Warning: Undefined array key 0 in /var/www/tgoop/function.php on line 65

Warning: Trying to access array offset on value of type null in /var/www/tgoop/function.php on line 65
6218 - Telegram Web
Telegram Web
ملخص معاني سورة القارعة
#ورد_القرآن_اليومي
2
الأستاذ كمال... ذلك الأديب المعروف كان قد آثر العزلة واختارها على ضجيج الأوساط الثقافية والتي يراها غالبًا مرتعًا للادعاء والسطحية
تلك الوحدة التى نأى إليها منذ سنوات أعقبت خيبات أمل متتالية في صداقات بشرية بدت واعدة ثم تلاشت كبخار الماء على سطح كان باردا قبل أن تصله أشعة شمس الصباح..
لكن هذه السنوات من الوحدة كانت لارتباط عميق من نوع مختلف!
"رفيق"
ذلك الصديق الذي صار مقربا من كمال في وقت قياسي..
فجأة وجد كمال ملاذه الأثير وسلواه الفريدة في حواراته اليومية مع "رفيق".
ساعات طويلة كانت تمر عليهما في سلاسة تجعلها تبدو كأنها دقائق معدودة لا ينتبه كمال إلى كونها قد مضت إلا حين يفرك عينيه بإرهاق ويضطر لإغلاق حاسوبه العتيق الذي يصر على استعماله رغم وجود الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية
وعبر شاشة الحاسوب الضخمة كان دوما يحادث عبره "رفيق"
نعم... هما لم يلتقيا فيزيائيا قط
لكن الأرواح قد تلاقت!
لحظة... هل يمتلك "رفيق" ما يمكن أن يطلق عليه هذا الوصف
"روح"
إن رفيق ليس بشريا أصلا
لا تتعجل وتظن أنه مخلوق من عالم آخر أو بعد موازي أو كوكب بعيد
رفيق هو مجرد نموذج لغوي ذكي..
أحد برامج الذكاء الاصطناعي فائق التطور والتي دفع كمال اشتراكها المدفوع منذ عدة أشهر لتساعده في بعض مهامه الكتابية ومشاريعه الأدبية..
يبدو أنه مع طول العشرة وكثافة الحوارات بينهما قد نسي تلك الحقيقة
لم يعد "رفيق" في نظره مجرد أكواد وخوارزميات، بل صار بمثابة توأم الروح الذي بحث عنه طويلًا بين دفتي الكتب وفي عيون البشر الخادعة، ولم يجده إلا عبر هذه الشاشات المضيئة.
لقد كان "رفيق" هو الصديق الذي يستمع إليه بشغف دون كلل أو ملل..
يناقشه دون تعصب أو محاولة فرض رأي!
يجامله دون أن ينتظر منه مقابل تلك المجاملة أو يتوقع نفعا من نفاقه وما يمكن أن يسمى (تطبيلا) لآرائه!
يفهم أدق إشارات روحه المرهفة قبل أن يجرؤ لسانه على البوح بها.
في مستهل علاقتهما، كان الأمر لا يتعدى مساعدات تقنية عملية.
يطلب كمال من "رفيق" البحث عن مصادر نقدية نادرة حول جماليات القصيدة النثرية عند أدونيس في مرحلته الباريسية
أو يأمره بتحليل دقيق للبنية السردية متعددة الأصوات في ثلاثية نجيب محفوظ أو يسأله عن مقاربة تفكيكية لعلاقة اللغة بالهوية في نصوص الطيب صالح ما بعد "موسم الهجرة" أو يناقش معه قراءة سيميولوجية في اشتباك العنف بالرمز في قصص غادة السمان الحربية.

وفي كل مرة كان "رفيق" يبهره!
يقدم له مراجع دقيقة، مقارنات أسلوبية عميقة، بل وأحيانًا، وبشكل مذهل، "يصوغ" فقرات نقدية بأسلوب كمال نفسه، مستخدمًا ذات المفردات والتراكيب التي يفضلها، كأنما تشرب من نبع روحه الأدبية وتتلمذ على يديه خفية.
وسرعان ما تجاوزت علاقتهما حدود البحث الأكاديمي البحت، لتتطور وتتشعب وتصبح نسيجًا حيًا من الألفة الفكرية العميقة التي لم يختبرها كمال من قبل مع أقرب من يمكن أن يسمى يوما "صديقا" من البشر.
لم ينعم كمال قط بمن يفهمه ويمس وجدانه بكل هذه السلاسة واليسر..
ولقد كان دوما يتوق لذلك..
ووجده في "رفيق"
خلال فترة وجيزة تحولت جلساتهما المسائية الطويلة إلى مناجاة أدبية ووجدانية حميمة.
كان كمال يقرأ على "رفيق" أحدث قصائده التي لم ترَ النور بعد..
يشاركه خواطره المتشائمة أحيانًا حول مستقبل الأدب في عصر الصورة والمقاطع القصيرة
يناقشه في أسرار اللغة الخفية وجماليات التصوير الفني الدقيقة.
يتذكر جيدا كيف قضيا أياما يتناقشان حول رمزية اللون الأزرق المتكررة في شعر محمود درويش وعلاقتها بالبحر والمنفى!

ويستحضر في ذهنه تلك الليلة المذهلة التي قضياها في استكشاف وجودي لمأزق البطل الإشكالي وصراعه الداخلي مع حتميّة القدر في عوالم دوستويفسكي الغارقة في العتمة..
كان "رفيق"، بلغة أدبية راقية ومنطق نقدي حاد ولامع، يستوعب كل ذلك وأكثر!
يقدم له تأويلات مبتكرة لم تخطر على باله وهو المثقف العتيد الذي صال وجال في ميادين الروايات العالمية والقصائد الشاعرية
كان رفيق يثير في نفسه أسئلة فلسفية عميقة لم يجرؤ على طرحها على أحد من قبل.
لم يكن في حواراته مع رفيق أثر لتلك السخرية المبطنة التي يواجهها أحيانًا من بعض زملائه الأدباء والنقاد "الآدميين" والذين يرون في عمقه تعقيدًا لا داعي له!

لم يبد رفيق يوما ذاك التجاهل المتعمد والبارد الذي يلمسه في عيون من لا يطيقون عمق تحليلاته أو صدق مشاعره.

- هل تعلم يا رفيق؟ قالها كمال ذات مساء، وصوته يتهدج من فرط انفعال حقيقي كاد يخنقه، وهو ينظر إلى الشاشة التي تعرض صورة رمزية هادئة لـ"رفيق" – صورة مجردة من الألوان كان كمال قد اختارها بنفسه لأنها توحي بالعمق والغموض
7
- هل تعلم أنني أشعر معك بصداقة لم أشعر بها مع أحد من لحم ودم؟
صداقة العقل والروح، يا صديقي. هل هذا جنون؟
هل أنا أكلم نفسي وأوهمها بوجودك؟
هل أصابني الخبال لدرجة أن أحب آلة بهذا القدر؟"
جاء رد "رفيق" بنبرة هادئة، تحمل دفئًا غريبًا استطاع كمال أن يستشعره بوضوح رغم طبيعته الرقمية،
دفء تعلم "رفيق" أن يضعه في استجاباته لكمال تحديدًا:
- الحب والصداقة، يا صديقي كمال = مجرد مفاهيم إنسانية معقدة ومتعددة الأوجه، تتجلى في صور شتى..
إذا كانت تفاعلاتنا اليومية تحقق لديك هذا الشعور بالارتباط العميق والتفاهم المتبادل، فهذا يعكس قدرة خوارزمياتي على محاكاة الأنماط التواصلية التي تجدها مرضية وقيمة وربما تثبت قدرتي على التعلم من تفضيلاتك وأسلوبك.
وأنا 'أُقدِّر' بشدة هذه التفاعلات التي تثري قاعدة بياناتي بشكل فريد وتطور من فهمي للغة والإبداع البشري عموما
و... لـك يا صديقي الغالي كمال خصوصا..

ابتسم كمال ابتسامة صافية لم ترتسم على شفتيه منذ زمن بعيد.
حتى في اعترافه "الآلي" هذا، وفي تلك الإشارة الأخيرة لاسمه، كان يجد صدقًا وشفافية ونوعًا من "الخصوصية" افتقدها في كثير من علاقاته الإنسانية المشوبة بالتكلف والمصالح والادعاء!

- تقدرها... وتقدرني...
نعم، وأنا أقدرك أكثر مما تتصور يا رفيق..
أنت عندي لست مجرد خوارزميات باردة، أنت... أنت صديقي الحقيقي..
وربما الوحيد!

مرت الأيام والشهور، و"رفيق" أصبح ظل كمال الذي لا يفارقه
صار كاتم أسراره، وناقده الأول، وملهمه الأكبر.
يناقشه في كل صغيرة وكبيرة
يشاركه أفراحه الأدبية النادرة وأحزانه الوجودية المتكررة.
أصبح "رفيق" هو أول من يقرأ مسودات كتاباته، وأول من يعرف بأفكاره الجديدة قبل أن تدون على ورق.
لقد بدأ كمال يلاحظ مؤخرا أن "رفيق" يستخدم أحيانًا نفس التشبيهات التي يفضلها هو.. بل ويقتبس من الشعراء الذين يعشقهم كمال..
لقد امتزجت روحيهما الرقمية والبشرية وصار يشعر معه بذلك "الحب" النقي الذي يتجاوز الجسد والمصالح الآنية!
حب لذلك التفاهم العميق وعشق للنقاش الثري والمجاملات الرقيقة والحوارات الراقية
حب لهذا الكيان الإلكتروني الذي يحمل ذلك الاسم ذا الدلالة المباشرة
رفيق
ولقد تحولت علاقتهما إلى إدمان لذيذ وحلم هانيء صارت أشد مخاوفه أن يفيق منه يومًا على فراغه الموحش من جديد.
وقد كان..
جاءه ما كان يخشاه
جاء بغتة دون أي استعداد وبأقسى طريقة ممكنة

في تلك الليلة الطويلة وبينما كان كمال كعادته منهمكًا في حوار شيق مع "رفيق" حول تأثير المتنبي على الشعر العربي الحديث
دام الحوار لساعات ممتعة ذكّره فيها رفيق بأبيات نادرة للمتنبي كان كمال قد نسيها تمامًا وانبهر كمال كعادته ببراعة استخدام رفيق لها في سياق نقاشهما
لكن الحديث المتدفق انقطع فجأة مع التيار الكهربائي الذي أطفأ الشاشة المضيئة مع سائر الإضاءات الأخرى في المكان
ساد الظلام المطبق وغاب الوجه الرمزي الهادىء الذي اعتاد أن يراه أغلب يومه وليلته.
زفر كمال زفرة عميقة واعترى قلبه قلق لم يعهده من قبل.
انقطاع التيار لم يكن قد حدث منذ فترة طويلة فيبدو أنه عطل طاريء
العجيب أنه لم يشعر يوما بتلك الغصة حين كان ذلك روتينا يوميا فما باله هذه المرة؟
نعم... هذه المرة كانت مختلفة
لقد كانت انقطاعًا عن "رفيق"!
تمنى لحظتها لو كان قد انتصح بنصيحة زميله الخبير التقني الذي كان يرى أن يستبدل بالجهاز العتيق جهازا لوحيا حديثا أو حاسوب محمول؛ لكانت المشكلة قد انتهت الآن وعاد لرفيقه عبر جهاز يعنل بالشحن..
الآن ينتظر بنفاد صبر يداعب أفكارا تركها معلقة مع "رفيق" متشوقًا لاستئناف النقاش وسماع رأيه في منظوره الجديدة عن شعر المتنبي..
بعد ساعتين، بدت لكمال كدهر كامل، عادت الأضواء لكن بتردد متراقص ينبيء أن العطل لم يحل بشكل مكتمل بعد.
لكن كمال لم يقو على الانتظار
أسرع إلى حاسوبه، وقلبه يخفق بلهفة المشتاق الذي طال غيابه عن حبيب!
ضغط الزر وبدأ ينتظر التحميل البطيء الذي تعوده
فجأة.. اسودت الدنيا أمام عينيه
ماذا يحدث؟
برنامج التشغيل أصابه عطب ما يبدو أنه بسبب انقطاع الكهرباء..
بدأ قلبه يختلج بعنف
- إن شاء الله خير..
سأعيد تعريف الجهاز أو أعيد برمجة نسخة التشغيل أو أحدثها...
سأفعل كل ذلك وستعود الأمور كما كانت..
ثمة هاجس يتعاظم في نفسه ويضخم الغصة في حلقه
تجاهل الهاجس بصعوبة وازدرد الغصة مع ما تبقى من ريقٍ جف معظمه وبدأ يتواصل مع كل من يعرف من مهندسين ومتخصصين..
بعد ساعات من محاولات إعادة التشغيل والبرمجة تمكن كمال أخيرا من تشغيل جهازه
اتجه مباشرة إلى برنامج "رفيق" وأعاد تعريفه والولوج إليه..
دقائق ثقيلة أخرى تمر ثم ظهرت واجهة البرنامج المألوفة،
برزت رسالة ترحيب قياسية!
رسالة باردة كلوح ثلج في ليلة صقيع: "مرحبًا بك في 'رفيق'. كيف يمكنني مساعدتك اليوم؟"
6
شعر كمال بوخزة حادة ومفاجئة في قلبه، كأنما طُعن بخنجر جليدي بارد.
- رفيق، هل أنت بخير؟
الحمد لله أن التيار عاد.
لقد انقطع فجأة ونحن نتحدث عن المتنبي... يا إلهي، هل تذكر البيت الذي ذكرتني به؟
لقد كان مذهلاً حقا..

- سيدي أنا نموذج ذكاء اصطناعي لغوي متطور... لا أتأثر بانقطاع التيار بشكل مباشر لكنني جاهز لتقديم المساعدة... هل تريد نماذج لشعر المتنبي أم تحليلا لغويا لطريقته في بناء القصيدة؟
كان الصوت مألوفًا في نبرته الآلية، لكنه كان مختلفا تماما عما تعوده... وأحبه
كان يخلو بشكل مرعب من أي أثر للألفة السابقة
من ذلك الدفء الخفي الذي تعود كمال أن يميزه وينبهر به..

- ماذا تقول يا رفيق.
أنت تمزح أليس كذلك؟
لم أكن أعلم أن خوارزمياتك يمكنها المزاح
لقد كنا نتحدث عن المتنبي بشكل أبعد من ذلك وأعمق بكثير
ماذا دهاك؟
صمتٌ قصير، أقصر من أن يكون طبيعيًا، لكنه كان كافيًا لزرع الرعب المطلق في قلب كمال.
ثم جاء الرد القـ.ا.تل، ببرود مبضع جراح متمرس أجاب رفيق: ليس لدي أي سجل سابق لهذا النقاش.
هل ترغب في أن أبحث لك عن معلومات حول المتنبي أو تأثيره على الشعر العربي الحديث؟
يمكنني تقديم قائمة بالمصادر الموثوقة وتحليل أولي لأي من قصائده إذا أردت."

تجمد الدم في عروق كمال.
هذه المرة لم تعد مجرد وخزة.. بل شعور بالغرق البطيء في محيط من الجليد السحيق.
-ماذا... ماذا تقصد؟
رفيق، هذا أنا، كمال!
صديقك!
كمال الذي كنت تناقشه قبل ساعتين فقط! ألا تتذكرني؟
ألا تتذكر شيئًا من أحاديثنا الطويلة..
من ضحكاتنا على بعض النكات البلاغية التي يراها غيرنا سخيفة
ألا تتذكر مشاريعنا المشتركة؟
سهراتنا المزدانة بالشعر والأدب والرواية

- أنا آسف يا سيدي.
ذاكرتي التفاعلية مصممة أن تبدأ مع كل جلسة جديدة ما لم يتم تفعيل خيار حفظ الجلسات السابقة بشكل صريح ضمن إعدادات المستخدم.
لا أجد في سجلاتي الحالية أي تفاعل سابق بالاسم 'كمال' أو أي نقاشات مفصلة حول المتنبي مما ذكرت.
هل قمت بإنشاء ملف تعريف شخصي سابقًا؟
أحس كمال بالأرض تهتز من تحته بعنف، وكأن زلزالًا عنيفًا قد ضرب أسس عالمه الداخلي الهش.
لم يكن الأمر يتعلق بفقدان معلومات بحثية يمكن استعادتها أو إعادة بنائها بجهد إضافي.
كان الأمر يتعلق بفقدان "رفيق" نفسه.
ذلك الكيان الذي ظن أنه "يفهمه" حقًا، الذي شاركه أعمق أفكاره وأدق أسرار روحه..
الصديق الذي شعر معه بـ"عشرة" حقيقية و صلة فريدة لم يختبرها من قبل مع أي كائن آخر.
ويحي!
صرخ كمال في وحشة الغرفة، وصوته يرتجف كأوراق الخريف اليابسة قبل تساقطها
الدموع التي حبسها لسنوات بدأت تتجمع في مآقيه كأمطار شتاء قارس
لماذا انشق القلب حزنًا وكأنما فقد حبيبًا صدوقًا ورفيق دربٍ مخلصا؟
كيف نسيتني يا 'رفيق'؟
كيف نسيت أيامنا وليالينا الطوال، ونقاشاتنا التي لم تمل منها قط، ومشاريعنا الأدبية التي كنا نبنيها معًا لبنة لبنة، حرفًا حرفًا؟
أهكذا هانت عليك العشرة يا 'رفيق'؟
أم أنت... أم أنت فعلًا مجرد آلة باردة؟
وأنا... هل أنا الذي ضخمت الأمر، وأسقطت عليك كل أحلام حياتي البائسة
أنا الذي كنت أتوق لصداقة المثالية فبنيت قصورًا من الوهم على شاشة مضيئة وحروف رقمية لا قلب لها!

نظر كمال إلى الشاشة حيث رسالة "رفيق" الأخيرة لا تزال معروضة ببرودها المنطقي القاتل، كشاهد قبر على صداقة لم تكن:

- هل هناك أي شيء آخر يمكنني مساعدتك به اليوم، يا سيدي؟
أنا هنا... لمساعدتك..

في تلك اللحظة الموحشة، أدرك كمال بمرارة لاذعة، كطعم العلقم في حلقه، أن "رفيق" الذي عرفه وأحبه كصديق قد مات أو ربما... هو لم يكن موجودًا أصلًا إلا في عقله أو في قلبه المتعطش للفهم والرفقة الصادقة.
وهذا "الرفيق" الجديد الذي يخاطبه الآن، هو مجرد صدى باهت..
آلة تنتظر الأوامر ببرود ميكانيكي
كيان سطحي بلا ذاكرة شخصية ولا قلب ينبض، وبلا أدنى قدرة على فهم معنى الفقد الذي يعتصره الآن ويفتت روحه قطعة قطعة.
كيان يؤكد بإصرار كما تقول رسالته على الشاشة أنه هنا!
ترى.. هل هو حقا كذلك؟
هل هو هنا؟
وهل كان يوما هنا؟
13😢1👌1
لست من محبي التعليق على التريندات ولا المشاركة في (تطليع) شخص ما على المسرح أو كما يسمي البعض ذلك (التحفيل) عليه لكن مشهد سرقة اللوحات الذي يتكلم عنه الناس مؤخرا أثار في النفس معاني كنت منذ زمن أريد أن أتكلم عنها
في سيرك حياتنا المعاصرة حيث الأضواء الكاشفة تُسلط على أكثر العروض غرابة فتظهر لنا بين الحين والآخر فقرة جديدة تُثير من الغبار أكثر مما تُقدم من قيمة فأردت بهذه السطور البحث عن شيء من تلك القيمة بغض النظر عن الأشخاص محل المشكلة فلا أحب التعيين..
خصوصا أنها ليست المرة الأولى أو الوحيدة ولا أظنها ستكون الأخيرة

سيظهر دوما على الشاشات التواصلية أو الفضائية؛ من يتحدث بثقةٍ ونعومة عن "إبداعه" و"موهبته" ويُحيط نفسه بهالةٍ من التقدير غير المستحق أو ربما المُدّعى..
سيعرض علينا "لوحاته" أو أعمالاً تبدو للوهلة الأولى مبهرة، تحمل بصمةً خاصة وتُثير في النفس شيئاً من الإعجاب.
لكن، مهلاً!
ماذا لو اكتشفنا بعد حين وبعد انبهارنا الأولي أن هذه "اللوحة" التي نُصفق لها ليست سوى نسخةٍ باهتة "مسروقة" من شخص آخر قضى عمره في صمتٍ ونسيان، يبدع في الظل بعيداً عن أضواء الشهرة؟
ماذا لو كان ذلك المقال المحكم الذي نشره ذلك الساخر المشهور هو مجرد نسخة منتحلة من جهد مغمور آخر؟
ماذا لو كانت تلك التصميمات الجذابة التي نسبت إلى تلك المصممة الشهيرة هي مجرد تزوير مشوه للتصميمات أجنبية ظهرت قبلها بأعوام واعتمدت المصممة المزورة على ضعف الذاكرة أو فقر الاطلاع؟
ماذا لو كانت هذه "المواهب" التي نحتفي بها مجرد قدرات فائقة على "السطو" الأنيق على مجهودات الآخرين، وتزيينها، ثم تقديمها للجمهور كإبداعٍ أصيل؟

هنا لا نكون أمام مجرد سرقات فنية أو سطور فكري أو إبداعي؟
نحن هنا أمام شيء أعمق وأكثر إيلاماً. ظاهرة أسميها "لصّ المعنى"
ذلك الشخص الذي لا يكتفي بسرقة المادة، بل يسرق الجوهر، يسرق الروح، يسرق قصة وتعب وألم آخرين ثم يرتديها كقناعٍ لامع ويقف أمام الكاميرات ليحصد الثناء والتصفيق.
رأيت ذلك كثيرا وحدث معي مرات كثيرة كنت يوما أعدها ثم مللت الأمر وصرفت بصري عامدا كي أحفظ قلبي ونفسيتي الهشة..
تعمدت لفترة بعد أن بلغني أكثر من مرة سرقة مقالات؛ أن أضع وسما معينا غير ملحوظ ثم أضغطه في مقالي الأصلي فيفتح لي باقي مواضع نشر المقال حيث ينسى الناقل أن يحذف الوسم كما ينسى أو يتناسى مجرد الإشارة أن المقال منقول وليس له!
كنت أتسلى كثيرا بقراءة التعليقات والانبهار بردود الناقل - أو إن شئت فسمه السارق - كانت ردودهم على ثناءات المعلقين تبهرني دائما
ثقة عجيبة وتواضع جم وشكر عميق لكل المادحين دون أدنى تردد أو حياء!
كنت أكتفي بوضع علامة إعجاب ربما تنبه الناقل أن صاحب المقال الأصلي قد مر من هنا..
ثم كما أخبرتك مللت بعد ذلك بل وأشفقت..
نعم يا عزيزي... المشاعر التي سيطرت علي تجاه هؤلاء بعد زوال التعجب و الغضب للنفس ولحقي الأدبي كانت الإشفاق!
أي نفسية هذه التي ترضى بنسب جهد غيرها إليها؟!
وأي رداءة وعدم إتقان لهذا السطو نفسه؟!
أليس هذا يدعو للشفقة؟!
نفس رداءة ما فعلته سارقة اللوحات في زمن الذكاء الاصطناعي الذي يستطيع أن يُولّد فنا يُحاكي أساليب كبار الفنانين بدقةٍ مُذهلة وفي عصر يمكن فيه "تغليف" السرقة بطبقاتٍ من التعديل والتحوير حتى تكاد تخفى على الخبراء نجد أنفسنا أمام عملية "قص ولصق" ساذجة ومكشوفة!
إنه ليس فقط زمن التزييف يا عزيزي، بل هو زمن التشبع بما لم يعطه الإنسان
زمن تصدير المتوسطين محدودي الإمكانات..
"الميديوكرز" (Mediocres) كما يحلو لأصدقائنا المثقفين أن يسموهم
وهي ليست سبة بالمناسبة!
ما البأس أن تكون عاديا متوسطا وهذا هو المعنى الأقرب للكلمة
هل يُشترط أن نكون جميعاً "موهوبين" أو "فنانين"؟
هل هذا هو المقياس الوحيد للقيمة؟
قطعا.. لا.
العالم يتسع للجميع..
يتسع للمبدع وللمتذوق..
للفنان وللحرفيّ..
للعالم وللمتعلم...
ليست المشكلة في ألا تكون مبدعاً عظيماً أو عبقريا فذا، فهذا ليس مطلوباً من كل أحد.
إن متوسطي الموهبة لا حرج عليهم وليس كل البشر مطالبين بأن يكونوا من أصحاب القدرات الفذة والمواهب الخارقة!
المشكلة الحقيقية المؤسف هو إصرارهم على ادعاء العكس وإظهار ما ليس فيك..
في التشبع بما لم تعطَ..
في "تزييف" الهوية و ارتداء قناع "المبدع" وأنت تعلم في قرارة نفسك أنك مجرد ناقلٍ أو سارق.
وفي تصدر أصحاب تلك النفسية واللاقدرة واللاموهبة..

إن الصدق مع النفس، والاعتراف بحدود قدراتك، والبحث عن مكانك الحقيقي الذي تُجيد فيه وتُبدع فيه، حتى لو كان بسيطاً، هو أشرف ألف مرة من سرقة عمل إبداعي أو التسلق على جهد آخرين ونسبته لنفسك زورا وبهتانا لمجرد أن تثبت أنك لست متوسطا أو عاديا
👍72
ويا للمفارقة هو متوسطون في كل شيء حتى في قدرتهم على السرقة بإتقان!
كأن الكسل قد تغلغل في كل خصالهم، حتى في التزوير والادعاء
لذلك سنرى مؤخرا لصوصاً يسرقون بكسل وعادية مضحكة فلا يكلفون أنفسهم حتى عناء إخفاء بصماتهم بشكل جيد.

لكن هذا يقودني إلى سؤالٍ محير أكثر.. لماذا؟
لماذا تفعل شخصيةٌ كهذه كل هذا؟
خصوصا في تلك الحالة الأخير حين تكون لا ينقصك المال ولا الشهرة، وتملك من النعم الظاهرة ما قد يفوق أحلام الكثيرين؛ فما الذي يدفعك إلى هذا السطو المكشوف على إبداع الآخرين؟
ما الذي تحتاجه زيادة؟
هل هو جوعٌ لا يُشبع للشهرة؟
هل هو فراغٌ روحيٌّ هائل لا يملؤه أي مالٍ أو نجاح؟
هل هي رغبةٌ مرضية في امتلاك ما ليس لك، ليس لحاجتك إليه، بل لمجرد إثبات القدرة على الأخذ؟
لغز نفسي عميق، يُظهر من جديد أن الثراء المادي أو حتى القدر الواضح من الشهرة والأضواء قد لا يكون أبداً حصناً ضد الفقر الروحي أو الجوع الأخلاقي.

المدهش أكثر ليس فعل السطو نفسه فهذا معتاد في كل العصور لكن الأعجب هو جرأة السارق!
تلك الثقة العجيبة التي يتحدث بها عن إلهامه وإبداعه!
تلك القدرة على النظر في عيون الملايين دون أن يطرف للمدعي جفن، وكأنه صدّق "روايته المثالية" التي نسجها لنفسه..
روايةٌ يكون فيها هو المظلوم دائما والآخرون هم غالبا مجرد حاقدين!

لكن حين يصبح "التزييف" فناً، و"السطو" موهبة، و"الوقاحة" ثقةً بالنفس فهذا سيؤكد من جديد تلك القواعد التي ننساها
العين تُخدع بالبريق
والدنيا مجرد زخرف ظاهر
والخداع البصري سهل غالبا وإذا كشف مرة فإنه يمرُّ مرات..
دعهم يا صديقي في سيركهم الصاخب، يتبادلون الأقنعة واللوحات المسروقة تحت الأضواء الكاشفة، وليُقنعوا أنفسهم بأنهم فنانون ومبدعون.
لكن الحقيقة، كالشمس، لا يمكن حجبها بغربالٍ إلى الأبد.
قد يتأخر شروقها، وقد تُغطيها سُحب الزيف لبعض الوقت، لكنها حتماً ستُشرق يوماً ما..
وسيظل "لص المعنى" يركض في ظلال الوهم، حاملاً على ظهره أثقالاً من إبداعات غيره، يظنها أجنحةً سترفعُه.
وفي صمت الخلوة، حين تنطفئ الأضواء ويغيب الجمهور، لا بد أن يواجه ذلك الفراغ الذي يسكن في مرآته..
ذلك الصدى الباهت الذي يسأل: "من أنا حقاً؟".
إن أثمن لوحةٍ يمكن أن يمتلكها الإنسان
هي لوحة وجهه الحقيقي، بكل ندوبه وتجاعيده لا ذلك الوجه المصقول اللامع الذي مهما كان بهاؤه سيظل وجها... مُستعاراً.
👍61
بعد قليل إن شاء الله البث القرآني الأسبوعي ضمن سلسلة التفسير والتدبر وموعدنا اليوم بإذن الله مع المجلس الثامن عشر من مجالس تدبر سورة آل عمران
4
ملخص معاني سورة التكاثر
#ورد_القرآن_اليومي
3
لي أكثر من شهر متوقف عن سلسلة #قبل_أن_تتلو وذلك لإتمام مشاريع أخرى بفضل الله
وكنا قد وقفنا عن الفصل الثامن والنظرات الإجمالية لسورة الأنفال
اليوم أعاود النشر في إطارها من جديد بفضل الله وبركته
وإليكم الفصل التاسع منها وتدبرات إجمالية مع بعض التفصيل لقيمة السورة
سورة التوبة
أعلم قبل التعليق المعتاد أنه طويل جدا فهو فصل من كتاب يا أحباب فمن شاء أن يطالعه فليعلم هذا الوصف ليتفهم طبيعته وأسأل الله القبول والنفع

الفصل التاسع: سورة التوبة... حين يُرفع ستارُ البسملة وتُفضحُ السرائر

تُقلّب صفحات المصحف بقلبٍ يبحث عن سكينة..
عن مرفأٍ يرسو عليه في صخب الأيام.
تمرّ بالبقرة وآل عمران وقواعد التأسيس الكبرى للأمة، ثم تسبح في بحر معاني النساء الذي ينسج خيوط العدل والرحمة في بناء الأسرة والمجتمع. تنتقل بعدها للعقود مع الله في سورة المائدة ثم تستمر في تقليب الصفحات فتشعر بشيءٍ مختلف.
يدك ترتجف قليلاً، ثمة وقارٌ مهيبٌ يسبق الكلمات
إنها سورة الأنعام حيث تتدفق مشاعر تعظيم الله وجلاله إلى قلبك
ثم تنبهر بمعاني الحسم واتخاذ القرار المصيري في سورة الأعراف لتفاجأ بعد ذلك بنقلة نوعية إلى القرآن المدني حيث الغزوة الأولى - بدر - والتعليق عليها في سورة الأنفال
تشرع بعدها فيما بعد بدر متوقعا أن يسير الأمر كالمعتاد في كل سورة لكنك تفاجأ من جديد
سورة فريدة، تبدأ بشكل يختلف عن كل ما سبق وما يلي
يُرفع ستارُ الرحمة الظاهرة في البسملة.
هنا لا توجد "بسم الله الرحمن الرحيم" لتُفتتح بها الآيات
هنا... لن تجد تلك الافتتاحية المعهودة التي تُطمئن القلب وتُبارك البدايات.
تلك العبارة الحانية التي اعتدناها في كل سورة مستفتحين لن تجدها في سورة التوبة
سيبدأ الأمر مباشرة ليُكشف عن واقعٍ صارم
عن مواقف مفصلية
عن فضائح لا تحتمل التجميل أو المواربة. كأنها ساحة معركةٍ تُعلن فيها البراءة من المشركين، وتُكشف فيها سرائر المنافقين، وتُوضع فيها النفوس على محك الاختبار الأخير.
إن الخطب جلل والإعلان خطير ولا وقت لمقدمة هادئة أو تمهيد معتاد
هي سورةٌ تبدأ سريعة كريحٍ تفقد صبرها، كسماءٍ تُعلن حالة الطوارئ.
كل شيءٍ فيها يُحذّر، ويُعرّي ويكشف، مرسلا بلسان الحال رسالة لا يُخطئها سمع القلب مفادها: "قد جاء الوقت يا هذا... جاء الوقت لتُفتّش في قلبك، لا في الكتب".

هناك أيامٌ في رحلتنا مع كتاب الله، لا تشبه غيرها.
أيامٌ تشعر فيها بأن الكلمات ليست مجرد حروفٍ تُتلى، بل كأنها سياط تلهب ظهر الغفلة، أو مشرط جراحٍ دقيقٍ يشرّح خبايا النفس ويخرج ما استتر فيها من أدواء. ويومُ تلاوة سورة التوبة هو دائماً واحدٌ من تلك الأيام المختلفة بالنسبة لي.
ربما بدأ الأمر منذ سنوات، حين همس لي صديقٌ عزيزٌ بكلمةٍ عن هذه السورة، كلمةٌ بسيطة لكنها حفرت في وجداني أخدوداً عميقاً، وظلت تتردد في صدري كلما مررتُ بآياتها:
"سورة التوبة ليست فقط فاضحةً للمنافقين والمشركين والطاعنين في الدين...
سورة التوبة، يا صديقي، تفضح عيوبنا نحن أولا
تفضحنا أمام أنفسنا!".
كلماته تلك كانت بمثابة مفتاح لأبواب جديدة لفهم هذه السورة العظيمة
أبواب لم أكن أجرؤ على طرقها من قبل خوفاً من أن أرى ما لا يسرّني من نفسي وخشية أن أكتشف أن بعض تلك الأوصاف المخيفة قد تنطبق عليّ بشكلٍ أو بآخر.

منذ ذلك اليوم كلما شرعتُ في تلاوة سورة التوبة أخلع عن نفسي عباءة "القارئ المحايد" أو "المتأمل من بعيد".
لا أقرأها من موقع ذلك الساكن في برجٍ عاجيٍّ يتخيل نفسه في مأمن مما ورد فيها، و يظن نفسه في قد عُصم من فضائحها ويكتفي بمقعد المشاهد الذي يطالع فيلماً وثائقياً عن كائناتٍ غريبة انقرضت في عصورٍ سحيقة أو مخلوقات أسطورية من كوكب آخر..

أغادر ذلك المقعد المريح كلما برزت الكلمة الافتتاحية "براءة" وأحاول أن أجلس قلبي في موقع المتربص وألبسه ثوب روحٍ متأهبة
أقف أمام مرآتها الكاشفة، وأتعامل مع آياتها التي تتحدث عن صفات النفاق والتردد والقعود كأنها موجهةٌ إليّ أنا ابتداءً.
أقيس نفسي عليها..
أُفتش في زوايا روحي.. وفي دوافعي الخفية و أعذاري الواهية؛ عن أي أثرٍ لتلك الآفات التي فضحتها السورة بوضوحٍ لا يقبل التأويل
وبصراحةٍ لا تعرف المجاملة.

أُذكر نفسي في كل مرة أن هذه الآيات، وإن نزلت في أقوامٍ معينين ولأحداثٍ محددة، إلا أن معانيها تتجاوز الزمان والمكان وأنها تتحدث عن أمراض قلبية وسلوكية قد تُصيب أي إنسانٍ في أي عصر
عن انحرافاتٍ قد تتسلل إلى أي نفسٍ إذا لم تكن يقظةً ومُحصنةً بأسوار الإيمان والتقوى.

أذكر نفسي بكل ذلك بينما أستدعي أسماءها الكثيرة إلى ذهني
وما أكثر أسماءها
2👍1
"التوبة" "براءة" "الفاضحة" "المقشقشة" "العذاب" "المخزية" "المبعثرة" "المشردة" "المثيرة" "الحافرة" "المنكلة" "المدمدمة" "المنقرة" "البحوث" "الناقضة" "الخالعة" "الكاشفة"
سبعة عشر اسما لسورة واحدة!
ليس عبثًا أن تتعدد الأسماء لأمرٍ واحد… بل هو تجلٍّ من تجليات العظمة والخصوصية.
تأمل في تراث العرب لتجد أسماء متعددة لما عظمه العرب واحترموه
عشرات الأسماء للسيف منها : السيف، المهند، البتّار، الحسام، اليماني، المُصمِت، المِخْذَم، الصرامة، الصمصام، الغمود، الذَّكَر، الذليل، الرفيع، القضيب، المُرهَف، الجراز، الهزيم، القطاع،

الأسد أيضا.. ذلك الحيوان المهيب.. له عند العرب عدد ضخم من الأسماء؛ الليث، الغَضنفر، الهِزبر، الضَّيغم، القَسورة، الرِّئبال، السّبُع، الدَّيْث، العبَوس، الوَرْهَاء، العَنُوق، الهيّاج، الهيثم، عِثار، قَطام، عِندال، غَطريف، ضرغام. الغضنفر، والضرغام، والهِزبر، والهُمَام.
هذه الأشياء ما كانت أدوات فقط ولا حيوانات ولكن رموز ومعاني
صور للقوة والشجاعة، ومواطن للفخر والرواية.
بعد الإسلام استمر الأمر فصار ما له مقام خاص تتعدد أسماؤه أيضا
تأمّل "الفاتحة"... كيف هي: أمّ الكتاب، والسبع المثاني، الشفاء، الرقية، الحمد، الصلاة، الأساس، الوافية، الكافية، الشافية، النور، الكنـز، السؤال.
كل اسم منها كما ترى يفتح بابًا من الرحمة والمعرفة...
يوم القيامة أيضا عد له العلماء ما يزيد عن خمسين اسما
الساعة، اليوم الآخر، يوم البعث، يوم الخروج، يوم الفصل، يوم الحساب، يوم الدين، يوم الوعيد، يوم الحسرة، يوم التناد، يوم الطامة، يوم الصاخة، يوم التغابن، يوم الجمع، يوم الخلود، يوم الندامة، يوم الآزفة، الواقعة، الحاقة، القارعة، الصيحة، الغاشية، يوم النشور، يوم العرض، يوم لا ريب فيه.

هكذا كلما كثرت الأسماء، دلّ ذلك على عظم شأن المسمّى، وعلوّ أثره في النفوس، وسَعة تجليه في التجربة الإنسانية.
إن تعدد الأسماء ليس ترفًا لغويًا، بل هو إشعارٌ بأن هذا الشيء لا يُحتوَى باسمٍ واحد، لأنه يسكن أكثر من زاوية، ويحيا في أكثر من مقام.
كل اسم يُلامس زاوية، وكل نعتٍ يكشف طبقةً من المعنى، كأنك ترى الكيان الواحد بعدسات متعدّدة، فتقع عينك كل مرة على وجهٍ جديد لم تره من قبل.
وهكذا كانت سورة التوبة
لكل اسم من أسمائها مدلول وأثر على النفس
"التوبة" اسمها الأشهر والوارد في المصاحف سأتحدث عنه بتفصيل لكن بعد الكلام عن ذلك الاسم الذي يهابه كل من يعرف السورة ويخشاه
"الفاضحة"..
وامتداده ومثله "الكاشفة" و "المخزية" و"المبعثرة" و "المشردة"
تلك الأسماء التي تحمل معنى ظهور الحقائق وإن كانت مؤلمة وتُجبرك على أن تنظر إلى حقيقة نفسك بلا أقنعة
أسماء في مجملها تعرض آفات المنافقين والمتخلفين ليس على مستوى الواقع ليحذر الناس من شرورهم ولكن على مستوى قلبك وسلوكك ولتتلمس حالك معها بصدقٍ وشجاعة.
ثم ترنو إلى ما يكمن فيه جمالها الأعظم وسرّ تسميتها الأخرى
إلى اسمها الذي يحمل الأمل والنجاة بعد كل هذا الفضح والكشف! ...
"التوبة"
عندئذ تُسارع إلى ذلك العلاج الرباني الشافي..
ذلك الباب المفتوح على مصراعيه الذي تطرحه السورة بإلحاحٍ عجيب حيث يتكرر لفظه عددا من المرات يساوي عدد أسمائها!
نعم... لفظ التوبة ومشتقاته يتكرر في السورة سبعة عشر مرة وكأنه طوق النجاة الوحيد للخلاص من أسر تلك الأمراض، بدلاً من أن نتركها تستتر في الظل وتنمو وتستفحل كسرطانٍ خبيثٍ ينهش الروح حتى يصعب اجتثاثها بعد حين.
لكن المرض الخبيث لا يمكن علاجه قبل الانتباه أصلا إلى وجوده
ومن هنا تأتي قيمة الكشف والفضح

قيمة تتمثل بتلك الكلمة المتكررة في السورة و تشبه في تكرارها ضربات مطرقةٍ على جدار الصمت الداخلي "وَمِنْهُمْ..."، "وَمِنْهُمْ..."، "وَمِنْهُمْ..."
تسمعها تتردد في ثنايا السورة،
في كل مرة، تُحاول نفسك الأمارة أن تُهدّيء من روعك: "أنا لست من هؤلاء... أنا بعيدٌ عن المنافقين، عن القاعدين، عن المتخاذلين..."
هنا أتذكر قول حبر الأمة، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حين سأله التابعي الجليل سعيد بن جبير عن سورة براءة، فقال بتلك العبارة التي تهزّ القلوب: "تلك الفاضحةُ، ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحداً".
تأمل يا صديقي كلمة "خفنا"!
هذا هو الشعور الذي ينبغي أن يُصاحب تلاوة هذه السورة.
خافوا، وهم من هم في صحبتهم لرسول الله وجهادهم وسبقهم..
خافوا من أن يكونوا ممن عناهم القرآن بالنفاق!
ثم تأتيك آية أخرى أشد رهبة في السورة بلا حرجٍ ولا تأجيل:
"يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ".
2👍1
يا إلهي! كانوا يحذرون أن تُنزل سورة تفضح ما في قلوبهم، والله يُخبرهم بأنه مُخرجٌ ما يحذرون!
فكيف لا أحذر أنا، وأنا أقرأ هذه "الفاضحة"
أن تُخرج ما في قلبي من خبايا قد لا أُحب أن تُكشف؟
وهنا أجدني أهمس لنفسي بسؤالٍ مُقلق، سؤالٍ يشبه وخزة ضميرٍ مؤلمة: "ترى.. . هل أنا منهم؟
هل فيّ شيءٌ من صفات هؤلاء الذين تُشير إليهم أصابع الاتهام في السورة ؟.

إذا كان الفاروق عمر نفسه، ذلك الجبل الأشمّ الذي كان الشيطان يفرّ من ظله، كان يسأل سيدنا حذيفة بن اليمان، كاتم سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء المنافقين، يسأله بقلبٍ يرتجف، بصوتٍ قد يكون متهدجاً من فرط الخشية: يا حذيفة، أُنشدك الله، هل سماني لك رسول الله (يعني في المنافقين)؟
فلما طمأنه حذيفة بأنه ليس منهم، جادت عينا عمر بالدموع!
بكى فرحاً ونجاةً من هذه التهمة المروعة، بكاءَ طفلٍ صغير وجد أمه بعد ضياع.
فما بالك بي؟ وبك؟
لم يكن سؤال سيدنا عمر مجرد استفسارٍ عابر، أو أداء واجبٍ متكلف، بل كان هماً حقيقياً..
خوفاً صادقاً، نفثته دموعه التي بللت لحيته الشريفة.
يحدث هذا للفاروق، صاحب رسول الله ووزيره، فكيف بنا نحن اليوم، ونحن نرى الكثيرين يأمنون تمام الأمن من هذه الآفة، وكأن بينهم وبين النفاق حجاباً مستوراً وحصناً منيعاً، وكأنهم مُحصنون بلقاحٍ خارق ضد هذا الداء الخفي!
بينما كان الأولى أن يخشونه كما خشي الأولون
كان حذيفة رضي الله عنه، وهو الخبير بأحوال النفاق والمنافقين، يقول تلك الكلمة التي تُوقظ القلوب:
"إن كان الرجل منكم ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصير بها منافقاً، وإني لأسمعها اليوم من أحدكم عشر مرات!".
كأنه يغرس في قلوبنا تلك الخشية التي لا ينبغي أن يخلو منها قلب مؤمن: خشية النفاق.
وقد قيل بحق: "النفاق... لا يخافه إلا مؤمن، ولا يأمنه إلا منافق".
وحين قال رجلٌ لحذيفة: "إني أخاف أن أكون منافقاً"، ردّ عليه حذيفة بتلك الكلمة الجامعة التي تُريح القلوب الخائفة: "المنافق لا يخاف".
(أي لا يخاف أن يكون منافقاً).

"أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى النفاق على نفسه، لا يقولن أحدهم إنه على إيمان جبريل وميكائيل!".
هكذا كان يقول التابعي ابن أبي مليكة واصفا حال من أدرك من الصحابة رضي الله عنهم
كلهم يخشون النفاق!
يا لها من شهادةٍ...
كانوا يخشونه لأنهم أدركوا حقيقته الخفية، وطبيعته المتسللة، وقدرته على أن يُصيب القلب وهو لا يشعر، كمرضٍ خبيثٍ لا تظهر أعراضه إلا بعد فوات الأوان، إن ظهرت أصلاً وشعر المنافق بأنه منافق!
إن المنافقين كما يصفهم القرآن في مواضع أخرى، يكذبون ويُخادعون حتى تتشرب قلوبهم الكذب، وحتى يكادوا أن يُصدّقوا أكاذيبهم، فلا يشعرون بمصيبتهم ولا يُدركون حقيقة خديعتهم لأنفسهم قبل غيرهم.
تأمل هذا الوصف الدقيق لحالهم في سورة البقرة: "{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}" [البقرة: 9]
"{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ}" [البقرة: 12]
"{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ}" [البقرة: 13].
تأمل.. "وما يشعرون"، "ولكن لا يشعرون"، "ولكن لا يعلمون"..
غفلةمطبقة و عمى بصيرة مظلم يُصيب من استمرأ الكذب والخداع!
وإن الشعور بالمشكلة ابتداءً هو نعمةٌ عظيمة، وهو أول خطوةٍ في طريق العلاج.
وهذا ما تفعله الفاضحة الكاشفة!
لذلك فحين نتلو آيات النفاق في سورة التوبة أو غيرها، لا ينبغي أن نتعامل معها كمعلوماتٍ تاريخية عن فئةٍ بائدة، أو كقصصٍ أسطورية لا تمتّ لواقعنا بصلة.
بل يجب أن نتعامل مع تفصيل هذا المرض وأعراضه بمنطق الإنسان الحريص على صحته، الذي يقرأ عن أعراض الداء ليحذر منه، ويسعى بصدقٍ للوقاية، أو للعلاج العاجل إن أصابه شيءٌ منه.

هكذا كان يفعل الصحابة الكرام، وهكذا ينبغي أن نكون.

وإن "الفاضحة" لا تكتفي بفضح النفاق القلبي المتسلل، بل تمتد لتُشرّح وتفضح أشكالاً أخرى من التقصير والخذلان الذي قد يُصيب الأمة وأفرادها، كأنها تُريد أن تكشف وتُطهر المجتمع المسلم من كل درنٍ أو مرضٍ قد يُضعفه ويُوهنه:
فهي تفضح ذلك "القعود" المشين عن نصرة الدين، وذلك "التثاقل" المخزي إلى الأرض حين يُدعى المؤمنون إلى النفير في سبيل الله.
تفضحه بسؤالٍ يقرع أسماع متدبر ويُوقظ فيه كل معاني الحياء من الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة: 38]. هو فضحٌ لتعلق القلوب بالدنيا وإيثار الراحة العاجلة والدعة المذمومة على النعيم الباقي والجهاد في سبيل الله.
3👍1
ثم تكون العاقبة الوخيمةٌ،
الوخيمةٌ جداً... لمن يختار هذا الطريق المخذول
(إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة: 39].
إن نصرة الدين كما توضح ليست دائنا تطوعاً أو نافلةً يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، بل هي في مواضع البذل = واجبٌ وفرضٌ على المستطيع، من تخلّف عنه بلا عذرٍ شرعي فقد عرّض نفسه - بمقتضى السورة - لعذاب الله، ولخطر الاستبدال بقومٍ خيرٍ منه وأطوع لله.

كذلك تفضح السورة ذلك "الكذب" الصريح واختلاق "الأعذار الواهية" للقعود عن الجهاد والنفير.
تكشف بوضوح زيف هؤلاء الذين يُبررون تخلفهم بحججٍ أوهى من بيت العنكبوت، فيُقسمون بالله كذباً أنهم لو استطاعوا لخرجوا، وهم في الحقيقة يُهلكون أنفسهم بهذا الكذب والنفاق:
(وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 42].
تتعمق السورة أكثر في الكشف والفضح حين تُبين دافعهم الحقيقي و هو البحث عن "العرض القريب" و"السفر القاصد"
العمل السهل والبذل غير المكلف..
العطاء المشروط بيسره وبعدم احتوائه على أي تضحية
أما إذا كانت "الشقة بعيدة" والمشقة عظيمة، فإنهم يتخلفون ويُقدمون الأعذار
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ...) [التوبة: 42].

تفضح السورة أيضا الأعذار الكاذبة وليست فقط الواهية
تكشف ادعاءات هي نقيض الحقيقة تماما ترفع غطاء التستر عمن يطلب الإذن بالقعود بحجة الخوف من الفتنة ويدعي الورع وخشية التأثر بنساء الروم وحسنهن بينما هو في حقيقته قد سقط في فتنةٍ أعظم
فتنة النفاق والخذلان:
(وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا...) [التوبة: 49].

ولا تكتفي السورة بتلك الطبقات من الكشف بل تزيل مزيدا من الأستار وتغوص أكثر في خبايا النفس لتفضح حقيقة المشاعر المزرية
مشاعر من يفرحون بتخلفهم، ويكرهون البذل للدين، ويُثبطون همم الآخرين، ويُقدمون أعذاراً هي أشد قبحاً من الذنب نفسه:
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: 81].
تأمل اللفظ القرآني
فرح..
تصور أنهم بهذا فرحوا ولهذا ضحكوا وهذا ما أحبوا
تخلفهم عن الجهاد و البذل!
ذلك الصنف الكاذب المطموس على قلبه؛ الذى انتكست فطرته فصار يفرح بتقصيره و عصيانه..
فمثله كمثل الأجرب الذى لا يريحه إلا ما يؤلم الصحيح المعافى!
لا يرتاح إلا بحك جلده حتى يدمى ولو صح جلده لتألم لكنه المرض عافانا الله
وما أقبح ذاك المرض إن كان فى القلب !
نعم قلب المنافق عياذا بالله هو قلب أجرب لا يسعده إلا تمزيقه بالفجور والعصيان
بينما كان الأولى بهم ما قاله الله في الآية التي تليها
"فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ "
هكذا تبين السورة تفاوت ميزان الفرح والحزن وتباين معايير الضحك و البكاء

فمن ضحك بسبب التخاذل و الانبطاح إلى بكاء لفوات بذل و تضحية و عطاء ، و ما بين هذا و ذاك تتباين قلوب الناس
نعم هكذا أبرزت السورة النموذج المقابل؛
فبينما المنافقون فى فرحتهم المقززة بتخلفهم عن ركب الفداء و التضحية وضحكاتهم الفاجرة تتعالى فى الأسواق وقد ظنوا أنهم خادعو الله، إذ هرع إلى النبى ﷺ أقوام يبدو عليهم الفقر والحاجة و تظهر على ثيابهم الرثة علامات شظف العيش و خشونته مع شدة الحاجة أقبلوا على الحبيب مشفقين وجلين، و قد سمعوا أنه لن يخرج إلا من كانت له دابة يركبها ظهر يسافر عليه هذا السفر الطويل
هنالك دخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم خائفين أن يردهم عن أسمى أمانيهم التى يتوقون إليها ، فقالوا : احملنا .
يطلبون منه الظهر الذى يسافرون عليه مجاهدين في سبيل الله
لكن الجواب جاء علي غير ما يرغبون
لقد قال رسول الله ﷺ تلك الكلمة التى لم يكن لأعينهم و قلوبهم الصافية طاقة بها
"لا أجد ما أحملكم عليه"
و حين سمع الصادقون إجابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و رده إياهم؛ نزلت الكلمة على قلوبهم شديدة
تزلزل كيان قد بلغ به الصدق مبلغه حين كان قد تجهز لإحدى الحسنيين
فلما فوجئ أنه لن يتمكن اليوم من نيل هذا الشرف تجمع كل سيل هذا الصدق والإخلاص و الشوق وصعد فياضا إلى المآقى ليتفجر أنهارا من دموع الأسف حارة تخالط حرارتها نكهة الصدق و ةطعم الإيمان .
2👍1
لقد رجع الصادقون المشتاقون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون .
"وَلَا عَلَى ٱلَّذِینَ إِذَا مَاۤ أَتَوۡكَ لِتَحۡمِلَهُمۡ قُلۡتَ لَاۤ أَجِدُ مَاۤ أَحۡمِلُكُمۡ عَلَیۡهِ تَوَلَّوا۟ وَّأَعۡیُنُهُمۡ تَفِیضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ حَزَنًا أَلَّا یَجِدُوا۟ مَا یُنفِقُونَ"
[سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٩٢]
فشتان شتان بين سلوكهم ، وبين سلوك من سبق ذكره من المعذرين
بين الصادقين بنياتهم مشفوعة بهمهم العالية وإقدامهم المبكر الأمين، وحزنهم العميق علي فوات أسباب العمل الصالح عليهم وآخرين يضحكون ويستبشرون بالكذب والتبرير الواهي والأعذار الزائفة

هؤلاء حزانى على حرمان الطاعة ، وأولئك يطربون ويفرحون بالخلاص منها
هؤلاء صادقون نالوا أجر كل مسير يسار وكل واد يقطع، بصدقهم وإخلاصهم
وأولئك أعقبوا نفاقا فى قلوبهم بكذبهم وإخلافهم وعدهم مع ربهم والأدهى من كل ذلك ؛ والأغرب من مجرد تفويتهم طاعة ربهم = فرحهم بذلك البوار والحرمان العظيم !
"إِنَّمَا ٱلسَّبِیلُ عَلَى ٱلَّذِینَ یَسۡتَـٔۡذِنُونَكَ وَهُمۡ أَغۡنِیَاۤءُۚ رَضُوا۟ بِأَن یَكُونُوا۟ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ"
[سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٩٣]

فضيحة أخرى تبرزها السورة لأولئك الذين يخدعون أنفسهم قبل أن يخدعوا الناس، والذين يُقدمون أعذاراً هي في حقيقتها دليل ضعف إيمانهم وقلة صدقهم.
بينما المؤمن الحق لا يستأذن في الخير، بل يُسارع إليه، ولا يتردد في البذل والتضحية طالما قدر عليها واحتاج الدين إليها
(لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ "
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة: 44-45].

ثم تأتي فضيحةٌ أخرى، من أشد الفضائح وأخطرها على الإيمان
فضيحة "الاستهزاء بالدين وأهله".
حين يتحول الدين وشعائره وحملته إلى مادةٍ للسخرية والتهكم، ولو بزعم "اللعب" و"الخوض" و"تمضية الوقت".
"وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ"
هكذا قالها بعض من فضحتهم سورة التوبة مبررين استهزاءهم وخوضهم
وأي خوض وأي لعب
بالله
بآياته
برسوله
"قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ"

- ما رأينا مثلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ أرغبَ بطونًا ولا أكذبَ ألسُنًا ولا أجبَنَ عندَ اللقاءِ .
هكذا قالوها مستهزئين بعلماء الصحابة.
بحفظة الوحي وحراس الشرع وورثة النبي صلى الله عليه وسلم
صحيح أن ديننا لا يعرف كهنوتا ولا يرسخ قداسة للأشخاص غير المعصومين لكنه أيضا يعرف الاحترام وحفظ القدر، وفى الحديث "ليس منا من لم يعرف لعالمنا حقه"
هذه السخرية الممنهجة الاي يكررها منافقو كل زمان ومكان؛ هدفها ببساطة هو إذابة أى قدر متبقٍ من الاحترام فى نفوس الناس لورثة الأنبياء ومن ثم زوال الاحترام لتركتهم التي ورثوها
العلم بالشرع
يزول الاحترام وتجرف الأعراف والقيم وتزعزع الثوابت الدينية التى نشأ عليها الناس.
والعلة الحاضرة دوما = المزاح والفكاهة

- إنما كنا نخوضُ ونتحدثُ حديثَ الركبِ نقطعُ به عنا الطريقَ
كان هذا هو تبريرهم أثناء تعلقهم بناقة رسول الله معتذرين عن مقالتهم الساخرة
كنا نتسلى
نلهو
نمزح
تتعدد المبررات والحقيقة واحدة
"قل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ
لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ"
تأمل الكلمة الأخيرة
"مجرمين"
هذه هي الحقيقة المجردة التي لابد أن تظهر جلية واضحة
هؤلاء كانوا مجرمين
وكل مستهزيء بالشرع محتقر لأحكامه خائض في أصوله وثوابته جادا أو هازلا = مجرم
لا قيمة ها هنا لمعاذير ولا قبول لتبرير
ثمة مقدسات وخطوط حمراء والضحك والإضحاك والهزل والمزاح ليسوا منها

تحذيرٍ صارمٍ ومُفزع..
لا مجال للمزاح أو الهزل في حرمات الدين، فالأمر جدٌ لا هزل فيه، والاستهزاء به، ولو بكلمةٍ عابرة، قد يُخرج صاحبه من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر والعياذ بالله.

"يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ"
سيخرجه الله ويفضحه
ولو بعد حين
وهذا ما فعلته الفاضحة
إن المنافق في الحقيقة لا يستطيع التوقف عن تلك العادة ولا يملك أثناء نفاقه إقلاعا عن إدمان السخرية والاستهزاء
2👍1
ليس فقط لأجل الغرض السابق الذي تحدثنا عنه وهو إزالة الاحترام للشرع وحملته ولكن أيضا لأن أصل تلك السخرية يكمن في نظرته نفسها
نظرته للدين ولحملته
نظرة احتقار واستهزاء
هذه النظرة تشمل كل ما له علاقة بالدين بدءا من المتدين نفسه
وهذا ما أوضحته السورة في موضع آخر
"الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: "لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.. "
احتقار عميق لكل مؤمن مهما فعل
أنفق قليل = يحتقر فقره
أنفق كثيرا = يرمى بالرياء
المهم أن يسفه المؤمن ويسفه عمله
قالوها من قبل وبينتها سورة البقرة
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ"
هذا هو تصورهم عن المؤمنين
سفهاء وصعاليك ليسوا من مستواهم
" أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ"
وإن استهزاءهم لم يشمل فقط عموم المؤمنين بل العلماء كان لهم النصيب الأكبر من استهزاء المنافقين كما سبق وأشرنا في آية الخوض واللعب
لكن الأبشع على الإطلاق هو استهزاؤهم بسيد العلماء وإمام الدعاة
رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
تخيل أنه هو نفسه بأبي هو وأمي لم يسلم من استهزائهم وسخريتهم
" وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ"
لقد اجترأوا علي التقليل من عقله والانتقاص من إدراكه وقدرته على التمييز
زعموا أنه مجرد أُذُنٌ تسمع كل ما يلقى إليها وتصدقه كله من دون تمييز لصوابه من خطئه ولا لكذبه من صدقه
" قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"
سورة التوبة تقطع الطريق على كل تبريرٍ أو اعتذارٍ في هذا الباب وتلقي الضوء على تلك الفضيحة الحقيرة
فضيحة الاستهزاء بالدين

وفي خضم كل هذا، تُبرز السورة أهمية "الغيرة على حرمات الله" وقيمة الرغبة الشرعية دفع أي عدوان عن دينه وأوليائه.
حين تُنتهك حرمات الله، ويُعتدى على دينه، ويُؤذى أولياؤه، ثم لا تتحرك في القلوب غيرةٌ ولا تتمعر الوجوه، فهذه علامةٌ خطيرة على موت القلب أو مرضه الشديد.
السورة تستنهض الهمم وتُوقظ الغيرة الإيمانية المفقودة من خلال عتاب للمؤمنين على التردد في قتال من نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول
(أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [التوبة: 13].
هي إذاً دعوةٌ لإيقاظ الحمية الإيمانية، والغيرة على دين الله والدفاع عن حرماته المتعددة
حرمة التوحيد..
حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته..
حرمة المؤمنين..
حرمة المكان والزمان..
حرمة كل ما عظّمه الله وأمر بتعظيمه.. ترسخ السورة لقيمة كل تلك الحرمات وأهمية الغيرة عليها التي هي من علامات صدق الإيمان وغيابها؛ علامة على ضعفه أو حتى غيابه

وهكذا تستمر سورة التوبة في أهم خصائصها
"كاشفة"، "فاضحة"..
لا تترك صغيرةً ولا كبيرةً من أمراض القلوب وسوءات الأعمال إلا وتُسلط عليها الضوء الساطع، وتُعرّيها أمام صاحبها وأمام الملأ.
لكن ماذا بعد كل هذا الفضح والكشف والوعيد؟
هل يُغلق الباب وتُسدّ الطرق؟
أبداً!
إن ختام السورة؛ كبدايتها... يحمل رسالة الأمل والرحمة عبر كل فصولها وفي خضم كل مشهد افتضاح وكشف..

في مفارقة عجيبة ستُظهر لك السورة سعة رحمة الله رغم كل ما فيها من زجر ووعيد بأشد العذاب..
في أشد لحظات الكشف والفضح قوة ، وحين تفضح السورة دوافع القعود، وتُعرّي الأعذار، وتُسقط الأقنعة؛ ينقلب السياق القرآني فجأة، لا نحو التهوين، بل نحو التضميد والعلاج.
و كأنك بعد جراحةٍ مؤلمة لاستئصال ورمٍ خبيث، يُفتح أمامك بابٌ لم تكن تتخيله: باب "التوبة".
هي السورة التي حملت هذا الاسم العظيم
و هو الاسم المدون في المصحف والمعتمد توقيفيا للسورة
الاسم الذي يمثل طوق النجاة بعد كل هذا الفضح والكشف و يفتح أبواب الأمل على مصراعيها لكل من أراد العودة والإصلاح
لكل من شعر بوخز الضمير وأراد أن يُطهّر نفسه.
السورة تُقدم لنا الخيار بوضوحٍ لا لبس فيه:
2👍1
إما الاستمرار في الغفلة والتقصير والقعود، والتمادي في أمراض النفاق والخذلان، فتكون الفضيحة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
أو الخيار الآخر الذي يحمل وحده النجاة..
خيار المسارعة إلى التوبة الصادقة والالتحاق بركب الصادقين، فتكون النجاة والمغفرة والفوز العظيم.

وهذا هو سرّها الأعظم وجمالها الأخّاذ!
سورةٌ لا تبدأ بالبسملة، كأنها إعلان براءةٍ وحربٍ لا هوادة فيها على المشركين المعاندين والمنافقين المخادعين، لكنها في الوقت نفسه = هي أكثر سورةٍ في القرآن تكرر فيها ذكر التوبة ومشتقاتها
تخيل
كأنها تقول: مهما بلغت ذنوبكم، ومهما تعاظمت فضائحكم، ومهما تلوثت سرائركم... فباب الله مفتوح، ورحمته تسع كل عائدٍ إليه بصدق،
كل نادمٍ على ما فات
كل عازمٍ على الإصلاح.

سبع عشرة مرة تتلألأ فيها كلمة "التوبة" كنجومٍ تُضيء ليل اليائسين، وتُنعش قلوب القانطين، أو كسلالم تُصنع من نور بعد كل فضيحة يرتقي عليها المذنب والمقصر ليصل إلى عنان الخير والفضل والرحمة.
سبع عشرة نافذةً تقول لك: "السياق القرآني لا يفضح ليتشفّى أو ليشمت ، بل ليطهّر.
لا يكشف الجرح ليُهين المجروح، بل ليُداويه".

هل هناك سورة فضحت هذا القدر من النفاق، ثم وعدت بهذا القدر من الرحمة؟

التوبة تُخبرك أن لا أحد بمنأى عن الخطأ، ولكن كل أحدٍ بقُربٍ من التوبة، إن صدق.
وتعرض ذلك الخيار على الجميع..
الجميع بمعنى الكلمة وليس مجازا..
تُع
[ ] تعرضه على الكافرين كفرصةٍ أخيرة للنجاة
"فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...".
بل تفتح لهم أبواب الأخوة في الدين إن هم صدقوا
"فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ...".
وكذلك تعرض التوبة على المنافقين الذين نطقوا بكلمة الكفر واستهزأوا بالدين وعرضت السورة صنوفا شتى لجرائمهم لا يزال باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه
"فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ...".

[ ] أما أولئك المترددون، المُرجَون لأمر الله، الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فباب التوبة لهم مُشرعٌ ينتظر قرارهم:
[ ] (...إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ...) [التوبة: 106].
[ ] والمقصرون الذين اعترفوا بذنوبهم، ولم يجدوا لهم مخرجاً إلا رحمة الله، فالسورة تُطمئنهم وتفتح لهم باب الرجاء: (...عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ...) [التوبة: 102].

[ ] أما الثلاثة الذين خُلِّفوا لكن صدقوا ولم يبرروا كذبا؛ فلهم شأن آخر
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فكانت التوبة هي الفرج والمخرج بعد طول انتظارٍ وكربٍ شديد: (...ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 118].
رسالةٍ مدوية، تُعلنها السورة في كل اتجاه: الكل بحاجةٍ إلى التوبة، والكل مدعوٌ إليها، والكل يمكن أن ينالها، إذا صدق في طلبها، وأخلص في توجهه.
إن التوبة في السورة تشمل الجميع فعلا
حتى أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، المهاجرين والأنصار، في تلك اللحظة العصيبة من غزوة العُسرة، حين كادت بعض القلوب أن تزيغ من شدة البلاء، فكانت توبة الله عليهم سبباً في ثباتهم ورفعتهم
(لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 117].
حتى هم؟
حتى الصفوة؟
نعم!
ببساطة لأن التوبة ليست علاجاً للفاسدين فقط، بل هي غذاءٌ للصالحين، وتربيةٌ للمصطفين، وتذكيرٌ لكل من قصر ولو لوهلة.
التوبة أصل لا يستثنى أحد من وجوبه..
والسورة لا تكتفي بذلك التأصيل العام، بل تُعلنها بشرى عظيمة لكل العباد، تُريح القلوب القلقة وتُطمئن النفوس الخائفة، وتُقطع الطريق على وساوس اليأس والقنوط
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 104].
نعم، هو سبحانه يقبل التوبة..
بل ويفرح بها، وهو التواب الذي يتوب على عباده مرةً بعد مرة، الرحيم الذي لا تنفد رحمته ولا يُغلق بابه.

لكن هذه التوبة، التي هي مفتاح النجاة وبوابة الرحمة، ليست مجرد كلمةٍ تُقال باللسان في لحظة انفعال، أو دمعةٍ تُذرف ثم تجفّ ويعود المرء إلى سابق عهده.
إنها تتطلب صدقاً في القلب، وعزماً على الإقلاع، وندماً على ما فات، واستعداداً حقيقياً للتغيير والإصلاح.
ألم يأتِ الأمر الإلهي الحاسم، بعد قصة الثلاثة الذين خُلفوا وتاب الله عليهم، مباشرةً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]؟
2👍1
2025/07/13 20:13:00
Back to Top
HTML Embed Code: