقوا!
هذه مجرد تماثيل
مجرد حجارة صماء بكماء
كيف تعبدون ما تنحتون بأيديكم وتتركون عبادة من خلقكم وخلق كل شيء؟".
وحين واجهوه بالإيذاء والتكذيب، وأجمعوا على إلقائه في النار ونجاه الله منها ظلّ ذلك القلب الرحيم منشغلا بمصيرهم حريصا عليهم وإذا به بمجرد خروجه من النار يستكمل دعوتهم
" وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَـٰنࣰا مَّوَدَّةَ بَیۡنِكُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ ثُمَّ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضࣲ وَیَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضࣰا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِینَ"
[سُورَةُ العَنكَبُوتِ: ٢٥]
كانت هذه الكلمات في الترتيب هي أول ما تلفظ به بعد خروجه من النار التي صارت عليه بردا وسلاما
الرغبة في هداية الخلق لم تخففها حدة النيران ولم تعكرها مرارة الإيذاء
حتى والده الذي عانده، وهدده بالرجم وأمره بالهجر؛ ظل الخليل يحمل في قلبه بقية من أمل، وشيئاً من رجاء في هدايته، أو على الأقل تخفيف العذاب عنه.
ذكرنا من قبل تكرار الاستغفار له حتى نهاه الله عن ذلك
لكن الأمر لم يقتصر على الاستغفار في الدنيا
لقد امتد هذا الحرص وتلك الشفقة، وذلك الخوف النبيل على الوالد إلى مشهدٍ آخر عجيب
امتد إلى أرض المحشر، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
لقد روى لنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه تفاصيب هذا المشهد المذهل
لقد كان قلبه يحمل شيئا أعمق..
همٌّ تجذر في روحه وكان ينضح دائما على كلماته ودعواته!
همّ هداية الناس.
همٌّ يشبه ذلك الذي يحويه قلب من كان أباً حنوناً أو صديقاً مشفقاً أو جاراً عطوفا مهتما بأحوال جيرانه.
لم تكن عظمة توحيده لتُقسّي قلبه على الخلق، ولم تكن غربته في الحق لتُنسيه مشاعر الرحمة بمن ضلّوا الطريق مخلوطة بالخوف على مصيرهم
لم يكن من أولئك الذين يسيرون وحدهم في دروب النجاة متجردين من الالتفات إلى من خلفهم.
بل كان قلبه ممتلئاً بالإشفاق والحرص على من تعثروا في الطريق.
حين نتأمل سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام، سنجد أن ذلك الحنان النبيل والحرص العجيب الذي ملأ قلبه تجاه الناس، كل الناس، حتى أولئك الذين عادوه وآذوه وكذّبوه.
كان هذا دائما أحد أبرز ملامح شخصيته
"فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [إبراهيم: 36]
يا الله!
ما أرق هذا القلب!
هذه الآية العظيمة وذلك الدعاء الجميل تلخص ذلك المعدن الإبراهيمي النفيس.
تأملها جيداً..
الشق الأول طبيعي ومتوقع
من تبعه فهو منه!
حسنا... لكن ماذا عن الشق الثاني؟
"ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيم"
من عصاه..
هل صار مباشرة عدوا يتمنى هلاكه ويدعو عليه؟
الإجابة واضحة في كلماته
ليس فيها دعاء بالهلاك على من عصاه، ولا شماتة بمصير من أعرض عن منهجه، بل سعة صدر، وامتداد أفق، وخوف صادق على مصيرهم، مع يقين برحمة الله التي يتمنى أن تتسع لهم
لقد فوّض أمرهم إلى رحمة الله الواسعة وكأنه يهمس في أذن كل عاصٍ: "لا تيأس، فباب ربك مفتوح، ورحمته تسعك إن عدت".
إنه دعاء الوالد الشفيق على أبنائه التائهين، لا دعاء المنتصر الذي يُحصي غنائمه.
هذا هو إبراهيم الذي وصفه الله: "{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}" [التوبة: 114].
قيل من معاني "الأوّاه": رقيق القلب، الذي يئنّ لمصاب الخلق، ويحمل همّ هدايتهم.
وطبعا "الحليم"... الذي يملك نفسه عند الغضب، ولا يعجل بالعقوبة، ويصفح ويعفو.
هذه الصفات ليست مجرد حُليٍّ لفظية، بل هي جوهر شخصيته، وسرّ عظمة دعوته.
إن حرص سيدنا إبراهيم على الخلق لم يكن ينبع من ضعفٍ في الحق الذي يحمله، أو من مداهنةٍ للباطل الذي يُحاربه.
بل كان ينبع من امتلاء قلبه بالرحمة التي هي ثمرة الإيمان الحقيقي.
كلما ازداد نور التوحيد رسوخاً في القلب، كلما اتسعت مساحات الرحمة والشفقة على عباد الله.
وهذا معنى دقيقٌ يغيب عن كثير من الطائعين الذين يظنون أن الغيرة على الحق تستلزم القسوة على الخلق، وأن الثبات على المبدأ يعني بالضرورة غلظة القلب وفظاظة اللسان.
إن نبي الله إبراهيم يُعلّمنا أن الرحمة الحقيقية ليست مرادفاً للتساهل في الحق، بل هي مزيجٌ متجانس من الثبات على المبدأ والشفقة على من ضلّوا عنه.
حين وقف أمام قومه الذين يعكفون على تماثيل لا تنفع ولا تضر، لم يكن سؤاله الأول لهم نابعا إلا من عمق الرحمة
سؤال يهدف لإيقاظ فطرتهم النائمة
"مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ" (الأنبياء: 52).
كأنه يربت على أكتافهم برفقٍ ويقول: "يا قوم، أفيقوا!
هذه مجرد تماثيل
مجرد حجارة صماء بكماء
كيف تعبدون ما تنحتون بأيديكم وتتركون عبادة من خلقكم وخلق كل شيء؟".
وحين واجهوه بالإيذاء والتكذيب، وأجمعوا على إلقائه في النار ونجاه الله منها ظلّ ذلك القلب الرحيم منشغلا بمصيرهم حريصا عليهم وإذا به بمجرد خروجه من النار يستكمل دعوتهم
" وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَـٰنࣰا مَّوَدَّةَ بَیۡنِكُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ ثُمَّ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضࣲ وَیَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضࣰا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِینَ"
[سُورَةُ العَنكَبُوتِ: ٢٥]
كانت هذه الكلمات في الترتيب هي أول ما تلفظ به بعد خروجه من النار التي صارت عليه بردا وسلاما
الرغبة في هداية الخلق لم تخففها حدة النيران ولم تعكرها مرارة الإيذاء
حتى والده الذي عانده، وهدده بالرجم وأمره بالهجر؛ ظل الخليل يحمل في قلبه بقية من أمل، وشيئاً من رجاء في هدايته، أو على الأقل تخفيف العذاب عنه.
ذكرنا من قبل تكرار الاستغفار له حتى نهاه الله عن ذلك
لكن الأمر لم يقتصر على الاستغفار في الدنيا
لقد امتد هذا الحرص وتلك الشفقة، وذلك الخوف النبيل على الوالد إلى مشهدٍ آخر عجيب
امتد إلى أرض المحشر، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
لقد روى لنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه تفاصيب هذا المشهد المذهل
👍6❤5
"يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لاَ تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَاليَوْمَ لاَ أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ.
ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ."
يا الله! أي مشهد هذا وأي قلب يحمله الخليل!
أبوه، آزر، على وجهه سواد الذل والانكسار..
غبار الهوان والخزي.
يراه إبراهيم، فيعاتبه عتاب الحريص المشفق:
ألم أخبرك؟
ألم أنصح لك في الدنيا؟
ألم أحاول وأبذل؟
فيرد الأب بإقرار الندم المتأخر الذي لا ينفع: "اليوم لن أعصيك".
هنا، تتحرك مشاعر البنوة والشفقة في قلب الخليل من جديد ويتذكر وعد ربه له بألا يخزيه يوم القيامة، فيرى أن من أعظم الخزي أن يرى أباه "الأبعد" عن رحمة الله في هذا المآل. فيناجي ربه، لعله يجد سبيلاً لرحمةٍ أو شفاعة.
لكن كلمة الله هي العليا، وحكمه هو العدل. "إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ".
سنة إلهية لا تتبدل، وقانون لا يحابي أحداً، ولو كان أبا خليل الرحمن.
لكن من تمام إكرام الله لخليله، ومن تمام رحمته به حتى لا يرى أباه يعذب على صورته التي ألفها، يُقال له: "انظر ما تحت رجليك".
فيرى أباه قد مُسخ على هيئة "ذِيخٍ مُلْتَطِخٍ" – وهو ذكر الضبع حين تلطخه القاذورات – ثم يُسحب من قوائمه ويُلقى في النار.
هكذا يُقطع آخر أمل، وتطيب نفس الخليل بحكم الله وعدله، ويُصان عن رؤية ما يؤذيه.
هذا الحديث يكشف لنا مدى عمق حرص سيدنا إبراهيم على الخلق، و خوفه عليهم، حتى أبيه الذي مات على الشرك.
يعلمنا الخليل أن الداعية الحقيقي لا يتوقف عن حمل هم هداية الناس، ولا ييأس من عودتهم مع التسليم الكامل لحكم الله وقضائه.
هذا الجمع النادر بين الغيرة على التوحيد والبراءة من الشرك وأهله في الدنيا، وبين الرحمة الكامنة والشفقة هي ما لتلك المحاولة الأخيرة يوم القيامة
هذه الرحمة الإبراهيمية تبلغ ذروتها في ذلك المشهد القرآني المبهر
حين جاءته الملائكة بالبشرى بالولد، وأخبروه بأنهم مُرسلون لإهلاك قوم لوط الذين بلغوا من الفساد والانحراف مبلغاً لم يسبقهم إليه أحد من العالمين .
ماذا كان رد فعل إبراهيم؟
"فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ" (هود: 74-75).
يا للعجب!
يجادل في قومٍ استحقوا العذاب بجرائمهم الشنيعة!
يجادل الملائكة ويلتمس الأعذار، ويبحث عن أي بصيص أملٍ لنجاتهم.
هل نحاول مرة أخرى؟
هل استنفذ لوط كل السبل؟
هل نعطيهم فرصة لعلهم يرجعون؟
دفاع أخير يتشبث بأي حبل يقي الناس ويلات العذاب
هذه المجادلة النبيلة ليست نابعةً من اعتراض أو ضعف يقينٍ في عدل الله... حاشا وكلا..
بل هي من فيض شفقةٍ لا ينضب
من قلبٍ لا يرغب في رؤية الهلاك يحلّ بأحدٍ من عباد الله.
وهذا حال القلب السليم
إذا امتلأ بمحبة الله؛ تبع ذلك امتلاء برحمة عباد الله..
ليست رحمة العاجز المنهزم، بل رحمة الواثق بعدل ربه وعظيم رحمته، والمطمئن إلى أن حساب الناس ليس إلى البشر وأحكامهم العاجلة..
وأن دوره هو البلاغ والدعوة والشفقة، وليس الحكم وتمنى العذاب.
هذا الحرص على هداية الخلق، وهذا الخوف على مصيرهم، لم يكن خاصاً بإبراهيم وحده، بل هو سمةٌ مشتركة بين كل الأنبياء والمرسلين، ومن سار على دربهم من الصالحين.
انظر إلى خاتمهم وسيدهم، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
كم لاقى من الأذى والتكذيب والاضطهاد من قومه؟
كم مرةٍ جُرح وأُدمي وطُرد؟
رغم ذلك، حين جاءه ملك الجبال يعرض عليه أن يُطبق عليهم جبلين فيسحقوا سحقا لا قبل لبشر به؛ ماذا كان رده؟
"بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً".
يا له من أملٍ لا ينقطع في هداية البشر!
ويا لها من رحمة!
وحين اشتد عليه الأذى في الطائف، ورموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين؛ لم يدعُ عليهم بالهلاك، بل رفع يديه إلى السماء بذلك الدعاء الخالد: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".
وكرر ذات الدعاء أو قريبا منه يوم أحد حين كسروا رباعيته وأشاعوا قتله
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
كم من دمائه الطاهرة سالت من تلك الرباعية المكسورة في فم طالما كان يلهج بذكر مولاه والدعوة إلى سبيل رضاه
ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ."
يا الله! أي مشهد هذا وأي قلب يحمله الخليل!
أبوه، آزر، على وجهه سواد الذل والانكسار..
غبار الهوان والخزي.
يراه إبراهيم، فيعاتبه عتاب الحريص المشفق:
ألم أخبرك؟
ألم أنصح لك في الدنيا؟
ألم أحاول وأبذل؟
فيرد الأب بإقرار الندم المتأخر الذي لا ينفع: "اليوم لن أعصيك".
هنا، تتحرك مشاعر البنوة والشفقة في قلب الخليل من جديد ويتذكر وعد ربه له بألا يخزيه يوم القيامة، فيرى أن من أعظم الخزي أن يرى أباه "الأبعد" عن رحمة الله في هذا المآل. فيناجي ربه، لعله يجد سبيلاً لرحمةٍ أو شفاعة.
لكن كلمة الله هي العليا، وحكمه هو العدل. "إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ".
سنة إلهية لا تتبدل، وقانون لا يحابي أحداً، ولو كان أبا خليل الرحمن.
لكن من تمام إكرام الله لخليله، ومن تمام رحمته به حتى لا يرى أباه يعذب على صورته التي ألفها، يُقال له: "انظر ما تحت رجليك".
فيرى أباه قد مُسخ على هيئة "ذِيخٍ مُلْتَطِخٍ" – وهو ذكر الضبع حين تلطخه القاذورات – ثم يُسحب من قوائمه ويُلقى في النار.
هكذا يُقطع آخر أمل، وتطيب نفس الخليل بحكم الله وعدله، ويُصان عن رؤية ما يؤذيه.
هذا الحديث يكشف لنا مدى عمق حرص سيدنا إبراهيم على الخلق، و خوفه عليهم، حتى أبيه الذي مات على الشرك.
يعلمنا الخليل أن الداعية الحقيقي لا يتوقف عن حمل هم هداية الناس، ولا ييأس من عودتهم مع التسليم الكامل لحكم الله وقضائه.
هذا الجمع النادر بين الغيرة على التوحيد والبراءة من الشرك وأهله في الدنيا، وبين الرحمة الكامنة والشفقة هي ما لتلك المحاولة الأخيرة يوم القيامة
هذه الرحمة الإبراهيمية تبلغ ذروتها في ذلك المشهد القرآني المبهر
حين جاءته الملائكة بالبشرى بالولد، وأخبروه بأنهم مُرسلون لإهلاك قوم لوط الذين بلغوا من الفساد والانحراف مبلغاً لم يسبقهم إليه أحد من العالمين .
ماذا كان رد فعل إبراهيم؟
"فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ" (هود: 74-75).
يا للعجب!
يجادل في قومٍ استحقوا العذاب بجرائمهم الشنيعة!
يجادل الملائكة ويلتمس الأعذار، ويبحث عن أي بصيص أملٍ لنجاتهم.
هل نحاول مرة أخرى؟
هل استنفذ لوط كل السبل؟
هل نعطيهم فرصة لعلهم يرجعون؟
دفاع أخير يتشبث بأي حبل يقي الناس ويلات العذاب
هذه المجادلة النبيلة ليست نابعةً من اعتراض أو ضعف يقينٍ في عدل الله... حاشا وكلا..
بل هي من فيض شفقةٍ لا ينضب
من قلبٍ لا يرغب في رؤية الهلاك يحلّ بأحدٍ من عباد الله.
وهذا حال القلب السليم
إذا امتلأ بمحبة الله؛ تبع ذلك امتلاء برحمة عباد الله..
ليست رحمة العاجز المنهزم، بل رحمة الواثق بعدل ربه وعظيم رحمته، والمطمئن إلى أن حساب الناس ليس إلى البشر وأحكامهم العاجلة..
وأن دوره هو البلاغ والدعوة والشفقة، وليس الحكم وتمنى العذاب.
هذا الحرص على هداية الخلق، وهذا الخوف على مصيرهم، لم يكن خاصاً بإبراهيم وحده، بل هو سمةٌ مشتركة بين كل الأنبياء والمرسلين، ومن سار على دربهم من الصالحين.
انظر إلى خاتمهم وسيدهم، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
كم لاقى من الأذى والتكذيب والاضطهاد من قومه؟
كم مرةٍ جُرح وأُدمي وطُرد؟
رغم ذلك، حين جاءه ملك الجبال يعرض عليه أن يُطبق عليهم جبلين فيسحقوا سحقا لا قبل لبشر به؛ ماذا كان رده؟
"بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً".
يا له من أملٍ لا ينقطع في هداية البشر!
ويا لها من رحمة!
وحين اشتد عليه الأذى في الطائف، ورموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين؛ لم يدعُ عليهم بالهلاك، بل رفع يديه إلى السماء بذلك الدعاء الخالد: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".
وكرر ذات الدعاء أو قريبا منه يوم أحد حين كسروا رباعيته وأشاعوا قتله
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
كم من دمائه الطاهرة سالت من تلك الرباعية المكسورة في فم طالما كان يلهج بذكر مولاه والدعوة إلى سبيل رضاه
❤7👍3
لعل تلم الدماء اختلطت بدماء ذلك الجرح الغائر الذي غرست فيه حلقات المغفر المعدني الذي يرتديه
قبل دقائق وبيده الشريفة مسح الدماء عن وجهه
لكن هذه الجراح لم تكن أكبر همومه وقتئذ
شيء آخر ذاك الذي كان يشغله في تلك اللحظة
شيء يُعد فرعًا لمشاعر الحرص التي بلغت درجة كادت تذبـ.حه وفيها وجهه ربه قائلًا: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}
لعل تلك المشاعر اختلطت بحزن أسيف وهو يشهد مقابلة دعوته بذلك البغي ومجازاة حرصه بهذا النكران العنيف
- كيفَ يُفلِحُ قومٌ خضَّبوا وجهَ نبيِّهِم بالدَّمِ وَهوَ يَدعوهم إلى اللَّهِ؟!
- كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وأدموا وجهه وهو يدعوهم إلى ربهم؟!
هكذا تساءل في عجب
هل يفلح أُناس واجهوا الإحسان بالجحود والنكران وقابلوا دعوة الرحمن بالسيف والسنان؟؟!
سؤال منطقي وطبيعي في مواجهة تلك الجرائم الشنيعة التي اقترفوها في حقه بأبي هو وأمي
لكن الإجابة كانت درسًا لا يُنسى
درسًا لكل صاحب رسالة ولكل من تحمل تكاليف البلاغ وواجهته المصاعب والأهوال في ذلك السبيل
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
هكذا قضى الملك
وهكذا بيَّن وحكم
ليس لك من الأمر شيء
لست أنت من ستقضي في مصيرهم أو تعلم مآلهم
نعم هم ظالمون معتدون
هم مجرمون ولدماء نبيهم سفاكون
لكن ما يدريك لعل الله يتوب عليهم!
يا إلهي!!
مع كل هذا الجرم الذي اقترفوه وتأتي تلك الكلمة
يتوب عليهم؟!!
بعد أن قتلوا سبعين من صناديد الصحابة وأدموا وجه سيد ولد آدم وآذوه
نعم إذا شاء الله
ولعله يعذبهم
هذا في علمه ومن شأنه وحده
لذلك كان الدعاء.
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
تأمل كيف وصفهم
لم يزل يسميهم : "قومي"
لا يراهم أعداءً يستحقون الانتقام، بل يراهم مرضى يحتاجون إلى علاج
جهلة يحتاجون إلى تعليم،
وتائهين يحتاجون إلى هداية.
ولأجل ذلك دعا
وحرص..
وهذا عيسى ابن مريم عليه السلام، في ذلك الموقف المهيب يوم القيامة، حين يسأله الله عن قومه الذين عبدوه وأمه من دون الله، لا يعجل بذمهم أو إبداء غضبه عليهم، بل يردد تلك الكلمات التي أبكت النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً كاملة وهو يقرأها مرددا يا رب أمتي أمتي
"إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (المائدة: 118).
المسيح هنا يُفوّض الأمر كله لله، مع تلميحٍ رقيقٍ إلى أنهم "عبادك"
وكأن في هذه النسبة ما يستدرّ به لطف الله بهم ويستجلب رحمته.
حتى نوح عليه السلام، الذي دعا على قومه بالهلاك بعد ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً من الدعوة والصبر، لم يفعل ذلك إلا بعد أن أُغلقت كل أبواب الأمل، وبعد أن أوحى الله إليه: "أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ" (هود: 36).
لقد كان قطع الطمع في هدايتهم مبنياً على وحيٍ إلهي، لا على مجرد ضيق صدرٍ أو نفاد صبر.
لكن الحرص كالعادة كان أسبق وهو ما دام ألف سنة إلا خمسين
ومن سار على درب الأنبياء من الصالحين، حملوا في قلوبهم نفس هذا الهمّ، ونفس تلك الشفقة.
مؤمن سورة يس، "حبيب النجار"، يأتي من أقصى المدينة يسعى ليُنذر قومه ويُحذرهم من عاقبة تكذيب الرسل، فيقتلونه، فماذا يقول وهو يدخل الجنة؟
"قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ" (يس: 26-27).
حتى وهو في نعيم الجنة، لا ينسى قومه، ويحرص على هدايتهم ويتمنى لهم الجنة والمغفرة!
ومؤمن آل فرعون، ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه في قصر فرعون، لم يمنعه خوفه على نفسه من أن يقف صادعاً بالحق، مُحذراً قومه من عذاب الله، وداعياً إياهم إلى سبيل الرشاد.
تأمل كلماته وهو يُخاطبهم مكررا إبداء تلك الخصلة
الحرص عليهم والخوف من وقوع العذاب بهم
:{ وَقَالَ ٱلَّذِیۤ ءَامَنَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُم مِّثۡلَ یَوۡمِ ٱلۡأَحۡزَابِ }
[سُورَةُ غَافِرٍ: ٣٠].
{ وَیَـٰقَوۡمِ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ یَوۡمَ ٱلتَّنَادِ }
[سُورَةُ غَافِرٍ: ٣٢]
إنه الخوف عليهم يتكرر في كلامه كما ترى
الحرص على نجاتهم، حتى لو كانوا في صف فرعون في تلك اللحظات
لكن الأمل لم ينقطع ولعلهم يهتدون!
كذلك فعل الذين ينهون عن السوء في قصة أصحاب السبت معلنين مبدأهم الأصيل
معذرة إلى ربكم.
ولعلهم يتقون
هذه هي مدرسة الأنبياء والصالحين، مدرسة الرحمة والحرص والشفقة على الخلق، حتى على العصاة.
مدرسةٌ تُعلّمنا أن الداعية الحقيقي ليس جلاداً يُهدد ويتوعد، بل طبيباً يُشخّص الداء ويصف الدواء برفقٍ وحكمة.
وأن القلب الممتلئ بحب الله لا يمكن إلا أن يفيض بالرحمة على عباده.
قبل دقائق وبيده الشريفة مسح الدماء عن وجهه
لكن هذه الجراح لم تكن أكبر همومه وقتئذ
شيء آخر ذاك الذي كان يشغله في تلك اللحظة
شيء يُعد فرعًا لمشاعر الحرص التي بلغت درجة كادت تذبـ.حه وفيها وجهه ربه قائلًا: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}
لعل تلك المشاعر اختلطت بحزن أسيف وهو يشهد مقابلة دعوته بذلك البغي ومجازاة حرصه بهذا النكران العنيف
- كيفَ يُفلِحُ قومٌ خضَّبوا وجهَ نبيِّهِم بالدَّمِ وَهوَ يَدعوهم إلى اللَّهِ؟!
- كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وأدموا وجهه وهو يدعوهم إلى ربهم؟!
هكذا تساءل في عجب
هل يفلح أُناس واجهوا الإحسان بالجحود والنكران وقابلوا دعوة الرحمن بالسيف والسنان؟؟!
سؤال منطقي وطبيعي في مواجهة تلك الجرائم الشنيعة التي اقترفوها في حقه بأبي هو وأمي
لكن الإجابة كانت درسًا لا يُنسى
درسًا لكل صاحب رسالة ولكل من تحمل تكاليف البلاغ وواجهته المصاعب والأهوال في ذلك السبيل
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
هكذا قضى الملك
وهكذا بيَّن وحكم
ليس لك من الأمر شيء
لست أنت من ستقضي في مصيرهم أو تعلم مآلهم
نعم هم ظالمون معتدون
هم مجرمون ولدماء نبيهم سفاكون
لكن ما يدريك لعل الله يتوب عليهم!
يا إلهي!!
مع كل هذا الجرم الذي اقترفوه وتأتي تلك الكلمة
يتوب عليهم؟!!
بعد أن قتلوا سبعين من صناديد الصحابة وأدموا وجه سيد ولد آدم وآذوه
نعم إذا شاء الله
ولعله يعذبهم
هذا في علمه ومن شأنه وحده
لذلك كان الدعاء.
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
تأمل كيف وصفهم
لم يزل يسميهم : "قومي"
لا يراهم أعداءً يستحقون الانتقام، بل يراهم مرضى يحتاجون إلى علاج
جهلة يحتاجون إلى تعليم،
وتائهين يحتاجون إلى هداية.
ولأجل ذلك دعا
وحرص..
وهذا عيسى ابن مريم عليه السلام، في ذلك الموقف المهيب يوم القيامة، حين يسأله الله عن قومه الذين عبدوه وأمه من دون الله، لا يعجل بذمهم أو إبداء غضبه عليهم، بل يردد تلك الكلمات التي أبكت النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً كاملة وهو يقرأها مرددا يا رب أمتي أمتي
"إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (المائدة: 118).
المسيح هنا يُفوّض الأمر كله لله، مع تلميحٍ رقيقٍ إلى أنهم "عبادك"
وكأن في هذه النسبة ما يستدرّ به لطف الله بهم ويستجلب رحمته.
حتى نوح عليه السلام، الذي دعا على قومه بالهلاك بعد ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً من الدعوة والصبر، لم يفعل ذلك إلا بعد أن أُغلقت كل أبواب الأمل، وبعد أن أوحى الله إليه: "أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ" (هود: 36).
لقد كان قطع الطمع في هدايتهم مبنياً على وحيٍ إلهي، لا على مجرد ضيق صدرٍ أو نفاد صبر.
لكن الحرص كالعادة كان أسبق وهو ما دام ألف سنة إلا خمسين
ومن سار على درب الأنبياء من الصالحين، حملوا في قلوبهم نفس هذا الهمّ، ونفس تلك الشفقة.
مؤمن سورة يس، "حبيب النجار"، يأتي من أقصى المدينة يسعى ليُنذر قومه ويُحذرهم من عاقبة تكذيب الرسل، فيقتلونه، فماذا يقول وهو يدخل الجنة؟
"قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ" (يس: 26-27).
حتى وهو في نعيم الجنة، لا ينسى قومه، ويحرص على هدايتهم ويتمنى لهم الجنة والمغفرة!
ومؤمن آل فرعون، ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه في قصر فرعون، لم يمنعه خوفه على نفسه من أن يقف صادعاً بالحق، مُحذراً قومه من عذاب الله، وداعياً إياهم إلى سبيل الرشاد.
تأمل كلماته وهو يُخاطبهم مكررا إبداء تلك الخصلة
الحرص عليهم والخوف من وقوع العذاب بهم
:{ وَقَالَ ٱلَّذِیۤ ءَامَنَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُم مِّثۡلَ یَوۡمِ ٱلۡأَحۡزَابِ }
[سُورَةُ غَافِرٍ: ٣٠].
{ وَیَـٰقَوۡمِ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ یَوۡمَ ٱلتَّنَادِ }
[سُورَةُ غَافِرٍ: ٣٢]
إنه الخوف عليهم يتكرر في كلامه كما ترى
الحرص على نجاتهم، حتى لو كانوا في صف فرعون في تلك اللحظات
لكن الأمل لم ينقطع ولعلهم يهتدون!
كذلك فعل الذين ينهون عن السوء في قصة أصحاب السبت معلنين مبدأهم الأصيل
معذرة إلى ربكم.
ولعلهم يتقون
هذه هي مدرسة الأنبياء والصالحين، مدرسة الرحمة والحرص والشفقة على الخلق، حتى على العصاة.
مدرسةٌ تُعلّمنا أن الداعية الحقيقي ليس جلاداً يُهدد ويتوعد، بل طبيباً يُشخّص الداء ويصف الدواء برفقٍ وحكمة.
وأن القلب الممتلئ بحب الله لا يمكن إلا أن يفيض بالرحمة على عباده.
👍6❤3
للأسف حين ننظر إلى حالنا اليوم، نجد بوناً شاسعاً بين هذا النموذج الإبراهيمي المتكرر وبين واقعنا.
في زمنٍ اشتد فيه الاستقطاب، وتكاثرت فيه الخلافات، وتضخمت فيه "الأنا"، نرى قلوباً تفرح بهلاك المخالفين... أي مخالفين
ونسمع ألسنةً حداداً تشمت فيمن ضل طريقه، ونقرأ لأقلاماك مسمومة لا تعرف إلا لغة التجريح والتسفيه.
"اللهم لا توفقه لتوبة!".
سمعت وقرأت هذا الدعاء وأشباهه كثيرا في الأعوام الأخيرة يدعو به المختلفون بعضهم على بعض..
أحيانا تكون هذه الدعوات من نصيب أناس على قدر واضح من الإجرام الظاهر فعلا
لكن لحظة.. ما شأنهم بتوبة بين المرء و ربه
أوليست توبة العاصي أحبّ إلى المؤمن الطبيعي من تعذيبه؟
أليست توبة التائب تُفرح الرب سبحانه وتعالى؟
فكيف يتمنى مؤمن لعباد الله ما لا يُفرح ربه، وما لا يرتضيه أنبياؤه ورسله؟
لا يتمنى التوبة بل يدعو بضدها
الحق أنني حين سمعت هذا الدعاء لأول وهلة لأول وهلة تعجبت وتساءلت!
أي قلبٍ هذا الذي يحمل كل ذلك الحقد والغلّ؟.
أتفهم أن تدعو على من ظلمك بالقصاص منه في الدنيا أو حتى الآخرة، فهذا حقٌّ مشروع لك.
لكن أن تدعو عليه بألا يتوب!
بألا يرجع إلى الله!
بألا يُغفر له = فهذا أمرٌ يتجاوز كل حدود الاستيعاب لدى من تشرب وعيه قصص الأنبياء
وخصوصا سيدنا إبراهيم عليه السلام
َذلكم "القلب الإبراهيمي" الحاني، وهذا الحرص النبوي الشفيق، هو ما نحتاج إليه جدا في أيامنا هذه
حيث يشتد الاستقطاب، وتتعالى أصوات الكراهية، وتضيق الصدور بالخلاف
نحتاج عندئذ إلى أن نتذكر أن مهمة حامل الرسالة الأولى هي الدعوة والهداية، لا استعجال العقوبة والعذاب للناس أو حرمانهم من التوبة.
نحتاج أن نخاف على الناس من النار، لا أن نتمنى لهم دخولها.
أن نمزج بين غيرتنا على الحق وبين رحمتنا بالخلق.
معادلةٌ قد تبدو صعبة لكنها ليست كذلك لمن أدرك وفهم طبيعة الرسالة واقتدى بأصحابها وفي مقدمتهم إبراهيم عليه السلام
نعم... تحتاج إلى مجاهدةٍ للنفس، وتطهيرٍ للقلب، واستعانةٍ بالله؛لكنها ليست مستحيلة..
فقط تتطلب قلباً "أوّاهاً منيباً حليما"
قلب يجمع بين صفاء العقيدة ونقاء السريرة، وبين قوة الحجة ورقة العاطفة
بين الغيرة لله والرحمة بعباد الله. ذلك هو القلب الذي أحبه الله واتخذه خليلاً، وذلك هو القلب الذي نرجو أن يرزقنا الله شيئاً من صفاته، حتى نكون أهلاً للسير على خطى أبينا إبراهيم، ونسهم في إضاءة شموع الهداية في دروب الحائرين، بدلاً من أن نُطفئها برياح القسوة والغلظة.
وهذا مقام عظيم لا يبلغه إلا القليل ممن صفت قلوبهم وتزكت نفوسهم.
لذلك، لما وصف الله إبراهيم بالخلة، لم يكن ذلك لجمال منطقه فقط، ولا لصفاء توحيده فقط، بل لما في قلبه من صفاء جامع لكل معاني المحبة والرحمة والخوف على عباد الله.
هكذا كان الخليل.
وهكذا ينبغي أن نكون نحن أبناء أمته
فالدعوة إلى الله، في جوهرها، هي دعوة حبٍّ ورحمة بالخلق، لا دعوة كرهٍ وانتقام منهم. ومن لم يمتلئ قلبه بالرحمة للخلق، فكيف يرجو أن يكون من خاصة أهل رحمة الخالق وهو قد تناسى تلك القاعدة المطلقة
قاعدة "من لايرحم.. لا يُرحم"
#أبيكم_إبراهيم 10
#الذي_وفَّى
في زمنٍ اشتد فيه الاستقطاب، وتكاثرت فيه الخلافات، وتضخمت فيه "الأنا"، نرى قلوباً تفرح بهلاك المخالفين... أي مخالفين
ونسمع ألسنةً حداداً تشمت فيمن ضل طريقه، ونقرأ لأقلاماك مسمومة لا تعرف إلا لغة التجريح والتسفيه.
"اللهم لا توفقه لتوبة!".
سمعت وقرأت هذا الدعاء وأشباهه كثيرا في الأعوام الأخيرة يدعو به المختلفون بعضهم على بعض..
أحيانا تكون هذه الدعوات من نصيب أناس على قدر واضح من الإجرام الظاهر فعلا
لكن لحظة.. ما شأنهم بتوبة بين المرء و ربه
أوليست توبة العاصي أحبّ إلى المؤمن الطبيعي من تعذيبه؟
أليست توبة التائب تُفرح الرب سبحانه وتعالى؟
فكيف يتمنى مؤمن لعباد الله ما لا يُفرح ربه، وما لا يرتضيه أنبياؤه ورسله؟
لا يتمنى التوبة بل يدعو بضدها
الحق أنني حين سمعت هذا الدعاء لأول وهلة لأول وهلة تعجبت وتساءلت!
أي قلبٍ هذا الذي يحمل كل ذلك الحقد والغلّ؟.
أتفهم أن تدعو على من ظلمك بالقصاص منه في الدنيا أو حتى الآخرة، فهذا حقٌّ مشروع لك.
لكن أن تدعو عليه بألا يتوب!
بألا يرجع إلى الله!
بألا يُغفر له = فهذا أمرٌ يتجاوز كل حدود الاستيعاب لدى من تشرب وعيه قصص الأنبياء
وخصوصا سيدنا إبراهيم عليه السلام
َذلكم "القلب الإبراهيمي" الحاني، وهذا الحرص النبوي الشفيق، هو ما نحتاج إليه جدا في أيامنا هذه
حيث يشتد الاستقطاب، وتتعالى أصوات الكراهية، وتضيق الصدور بالخلاف
نحتاج عندئذ إلى أن نتذكر أن مهمة حامل الرسالة الأولى هي الدعوة والهداية، لا استعجال العقوبة والعذاب للناس أو حرمانهم من التوبة.
نحتاج أن نخاف على الناس من النار، لا أن نتمنى لهم دخولها.
أن نمزج بين غيرتنا على الحق وبين رحمتنا بالخلق.
معادلةٌ قد تبدو صعبة لكنها ليست كذلك لمن أدرك وفهم طبيعة الرسالة واقتدى بأصحابها وفي مقدمتهم إبراهيم عليه السلام
نعم... تحتاج إلى مجاهدةٍ للنفس، وتطهيرٍ للقلب، واستعانةٍ بالله؛لكنها ليست مستحيلة..
فقط تتطلب قلباً "أوّاهاً منيباً حليما"
قلب يجمع بين صفاء العقيدة ونقاء السريرة، وبين قوة الحجة ورقة العاطفة
بين الغيرة لله والرحمة بعباد الله. ذلك هو القلب الذي أحبه الله واتخذه خليلاً، وذلك هو القلب الذي نرجو أن يرزقنا الله شيئاً من صفاته، حتى نكون أهلاً للسير على خطى أبينا إبراهيم، ونسهم في إضاءة شموع الهداية في دروب الحائرين، بدلاً من أن نُطفئها برياح القسوة والغلظة.
وهذا مقام عظيم لا يبلغه إلا القليل ممن صفت قلوبهم وتزكت نفوسهم.
لذلك، لما وصف الله إبراهيم بالخلة، لم يكن ذلك لجمال منطقه فقط، ولا لصفاء توحيده فقط، بل لما في قلبه من صفاء جامع لكل معاني المحبة والرحمة والخوف على عباد الله.
هكذا كان الخليل.
وهكذا ينبغي أن نكون نحن أبناء أمته
فالدعوة إلى الله، في جوهرها، هي دعوة حبٍّ ورحمة بالخلق، لا دعوة كرهٍ وانتقام منهم. ومن لم يمتلئ قلبه بالرحمة للخلق، فكيف يرجو أن يكون من خاصة أهل رحمة الخالق وهو قد تناسى تلك القاعدة المطلقة
قاعدة "من لايرحم.. لا يُرحم"
#أبيكم_إبراهيم 10
#الذي_وفَّى
❤9👍5
سيدنا إبراهيم زوجا...
في زمنٍ اختلطت فيه ملامح الرجولة، وتوزعت بين صلابة جافة أو تسيبٍ مائع، بين عنفٍ أعمى أو حياءٍ مستتر؛ تأتيك سيرة إبراهيم عليه السلام لتعيد رسم الصورة الأولى: الرجولة كما أرادها الله، في ميدان الزواج لا كما يرسمها الناس في الأسواق أو على منصات الوعظ.
إنه الزوج الذي لم تُخرجه النبوة من رقّة القلب، ولم تمنعه الكرامة من الكلمة اللينة، ولم تضعف قيادته لحظة خضوعه لأمر ربه ولو كان فيه فراق الأحبة. في سيرته بيتٌ من نور، عماده الإيمان، وسقفه الحياء، وجدرانه الصبر، وأثاثه الرحمة. لم تكن الزوجية في حياته هامشًا… بل كانت بابًا من أبواب التمام الذي شهد الله له به.
هناك لحظاتٌ في التاريخ تشع بوميض كأنه نقطة ضوءٍ أزلية، لا لتُخبرنا بما كان، ولكن لتُعيد تعريف ما نحن عليه الآن.
لا شك أن من هذه اللحظات تلك التي تجلت فيها سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام..
وإن سيرته ليست مجرد قصة تُروى، بل هي مرآة صافية تجذبك للتحديق فيها لا لمجرد الانبهار ولكن لتصحيح تلك المفاهيم المشوّهة التي طالما ظننتها من المسلّمات في زمنٍ اختلطت فيه المعاني والمفاهيم..
من أهم هذه المفاهيم التي تبرزها سيرة سيدنا إبراهيم؛ تلك المتعلقة بالحياة الزوجية..
ذلك الملمح من حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام كزوج يمثل جزءا حيويا جدا في رحلته الطويلة
وفي خضم هذا الضباب الكثيف من التعريفات المستحدثة والأدوار المعكوسة، يأتيك إبراهيم عليه السلام، ليس فقط كنبيٍ معصومٍ نقتفي أثر عبادته ودعوته فحسب، ولكن كرجلٍ استطاع أن يكون زوجًا فوق العادة، في زمنٍ لم يكن فيه العالم مهيئًا بعد لفهم ما يعنيه أن يكون المرء "فوق العادة".
في سيرته الزوجية بيتٌ من نور؛ عماده الإيمان، وسقفه الحياء، وجدرانه الصبر، وأثاثه الرحمة.
لم تكن الزوجية في حياة سيدنا إبراهيم؛ هامشًا ثانويًا أو دورًا اجتماعيًا يؤديه، بل كانت من صميم ذلك الوفاء الذي استحق به شهادة السماء الخالدة:
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ} [النجم: 37]
وفَّى توحيده وفي دعوته..
ووفَّى في بنوته وفي أبوته..
ووفَّى في بيته كزوج.
إن سيرة إبراهيم عليه السلام زوجا تبرز من خلال القرآن والسنة الصحيحة لتعيد رسم الصورة الأولى للرجولة كما أرادها الله في ميدان الزواج لا كما يرسمها الناس في تصوراتهم القاصرة..
ما هي الرجولة حقًا؟
هل هي ذلك الصوت الجهوري الذي يملأ الفراغ، أم هي ذلك الصمت الحكيم الذي يحتوي الفوضى؟
هل هي تلك القسوة المتصلّبة التي لا تتفاهم، أم ذلك اللين العاقل الذي يستوعب؟
هل هي مجرد امتلاك القوة والسلطة، أم معرفة متى يمكنك ألا تستخدمها؟
وما هي القيادة في بيتٍ؟
هل هي مجرد إصدار الأوامر وفرض العقوبات، أم هي تلك القدرة العجيبة على أن تترك للنفوس مساحة لتنمو، وللأقدار متسعا لتقع بما أراد الله، وللاعوجاج الطبيعي مكانه دون إصرار على تقويم عنيف يفسد كل شيء إلى الأبد؟
كل تلك السؤالات يمكنك الإجابة عليها بنموذجية كالعادة من خلال مشاهد ومواقف حياة سيدنا إبراهيم في بيته والتي طالعنا طرفا منها في فصل الأبوة والبنوة وتمتد إلى ذلك الملمح البيتي الآخر..
ملمح الزوج.
ذلك الزوج الذي لم تُخرجه مشاغل الرسالة ومسؤوليات الدعوة من رقة قلبه، ولم تمنعه صعوبات الرحلة والبلاءات المتتالية من الكلمة اللينة، ولم تُضعف قوامته لحظةَ خضوعه المطلق واستسلامه لأمر ربه، حتى لو كان ذلك الأمر يوما سيعني فراقًا يفتت الأكباد.
لكن قبل تطرقنا لهذا المشهد فلنعد عشرات السنين لنلقى الشريكة الأولى
سارَّة
رفيقة الرحلة الطويلة وشريكة الاغتراب وحاملة اليقين الإبراهيمي
أريد منك لحظات تتأمّل المشهد بعين قلبك، لا بعين رأسك.
شابٌ يافع يترك كل شيء خلفه: الأهل، الوطن، الذكريات، الأمان المعتاد ثم يخرج مهاجرًا لا إلى شيء معلوم، ولكن إلى ربه جل وعلا.. باحثًا عن فضاءٍ يتسع لكلمة "لا إله إلا الله".
وفي يده يدُ امرأة.
لم تكن مجرد تابعٍ أُمرت باللحاق، بل كانت شريكة قرار، وصاحبة يقين.
لقد كانت سارة هي النصف الآخر من هذه الهجرات المتعددة التي امتلأت بها حياة إبراهيم
كانت الشاهد الذي لا يغيب، والقلب الذي آمن بالرحلة قبل أن تظهر وجهتها.
الذي عليه جمهور المفسرين والمؤرخين من المسلمين وأهل الكتاب أن زواجه بسارة كان في أرض بابل قبل أول هجراته من "أور" الكلدانيين
لقد كانت السيدة سارة معه منذ بدايات دعوته، وقيل أنها ابنة عمه وفي بعض الروايات أنه تزوجها مبكرا جدا قبل الدعوة أصلاً.. ثم آمنت به وخرجت معه في أول هجرة إلى حران ثم هجراته المتعددة بعد ذلك إلى أرض كنعان (فلسـ.طين) التي مكث فيها طويلا حتى نزلت بأرضها مجاعة واضطر إلى الارتحال إلى أرض أخرى..
في زمنٍ اختلطت فيه ملامح الرجولة، وتوزعت بين صلابة جافة أو تسيبٍ مائع، بين عنفٍ أعمى أو حياءٍ مستتر؛ تأتيك سيرة إبراهيم عليه السلام لتعيد رسم الصورة الأولى: الرجولة كما أرادها الله، في ميدان الزواج لا كما يرسمها الناس في الأسواق أو على منصات الوعظ.
إنه الزوج الذي لم تُخرجه النبوة من رقّة القلب، ولم تمنعه الكرامة من الكلمة اللينة، ولم تضعف قيادته لحظة خضوعه لأمر ربه ولو كان فيه فراق الأحبة. في سيرته بيتٌ من نور، عماده الإيمان، وسقفه الحياء، وجدرانه الصبر، وأثاثه الرحمة. لم تكن الزوجية في حياته هامشًا… بل كانت بابًا من أبواب التمام الذي شهد الله له به.
هناك لحظاتٌ في التاريخ تشع بوميض كأنه نقطة ضوءٍ أزلية، لا لتُخبرنا بما كان، ولكن لتُعيد تعريف ما نحن عليه الآن.
لا شك أن من هذه اللحظات تلك التي تجلت فيها سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام..
وإن سيرته ليست مجرد قصة تُروى، بل هي مرآة صافية تجذبك للتحديق فيها لا لمجرد الانبهار ولكن لتصحيح تلك المفاهيم المشوّهة التي طالما ظننتها من المسلّمات في زمنٍ اختلطت فيه المعاني والمفاهيم..
من أهم هذه المفاهيم التي تبرزها سيرة سيدنا إبراهيم؛ تلك المتعلقة بالحياة الزوجية..
ذلك الملمح من حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام كزوج يمثل جزءا حيويا جدا في رحلته الطويلة
وفي خضم هذا الضباب الكثيف من التعريفات المستحدثة والأدوار المعكوسة، يأتيك إبراهيم عليه السلام، ليس فقط كنبيٍ معصومٍ نقتفي أثر عبادته ودعوته فحسب، ولكن كرجلٍ استطاع أن يكون زوجًا فوق العادة، في زمنٍ لم يكن فيه العالم مهيئًا بعد لفهم ما يعنيه أن يكون المرء "فوق العادة".
في سيرته الزوجية بيتٌ من نور؛ عماده الإيمان، وسقفه الحياء، وجدرانه الصبر، وأثاثه الرحمة.
لم تكن الزوجية في حياة سيدنا إبراهيم؛ هامشًا ثانويًا أو دورًا اجتماعيًا يؤديه، بل كانت من صميم ذلك الوفاء الذي استحق به شهادة السماء الخالدة:
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ} [النجم: 37]
وفَّى توحيده وفي دعوته..
ووفَّى في بنوته وفي أبوته..
ووفَّى في بيته كزوج.
إن سيرة إبراهيم عليه السلام زوجا تبرز من خلال القرآن والسنة الصحيحة لتعيد رسم الصورة الأولى للرجولة كما أرادها الله في ميدان الزواج لا كما يرسمها الناس في تصوراتهم القاصرة..
ما هي الرجولة حقًا؟
هل هي ذلك الصوت الجهوري الذي يملأ الفراغ، أم هي ذلك الصمت الحكيم الذي يحتوي الفوضى؟
هل هي تلك القسوة المتصلّبة التي لا تتفاهم، أم ذلك اللين العاقل الذي يستوعب؟
هل هي مجرد امتلاك القوة والسلطة، أم معرفة متى يمكنك ألا تستخدمها؟
وما هي القيادة في بيتٍ؟
هل هي مجرد إصدار الأوامر وفرض العقوبات، أم هي تلك القدرة العجيبة على أن تترك للنفوس مساحة لتنمو، وللأقدار متسعا لتقع بما أراد الله، وللاعوجاج الطبيعي مكانه دون إصرار على تقويم عنيف يفسد كل شيء إلى الأبد؟
كل تلك السؤالات يمكنك الإجابة عليها بنموذجية كالعادة من خلال مشاهد ومواقف حياة سيدنا إبراهيم في بيته والتي طالعنا طرفا منها في فصل الأبوة والبنوة وتمتد إلى ذلك الملمح البيتي الآخر..
ملمح الزوج.
ذلك الزوج الذي لم تُخرجه مشاغل الرسالة ومسؤوليات الدعوة من رقة قلبه، ولم تمنعه صعوبات الرحلة والبلاءات المتتالية من الكلمة اللينة، ولم تُضعف قوامته لحظةَ خضوعه المطلق واستسلامه لأمر ربه، حتى لو كان ذلك الأمر يوما سيعني فراقًا يفتت الأكباد.
لكن قبل تطرقنا لهذا المشهد فلنعد عشرات السنين لنلقى الشريكة الأولى
سارَّة
رفيقة الرحلة الطويلة وشريكة الاغتراب وحاملة اليقين الإبراهيمي
أريد منك لحظات تتأمّل المشهد بعين قلبك، لا بعين رأسك.
شابٌ يافع يترك كل شيء خلفه: الأهل، الوطن، الذكريات، الأمان المعتاد ثم يخرج مهاجرًا لا إلى شيء معلوم، ولكن إلى ربه جل وعلا.. باحثًا عن فضاءٍ يتسع لكلمة "لا إله إلا الله".
وفي يده يدُ امرأة.
لم تكن مجرد تابعٍ أُمرت باللحاق، بل كانت شريكة قرار، وصاحبة يقين.
لقد كانت سارة هي النصف الآخر من هذه الهجرات المتعددة التي امتلأت بها حياة إبراهيم
كانت الشاهد الذي لا يغيب، والقلب الذي آمن بالرحلة قبل أن تظهر وجهتها.
الذي عليه جمهور المفسرين والمؤرخين من المسلمين وأهل الكتاب أن زواجه بسارة كان في أرض بابل قبل أول هجراته من "أور" الكلدانيين
لقد كانت السيدة سارة معه منذ بدايات دعوته، وقيل أنها ابنة عمه وفي بعض الروايات أنه تزوجها مبكرا جدا قبل الدعوة أصلاً.. ثم آمنت به وخرجت معه في أول هجرة إلى حران ثم هجراته المتعددة بعد ذلك إلى أرض كنعان (فلسـ.طين) التي مكث فيها طويلا حتى نزلت بأرضها مجاعة واضطر إلى الارتحال إلى أرض أخرى..
❤4👍2
إلى مصر
وعندما تطأ أقدامهما أرض مصر يواجههما اختبار من نوع آخر.
ليس هذه المرة صنمًا يُكسر أو نجما يعبد وحسب ولكن يفاجأ إبراهيم بجبروت بشرٍ يطغى.
ذاك الملك الذي لا يرى في جمال امرأة إلا غنيمة، ولا في غربة رجل إلا فرصة.
والذي تجتمع عليه الآثار أن السيدة سارة كانت كما في الحديث "أحسن الناس" لدرجة أدركا معها أن ذلك الملك الشهواني لن يتركها خصوصا أنه قد نما إلى علمهما أن هواه في الثيبات وكأن إذلال الزوج عنده غاية تكمل معالم بطشه!
في هدوء الواثقين برب العالمين قال إبراهيم: "إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليكِ، وإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فإذا سألكِ، فقولي: هو أخي".
في هذا المشهد يتجلى يقين إبراهيم في أصفى صوره
للعلماء كلام كثير حول هذا الموقف خلاصته ما قاله ابن حجر: "وإنما التجأ إلى ذلك لما خشي إن قال: هي زوجتي، أن يُقتل ويُغلب عليها، فرأى المعاريض أسلم في ذلك المقام"
هي غيرةٌ لكن لا رعونة فيها.
سبق السيف العذل والجبار قد تسلط عليهما وقـ.تل إبراهيم لن يغير من مصيرها شيء
لذا كانت الثقة بالله التي لا ارتجافٌ فيها فقد كان به حفيا. ثم كانت الحكمة التي تترك للسماء أن تتصرف، بدل أن تخوض معركة أرضية خاسرة.
ولم تكن هذه كذبة، بل كما قال العلماء "تورية" و"معاريض" تحفظ الدين والعرض
أما سارة.. فلم تكن امرأة سلبية تنتظر مصيرها.
لقد كانت التلميذة الأولى في مدرسة إبراهيم عليه السلام.
لقد قامت بما يعرفه كل مؤمن في لحظات الانكسار
توضأت وصلت، ثم رفعت يديها بدعاءٍ هو خلاصة ما تعلمته من زوج عظيم
"اللهم إن كنتَ تعلم أني آمنتُ بك وبرسولك، وأحصنتُ فرجي إلا على زوجي، فلا تسلّط عليَّ هذا الكافر."
هنا، يتجلى كل شيء.
الإيمان بالله..
الإيمان بالرسول..
ثم العفة التي هي تاج العلاقة الزوجية.
ولقد كانت الإجابة أسرع من طرفة العين. شُلّت يد الجبار، وارتعد كيانه، وأدرك أنه أمام قوة ليست من جنس الأرض.
وبعد تكرار محاولات أحبطها الدعاء الذي هو سـ.لاح يستهين به ضعاف اليقين يأس الجبار
بل وألقي الرعب في قلبه الفاجر؛ فردّها مُكرّمة، مُعظّمة بل وأهدى إليها هاجر..
تلك الكريمة الأخرى والتي ستكون بعد حين مفتاحًا لأقدارٍ أخرى عظيمة!
وكأن ما حدث كله كان إرهاصا وتمهيدا لعطاء قادم منه جاء خير البرية ﷺ فكان في طي هذا البلاء فتح أبواب من الرحمات والبركات..
لكن قبل الخوض في تفاصيل العلاقة بالسيدة الأخرى في حياة سيدنا إبراهيم لنا وقفة دقيقة مع رفيقة الرحلة الأولى
أريد منك أن تقف هنا قليلًا، وتدع هذا المعنى ينساب إلى روحك.
قبل أن يُبشَّر سيدنا إبراهيم بإسحاق، وقبل أن يولد إسماعيل، عاش إبراهيم مع السيدة سارة عقودا!
أعواما طويلة.. تمر الفصول وتتعاقب الشهور، وبيت الخليل لم يُطرق بضحكة طفل.
لكن كيف علمنا أنها أعوام طويلة بل عقود؟!
الإجابة واضحة من خلال النص القرآني
إن البشرى بإسحاق ومن قبلها بقليل ولادة إسماعيل كانت كما نص القرآن "على الكبر"
"ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی وَهَبَ لِی عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَۚ إِنَّ رَبِّی لَسَمِیعُ ٱلدُّعَاۤءِ" [سُورَةُ إِبۡرَاهِيمَ: ٣٩]
لفظ على الكبر لا يطلق على مجرد أربعيني أو خمسيني
وظاهر النصوص أن بشارة إسحاق كانت بعد زمن يسير جدا من ولادة إسماعيل
" قَالَتۡ یَـٰوَیۡلَتَىٰۤ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزࣱ وَهَـٰذَا بَعۡلِی شَیۡخًاۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءٌ عَجِیبࣱ"
[سُورَةُ هُودٍ: ٧٢]
تأمل وصف سارة لنفسها ولزوجها
عجوز وشيخ
ولقد بينت لك منذ سطور أن زواجه بها كان في مقتبل العمر أثناء ريعان الشباب
وسارة عقيم
هي حقيقةٌ يعرفها كلاهما، ويعيشان معها يومًا بعد يوم وهي قالتها بوضوح تام حين بُشرت بالغلام
إذاً قد كانت تعلم وهو يعلم
ولقد تبينا في فصل الدعاء أن إبراهيم كان يتمنى الولد الصالح
"رَبِّ هَبۡ لِی مِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ" [سُورَةُ الصَّافَّاتِ: ١٠٠]
وفي منطق الدنيا، و أعراف ذلك الزمان، كان من حقه بل ومن المتوقع أن يتزوج بأخرى طلبًا للولد الذي يرجو
ولو فعل لما كان مخطئا ولم يكن أحد ليلومه..
لكنه لم يفعل.
لعشرات الأعوام لم يفعل
بل ظل مع سارة، زوجًا واحدًا لزوجة واحدة
يشاركها غربتها، ويؤنسها في وحشتها، ويُدخلها في كل تفاصيل رحلته الإيمانية.
وحين أنجب من أخرى كان ذلك بعد سنين عددا وبطلب مباشر منها حين أهديته هاجر
لكن لماذا؟!
لماذا لم يفعل؟
الحق أن هذا السؤال حيرني طويلا ولم أجد له إلا مسارا واحدا لم أفهمه إلا من خلاله
إن إبراهيم عليه أدرك ما لم يفهمه الكثيرون بعده
الزواج ليس فقط عقدًا للإنجاب
الزواج ميثاق للروح.
وعندما تطأ أقدامهما أرض مصر يواجههما اختبار من نوع آخر.
ليس هذه المرة صنمًا يُكسر أو نجما يعبد وحسب ولكن يفاجأ إبراهيم بجبروت بشرٍ يطغى.
ذاك الملك الذي لا يرى في جمال امرأة إلا غنيمة، ولا في غربة رجل إلا فرصة.
والذي تجتمع عليه الآثار أن السيدة سارة كانت كما في الحديث "أحسن الناس" لدرجة أدركا معها أن ذلك الملك الشهواني لن يتركها خصوصا أنه قد نما إلى علمهما أن هواه في الثيبات وكأن إذلال الزوج عنده غاية تكمل معالم بطشه!
في هدوء الواثقين برب العالمين قال إبراهيم: "إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليكِ، وإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فإذا سألكِ، فقولي: هو أخي".
في هذا المشهد يتجلى يقين إبراهيم في أصفى صوره
للعلماء كلام كثير حول هذا الموقف خلاصته ما قاله ابن حجر: "وإنما التجأ إلى ذلك لما خشي إن قال: هي زوجتي، أن يُقتل ويُغلب عليها، فرأى المعاريض أسلم في ذلك المقام"
هي غيرةٌ لكن لا رعونة فيها.
سبق السيف العذل والجبار قد تسلط عليهما وقـ.تل إبراهيم لن يغير من مصيرها شيء
لذا كانت الثقة بالله التي لا ارتجافٌ فيها فقد كان به حفيا. ثم كانت الحكمة التي تترك للسماء أن تتصرف، بدل أن تخوض معركة أرضية خاسرة.
ولم تكن هذه كذبة، بل كما قال العلماء "تورية" و"معاريض" تحفظ الدين والعرض
أما سارة.. فلم تكن امرأة سلبية تنتظر مصيرها.
لقد كانت التلميذة الأولى في مدرسة إبراهيم عليه السلام.
لقد قامت بما يعرفه كل مؤمن في لحظات الانكسار
توضأت وصلت، ثم رفعت يديها بدعاءٍ هو خلاصة ما تعلمته من زوج عظيم
"اللهم إن كنتَ تعلم أني آمنتُ بك وبرسولك، وأحصنتُ فرجي إلا على زوجي، فلا تسلّط عليَّ هذا الكافر."
هنا، يتجلى كل شيء.
الإيمان بالله..
الإيمان بالرسول..
ثم العفة التي هي تاج العلاقة الزوجية.
ولقد كانت الإجابة أسرع من طرفة العين. شُلّت يد الجبار، وارتعد كيانه، وأدرك أنه أمام قوة ليست من جنس الأرض.
وبعد تكرار محاولات أحبطها الدعاء الذي هو سـ.لاح يستهين به ضعاف اليقين يأس الجبار
بل وألقي الرعب في قلبه الفاجر؛ فردّها مُكرّمة، مُعظّمة بل وأهدى إليها هاجر..
تلك الكريمة الأخرى والتي ستكون بعد حين مفتاحًا لأقدارٍ أخرى عظيمة!
وكأن ما حدث كله كان إرهاصا وتمهيدا لعطاء قادم منه جاء خير البرية ﷺ فكان في طي هذا البلاء فتح أبواب من الرحمات والبركات..
لكن قبل الخوض في تفاصيل العلاقة بالسيدة الأخرى في حياة سيدنا إبراهيم لنا وقفة دقيقة مع رفيقة الرحلة الأولى
أريد منك أن تقف هنا قليلًا، وتدع هذا المعنى ينساب إلى روحك.
قبل أن يُبشَّر سيدنا إبراهيم بإسحاق، وقبل أن يولد إسماعيل، عاش إبراهيم مع السيدة سارة عقودا!
أعواما طويلة.. تمر الفصول وتتعاقب الشهور، وبيت الخليل لم يُطرق بضحكة طفل.
لكن كيف علمنا أنها أعوام طويلة بل عقود؟!
الإجابة واضحة من خلال النص القرآني
إن البشرى بإسحاق ومن قبلها بقليل ولادة إسماعيل كانت كما نص القرآن "على الكبر"
"ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی وَهَبَ لِی عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَۚ إِنَّ رَبِّی لَسَمِیعُ ٱلدُّعَاۤءِ" [سُورَةُ إِبۡرَاهِيمَ: ٣٩]
لفظ على الكبر لا يطلق على مجرد أربعيني أو خمسيني
وظاهر النصوص أن بشارة إسحاق كانت بعد زمن يسير جدا من ولادة إسماعيل
" قَالَتۡ یَـٰوَیۡلَتَىٰۤ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزࣱ وَهَـٰذَا بَعۡلِی شَیۡخًاۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءٌ عَجِیبࣱ"
[سُورَةُ هُودٍ: ٧٢]
تأمل وصف سارة لنفسها ولزوجها
عجوز وشيخ
ولقد بينت لك منذ سطور أن زواجه بها كان في مقتبل العمر أثناء ريعان الشباب
وسارة عقيم
هي حقيقةٌ يعرفها كلاهما، ويعيشان معها يومًا بعد يوم وهي قالتها بوضوح تام حين بُشرت بالغلام
إذاً قد كانت تعلم وهو يعلم
ولقد تبينا في فصل الدعاء أن إبراهيم كان يتمنى الولد الصالح
"رَبِّ هَبۡ لِی مِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ" [سُورَةُ الصَّافَّاتِ: ١٠٠]
وفي منطق الدنيا، و أعراف ذلك الزمان، كان من حقه بل ومن المتوقع أن يتزوج بأخرى طلبًا للولد الذي يرجو
ولو فعل لما كان مخطئا ولم يكن أحد ليلومه..
لكنه لم يفعل.
لعشرات الأعوام لم يفعل
بل ظل مع سارة، زوجًا واحدًا لزوجة واحدة
يشاركها غربتها، ويؤنسها في وحشتها، ويُدخلها في كل تفاصيل رحلته الإيمانية.
وحين أنجب من أخرى كان ذلك بعد سنين عددا وبطلب مباشر منها حين أهديته هاجر
لكن لماذا؟!
لماذا لم يفعل؟
الحق أن هذا السؤال حيرني طويلا ولم أجد له إلا مسارا واحدا لم أفهمه إلا من خلاله
إن إبراهيم عليه أدرك ما لم يفهمه الكثيرون بعده
الزواج ليس فقط عقدًا للإنجاب
الزواج ميثاق للروح.
❤5👍3
العشرة الطيبة ليست دوما صفقة نفعية، بل هي رحلة مشتركة قوامها السكينة أولا.
لقد سبقت تلك المعاني تلك الأمنية المشروعة، وسبقت العشرة البشرى، وسبقت الصحبة الذرية.
لقد كان إبراهيم يقدم علاقته بسارة كإنسانة بل كشريكة قبل أن يفكر في أي شيء آخر.
أحيانًا، يكون أعظم ما تقدمه لزوجتك ليس بيتًا أو مالًا
بل ألا تتركها حين يتأخر المراد، وألا تساوم على كرامتها، وألا تختزل وجودها في دورٍ واحدٍ لم يُكتب لها بعد.
لقد ظل الخليل صابرا رغم كونه ليس مضطرا وفي هذا درسٌ آخر من دروس هذا الملمح الإبراهيمي
ملمح الزوج المحب الكريم
وحين دخلت هاجر إلى بيت إبراهيم، لم تدخل كمنافس، بل كهديةٍ من السماء اقترنت بالنجاة وإجابة الدعاء.
لكن حين حملت هاجر بإسماعيل حدثت المفارقة المعتادة والتي يصعب أن تغادر قلب امرأة..
لقد تحركت تلك الغيرة الفطرية في قلب سارة. وهذا لم يُنقص من قدرها كمؤمنة، بل أكد بشريتها، وأظهر لنا حقيقة أن الإيمان لا يلغي الطبائع..
يهذبها نعم لكنه لا يلغيها
إن سارة هي التي وهبت هاجر لإبراهيم، لكنها غارت حين حملت.
هذا يحدث وتلك طبيعة المرأة
وقد لخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله عن أمنا عائشة يوما: "غارت أمكم"
هكذا ببساطة ووضوح وقبول للطبيعة البشرية في حدود ما يمكن التعامل معه دون حيف أو جور على طرف..
هنا نرى إبراهيم زوجا حكيما عاقلا مرة أخرى.
لم يرد دليل - فيما أعلم - إنه زجر سارة أو عاقبها ولا قلل من شأن مشاعرها، أو عنّفها. بل ظاهر القصة أنه تفهّم، واحتوى، وصبر.
إنه صبر النبوة على تقلبات الطباع، ومراعاة الفطرة، وتأديب القلب بالصمت والعدل.
"استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضِّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا" [متفق عليه]
تأمل الوصية النبوية الجامعة
إن ذهبت تقيمه كسرته
ليس كل عوج يقوم بشكل كامل
ثمة أمور يفضل أن تترك كما هي كي لا ينكسر كل شيء
وإن إبراهيم عليه السلام كان يفعل ذلك لقد ترك الأمر يمرّ كما هو من سارة
لم بكسرها، ولم يزدريها، ولم يقيمها بعنف.
ثم عالج الموقف كعادته من خلال الأمر الإلهي، وليس رد الفعل البشري.
لم تذكر القصة أن ثمة معركة وقعت بين امرأتين
فقط كان هناك توزيع إلهي بديع للأدوار والأقدار.
لا حيف، لا قهر، ولا صراع.
سارة لن تُهان، وهاجر لن تُظلم.
واحدةٌ ستضحك من بشرى الملائكة في شيخوختها..
والأخرى ستُفجّر لها زمزم وتقوم مكة ببركة سعيها..
واحدةٌ ستكون أمًّا لسلسلة الأنبياء، وأخرى سيكون من نسلها خاتم الأنبياء.
موقف يُعلّمنا أن العدل في التعدد ليس ميزانًا ماديًا للّيالي والنفقات فحسب، بل هو شعورٌ قلبي، وكلمة حانية، ودعاءٌ صادق، وقدرةٌ على رؤية الحكمة الإلهية خلف حجاب الغيرة البشرية.
ولقد تحرك إبراهيم بهاجر وإسماعيل رضيعا إلى وجهة أخرى في رحلته الطويلة
وجهة عجيبة لا تشبه رحلاته الأخرى بين العراق وحران والشام ومصر
واد مقفر والأمر الإلهي واضح محدد..
هاهنا ستتركهما..
في تلك البقعة الموحشة حيث لا بشر ولا زرع ولا ماء!
ولقد عرفنا إبراهيم في سائر فصولنا السابقة بما يكفي لأن ندرك أنه سينفذ الأمر فورا وبلا أدنى تردد فهو المستسلم المتم الموفي
لكنه بشر.. وأب مشفق وزوج حنون..
لا تُروى لنا كتب السيرة موقف بكاءٍ صريح لإبراهيم، لكن القرآن يمنحنا مفتاح شخصيته المشفقة في كلمة واحدة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}.
"الأوّاه"
كثير التأوه
كثير الأنين
كثير التوجع إلى الله.
إن رجولته لم تكن صخرة صمّاء، بل قلبًا حيًا يتألم ويشعر.
لا أشك أنه قد تأوه.
وربما بكى..
لعل دمعة عطف وحزن قد سالت وهو يدير ظهره لامرأته وولده الرضيع في صحراء مكة ويرحل..
لكن ذلك البكاء أو الحزن والقلق لم يوصف لنا
إن بكاء الأنبياء في أصله لا يُسكب أمام الناس طلبًا للشفقة، بل يُرفع إلى السماء طلبًا للرحمة.
وهكذا كان الخليل، رجلاً يبكي لله
لذلك وصف لنا القرآن فقط ما ينفع وما يعني الزوج الصالح حين يخرج الأمر من يده
"رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ"
[سُورَةُ إِبۡرَاهِيمَ: ٣٧]
كل كلمة من دعائه تقطر إشفاقا و رحمة وحبا وعطفا وبيانا لتلك الأصول التي ينبغي أن تحويها الحياة الزوجية والاي فاض بها صدر إبراهيم وتجلت في دعائه ومناجاته
ومن خلال ذلك كله خرجت امرأتان بمثل هذا اليقين من بيتٍ واحد
لقد سبقت تلك المعاني تلك الأمنية المشروعة، وسبقت العشرة البشرى، وسبقت الصحبة الذرية.
لقد كان إبراهيم يقدم علاقته بسارة كإنسانة بل كشريكة قبل أن يفكر في أي شيء آخر.
أحيانًا، يكون أعظم ما تقدمه لزوجتك ليس بيتًا أو مالًا
بل ألا تتركها حين يتأخر المراد، وألا تساوم على كرامتها، وألا تختزل وجودها في دورٍ واحدٍ لم يُكتب لها بعد.
لقد ظل الخليل صابرا رغم كونه ليس مضطرا وفي هذا درسٌ آخر من دروس هذا الملمح الإبراهيمي
ملمح الزوج المحب الكريم
وحين دخلت هاجر إلى بيت إبراهيم، لم تدخل كمنافس، بل كهديةٍ من السماء اقترنت بالنجاة وإجابة الدعاء.
لكن حين حملت هاجر بإسماعيل حدثت المفارقة المعتادة والتي يصعب أن تغادر قلب امرأة..
لقد تحركت تلك الغيرة الفطرية في قلب سارة. وهذا لم يُنقص من قدرها كمؤمنة، بل أكد بشريتها، وأظهر لنا حقيقة أن الإيمان لا يلغي الطبائع..
يهذبها نعم لكنه لا يلغيها
إن سارة هي التي وهبت هاجر لإبراهيم، لكنها غارت حين حملت.
هذا يحدث وتلك طبيعة المرأة
وقد لخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله عن أمنا عائشة يوما: "غارت أمكم"
هكذا ببساطة ووضوح وقبول للطبيعة البشرية في حدود ما يمكن التعامل معه دون حيف أو جور على طرف..
هنا نرى إبراهيم زوجا حكيما عاقلا مرة أخرى.
لم يرد دليل - فيما أعلم - إنه زجر سارة أو عاقبها ولا قلل من شأن مشاعرها، أو عنّفها. بل ظاهر القصة أنه تفهّم، واحتوى، وصبر.
إنه صبر النبوة على تقلبات الطباع، ومراعاة الفطرة، وتأديب القلب بالصمت والعدل.
"استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضِّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا" [متفق عليه]
تأمل الوصية النبوية الجامعة
إن ذهبت تقيمه كسرته
ليس كل عوج يقوم بشكل كامل
ثمة أمور يفضل أن تترك كما هي كي لا ينكسر كل شيء
وإن إبراهيم عليه السلام كان يفعل ذلك لقد ترك الأمر يمرّ كما هو من سارة
لم بكسرها، ولم يزدريها، ولم يقيمها بعنف.
ثم عالج الموقف كعادته من خلال الأمر الإلهي، وليس رد الفعل البشري.
لم تذكر القصة أن ثمة معركة وقعت بين امرأتين
فقط كان هناك توزيع إلهي بديع للأدوار والأقدار.
لا حيف، لا قهر، ولا صراع.
سارة لن تُهان، وهاجر لن تُظلم.
واحدةٌ ستضحك من بشرى الملائكة في شيخوختها..
والأخرى ستُفجّر لها زمزم وتقوم مكة ببركة سعيها..
واحدةٌ ستكون أمًّا لسلسلة الأنبياء، وأخرى سيكون من نسلها خاتم الأنبياء.
موقف يُعلّمنا أن العدل في التعدد ليس ميزانًا ماديًا للّيالي والنفقات فحسب، بل هو شعورٌ قلبي، وكلمة حانية، ودعاءٌ صادق، وقدرةٌ على رؤية الحكمة الإلهية خلف حجاب الغيرة البشرية.
ولقد تحرك إبراهيم بهاجر وإسماعيل رضيعا إلى وجهة أخرى في رحلته الطويلة
وجهة عجيبة لا تشبه رحلاته الأخرى بين العراق وحران والشام ومصر
واد مقفر والأمر الإلهي واضح محدد..
هاهنا ستتركهما..
في تلك البقعة الموحشة حيث لا بشر ولا زرع ولا ماء!
ولقد عرفنا إبراهيم في سائر فصولنا السابقة بما يكفي لأن ندرك أنه سينفذ الأمر فورا وبلا أدنى تردد فهو المستسلم المتم الموفي
لكنه بشر.. وأب مشفق وزوج حنون..
لا تُروى لنا كتب السيرة موقف بكاءٍ صريح لإبراهيم، لكن القرآن يمنحنا مفتاح شخصيته المشفقة في كلمة واحدة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}.
"الأوّاه"
كثير التأوه
كثير الأنين
كثير التوجع إلى الله.
إن رجولته لم تكن صخرة صمّاء، بل قلبًا حيًا يتألم ويشعر.
لا أشك أنه قد تأوه.
وربما بكى..
لعل دمعة عطف وحزن قد سالت وهو يدير ظهره لامرأته وولده الرضيع في صحراء مكة ويرحل..
لكن ذلك البكاء أو الحزن والقلق لم يوصف لنا
إن بكاء الأنبياء في أصله لا يُسكب أمام الناس طلبًا للشفقة، بل يُرفع إلى السماء طلبًا للرحمة.
وهكذا كان الخليل، رجلاً يبكي لله
لذلك وصف لنا القرآن فقط ما ينفع وما يعني الزوج الصالح حين يخرج الأمر من يده
"رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ"
[سُورَةُ إِبۡرَاهِيمَ: ٣٧]
كل كلمة من دعائه تقطر إشفاقا و رحمة وحبا وعطفا وبيانا لتلك الأصول التي ينبغي أن تحويها الحياة الزوجية والاي فاض بها صدر إبراهيم وتجلت في دعائه ومناجاته
ومن خلال ذلك كله خرجت امرأتان بمثل هذا اليقين من بيتٍ واحد
❤8👍2
تأمل كلماتهما، فهي ثمرة تربيته.
سارة في مصر وفي مواجهة الملك الشهواني الفاجر قالت: "اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك...".
إنها تعرف أن العلاقة مع الله شخصية، وأن إيمانها هو تذكرتها للنجاة.
وهاجر في وادي مكة القاحل، لم تصرخ معاتبة ولا صاحت لائمة منتقصة
لقد سألت سؤالًا واحدًا فاصلاً: "آلله أمرك بهذا؟".
فلما جاء الجواب بنعم، قالت بلسان اليقين الذي لا يتزعزع: "إذًا لا يضيعنا".
من أين لهما هذا الفهم العميق؟
لم يكتف إبراهيم بتعاليم جافة نظرية للإيمان
لقد عاشه أمامهما.
لقد كان هو نفسه المحاضرة المتحركة. كانت أفعاله هي التربية، وصمته هو الموعظة، وتوكله هو الدرس.
وكذلك الزوج الصالح..
لا يصنع زوجة صالحة بمجرد الأمر والنهي وإن وجبا في مواضع لكن البداية أن يصنع من نفسه رجلاً صالحًا، فينعكس نور صلاحه في بيته حتى دون أن ينطق.
إن حاجتنا اليوم لهذا النموذج ماسّة
نموذج سيدنا إبراهيم كزوج
زوج عاقل لم نره يصرخ أو يقسو أو يماري.
بل رأيناه يترك ويضحي
يتحمل، ويدعو،
يسير خلف أمر الله مهما كانت العواقب العاجلة.
إنه الزوج الذي لا يعرف الكِبر، ولا يمارس التسلّط، ولا يمنُّ بعطائه، ولا يذمُّ لتقصير.
بل يُتمُّ...
كما وصفه ربه.
وهكذا كان إبراهيم أمّةً، ليس فقط في دعوته وتوحيده، بل في بيته، في رجولته، وفي زواجه.
أمّة كاملة في رجل واحد، تعلمنا كيف يكون الرجل وكيف ينبغي أن يكون الزوج.
#أبيكم_إبراهيم 11
#الذي_وفَّى
سارة في مصر وفي مواجهة الملك الشهواني الفاجر قالت: "اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك...".
إنها تعرف أن العلاقة مع الله شخصية، وأن إيمانها هو تذكرتها للنجاة.
وهاجر في وادي مكة القاحل، لم تصرخ معاتبة ولا صاحت لائمة منتقصة
لقد سألت سؤالًا واحدًا فاصلاً: "آلله أمرك بهذا؟".
فلما جاء الجواب بنعم، قالت بلسان اليقين الذي لا يتزعزع: "إذًا لا يضيعنا".
من أين لهما هذا الفهم العميق؟
لم يكتف إبراهيم بتعاليم جافة نظرية للإيمان
لقد عاشه أمامهما.
لقد كان هو نفسه المحاضرة المتحركة. كانت أفعاله هي التربية، وصمته هو الموعظة، وتوكله هو الدرس.
وكذلك الزوج الصالح..
لا يصنع زوجة صالحة بمجرد الأمر والنهي وإن وجبا في مواضع لكن البداية أن يصنع من نفسه رجلاً صالحًا، فينعكس نور صلاحه في بيته حتى دون أن ينطق.
إن حاجتنا اليوم لهذا النموذج ماسّة
نموذج سيدنا إبراهيم كزوج
زوج عاقل لم نره يصرخ أو يقسو أو يماري.
بل رأيناه يترك ويضحي
يتحمل، ويدعو،
يسير خلف أمر الله مهما كانت العواقب العاجلة.
إنه الزوج الذي لا يعرف الكِبر، ولا يمارس التسلّط، ولا يمنُّ بعطائه، ولا يذمُّ لتقصير.
بل يُتمُّ...
كما وصفه ربه.
وهكذا كان إبراهيم أمّةً، ليس فقط في دعوته وتوحيده، بل في بيته، في رجولته، وفي زواجه.
أمّة كاملة في رجل واحد، تعلمنا كيف يكون الرجل وكيف ينبغي أن يكون الزوج.
#أبيكم_إبراهيم 11
#الذي_وفَّى
❤10👍3
الحلقة الصوتية 👆
البث الختامي لسلسلة #أبيكم_إبراهيم
الحلقة على اليوتيوب 👇
https://youtu.be/hoLlfkVTZn8?si=kXummwyb8s2oIaNC
البث الختامي لسلسلة #أبيكم_إبراهيم
الحلقة على اليوتيوب 👇
https://youtu.be/hoLlfkVTZn8?si=kXummwyb8s2oIaNC
YouTube
البث الختامي لسلسلة #أبيكم_إبراهيم ll دكتور محمد علي يوسف
❤4👍2
اليوم إن شاء الله سنستأنف مجالس التفسير والتدبر عبر البث المباشر على هذه الصفحة وكنا قد توقفنا لشهر تقريبا نظرا للسلسة المؤقتة عن سيدنا إبراهيم عليه السلام والتي أتممناها هذا الأسبوع بفضل الله
موعدنا سيكون بعد صلاة العصر كالعادة إن شاء الله والمجلس الرابع عشر من تدبرات سورة آل عمران
وها هنا رابط ما سبق من المجالس
https://youtube.com/playlist?list=PLOPc-eoTaSLLxM1JPC9f9tjfCVzaWNAlF&si=wsl9Ns_Z9CLA9_aK
موعدنا سيكون بعد صلاة العصر كالعادة إن شاء الله والمجلس الرابع عشر من تدبرات سورة آل عمران
وها هنا رابط ما سبق من المجالس
https://youtube.com/playlist?list=PLOPc-eoTaSLLxM1JPC9f9tjfCVzaWNAlF&si=wsl9Ns_Z9CLA9_aK
YouTube
تدبرات سورة #آل_عمران #العودة_إلي_القرآن دكتور محمد علي يوسف
Share your videos with friends, family, and the world
❤3👍1
الحلقة الصوتية👆
یَوۡمَ تَبۡیَضُّ وُجُوهࣱ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهࣱۚ
المجلس الرابع عشر من مجالس تدبر سورة آل عمران
الآيات من 104 إلي 109
#العودة_إلى_القرآن
رابط الحلقة على اليوتيوب 👇
https://youtu.be/vPG_QAGwJeg?si=kHpOfrYjP6CYgFhY
یَوۡمَ تَبۡیَضُّ وُجُوهࣱ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهࣱۚ
المجلس الرابع عشر من مجالس تدبر سورة آل عمران
الآيات من 104 إلي 109
#العودة_إلى_القرآن
رابط الحلقة على اليوتيوب 👇
https://youtu.be/vPG_QAGwJeg?si=kHpOfrYjP6CYgFhY
YouTube
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ll دكتور محمد علي يوسف llسورة #آل_عمران 14الآيات 104-109 #العودة_إلى_القرآن
یَوۡمَ تَبۡیَضُّ وُجُوهࣱ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهࣱۚ
المجلس الرابع عشر من مجالس تدبر سورة آل عمران
الآيات من 104 إلي 109
#العودة_إلى_القرآن
المجلس الرابع عشر من مجالس تدبر سورة آل عمران
الآيات من 104 إلي 109
#العودة_إلى_القرآن
❤5
في كل بيتٍ مسلم شمعة تضيء من قبس سيدنا إبراهيم عليه السلام..
وفي جُل مواقف ومشاهد وسنن رسول الله ﷺ ستلمح ظلاً ممتدا من ظلال أبيه الخليل.
إن انتساب هذه الأمة ونبيها محمد صلى الله عليه لسيدنا إبراهيم لم يكن قط مجرد نسب عائلي تتزين به لوحات شجر الأنساب ويباهي به الخلق بعضهم على بعض
كلا..
لقد كان انتسابا روحيا..
سلالة قلبٍ سجد لله يوما فاستنار بين ظلمات الشرك، ولم يكد يرفع من السجود بعدها أبدًا.
الرسالةالمحمدية لم تكن أبدا قطيعةً مع ما قبلها، ولا بدايةً معزولةً في صحراء التاريخ بل كانت تتويجًا مهيبًا لرحلة طويلة من السير إلى الله..
هذه الرحلة التي بدأت في الجنة بآدم عليه السلام وتختم هناك يوما بإذن الله اكتظت بخير من مشى على الأرض من الأنبياء والمرسلين
لكن ثمة رجل له مقام خاص وارتباط وثيق بخاتمة تلك الرحلة..
ارتباط وجداني وروحي ومسلكي وأخلاقي ونسكي..
هذا الارتباط بين سيدنا إبراهيم وهذه الأمة بدأ قبل أن تولد أصلا
بدأ بمشهد بناء ودعاء
رجلان - أبٌ وابنه - في وادٍ مقفر غير ذي زرع لا رخاء فيه بنيان تعالى..
لا قصور ولا معابد ولا منابر
الأب يقف على حجر مرتفع والابن يناوله الحجارة ليقوم من جديد أول بيت وضع للناس كي يعبدوا ربهم
الأيدي مغبرة، والجباه تتصبب عرقا تحت شمس مكة الحارقة لكنها رغم التعب ترتفع إلى السماء بضراعة ودعاء خالص تبدأ من عنده تلك الصلة التي لا تنفصم
دعاء يسافر عبر الأزمان، وينطلق إلى المستقبل فيصل لأمةٍ لم تُخلق بعد، ولأجيالٍ ستأتي بعد آلاف السنين.
"رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَیۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَاۤ أُمَّةࣰ مُّسۡلِمَةࣰ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَیۡنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ. رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِكَ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ" [ البَقَرَةِ: ١٢٨-١٢٩]
في تلك اللحظة تحديدا وبهذه الكلامات الوضيئة؛ وُلدت بذرة النبوة المحمدية ومُهد الطريق لخروج خير أمة.
لم تكن النشأة الأولى إذاً في غار حراء، بل كانت البداية كفكرةٍ نقية، وشوقٍ عميق، تجلى في دعاءٍ أبويّ حنون صعد من قلب الخليل.
النبوة الخاتمة لكم إذاً حدثًا طارئًا في مسيرة البشرية ولكن امتداد لدعاء صادقٍ لم يسمعه أحد في ذلك الوادي القاحل،
لكن السماء سمعته، والأقدار حفظته
والله استجاب.
وفي نفس المكان، ومن نفس الذرية بعد قرون طويلة خرج نبينا محمد ﷺ فكان هو نفسه الإجابة الحية على ذلك الدعاء، والثمرة اليانعة لتلك الأمنية الصادقة.
"أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأت..."
هكذا وصف رسول الله صلى الله عليه نفسه الشريفة..
في هذه الكلمات كان يعيد كل شيء إلى جذوره الأولى..
إلى تلك السلسلة المباركة من النور الإلهي.
هو ليس فقط نبيّ مبارك ورسول كريم أُرسل في زمن معين..
هو "دعوة نبيّ".
تجسيدٌ حيٌّ لشوقٍ قديمٍ، وأمنيةٍ صادقةٍ، خرجت من قلب إبراهيم الخليل، سارت عبر القرون حتى استقرت في رحم السيدة آمنة، وأصبحت بشرًا سويًا، ونبيًا رسولاً يمشي على الأرض.
لكن هذه العلاقة المباركة وهذا الامتداد النوراني لم يتوقف عند النبيين الكريمين فقط.
لقد امتد ليشملنا نحن إلى اليوم..
الأمة
تلك التي حملت الاسم الذي اختاره أبوهم إبراهيم في دعائه
ثمرة أخرى من ثمار تلكم الأيدي الضارعة إلى السماء تدعو وتبتهل
"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"
من هنا كانت بداية التسمية التي خلدها القرآن:
" مِّلَّةَ أَبِیكُمۡ إِبۡرَ ٰهِیمَۚ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ مِن قَبۡلُ وَفِی هَـٰذَا لِیَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِیدًا عَلَیۡكُمۡ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ"
نحن لسنا إذاً غرباء عن هذه السلسلة المباركة.
لسنا مجرد متفرجين على تاريخ النبوة من بعيد..
بل نحن - إن صدقنا = جزءٌ أصيلٌ من هذا الموكب.
حين تكون موحّدًا، لا تشرك بالله شيئًا، فأنت تسير على "ملة إبراهيم" الحنيفية السمحة.
وحين تتبع سنة النبي محمد ﷺ، وتصلي عليه، وتحبه، فأنت تسبح في نفس النهر المبارك الذي لا ينقطع.
نهرٌ حفر مجراه في صحراء الشرك والوثنية نبيٌّ عظيم وسقاه بماء الوحي والهدى والرحمة نبيٌّ خاتم ونحن اليوم نقطف ثماره، ونرتوي من مائه العذب.
ولم يأتِ النبي ﷺ بدينٍ منبت عمن سبقة يقطع كل صلة بما قبله.
بل جاء ليُحيي الأصل، ليُعيد الأمة إلى فطرتها الأولى التي انحرفت عنها بفعل الأهواء والتقاليد الباطلة.
والله سبحانه وتعالى يأمره بوضوح وصراحة: "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [النحل: 123]
وفي جُل مواقف ومشاهد وسنن رسول الله ﷺ ستلمح ظلاً ممتدا من ظلال أبيه الخليل.
إن انتساب هذه الأمة ونبيها محمد صلى الله عليه لسيدنا إبراهيم لم يكن قط مجرد نسب عائلي تتزين به لوحات شجر الأنساب ويباهي به الخلق بعضهم على بعض
كلا..
لقد كان انتسابا روحيا..
سلالة قلبٍ سجد لله يوما فاستنار بين ظلمات الشرك، ولم يكد يرفع من السجود بعدها أبدًا.
الرسالةالمحمدية لم تكن أبدا قطيعةً مع ما قبلها، ولا بدايةً معزولةً في صحراء التاريخ بل كانت تتويجًا مهيبًا لرحلة طويلة من السير إلى الله..
هذه الرحلة التي بدأت في الجنة بآدم عليه السلام وتختم هناك يوما بإذن الله اكتظت بخير من مشى على الأرض من الأنبياء والمرسلين
لكن ثمة رجل له مقام خاص وارتباط وثيق بخاتمة تلك الرحلة..
ارتباط وجداني وروحي ومسلكي وأخلاقي ونسكي..
هذا الارتباط بين سيدنا إبراهيم وهذه الأمة بدأ قبل أن تولد أصلا
بدأ بمشهد بناء ودعاء
رجلان - أبٌ وابنه - في وادٍ مقفر غير ذي زرع لا رخاء فيه بنيان تعالى..
لا قصور ولا معابد ولا منابر
الأب يقف على حجر مرتفع والابن يناوله الحجارة ليقوم من جديد أول بيت وضع للناس كي يعبدوا ربهم
الأيدي مغبرة، والجباه تتصبب عرقا تحت شمس مكة الحارقة لكنها رغم التعب ترتفع إلى السماء بضراعة ودعاء خالص تبدأ من عنده تلك الصلة التي لا تنفصم
دعاء يسافر عبر الأزمان، وينطلق إلى المستقبل فيصل لأمةٍ لم تُخلق بعد، ولأجيالٍ ستأتي بعد آلاف السنين.
"رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَیۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَاۤ أُمَّةࣰ مُّسۡلِمَةࣰ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَیۡنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ. رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِكَ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ" [ البَقَرَةِ: ١٢٨-١٢٩]
في تلك اللحظة تحديدا وبهذه الكلامات الوضيئة؛ وُلدت بذرة النبوة المحمدية ومُهد الطريق لخروج خير أمة.
لم تكن النشأة الأولى إذاً في غار حراء، بل كانت البداية كفكرةٍ نقية، وشوقٍ عميق، تجلى في دعاءٍ أبويّ حنون صعد من قلب الخليل.
النبوة الخاتمة لكم إذاً حدثًا طارئًا في مسيرة البشرية ولكن امتداد لدعاء صادقٍ لم يسمعه أحد في ذلك الوادي القاحل،
لكن السماء سمعته، والأقدار حفظته
والله استجاب.
وفي نفس المكان، ومن نفس الذرية بعد قرون طويلة خرج نبينا محمد ﷺ فكان هو نفسه الإجابة الحية على ذلك الدعاء، والثمرة اليانعة لتلك الأمنية الصادقة.
"أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأت..."
هكذا وصف رسول الله صلى الله عليه نفسه الشريفة..
في هذه الكلمات كان يعيد كل شيء إلى جذوره الأولى..
إلى تلك السلسلة المباركة من النور الإلهي.
هو ليس فقط نبيّ مبارك ورسول كريم أُرسل في زمن معين..
هو "دعوة نبيّ".
تجسيدٌ حيٌّ لشوقٍ قديمٍ، وأمنيةٍ صادقةٍ، خرجت من قلب إبراهيم الخليل، سارت عبر القرون حتى استقرت في رحم السيدة آمنة، وأصبحت بشرًا سويًا، ونبيًا رسولاً يمشي على الأرض.
لكن هذه العلاقة المباركة وهذا الامتداد النوراني لم يتوقف عند النبيين الكريمين فقط.
لقد امتد ليشملنا نحن إلى اليوم..
الأمة
تلك التي حملت الاسم الذي اختاره أبوهم إبراهيم في دعائه
ثمرة أخرى من ثمار تلكم الأيدي الضارعة إلى السماء تدعو وتبتهل
"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"
من هنا كانت بداية التسمية التي خلدها القرآن:
" مِّلَّةَ أَبِیكُمۡ إِبۡرَ ٰهِیمَۚ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ مِن قَبۡلُ وَفِی هَـٰذَا لِیَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِیدًا عَلَیۡكُمۡ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ"
نحن لسنا إذاً غرباء عن هذه السلسلة المباركة.
لسنا مجرد متفرجين على تاريخ النبوة من بعيد..
بل نحن - إن صدقنا = جزءٌ أصيلٌ من هذا الموكب.
حين تكون موحّدًا، لا تشرك بالله شيئًا، فأنت تسير على "ملة إبراهيم" الحنيفية السمحة.
وحين تتبع سنة النبي محمد ﷺ، وتصلي عليه، وتحبه، فأنت تسبح في نفس النهر المبارك الذي لا ينقطع.
نهرٌ حفر مجراه في صحراء الشرك والوثنية نبيٌّ عظيم وسقاه بماء الوحي والهدى والرحمة نبيٌّ خاتم ونحن اليوم نقطف ثماره، ونرتوي من مائه العذب.
ولم يأتِ النبي ﷺ بدينٍ منبت عمن سبقة يقطع كل صلة بما قبله.
بل جاء ليُحيي الأصل، ليُعيد الأمة إلى فطرتها الأولى التي انحرفت عنها بفعل الأهواء والتقاليد الباطلة.
والله سبحانه وتعالى يأمره بوضوح وصراحة: "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [النحل: 123]
❤5