رسالة من شخص غير مهم... لمن قد يَهتم..
في خضم كثير من التعليقات التي تنصح، بلطفٍ أحياناً وبفظاظةٍ أحياناً أخرى، بتقصير المقالات وتقليل عدد السطور في زمنٍ أقل ما يُقال عنه إنه لا يحب القراءة المطولة، جاءني هذا التعليق من شخصٍ لا أعرفه:
"هو انت مهم اوى علشان حد يقرالك كل ده".
همس شيطاني في أذني، مُزيناً لي عشرات الإجابات القاسية التي أنتصر فيها لنفسي وأبرز قدرتي على قصف الجباه لكن أحمد الله أن كظمتُ غيظي واخترتُ أهونها أو هكذا أظن
كانت إجابتي ببساطة: "لا. لستُ مهماً مطلقاً، لكن لا أذكر أنني طرقتُ بابكَ أرجوكَ أن تقرأ لي سطراً".
وفعلاً، أنا لستُ مهماً قط.
لستُ كذلك إلا لعددٍ قليلٍ من البشر ربما لا يجاوز عدد أصابع اليدين..
أما تعليقات المطالبة بالتقصير، فأستطيع أن أتفهم دوافع أصحابها وأن أُقدرها، خصوصاً أن أغلبها يكون من منطلق الحرص على الانتفاع وإيصال الفائدة لأكبر شريحةٍ ممكنة العابرين في هذه المواقع التواصلية.
ورغم أنني أكدتُ مراراً أنني حين أنشر مقالاً مطولاً فهو غالباً ما يكون فصلاً من كتاب، ولا أجد للأسف الوقت ولا الجهد لاختصاره ليناسب قالب منشورٍ عابرٍ على وسيلة تواصلٍ اجتماعي تلتهم كل شيء بسرعة الضوء. لكن إذا نُظر إليه على هيئته الأصلية، فلا أظن أبداً أن قارئاً له خبرةٌ بالكتب سيجد أن 700 كلمة أو حتى ضعف هذا العدد يعد فصلاً طويلاً بمقاييس الكتابة الأدبية التي نعرفها وليس أدب التغريدات الذي لا أقلل منه وأتمنى يوما أن أجيده.
نقطةٌ أخرى تسبب بعض الالتباس، وهي طبيعة الكتابة التي يغلب عليها الطابع الأدبي التأملي أو النفسي.
هذه الكتابة، فيما أرى وأزعم، من أهم ما يميزها أن يترك الكاتب قلمه يسترسل بما يشعر به قلبه ويُحلق به خياله دون قيودٍ كثيرة.
وهذا ما تعودته في أغلب كتاباتي، ولذلك أيضاً لم أتحمل مدةً طويلة الكتابة في الصحف التي تشترط أن يكون العمود أو المقال بعددٍ معينٍ من الكلمات وهو بالمناسبة لا يقل غالباً عن العدد الذي أرفقته!
كذلك يكون من الصعب جداً عليّ أن "أُستكتب"، بمعنى أن يطلب مني موقعٌ أو منصةٌ ما أو دار نشر موضوعاً معيناً لكتابٍ أو مقال.
الكتابة بالنسبة لي ليست وظيفة، بل هي أقرب للتنفس، تأتي حين تأتي، وتختنق إن حُبست.
حتى أنا، حين أُستكتبُ نفسي، فأطالبها بتحويل سلسلة مرئية أو سمعية ألقيتها بالفعل ومادتها قد حضرتها من قبل والتفريغات المكتوبة جاهزة = أكسل جداً وأتثاقل عن تحويلها لكتاب رغم سهولة ذلك نسبياً!
حين أبث شيئاً من مكنون صدري عبر قلمي، فأتمنى أن يكون غير مُتكلف، وأرجو أن يكون مقصده إيصال فائدة.
لكن ثمة مقصد آخر
شخصي جداً وحميميّ كأنه سرٍ قديم، أعتقد أنه لا يهم أحداً لكنني على أية حال أود الاعتراف به
كثيرٌ مما أكتب هو مجرد نفثة مصدور أُخرجها كي لا تخنق روحي بكتمانها.
ذلك لأنني، وليس كما يظن البعض، لا أُجيد التعبير الشفهي عن كل ما يجيش به صدري من ألمٍ أو حيرة أو حتى فرحٍ صامت.
نعم، أنا هو نفسه الذي قد يلقي المحاضرات والبثوث المباشرة والسلاسل المرئية عبر القنوات الفضائية بطلاقةٍ قد تُوهم بالثقة، لكن إذا جاءت لحظة التعبير عن ذاته أو ألمه الشخصي أو شيءٍ يؤرقه؛ أُلجم لسانه وغاب بيانه واختار الكتمان كحصنٍ أخير.
أو ربما، إن انطلق اللسان، لم يجد من يسمع ويقدر من بني الإنسان في عالمٍ يضجّ بالمتكلمين ويفتقر للمُنصتين.
لذلك ستجد أن كثيراً من كتاباتي تكون عبارة عن (فضفضةٍ) قد لا تهمك ولا تعنيك، قد تبدو لك مجرد هذيانٍ أو أنينٍ مكتوم، لكنني قد وجدتُ أن سكبها عبر الأثير يُعينني ويُريحني بشكلٍ ما، وكأنني أُلقي بعض أحمالي في بئرٍ لا قرار له.
لذلك أرجو، إن سبب ذلك إزعاجاً لأحد، ألا يلومني.
فإن ذلك اللوم والتقريع يؤذي و يؤلم خصوصاً أصحاب الهشاشة النفسية الذين أنتمي إليهم دون اختيارٍ مني، ودون استسلامٍ لذلك الضعف الذي هو جزءٌ من إنسانيتنا جميعاً.
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
والله المستعان... على هشاشتنا، وعلى أقلامنا، وعلى من يقرأ
ومن لا يقرأ.
في خضم كثير من التعليقات التي تنصح، بلطفٍ أحياناً وبفظاظةٍ أحياناً أخرى، بتقصير المقالات وتقليل عدد السطور في زمنٍ أقل ما يُقال عنه إنه لا يحب القراءة المطولة، جاءني هذا التعليق من شخصٍ لا أعرفه:
"هو انت مهم اوى علشان حد يقرالك كل ده".
همس شيطاني في أذني، مُزيناً لي عشرات الإجابات القاسية التي أنتصر فيها لنفسي وأبرز قدرتي على قصف الجباه لكن أحمد الله أن كظمتُ غيظي واخترتُ أهونها أو هكذا أظن
كانت إجابتي ببساطة: "لا. لستُ مهماً مطلقاً، لكن لا أذكر أنني طرقتُ بابكَ أرجوكَ أن تقرأ لي سطراً".
وفعلاً، أنا لستُ مهماً قط.
لستُ كذلك إلا لعددٍ قليلٍ من البشر ربما لا يجاوز عدد أصابع اليدين..
أما تعليقات المطالبة بالتقصير، فأستطيع أن أتفهم دوافع أصحابها وأن أُقدرها، خصوصاً أن أغلبها يكون من منطلق الحرص على الانتفاع وإيصال الفائدة لأكبر شريحةٍ ممكنة العابرين في هذه المواقع التواصلية.
ورغم أنني أكدتُ مراراً أنني حين أنشر مقالاً مطولاً فهو غالباً ما يكون فصلاً من كتاب، ولا أجد للأسف الوقت ولا الجهد لاختصاره ليناسب قالب منشورٍ عابرٍ على وسيلة تواصلٍ اجتماعي تلتهم كل شيء بسرعة الضوء. لكن إذا نُظر إليه على هيئته الأصلية، فلا أظن أبداً أن قارئاً له خبرةٌ بالكتب سيجد أن 700 كلمة أو حتى ضعف هذا العدد يعد فصلاً طويلاً بمقاييس الكتابة الأدبية التي نعرفها وليس أدب التغريدات الذي لا أقلل منه وأتمنى يوما أن أجيده.
نقطةٌ أخرى تسبب بعض الالتباس، وهي طبيعة الكتابة التي يغلب عليها الطابع الأدبي التأملي أو النفسي.
هذه الكتابة، فيما أرى وأزعم، من أهم ما يميزها أن يترك الكاتب قلمه يسترسل بما يشعر به قلبه ويُحلق به خياله دون قيودٍ كثيرة.
وهذا ما تعودته في أغلب كتاباتي، ولذلك أيضاً لم أتحمل مدةً طويلة الكتابة في الصحف التي تشترط أن يكون العمود أو المقال بعددٍ معينٍ من الكلمات وهو بالمناسبة لا يقل غالباً عن العدد الذي أرفقته!
كذلك يكون من الصعب جداً عليّ أن "أُستكتب"، بمعنى أن يطلب مني موقعٌ أو منصةٌ ما أو دار نشر موضوعاً معيناً لكتابٍ أو مقال.
الكتابة بالنسبة لي ليست وظيفة، بل هي أقرب للتنفس، تأتي حين تأتي، وتختنق إن حُبست.
حتى أنا، حين أُستكتبُ نفسي، فأطالبها بتحويل سلسلة مرئية أو سمعية ألقيتها بالفعل ومادتها قد حضرتها من قبل والتفريغات المكتوبة جاهزة = أكسل جداً وأتثاقل عن تحويلها لكتاب رغم سهولة ذلك نسبياً!
حين أبث شيئاً من مكنون صدري عبر قلمي، فأتمنى أن يكون غير مُتكلف، وأرجو أن يكون مقصده إيصال فائدة.
لكن ثمة مقصد آخر
شخصي جداً وحميميّ كأنه سرٍ قديم، أعتقد أنه لا يهم أحداً لكنني على أية حال أود الاعتراف به
كثيرٌ مما أكتب هو مجرد نفثة مصدور أُخرجها كي لا تخنق روحي بكتمانها.
ذلك لأنني، وليس كما يظن البعض، لا أُجيد التعبير الشفهي عن كل ما يجيش به صدري من ألمٍ أو حيرة أو حتى فرحٍ صامت.
نعم، أنا هو نفسه الذي قد يلقي المحاضرات والبثوث المباشرة والسلاسل المرئية عبر القنوات الفضائية بطلاقةٍ قد تُوهم بالثقة، لكن إذا جاءت لحظة التعبير عن ذاته أو ألمه الشخصي أو شيءٍ يؤرقه؛ أُلجم لسانه وغاب بيانه واختار الكتمان كحصنٍ أخير.
أو ربما، إن انطلق اللسان، لم يجد من يسمع ويقدر من بني الإنسان في عالمٍ يضجّ بالمتكلمين ويفتقر للمُنصتين.
لذلك ستجد أن كثيراً من كتاباتي تكون عبارة عن (فضفضةٍ) قد لا تهمك ولا تعنيك، قد تبدو لك مجرد هذيانٍ أو أنينٍ مكتوم، لكنني قد وجدتُ أن سكبها عبر الأثير يُعينني ويُريحني بشكلٍ ما، وكأنني أُلقي بعض أحمالي في بئرٍ لا قرار له.
لذلك أرجو، إن سبب ذلك إزعاجاً لأحد، ألا يلومني.
فإن ذلك اللوم والتقريع يؤذي و يؤلم خصوصاً أصحاب الهشاشة النفسية الذين أنتمي إليهم دون اختيارٍ مني، ودون استسلامٍ لذلك الضعف الذي هو جزءٌ من إنسانيتنا جميعاً.
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
والله المستعان... على هشاشتنا، وعلى أقلامنا، وعلى من يقرأ
ومن لا يقرأ.
❤29👍29👏5
يقولون إن العين مرآة الروح.. وأنا أقول إن الدعاء بمثابة جهاز الأشعة السينية الذي يكشف ما تخبئه تلك الروح من هموم وأشواق.
الدعاء.. تلك الهمسة التي ترتفع إلى السماء، أو حتى الصرخة المكتومة في الظلمات، هي في حقيقتها ترجمة أمينة لما يعتمل في القلب.
هكذا قال ربنا مبينا عن أنبيائه: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾
تأمل الكلمات الثلاثة
كل منهم ترتبط بالأخرى
دعاء ورغبة ورهبة
مطالب تكشف ما يعتمل في الروح
كلمات تسير على حبل مشدود بين قمتي الرجاء والخوف
وعندئذ يظهر "الهمّ"
الانشغال الحقيقي.
وفي مدرسة الأنبياء القرآنية تستطيع أن تستشف همومهم من خلال كم هائل من الأدعية التي امتلأت بها آيات كتاب الله
لا تكاد تجد موضعا في القرآن ذكرت فيه قصة نبي من الأنبياء عليهم السلام إلا برز الدعاء في كلامه واضحا
أدعية الأنبياء في القرآن على كثرتها ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل هي صور دقيقة التفاصيل لقلوب عظيمة حملت همومًا بحجم الرسالات التي كُلِّفت بها.
سيدنا آدم عليه السلام، بعد تلك الزلّة الأولى، لم يدعُ بحديقة أفضل أو ثمار ألذ، بل هتف قلبه قبل لسانه: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].
هنا تظهر لك همومه الكبرى
معصيته
خوفه من الخسران
رغبته في المغفرة والرحمة
هذه هي الهموم الأولى التي تدور في فلك الهك الأعظم
همّ الدين
همّ العلاقة مع الخالق.
مثله فعل سيدنا موسى عليه السلام
﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: 16].
همٌّ لا يطيق صاحبه معه البقاء على ذنب
لا يحتمل فكرة غضب الرب.
ثم يأتي سيدنا إبراهيم، ليدعو بهمٍّ أوسع قليلاً، لكنه لا يزال في دائرة الدين: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [إبراهيم: 40].
يريد صلاح نفسه، وصلاح ذريته من بعده
هم دينك ودين أقرب الناس إليك
الآن، قف لحظة وسٌل نفسك وأجب بصدق
حين ترفع يديك، هل هذا الهمّ حاضرٌ حين تناجيه؟
دينك وصلاح أبنائك ومن تُسأل عنهم.. دين أُمَّتك؛ هل يشكل حيزا في دعائك؟
حسنا.. أترك لك الإجابة لتبقى ضمن أسرار بينك وبين مولاك جل وعلا وأرجو أن تكون بالإيجاب
لكن هل هذا يعني أن دعاء الأنبياء لم يشتمل إلا على ذلك الهم
هل كان الأنبياء من جنس آخر كالملائكة ليس لهم احتياجات في هذه الدار المؤقتة
الإجابة معروفة
الأنبياء بشر والبشر خلقهم الله وخلق في داخلهم احتياجات
والاحتياج يورث هما والمؤمن يترجم همه كما قلنا إلى ضراعة ومناجاة
صحيح أن دنياهم كانت مزرعة لهمٍّين آخرين أكبر وأكثر خطورة
لكنهم كانوا يعيشون علي هذه الأرض ويدعون بما يصلحها
يصلح الدنيا
سيدنا نوح كمنوذج لأدعية متعلقة بهم الدين ونصرته "إني مغلوب فانتصر". و "رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" وغير ذلك من أدعية يتضح فيها تملك هم الدين من قلبه
لكنه أيضا دعا وقال حين أبصر غرق ابنه فلذة كبده ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ [هود: 45]،
بغض النظر عما حدث بعد ذلك فالإشارة كانت واضحة
هو يحب ولده حبا فطريا
وهذا الحب أورث هما
وكالعادة أورث الهم دعاءً.
سيدنا زكريا أيضا له دعاء شبيه و هَمٌّ قريب، ذلك الذي وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً، يشكو وحشة الوحدة وخوف انقطاع أثر النبوة في أهله.
"رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ"
لكنه لم يرد ولداً لمجرد الأبوة – وإن كانت فطرة – بل بين مقصده في تضرع آخر: ﴿فهب لي من لدنك وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾
يرث ماذا؟
الانبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا
إنما هو امتداد الرسالة من خلال الذرية الصالحة.
مزيج رائع من الفطرة البشرية والهمّ الديني
وإن المعاناة مع البلاء الجسدي، ونقص الأموال والأنفس والثمرات يمكن تصنيفه الهم الناشيء عنهم كهمٍّ دنيوي
ولنبي الله أيوب عليه السلام نصيب وافر من هذا الهم وما يدل عليه من دعاد
قد مسه الضر سنوات وفقد صحته وماله بل ومات أبناؤه في حياته ومكث في البلاء ثمانية عشر عاما فما كان منه إلا أن تضرع وناجى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
شكاية رقيقة تفيض تأدبا، وإقرار بصفة الرحمة الإلهية. لكن بين يدي ذلك كله إظهار لهمُّ الجسد المتألم والروح المنهكة... مسني الضر
ونبي الله يونس عليه السلام في ظلمات البلاء وقد افترسه مخلوق بحري عظيم ويبدو الأمر أنه قد انتهى
لكن الدعاء لم ينته وحسن الظن لم يفرغ من القلب
"فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"
الدعاء.. تلك الهمسة التي ترتفع إلى السماء، أو حتى الصرخة المكتومة في الظلمات، هي في حقيقتها ترجمة أمينة لما يعتمل في القلب.
هكذا قال ربنا مبينا عن أنبيائه: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾
تأمل الكلمات الثلاثة
كل منهم ترتبط بالأخرى
دعاء ورغبة ورهبة
مطالب تكشف ما يعتمل في الروح
كلمات تسير على حبل مشدود بين قمتي الرجاء والخوف
وعندئذ يظهر "الهمّ"
الانشغال الحقيقي.
وفي مدرسة الأنبياء القرآنية تستطيع أن تستشف همومهم من خلال كم هائل من الأدعية التي امتلأت بها آيات كتاب الله
لا تكاد تجد موضعا في القرآن ذكرت فيه قصة نبي من الأنبياء عليهم السلام إلا برز الدعاء في كلامه واضحا
أدعية الأنبياء في القرآن على كثرتها ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل هي صور دقيقة التفاصيل لقلوب عظيمة حملت همومًا بحجم الرسالات التي كُلِّفت بها.
سيدنا آدم عليه السلام، بعد تلك الزلّة الأولى، لم يدعُ بحديقة أفضل أو ثمار ألذ، بل هتف قلبه قبل لسانه: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].
هنا تظهر لك همومه الكبرى
معصيته
خوفه من الخسران
رغبته في المغفرة والرحمة
هذه هي الهموم الأولى التي تدور في فلك الهك الأعظم
همّ الدين
همّ العلاقة مع الخالق.
مثله فعل سيدنا موسى عليه السلام
﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: 16].
همٌّ لا يطيق صاحبه معه البقاء على ذنب
لا يحتمل فكرة غضب الرب.
ثم يأتي سيدنا إبراهيم، ليدعو بهمٍّ أوسع قليلاً، لكنه لا يزال في دائرة الدين: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [إبراهيم: 40].
يريد صلاح نفسه، وصلاح ذريته من بعده
هم دينك ودين أقرب الناس إليك
الآن، قف لحظة وسٌل نفسك وأجب بصدق
حين ترفع يديك، هل هذا الهمّ حاضرٌ حين تناجيه؟
دينك وصلاح أبنائك ومن تُسأل عنهم.. دين أُمَّتك؛ هل يشكل حيزا في دعائك؟
حسنا.. أترك لك الإجابة لتبقى ضمن أسرار بينك وبين مولاك جل وعلا وأرجو أن تكون بالإيجاب
لكن هل هذا يعني أن دعاء الأنبياء لم يشتمل إلا على ذلك الهم
هل كان الأنبياء من جنس آخر كالملائكة ليس لهم احتياجات في هذه الدار المؤقتة
الإجابة معروفة
الأنبياء بشر والبشر خلقهم الله وخلق في داخلهم احتياجات
والاحتياج يورث هما والمؤمن يترجم همه كما قلنا إلى ضراعة ومناجاة
صحيح أن دنياهم كانت مزرعة لهمٍّين آخرين أكبر وأكثر خطورة
لكنهم كانوا يعيشون علي هذه الأرض ويدعون بما يصلحها
يصلح الدنيا
سيدنا نوح كمنوذج لأدعية متعلقة بهم الدين ونصرته "إني مغلوب فانتصر". و "رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" وغير ذلك من أدعية يتضح فيها تملك هم الدين من قلبه
لكنه أيضا دعا وقال حين أبصر غرق ابنه فلذة كبده ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ [هود: 45]،
بغض النظر عما حدث بعد ذلك فالإشارة كانت واضحة
هو يحب ولده حبا فطريا
وهذا الحب أورث هما
وكالعادة أورث الهم دعاءً.
سيدنا زكريا أيضا له دعاء شبيه و هَمٌّ قريب، ذلك الذي وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً، يشكو وحشة الوحدة وخوف انقطاع أثر النبوة في أهله.
"رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ"
لكنه لم يرد ولداً لمجرد الأبوة – وإن كانت فطرة – بل بين مقصده في تضرع آخر: ﴿فهب لي من لدنك وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾
يرث ماذا؟
الانبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا
إنما هو امتداد الرسالة من خلال الذرية الصالحة.
مزيج رائع من الفطرة البشرية والهمّ الديني
وإن المعاناة مع البلاء الجسدي، ونقص الأموال والأنفس والثمرات يمكن تصنيفه الهم الناشيء عنهم كهمٍّ دنيوي
ولنبي الله أيوب عليه السلام نصيب وافر من هذا الهم وما يدل عليه من دعاد
قد مسه الضر سنوات وفقد صحته وماله بل ومات أبناؤه في حياته ومكث في البلاء ثمانية عشر عاما فما كان منه إلا أن تضرع وناجى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
شكاية رقيقة تفيض تأدبا، وإقرار بصفة الرحمة الإلهية. لكن بين يدي ذلك كله إظهار لهمُّ الجسد المتألم والروح المنهكة... مسني الضر
ونبي الله يونس عليه السلام في ظلمات البلاء وقد افترسه مخلوق بحري عظيم ويبدو الأمر أنه قد انتهى
لكن الدعاء لم ينته وحسن الظن لم يفرغ من القلب
"فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"
❤11👍5
ثم كانت الاستجابة وتمت النجاة
"فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَ ٰلِكَ نُـۨجِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"
وأين كانت؟
في الدنيا يا عزيزي
كان الغم والهم ونشأ الدعاء ثم انبثقت النجاة بفضل الله
تيسير الأمر أيضا يعد من مطالب الدنيا ولقد دعا بذلك سيدنا موسى وهو مقبلٌ على تلك المهمة الثقيلة في مواجهة فرعون
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ .
قد تبدو لأول وهلة هموما دنيوية خالصة ، لكنها وإن حملت شيئا من ذلك فهي في الحقيقة امتداد لهمٍّ يتعلق بأداء الأمانة.
يريد قلباً منشرحا يتحمل الأذى، وأمراً ميسراً لا يتعثر، ولساناً فصيحاً يبلغ الحجة.
هل ترى كيف ارتبط هم الدنيا هنا بهم الدين ارتباطاً وثيقاً؟
للدنيا نصيب في هموم الأنبياء وأدعيتهم، لكنه نصيب منضبط بميزان الشرع، مرتبط غالباً بهمّ الدين، أو معبرٌ عن فطرة بشرية سوية لم تتجاوز أبدا حد الأدب مع الله.
حين أتأمل ذلك في القرآن ثم أنظر إلى هموم دنيانا التي تقبع في أدعيتنا فأسأل نفسي هل هي طلبٌ لعون على طاعة أو دفعٌ لبلاء يعيق عن خير أم أنها مجرد قائمة لا تنتهي من الرغبات الاستهلاكية والكمالية وحسب؟
حسنا حتى إن كانت كذلك فكفي بالمرء أنه يدعو لكن سؤالي لنفسي هو محض تبين لإدراك الهم
ومن كانت الدنيا همه فرق الله شمله
تلك هي المشكلة
أن تكون الدنيا هي أكبر الهم ومبلغ العلم
لكن ثمة همّ آخر تظهره دعوات النبيين والمرسلين آثرت أن يكون الأخير في تدبراتي هذه فهو الأثقل وزناً والأبعد مدى، والذي يجب أن يظلل كل همٍّ سواه
الهمّ الذي تضبط على إيقاعه كل إيقاعات الحياة
همّ الآخرة.
ومن جعل الهموم هما واحد هم المعاد كفاه الله سائر الهموم
هكذا بين رسول الله صلى الله عليه وهو الذي تحدث مرارا عن ذلك الهم الذي من اكتنف قلبه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة
وهذا لم يخل منه قط دعاء الأنبياء
نبي الله يوسف الصديق عليه السلام وهو في تمام العزة ، وفي أوج القوة والتمكين بعد سنوات السجن والبلاء.
ما الدعاء الذي ختم به حياته الحافلة؟
هل طلب امتداد ملكه أو سعة رزقه؟
الحق أن قلبه كان معلقاً بما هو أبعد وأبقى: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾
تأمل
رجل على قمة النجاح الدنيوي، والهمّ الأكبر الذي يجيش في صدره؛ حسن الختام والرفقة الصالحة في الدار الباقية.
هنا يتجلى معنى أن الدنيا مجرد قنطرة، والهم الحقيقي هو الوصول بسلام إلى الضفة الأخرى.
خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام،
ذلك الذي قضى حياته في الدعوة وتحطيم الأصنام وبناء البيت، يرتجف قلبه من هول يوم القيامة فيدعو: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
إنه لا يطلب مجرد دخول الجنة، بل يطلب الأمان من الخزي، ويحدد شرط النجاة ليعيه الجميع: القلب السليم.
همُّ سلامة القلب؛ مفتاح النجاة الأخروية
أما عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أدعيته بحراً زاخراً بهموم الآخرة، ليس له وحده بل ولأمته من بعده
ولهذا حديث آخر يطول لعله يكون قريبا
السؤال الذي يبرز إلى السطح بعد تلك الجولة المختصرة مع بعض دعاء الأنبياء هل همومنا تشبه ذلك؟
هل للآخرة هذا الحضور القوي في هموم نترجمها دعاءً؟
هل نرتجف حقاً عند تذكر يوم الحساب فندعو أم ينجينا الله يومئذ؟
هل نسأل الله بصدق قلباً سليماً وخاتمة حسنة؟ أم أن الآخرة بالنسبة لنا مجرد معلومة نظرية، كعنوان فصل في كتاب التاريخ، لا يكاد يؤثر في دعواتنا اليومية التي تستغرقها تفاصيل الدنيا الصغيرة ومخاوفها العابرة؟
يا عزيزي، دعاؤك هو بصمتك الروحية
هو كشف حسابك القلبي أمام ربك.
انظر في قائمة طلباتك وهمومك التي تبثها في مناجاتك
هل همّ الدين حاضر؟
هل يشغل همّ الأمة حيزا من تفكيرك ينعكس على تضرعك؟
وأين يقع همّ الآخرة من كل هذا؟
التوازن بين هذه الهموم، والأهم من ذلك، أولويتها في قلبك التي تنعكس في دعائك، هي التي تحدد وجهتك الحقيقية.
لا تكن كالذي يفرع كل طاقته في تزيين وتجميل واجهة بيته وينسى أساساته
، أو كالذي يلمّع سيارته الفارهة وهو لا يملك ثمن وقودها.
رتّب هموم قلبك، وتابعها واحمد الله الذي يكشف لك عن مكنون نفسك
حتى في همسات دعائك
"فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَ ٰلِكَ نُـۨجِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"
وأين كانت؟
في الدنيا يا عزيزي
كان الغم والهم ونشأ الدعاء ثم انبثقت النجاة بفضل الله
تيسير الأمر أيضا يعد من مطالب الدنيا ولقد دعا بذلك سيدنا موسى وهو مقبلٌ على تلك المهمة الثقيلة في مواجهة فرعون
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ .
قد تبدو لأول وهلة هموما دنيوية خالصة ، لكنها وإن حملت شيئا من ذلك فهي في الحقيقة امتداد لهمٍّ يتعلق بأداء الأمانة.
يريد قلباً منشرحا يتحمل الأذى، وأمراً ميسراً لا يتعثر، ولساناً فصيحاً يبلغ الحجة.
هل ترى كيف ارتبط هم الدنيا هنا بهم الدين ارتباطاً وثيقاً؟
للدنيا نصيب في هموم الأنبياء وأدعيتهم، لكنه نصيب منضبط بميزان الشرع، مرتبط غالباً بهمّ الدين، أو معبرٌ عن فطرة بشرية سوية لم تتجاوز أبدا حد الأدب مع الله.
حين أتأمل ذلك في القرآن ثم أنظر إلى هموم دنيانا التي تقبع في أدعيتنا فأسأل نفسي هل هي طلبٌ لعون على طاعة أو دفعٌ لبلاء يعيق عن خير أم أنها مجرد قائمة لا تنتهي من الرغبات الاستهلاكية والكمالية وحسب؟
حسنا حتى إن كانت كذلك فكفي بالمرء أنه يدعو لكن سؤالي لنفسي هو محض تبين لإدراك الهم
ومن كانت الدنيا همه فرق الله شمله
تلك هي المشكلة
أن تكون الدنيا هي أكبر الهم ومبلغ العلم
لكن ثمة همّ آخر تظهره دعوات النبيين والمرسلين آثرت أن يكون الأخير في تدبراتي هذه فهو الأثقل وزناً والأبعد مدى، والذي يجب أن يظلل كل همٍّ سواه
الهمّ الذي تضبط على إيقاعه كل إيقاعات الحياة
همّ الآخرة.
ومن جعل الهموم هما واحد هم المعاد كفاه الله سائر الهموم
هكذا بين رسول الله صلى الله عليه وهو الذي تحدث مرارا عن ذلك الهم الذي من اكتنف قلبه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة
وهذا لم يخل منه قط دعاء الأنبياء
نبي الله يوسف الصديق عليه السلام وهو في تمام العزة ، وفي أوج القوة والتمكين بعد سنوات السجن والبلاء.
ما الدعاء الذي ختم به حياته الحافلة؟
هل طلب امتداد ملكه أو سعة رزقه؟
الحق أن قلبه كان معلقاً بما هو أبعد وأبقى: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾
تأمل
رجل على قمة النجاح الدنيوي، والهمّ الأكبر الذي يجيش في صدره؛ حسن الختام والرفقة الصالحة في الدار الباقية.
هنا يتجلى معنى أن الدنيا مجرد قنطرة، والهم الحقيقي هو الوصول بسلام إلى الضفة الأخرى.
خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام،
ذلك الذي قضى حياته في الدعوة وتحطيم الأصنام وبناء البيت، يرتجف قلبه من هول يوم القيامة فيدعو: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
إنه لا يطلب مجرد دخول الجنة، بل يطلب الأمان من الخزي، ويحدد شرط النجاة ليعيه الجميع: القلب السليم.
همُّ سلامة القلب؛ مفتاح النجاة الأخروية
أما عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أدعيته بحراً زاخراً بهموم الآخرة، ليس له وحده بل ولأمته من بعده
ولهذا حديث آخر يطول لعله يكون قريبا
السؤال الذي يبرز إلى السطح بعد تلك الجولة المختصرة مع بعض دعاء الأنبياء هل همومنا تشبه ذلك؟
هل للآخرة هذا الحضور القوي في هموم نترجمها دعاءً؟
هل نرتجف حقاً عند تذكر يوم الحساب فندعو أم ينجينا الله يومئذ؟
هل نسأل الله بصدق قلباً سليماً وخاتمة حسنة؟ أم أن الآخرة بالنسبة لنا مجرد معلومة نظرية، كعنوان فصل في كتاب التاريخ، لا يكاد يؤثر في دعواتنا اليومية التي تستغرقها تفاصيل الدنيا الصغيرة ومخاوفها العابرة؟
يا عزيزي، دعاؤك هو بصمتك الروحية
هو كشف حسابك القلبي أمام ربك.
انظر في قائمة طلباتك وهمومك التي تبثها في مناجاتك
هل همّ الدين حاضر؟
هل يشغل همّ الأمة حيزا من تفكيرك ينعكس على تضرعك؟
وأين يقع همّ الآخرة من كل هذا؟
التوازن بين هذه الهموم، والأهم من ذلك، أولويتها في قلبك التي تنعكس في دعائك، هي التي تحدد وجهتك الحقيقية.
لا تكن كالذي يفرع كل طاقته في تزيين وتجميل واجهة بيته وينسى أساساته
، أو كالذي يلمّع سيارته الفارهة وهو لا يملك ثمن وقودها.
رتّب هموم قلبك، وتابعها واحمد الله الذي يكشف لك عن مكنون نفسك
حتى في همسات دعائك
❤18👍11😢1
تتشابكُ في وجهك الدروبُ
وتُثقلُ كاهلَكَ الهموم
تشعرُ بأنكَ تسيرُ وحيداً في صحراءَ مُوحشة لا أحدَ يرى حالك أو يسمعُ أنينَ قلبكَ
هنا عليك أن تتوقفْ للحظة وتصغِي لنداءٍ سماويٍّ يترددُ الأرجاء
نداء يحملُ في طياته دفءَ العنايةِ وسكينةَ الطمأنينة
همسُ يسري لقلبكَ المُتعب
" فَإِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُهُ"
تلك الكلمةُ التي تبدو بسيطة لأول وهلة لكنها حين تستقرُّ في أعماقِ الروح تُحدثُ فيها تغيرات عجيبة
الله يعلم..
قد تظنُّ للوهلةِ الأولى حين يتبادر الحديث عن علمهُ سبحانه أن السياق مقتصر على تجليات اسمه الرقيب الذي يحاسب المذنب حساب عليم لا تخفى عليه خافيةٌ من تقصير أو تعدي
وهذا حقٌّ لا شك فيه وهو ما يدفع المؤمن للحذرِ والخشية والمراقبة
"وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ"
فأنعم بها من رقابة تُهذبُ النفسَ وتُقومُ المسار
لكن ثمة معنى مختلف للعلم الإلهي يضفي على النفس شيئا آخر تحتاج إليه في صحراء الحياة
"وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا"
تلك الطمأنة القرآنية التي لا أعلم ما هو أجلب للسكينة منها
أن يستشعر العبد رعاية الله وحفظه
أن يرنو بقلبه إلى السماء وهو يعلم أن مولاه يسمع ويرى
أن يملأ نفسه إحساس مختلف بعلم الله ورقابته
رقابة ذات سياق مغاير للرقابة الحسابية عند المعصية والتجاوز
رقابة العناية والحفظ واللطف والحنو
تلك التي طمأن الله بها أم موسى حين أمرها: "أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ..
عدوه يتلقاه؟
مترصده يلقاه؟
نعم... لكن ماذا يضيره في ذلك وهو يصنع على عين الله وبحفظه ورعايته يتولاه
" وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي"
تأمل عظم المعنى
وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي
هل يؤذيه عدو حينئذ أو يتخطفه موج؟
إن موجا كالجبال وطوفان هادر = لم يضرا بعض الألواح والمسامير التي حُمل عليها نوح ومن معه
"وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ"
لكن السر لم يك في الألواح والدسر
كان في رقابة الحفظ و العناية والرعاية
"تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ"
إنها كما قلت رقابة مختلفة
رقابة لطيفة يستشعرها من يخلو بليل مظلم يضيئه بالقربى
بصلاة قيام واستغفار أسحار
حينئذ يستشعر قول مولاه
" الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ"
عندها يكون الصبر مختلفا وبقلب آخر
قلب يستظل في واحات الرعايةِ والحنان ويلحظ اللطفِ الذي يسري في أقدارِنا كالنّسيمِ العليل
حين تدرك أن علمه بكَ ليس فقط ليُحصي عليكَ زلاتِكَ
بل هو أيضاً ليُقدّرَ ضعفَكَ البشريّ
ليُلاحظَ دمعتكَ الصامتةَ في جوفِ الليل
ليسمعَ مناجاتِكَ الخافتةَ التي لا تبوحُ بها لأحد
ليرى صدقتكَ الخفيةَ التي أخفيتَها عن عيونِ الناس
ليعلمَ مجاهدتك الداخلية مع نفسِكَ الأمارةِ بالسوء
حين شقَّ على الصحابةِ في أول الأمر شأن الصيامِ في بداياته وحين استسلمت بعض النفوسِ لضعفها البشريّ؛ لم يأتِ العتابُ قاسياً بل جاءَ العلمُ الإلهي مُقدِّراً لذلك الضعف ومُخفِّفاً لما يبدو من شدة الحكم
وأثناء ذلك التخفيف بُث ذلك المعنى الذي تذوب له النفس شوقا
"عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ "
تأمل الكلمة.. "عَلِمَ ٱللَّهُ "
علِمَ ضعفكم
علِمَ مشقة الأمر عليكم
علِمَ كل ما أصابكم وأدى لذلك الوصف الذي لأول وهلة يستوجب عقوبة
"تختانون"
لكن مع هذا العلم كانت النتيجة مختلفة
"فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْۖ"
العلم هنا إذا لم يكن فقط للحساب
بل كان سبباً للتوبة والعفو والتيسير..
وكأن علمه بضعفنا هو بحد ذاته رحمةٌ تُخفف عنا وتفتح لنا أبواب المغفرة
ذلك اللطف نفسه يتجلى في أمور القلب الخفية..
تلك المشاعر التي قد تتسلل إلى النفس دون قصدٍ أو رغبةٍ صريحة في شأن خِطبة النساء المُعتدّات..
في سورة البقرة وفي سياق إباحة التلميح بطلب الزواج دون التصريح مع النهي عن المواعدة السرية ثم يُعقّب بكلماتٍ تكشف علمه بما وراء الكلمات
"عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا..."
علِمَ الله ما قد يجيش في صدوركم من ميلٍ ورغبة..
علِمَ أنكم بشرٌ تضعفون أمام الذكرى والحنين فلم يُعنّفكم على هذا الميل القلبي بل وجّهكم وضبط سلوككم الظاهري
مرة أخرى علمه بما في النفس لم يكن مدعاةً للعقاب بل مدعاةً للتوجيه والرحمة والتنبيه
وتُثقلُ كاهلَكَ الهموم
تشعرُ بأنكَ تسيرُ وحيداً في صحراءَ مُوحشة لا أحدَ يرى حالك أو يسمعُ أنينَ قلبكَ
هنا عليك أن تتوقفْ للحظة وتصغِي لنداءٍ سماويٍّ يترددُ الأرجاء
نداء يحملُ في طياته دفءَ العنايةِ وسكينةَ الطمأنينة
همسُ يسري لقلبكَ المُتعب
" فَإِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُهُ"
تلك الكلمةُ التي تبدو بسيطة لأول وهلة لكنها حين تستقرُّ في أعماقِ الروح تُحدثُ فيها تغيرات عجيبة
الله يعلم..
قد تظنُّ للوهلةِ الأولى حين يتبادر الحديث عن علمهُ سبحانه أن السياق مقتصر على تجليات اسمه الرقيب الذي يحاسب المذنب حساب عليم لا تخفى عليه خافيةٌ من تقصير أو تعدي
وهذا حقٌّ لا شك فيه وهو ما يدفع المؤمن للحذرِ والخشية والمراقبة
"وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ"
فأنعم بها من رقابة تُهذبُ النفسَ وتُقومُ المسار
لكن ثمة معنى مختلف للعلم الإلهي يضفي على النفس شيئا آخر تحتاج إليه في صحراء الحياة
"وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا"
تلك الطمأنة القرآنية التي لا أعلم ما هو أجلب للسكينة منها
أن يستشعر العبد رعاية الله وحفظه
أن يرنو بقلبه إلى السماء وهو يعلم أن مولاه يسمع ويرى
أن يملأ نفسه إحساس مختلف بعلم الله ورقابته
رقابة ذات سياق مغاير للرقابة الحسابية عند المعصية والتجاوز
رقابة العناية والحفظ واللطف والحنو
تلك التي طمأن الله بها أم موسى حين أمرها: "أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ..
عدوه يتلقاه؟
مترصده يلقاه؟
نعم... لكن ماذا يضيره في ذلك وهو يصنع على عين الله وبحفظه ورعايته يتولاه
" وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي"
تأمل عظم المعنى
وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي
هل يؤذيه عدو حينئذ أو يتخطفه موج؟
إن موجا كالجبال وطوفان هادر = لم يضرا بعض الألواح والمسامير التي حُمل عليها نوح ومن معه
"وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ"
لكن السر لم يك في الألواح والدسر
كان في رقابة الحفظ و العناية والرعاية
"تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ"
إنها كما قلت رقابة مختلفة
رقابة لطيفة يستشعرها من يخلو بليل مظلم يضيئه بالقربى
بصلاة قيام واستغفار أسحار
حينئذ يستشعر قول مولاه
" الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ"
عندها يكون الصبر مختلفا وبقلب آخر
قلب يستظل في واحات الرعايةِ والحنان ويلحظ اللطفِ الذي يسري في أقدارِنا كالنّسيمِ العليل
حين تدرك أن علمه بكَ ليس فقط ليُحصي عليكَ زلاتِكَ
بل هو أيضاً ليُقدّرَ ضعفَكَ البشريّ
ليُلاحظَ دمعتكَ الصامتةَ في جوفِ الليل
ليسمعَ مناجاتِكَ الخافتةَ التي لا تبوحُ بها لأحد
ليرى صدقتكَ الخفيةَ التي أخفيتَها عن عيونِ الناس
ليعلمَ مجاهدتك الداخلية مع نفسِكَ الأمارةِ بالسوء
حين شقَّ على الصحابةِ في أول الأمر شأن الصيامِ في بداياته وحين استسلمت بعض النفوسِ لضعفها البشريّ؛ لم يأتِ العتابُ قاسياً بل جاءَ العلمُ الإلهي مُقدِّراً لذلك الضعف ومُخفِّفاً لما يبدو من شدة الحكم
وأثناء ذلك التخفيف بُث ذلك المعنى الذي تذوب له النفس شوقا
"عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ "
تأمل الكلمة.. "عَلِمَ ٱللَّهُ "
علِمَ ضعفكم
علِمَ مشقة الأمر عليكم
علِمَ كل ما أصابكم وأدى لذلك الوصف الذي لأول وهلة يستوجب عقوبة
"تختانون"
لكن مع هذا العلم كانت النتيجة مختلفة
"فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْۖ"
العلم هنا إذا لم يكن فقط للحساب
بل كان سبباً للتوبة والعفو والتيسير..
وكأن علمه بضعفنا هو بحد ذاته رحمةٌ تُخفف عنا وتفتح لنا أبواب المغفرة
ذلك اللطف نفسه يتجلى في أمور القلب الخفية..
تلك المشاعر التي قد تتسلل إلى النفس دون قصدٍ أو رغبةٍ صريحة في شأن خِطبة النساء المُعتدّات..
في سورة البقرة وفي سياق إباحة التلميح بطلب الزواج دون التصريح مع النهي عن المواعدة السرية ثم يُعقّب بكلماتٍ تكشف علمه بما وراء الكلمات
"عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا..."
علِمَ الله ما قد يجيش في صدوركم من ميلٍ ورغبة..
علِمَ أنكم بشرٌ تضعفون أمام الذكرى والحنين فلم يُعنّفكم على هذا الميل القلبي بل وجّهكم وضبط سلوككم الظاهري
مرة أخرى علمه بما في النفس لم يكن مدعاةً للعقاب بل مدعاةً للتوجيه والرحمة والتنبيه
❤15👍6👏2
ويا لروعةِ المواساةِ الربانيةِ لقلبِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم وهو يتألمُ من تكذيب قومهِ وسخريتهم؛ كيف تأتي الكلماتُ كبلسمٍ شافٍ
"وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ یَضِیقُ صَدۡرُكَ بِمَا یَقُولُونَ"
يا لهامن كلمة
"نَعْلَمُ"
كلمة تحمل تربيتا وطمأنة لا مثيل لها
وكأن الرسالة الحانية: أنا أعلم ما يُحزنك
أعلم هذا الضيق الذي يعتصر صدرك
أدرك ألمك
أرى دمعتك التي تخفيها
لستَ وحدك
أنا معك
أعلمُ وأسمع وأرى
بعد ذلك يأتي تأتي المداواة السماويّة وسبيل الشفاء الرباني
"فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِینَ وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ یَأۡتِیَكَ ٱلۡیَقِینُ"
تلمس هنا سياق علم آخر تستشعره في الدنيا مع الطبيبِ الرحيمِ الذي يُشخّصُ الداءَ ويصفُ الدواءَ بلطفٍ وحنان وهذا مخلوق رحمته مهما عظمت جزء من رحمة واحدة جعلها الله في ارضه يتراحم بها الخلق
فكيف برحمته هو وله المثل الأعلى
في سورة المزمل أيضا يبرز ذات المعنى
حين كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُطيلون القيام في الليل حتى تتورم أقدامهم ويشقّ عليهم ذلك
هنا يطمئنهم الله نفس الطمأنة
إنه يعلم
" إِنَّ رَبَّكَ یَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَیِ ٱلَّیۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ یُقَدِّرُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَیَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ یَضۡرِبُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُوا۟ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰاۚ وَمَا تُقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَیۡرࣲ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَیۡرࣰا وَأَعۡظَمَ أَجۡرࣰاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمُۢ"
ثلاث مراتٍ تتكرر في الآية لفظة "عَلِمَ"
علِمَ مشقتكم في إحصاء الوقت بدقة
وعلِمَ ضعفكم البشري الذي قد يعتريه المرض أو الانشغال بالسعي في الأرض أو الجـ.hـ.اد
في سبيله فماذا كانت نتيجة هذا العلم؟
مرة أخرى التخفيف والتيسير والرحمة
"فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنۡهُۚ"
إنه علم العناية الذي يُراعي الحال ويُقدّر الظرف ويُخفف التكليف رحمةً بالعباد
حتى في أمور الإنفاق والصدقات ذلك البذل الذي قد نستصعبه أو نخشى عواقبه على دنيانا يُطمئننا الله بعلمه الشامل الذي لا يضيع عنده أجر المحسنين
"وَمَاۤ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُهُۥۗ..."
هكذا بوضوح
لا تخف أيها المنفق
أنفقْ في سبيلي
ابذلْ ما تستطيع فإن ما تُقدمه اليوم مهما كان صغيراً في عينك هو معلومٌ عندي محفوظٌ في سجلات ملائكتي؛ وسأُجزيك عليه أضعافاً مضاعفة
ببساطة؛ علمه بإنفاقك هو ضمانٌ لجزائك.
حتى في ساحات الوغى حيث تشتدّ الخطوب وتُصبح النفوس في أمسّ الحاجة للتثبيت يأتي علم الله ليُخفف عن المؤمنين ويربط على قلوبهم وبعد أن أمرهم بالصبر والثبات في مواجهة العدو حتى وإن كان عددهم عشرة أضعاف عددكم = عاد ليُخفف عنهم في سورة الأنفال قائلاً: "ٱلۡـَٔـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِیكُمۡ ضَعۡفࣰاۚ..."
تأمل ما ارتبط بالتخفيف من جديد
علمه
لقد علِمَ ضعفكم البشري
علِمَ ما قد يعتريكم من خوفٍ أو تعب
فخفف عنكم الحكم الأول وربط النصر بصبركم ويقينكم وإذنه بالنصر قبل كل ذلك
فيا أيها القلبُ المُتعب
ويا أيتها الروحُ المُنكسرة
يا من تشعرُ بأن همومَكَ أكبرُ منكَ وأن لا أحدَ يعلمُ بحالِكَ
ارفعْ عين بصيرتك وانظرْ بها إلى السماءِ مستحضرا هذا المعنى الذي ينبغي أن يكون شعارا يتوسط سائر أحوال حياتك
"فإن الله يعلمه"
يعلم طاعتك وتقربك وتعلقك
يعلم صدقتك فيُباركها وينميها
يعلم ضعفك فيُقويك ويرحمك
يعلم همّك فيُفرّجه ويواسيك
يعلم ألمك فيشفي قلبك ويداويك
و يعلم صبرك فيُثيبك ويوفيك أجرك بغير حساب
علمه يا صديقي ليس فقط رقابةً تُخيف بل هو أيضاً عنايةٌ تُطمئن ورعايةٌ تحفظ ولطفٌ يسري في أقدارك دون أن تشعر
استحضر هذا المعنى في قلبك دائماً و إلى جوار مراقبتك لعلمه وسمعه بصره بقلب الخائف المترقب للعقاب؛ اجعل معها لحظ المحبّ وتعلق الواثق برعاية مولاه وعلمه بحاله فإن هذا وربي أعظمِ ما تطمئنُ بهِ القلوبُ المتعبة وتستكين النفوس المنهكة
"أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"
ومع هذا الذكر لذاك العلم؛ فأيُّ حزنٍ يبقى؟
وأيُّ همٍّ يدوم؟
وأي وحشة تستمر؟
عشْ في كنف هذا العلم الإلهي الشامل وظني بالله أن السكينة ستملأ قلبك والطمأنينة ستسكن روحك والأمل سيُضيء دروبك مهما اشتدت الظلمات
أو تعاظمت الخطوب
"وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ یَضِیقُ صَدۡرُكَ بِمَا یَقُولُونَ"
يا لهامن كلمة
"نَعْلَمُ"
كلمة تحمل تربيتا وطمأنة لا مثيل لها
وكأن الرسالة الحانية: أنا أعلم ما يُحزنك
أعلم هذا الضيق الذي يعتصر صدرك
أدرك ألمك
أرى دمعتك التي تخفيها
لستَ وحدك
أنا معك
أعلمُ وأسمع وأرى
بعد ذلك يأتي تأتي المداواة السماويّة وسبيل الشفاء الرباني
"فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِینَ وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ یَأۡتِیَكَ ٱلۡیَقِینُ"
تلمس هنا سياق علم آخر تستشعره في الدنيا مع الطبيبِ الرحيمِ الذي يُشخّصُ الداءَ ويصفُ الدواءَ بلطفٍ وحنان وهذا مخلوق رحمته مهما عظمت جزء من رحمة واحدة جعلها الله في ارضه يتراحم بها الخلق
فكيف برحمته هو وله المثل الأعلى
في سورة المزمل أيضا يبرز ذات المعنى
حين كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُطيلون القيام في الليل حتى تتورم أقدامهم ويشقّ عليهم ذلك
هنا يطمئنهم الله نفس الطمأنة
إنه يعلم
" إِنَّ رَبَّكَ یَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَیِ ٱلَّیۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ یُقَدِّرُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَیَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ یَضۡرِبُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُوا۟ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰاۚ وَمَا تُقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَیۡرࣲ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَیۡرࣰا وَأَعۡظَمَ أَجۡرࣰاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمُۢ"
ثلاث مراتٍ تتكرر في الآية لفظة "عَلِمَ"
علِمَ مشقتكم في إحصاء الوقت بدقة
وعلِمَ ضعفكم البشري الذي قد يعتريه المرض أو الانشغال بالسعي في الأرض أو الجـ.hـ.اد
في سبيله فماذا كانت نتيجة هذا العلم؟
مرة أخرى التخفيف والتيسير والرحمة
"فَٱقۡرَءُوا۟ مَا تَیَسَّرَ مِنۡهُۚ"
إنه علم العناية الذي يُراعي الحال ويُقدّر الظرف ويُخفف التكليف رحمةً بالعباد
حتى في أمور الإنفاق والصدقات ذلك البذل الذي قد نستصعبه أو نخشى عواقبه على دنيانا يُطمئننا الله بعلمه الشامل الذي لا يضيع عنده أجر المحسنين
"وَمَاۤ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُهُۥۗ..."
هكذا بوضوح
لا تخف أيها المنفق
أنفقْ في سبيلي
ابذلْ ما تستطيع فإن ما تُقدمه اليوم مهما كان صغيراً في عينك هو معلومٌ عندي محفوظٌ في سجلات ملائكتي؛ وسأُجزيك عليه أضعافاً مضاعفة
ببساطة؛ علمه بإنفاقك هو ضمانٌ لجزائك.
حتى في ساحات الوغى حيث تشتدّ الخطوب وتُصبح النفوس في أمسّ الحاجة للتثبيت يأتي علم الله ليُخفف عن المؤمنين ويربط على قلوبهم وبعد أن أمرهم بالصبر والثبات في مواجهة العدو حتى وإن كان عددهم عشرة أضعاف عددكم = عاد ليُخفف عنهم في سورة الأنفال قائلاً: "ٱلۡـَٔـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِیكُمۡ ضَعۡفࣰاۚ..."
تأمل ما ارتبط بالتخفيف من جديد
علمه
لقد علِمَ ضعفكم البشري
علِمَ ما قد يعتريكم من خوفٍ أو تعب
فخفف عنكم الحكم الأول وربط النصر بصبركم ويقينكم وإذنه بالنصر قبل كل ذلك
فيا أيها القلبُ المُتعب
ويا أيتها الروحُ المُنكسرة
يا من تشعرُ بأن همومَكَ أكبرُ منكَ وأن لا أحدَ يعلمُ بحالِكَ
ارفعْ عين بصيرتك وانظرْ بها إلى السماءِ مستحضرا هذا المعنى الذي ينبغي أن يكون شعارا يتوسط سائر أحوال حياتك
"فإن الله يعلمه"
يعلم طاعتك وتقربك وتعلقك
يعلم صدقتك فيُباركها وينميها
يعلم ضعفك فيُقويك ويرحمك
يعلم همّك فيُفرّجه ويواسيك
يعلم ألمك فيشفي قلبك ويداويك
و يعلم صبرك فيُثيبك ويوفيك أجرك بغير حساب
علمه يا صديقي ليس فقط رقابةً تُخيف بل هو أيضاً عنايةٌ تُطمئن ورعايةٌ تحفظ ولطفٌ يسري في أقدارك دون أن تشعر
استحضر هذا المعنى في قلبك دائماً و إلى جوار مراقبتك لعلمه وسمعه بصره بقلب الخائف المترقب للعقاب؛ اجعل معها لحظ المحبّ وتعلق الواثق برعاية مولاه وعلمه بحاله فإن هذا وربي أعظمِ ما تطمئنُ بهِ القلوبُ المتعبة وتستكين النفوس المنهكة
"أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"
ومع هذا الذكر لذاك العلم؛ فأيُّ حزنٍ يبقى؟
وأيُّ همٍّ يدوم؟
وأي وحشة تستمر؟
عشْ في كنف هذا العلم الإلهي الشامل وظني بالله أن السكينة ستملأ قلبك والطمأنينة ستسكن روحك والأمل سيُضيء دروبك مهما اشتدت الظلمات
أو تعاظمت الخطوب
❤28👍6👏1
لم أكن يوماً، وغالبا لن أكون؛ من محبي "الفسيخ" ولا من أولئك المنبهرين به حدّ الهذيان
أولئك الذين يرون فيه تجسيداً للهوية الوطنية وأيقونة للمذاق الأصيل
ربما تذوقته، عدة مرات على مضضٍ تحت ضغطٍ اجتماعيٍّ
مراتٍ تعدّ على أصابع اليد لم ينتج عنها ذلك العشق الأعمى الذي يضرب قلوب الكثير من المصريين بشكل مثير للدهشة
لكنها والحق يقال لم تؤدِ أيضاً إلى ذلك النفور العنيف الذي يجعل البعض الآخر يفرّون منه كما يفرّون من الطاعون.
موقفي كان دائماً بالنسبة لطعمه شبه محايد
عادي.. مجرد سمكةٍ بائسة قرروا وأدها في برميل ملح، لأسابيع لتُصبح شيئاً يشبه في أفضل أحواله ذلك الشيء المدعو "السيمون فيميه" والذي يتناوله الأثرياء في حفلات الكوكتيل الفاخرة، وتذوقته مرة أو مرتين في مؤتمرٍ طبيٍّ أو ما شابه..
مشكلتي كلها كانت مع أمرين
أولهما طبعا تلك الخطورة المفرطة التي حذر منها الأطباء في كثير جدا من المقالات والبرامج وتسببها تلك البكتيريا المسماة clostridium botulinum والتي تطلق سما يصيب الجهاز العصبى، مما يؤدى للإصابة بالشلل وحتى الوفاة وعلى المستوى الشخصي أعرف من كان هذا التسمم سببا في وفاته
منذ ذلك الحين أعد تناول الفسيخ مغامرة مرعبة وغير مفهومة خصوصا أن أهل التخصص أجمعوا على كون هذا التسمم يشبه في خطورته التسمم بأقراص الغلة وأن أقصى حالات الطواريء تكون في مواجهة هذين التسممين ويا عالم هل سيجد المصاب الترياق المضاد (والغالي جدا بالمناسبة) أم سيجده قد نفد؟ !
لا أتصور أحدا يعرف كل ذلك ويقبل على تناول الفسيخ إلا إن كانت لديه بعض الميول الا.نـ.تـ.حـ.ارية أو أن حب المغامرة لديه أقوى من حبه للحياة
أما الإشكال الثاني لي مع الفسيخ فهي تلك الرائحة..
وهذه قصةٌ أخرى تماماً.
قصة مؤلمة لحاسة الشم عندي وتتكرر فصولها كل "شم نسيم" وقد أكون من أكثر من يعانون منها بحكم مهنتي التي أرفض أن أتوقف عن ممارستها في هذا اليوم
هذه الرائحة التي تُشبه مزيجاً من مستنقعٍ آسن وجوارب منتنة لم تمسها المياه منذ عقود = هي الحاجز النفسي الرئيسي بيني وبين الفسيخ
رائحةٌ تمتلك قدرةً خارقة على اختراق الجدران، والتسلل تحت الأبواب، والتمسك بخلاياك الشمّية لأيامٍ
رائحةٌ تجعلني أُخطط لهروبي من أي تجمعٍ عائلي يُشتبه في أن قائمة طعامه سيتوسطها هذا الضيف الثقيل
لكنني مؤخراً ولأسبابٍ قاهرة تتعلق ببر الوالدين وصلة الأرحام وتجنب الحروب الأهلية العائلية؛ دعيت لتجمعٍ أُقيم على شرف هذا "الفسيخ" المبجّل.
ذهبتُ وأنا أُقدم اعتذاراً رسمياً لأنفي الذي سيُجبر على خوض هذه المعركة غير المتكافئة لساعات، ومُعزّياً نفسي بأن دفء الأسرة وأنس التجمع قد يُهوّنان عليّ هول الصدمة الشمية.
لكن الحقيقة الصادمة، أن ما هوّن الأمر لم يكن دفء التجمع الأسري في المقام الأول،
لقد كان شيئا آخر لم أتوقعه
الإلف... التعود... التكيّف...
سمّه ما شئت
في البداية، وكما كنت اتوقع، كادت أنفاسي أن تتوقف، وشعرتُ بأن رئتاي ترفضان استقبال هذا الهواء المُحمّل بجزيئات العفونة المركزة نظرا للكميات الضخمة التي أتوا بها لتكفي هذا الحشد مدعومة بكميات أخرى من الرنجة والسردين والملوحة والأنشوجة وساذر ما يمكن تمليحه من مخلوقات البحر.
ضاق صدري، وكدتُ لوهلة أن أهرب أو أجلب من عيادتي قناع الغاز ذي الفلاتر الذي كنا نتحصن به أيام (كـ.ور.ونا)
لكن رويداً رويداً، وبشكلٍ تدريجي بدأتُ أتعود.
دقائق وصارت بعدها الرائحة مجرد "إزعاجٍ محتمل".
بعد قليل - ويا لغرابة المخ البشري وقدرته على التكيف = لم أعد أُلاحظ الرائحة أصلاً!
كأنها تبخرت، أو كأن أنفي قرر أن يُضرب عن العمل احتجاجاً!
أو ربما زالت الرائحة من الجو بعد انقضاء معركة التهامه عن آخره...
لكن وجوه الأقارب الذي وصلوا متأخرين تنبيء بوجود الرائحة حين تتقلص بشكل ملحوظ بمجرد دخلوهم خصوصا إن كانوا من فصيلة كارهي تلك الرائحة مثلي
لماذا إذا زالت من أنفي؟
هل أنا الذي كنتُ أُبالغ؟
هل الرائحة ليست بهذا السوء؟
هل كنتُ أعيش في وهم "الأنف المرهف"؟ همستُ لنفسي بهذه الأسئلة. لكن العقل الباطن صرخ بالحقيقة: لا يا هذا!
إنها فعلاً سيئة!
رائحةٌ منتنة لا تختلف كثيراً عن رائحة أي مخلوق آخر يُترك ليتحلل على جانب الطريق
الفارق الوحيد أن الأخير سيكون قد مات بحادثٍ ما، بينما الفسيخ تم اغتياله ببطءٍ وعن سبق إصرارٍ وترصد في برميل ملح!
إذاً، لماذا استسلم أنفي بهذه السهولة؟
لماذا لم يعد ينفر؟
كيف وصلتُ إلى هذه الدرجة من التبلد الحسي لأسأل نفسي أصلاً عن بديهيةٍ كهذه؟
بل كيف يصل الأمر بإحدى قريباتي العزيزات التي أقدرها جدا وأقدر عقليتها رغم اختلافنا الفسيخولوجي؛ أن تُعلن على الملأ عشقها لهذه الرائحة، وتتمنى لو أن عباقرة العطور الفرنسية يخترعون لنا "بارفان الفسيخ" لنحتفظ به في زجاجاتٍ أنيقة ونتعطر به في المناسبات السعيدة؟!
أولئك الذين يرون فيه تجسيداً للهوية الوطنية وأيقونة للمذاق الأصيل
ربما تذوقته، عدة مرات على مضضٍ تحت ضغطٍ اجتماعيٍّ
مراتٍ تعدّ على أصابع اليد لم ينتج عنها ذلك العشق الأعمى الذي يضرب قلوب الكثير من المصريين بشكل مثير للدهشة
لكنها والحق يقال لم تؤدِ أيضاً إلى ذلك النفور العنيف الذي يجعل البعض الآخر يفرّون منه كما يفرّون من الطاعون.
موقفي كان دائماً بالنسبة لطعمه شبه محايد
عادي.. مجرد سمكةٍ بائسة قرروا وأدها في برميل ملح، لأسابيع لتُصبح شيئاً يشبه في أفضل أحواله ذلك الشيء المدعو "السيمون فيميه" والذي يتناوله الأثرياء في حفلات الكوكتيل الفاخرة، وتذوقته مرة أو مرتين في مؤتمرٍ طبيٍّ أو ما شابه..
مشكلتي كلها كانت مع أمرين
أولهما طبعا تلك الخطورة المفرطة التي حذر منها الأطباء في كثير جدا من المقالات والبرامج وتسببها تلك البكتيريا المسماة clostridium botulinum والتي تطلق سما يصيب الجهاز العصبى، مما يؤدى للإصابة بالشلل وحتى الوفاة وعلى المستوى الشخصي أعرف من كان هذا التسمم سببا في وفاته
منذ ذلك الحين أعد تناول الفسيخ مغامرة مرعبة وغير مفهومة خصوصا أن أهل التخصص أجمعوا على كون هذا التسمم يشبه في خطورته التسمم بأقراص الغلة وأن أقصى حالات الطواريء تكون في مواجهة هذين التسممين ويا عالم هل سيجد المصاب الترياق المضاد (والغالي جدا بالمناسبة) أم سيجده قد نفد؟ !
لا أتصور أحدا يعرف كل ذلك ويقبل على تناول الفسيخ إلا إن كانت لديه بعض الميول الا.نـ.تـ.حـ.ارية أو أن حب المغامرة لديه أقوى من حبه للحياة
أما الإشكال الثاني لي مع الفسيخ فهي تلك الرائحة..
وهذه قصةٌ أخرى تماماً.
قصة مؤلمة لحاسة الشم عندي وتتكرر فصولها كل "شم نسيم" وقد أكون من أكثر من يعانون منها بحكم مهنتي التي أرفض أن أتوقف عن ممارستها في هذا اليوم
هذه الرائحة التي تُشبه مزيجاً من مستنقعٍ آسن وجوارب منتنة لم تمسها المياه منذ عقود = هي الحاجز النفسي الرئيسي بيني وبين الفسيخ
رائحةٌ تمتلك قدرةً خارقة على اختراق الجدران، والتسلل تحت الأبواب، والتمسك بخلاياك الشمّية لأيامٍ
رائحةٌ تجعلني أُخطط لهروبي من أي تجمعٍ عائلي يُشتبه في أن قائمة طعامه سيتوسطها هذا الضيف الثقيل
لكنني مؤخراً ولأسبابٍ قاهرة تتعلق ببر الوالدين وصلة الأرحام وتجنب الحروب الأهلية العائلية؛ دعيت لتجمعٍ أُقيم على شرف هذا "الفسيخ" المبجّل.
ذهبتُ وأنا أُقدم اعتذاراً رسمياً لأنفي الذي سيُجبر على خوض هذه المعركة غير المتكافئة لساعات، ومُعزّياً نفسي بأن دفء الأسرة وأنس التجمع قد يُهوّنان عليّ هول الصدمة الشمية.
لكن الحقيقة الصادمة، أن ما هوّن الأمر لم يكن دفء التجمع الأسري في المقام الأول،
لقد كان شيئا آخر لم أتوقعه
الإلف... التعود... التكيّف...
سمّه ما شئت
في البداية، وكما كنت اتوقع، كادت أنفاسي أن تتوقف، وشعرتُ بأن رئتاي ترفضان استقبال هذا الهواء المُحمّل بجزيئات العفونة المركزة نظرا للكميات الضخمة التي أتوا بها لتكفي هذا الحشد مدعومة بكميات أخرى من الرنجة والسردين والملوحة والأنشوجة وساذر ما يمكن تمليحه من مخلوقات البحر.
ضاق صدري، وكدتُ لوهلة أن أهرب أو أجلب من عيادتي قناع الغاز ذي الفلاتر الذي كنا نتحصن به أيام (كـ.ور.ونا)
لكن رويداً رويداً، وبشكلٍ تدريجي بدأتُ أتعود.
دقائق وصارت بعدها الرائحة مجرد "إزعاجٍ محتمل".
بعد قليل - ويا لغرابة المخ البشري وقدرته على التكيف = لم أعد أُلاحظ الرائحة أصلاً!
كأنها تبخرت، أو كأن أنفي قرر أن يُضرب عن العمل احتجاجاً!
أو ربما زالت الرائحة من الجو بعد انقضاء معركة التهامه عن آخره...
لكن وجوه الأقارب الذي وصلوا متأخرين تنبيء بوجود الرائحة حين تتقلص بشكل ملحوظ بمجرد دخلوهم خصوصا إن كانوا من فصيلة كارهي تلك الرائحة مثلي
لماذا إذا زالت من أنفي؟
هل أنا الذي كنتُ أُبالغ؟
هل الرائحة ليست بهذا السوء؟
هل كنتُ أعيش في وهم "الأنف المرهف"؟ همستُ لنفسي بهذه الأسئلة. لكن العقل الباطن صرخ بالحقيقة: لا يا هذا!
إنها فعلاً سيئة!
رائحةٌ منتنة لا تختلف كثيراً عن رائحة أي مخلوق آخر يُترك ليتحلل على جانب الطريق
الفارق الوحيد أن الأخير سيكون قد مات بحادثٍ ما، بينما الفسيخ تم اغتياله ببطءٍ وعن سبق إصرارٍ وترصد في برميل ملح!
إذاً، لماذا استسلم أنفي بهذه السهولة؟
لماذا لم يعد ينفر؟
كيف وصلتُ إلى هذه الدرجة من التبلد الحسي لأسأل نفسي أصلاً عن بديهيةٍ كهذه؟
بل كيف يصل الأمر بإحدى قريباتي العزيزات التي أقدرها جدا وأقدر عقليتها رغم اختلافنا الفسيخولوجي؛ أن تُعلن على الملأ عشقها لهذه الرائحة، وتتمنى لو أن عباقرة العطور الفرنسية يخترعون لنا "بارفان الفسيخ" لنحتفظ به في زجاجاتٍ أنيقة ونتعطر به في المناسبات السعيدة؟!
😁14👍13❤8👏2
"Eau de Fesikh"... يا له من اسمٍ ساحر لعطرٍ جديد!
وربما يتبعه بعد حينبـ "عطر الثوم القوي"، و"إكسير البصل المركز"، و"كولونيا الكرنب الأصلية"...
ما المانع؟
طالما أن "التعود" قد فعل فعله، وأفسد بوصلة الذوق، وأقنعنا بأن النتن قد يكون عِطراً!
هذا "الإلف"، يا صديقي، هو الخطر الحقيقي.
إنه ذلك المُخدّر البطيء الذي يُغيّر معاييرنا دون أن نشعر.
يُحوّل القبيح إلى مقبول، والمرفوض إلى مألوف، والمُنكر إلى مُستساغ.
يبدأ برائحةٍ كريهة نعتادها، وينتهي كثيرا – للأسف – بقيمٍ ومبادئ وأخلاقٍ نُفرّط فيها ونُطبّع مع نقيضها، فقط لأننا اعتدنا رؤيتها أو سماعها أو التعايش معها.
"أرَى المُتَشاعِرينَ غَرُوا بذَمّي.... ومَن ذا يَحمَدُ الدّاءَ العُضالا
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ.... يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا"
المتنبي متحدثا عمن انقلبت لديهم حقائق الأشياء فاستحسنوا الداء وكان الماء العذب مرا في حلوقهم
"إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات"
هكذا بيَّن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه تلك الحقيقة التي لا نلحظها مع طول الأمل واعتياد الأشياء
حقيقة تغير المعايير والتعريفات
لقد تغير حكم من عاصرهم سيدنا أنس وتحولت نظرتهم لبعض الأمور مع مرور الوقت وطول الأمد فصارت أشياء هينة بسيطة وصغرت في أعينهم حتى صارت أدق من الشعر رغم أنها كانت يوما -قبل اعتيادها- من الموبقات
وربما لو مد الله في عمر سيدنا أنس أعواما لوجد من لم يعد يراها أدق من الشعر بل لم يعد يراها أصلا
وماذا لو مكث قرونا بعد ذلك وعاش إلى زماننا هذا؟
ماذا سيقول عن "موبقاتنا" التي أصبحت "تريندات" ومادة للسخرية والضحك؟
أليس من الممكن أن يجد من اعتادوا تلك (الموبقات) حتى صارت هي الأصل وصار المستغربون المستهجنون هم من يتقونها أو حتى يأنفون منها ويضايقهم وقوعها
أعتقد أن هذه الافتراضات لا يمكن استبعادها فنحن بالفعل نراها ونعيشها والتي تعد أهون صورها هي تلك التي تظهر في تعامل الكثيرين مع تلك الرائحة المنتنة التي مهما تعود عليها البعض وألفوها وأحبوها أو حتى عبأوها في زجاجات وتعطروا بها فستظل في حقيقتها منتنة مقززة
لن يتحول الفسيخ أبدا إلى شربات
سيظل الفسيخ فسيخاً مهما زيّنوه بالليمون والبصل، والعفن لن يُستخلص منه بارفانٌ أبداً
ستظل المشكلة دائماً وأبداً في الأنوف التي قررت أن تتعود أو تتخلى عن حساسيتها وتتصالح مع ما يزكمها حتى إنها قد لا تمانع يوما أن تتعطر بعطر مستمد منها
عطر الفسيخ
وربما يتبعه بعد حينبـ "عطر الثوم القوي"، و"إكسير البصل المركز"، و"كولونيا الكرنب الأصلية"...
ما المانع؟
طالما أن "التعود" قد فعل فعله، وأفسد بوصلة الذوق، وأقنعنا بأن النتن قد يكون عِطراً!
هذا "الإلف"، يا صديقي، هو الخطر الحقيقي.
إنه ذلك المُخدّر البطيء الذي يُغيّر معاييرنا دون أن نشعر.
يُحوّل القبيح إلى مقبول، والمرفوض إلى مألوف، والمُنكر إلى مُستساغ.
يبدأ برائحةٍ كريهة نعتادها، وينتهي كثيرا – للأسف – بقيمٍ ومبادئ وأخلاقٍ نُفرّط فيها ونُطبّع مع نقيضها، فقط لأننا اعتدنا رؤيتها أو سماعها أو التعايش معها.
"أرَى المُتَشاعِرينَ غَرُوا بذَمّي.... ومَن ذا يَحمَدُ الدّاءَ العُضالا
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ.... يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا"
المتنبي متحدثا عمن انقلبت لديهم حقائق الأشياء فاستحسنوا الداء وكان الماء العذب مرا في حلوقهم
"إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات"
هكذا بيَّن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه تلك الحقيقة التي لا نلحظها مع طول الأمل واعتياد الأشياء
حقيقة تغير المعايير والتعريفات
لقد تغير حكم من عاصرهم سيدنا أنس وتحولت نظرتهم لبعض الأمور مع مرور الوقت وطول الأمد فصارت أشياء هينة بسيطة وصغرت في أعينهم حتى صارت أدق من الشعر رغم أنها كانت يوما -قبل اعتيادها- من الموبقات
وربما لو مد الله في عمر سيدنا أنس أعواما لوجد من لم يعد يراها أدق من الشعر بل لم يعد يراها أصلا
وماذا لو مكث قرونا بعد ذلك وعاش إلى زماننا هذا؟
ماذا سيقول عن "موبقاتنا" التي أصبحت "تريندات" ومادة للسخرية والضحك؟
أليس من الممكن أن يجد من اعتادوا تلك (الموبقات) حتى صارت هي الأصل وصار المستغربون المستهجنون هم من يتقونها أو حتى يأنفون منها ويضايقهم وقوعها
أعتقد أن هذه الافتراضات لا يمكن استبعادها فنحن بالفعل نراها ونعيشها والتي تعد أهون صورها هي تلك التي تظهر في تعامل الكثيرين مع تلك الرائحة المنتنة التي مهما تعود عليها البعض وألفوها وأحبوها أو حتى عبأوها في زجاجات وتعطروا بها فستظل في حقيقتها منتنة مقززة
لن يتحول الفسيخ أبدا إلى شربات
سيظل الفسيخ فسيخاً مهما زيّنوه بالليمون والبصل، والعفن لن يُستخلص منه بارفانٌ أبداً
ستظل المشكلة دائماً وأبداً في الأنوف التي قررت أن تتعود أو تتخلى عن حساسيتها وتتصالح مع ما يزكمها حتى إنها قد لا تمانع يوما أن تتعطر بعطر مستمد منها
عطر الفسيخ
👍23❤16👏4