أريد أن يكون بيتنا صغيرًا، منعزلًا، محاطًا بالورد، تنيره الشمس ولا يعرف طريقه إلا من نحب، له شرفة مطلة على حديقة صغيرة وسماء واسعة، فيه كرسيان يميلان بزاوية محسوبة بدقة حتى أنظر لكِ، لا للمشهد الذي تطل عليه الشرفة. أريد خضرة و وردًا في كل ركن، وأفكر أني كل مرة سأرى يدكِ تعتني بها، سآخذها وأقبلها..
نحنُ لا نبحث في هذه الحياة جميعًا إلاّ عن شيء واحد:نمتلىء به، أن نحظى بقُبلة على قلوبنا الرّمادية، أن نعرف عذوبة الحبّ الذي لا ينضب. أنْ تكون حيًّا هو أن تكون مرئيًا. إننا نرى النور بمجرد أن ينظر إلينا أحدهم بحبّ. لا أحد بإمكانه الأفلات من هذا القانون، حتىّ الله الذي هو، من حيث المبدأ، المبدأ المفترض لكل شيء. و حتى الكتبُ المقدّسة التي نحتفظ بها في الرفوف أو نقرؤها، فليست سوى خلاصة مجهودات الإله البائسة كيْ يكون مرئيًا لنلمحه، و لو لثانية و احدة، حتى و إن كان من ينظر إليه رجلا واحدا لا يصلح لأي شيء، أو راعي أغنام أثملتهُ الوحدة و الخمر الرديء..
كريستيان بوبان
اللاّمآمول
كريستيان بوبان
اللاّمآمول
أحمد عبد الحسين | بانتظار الله
مقولةُ نيتشه: “الانتظار يفسدُ أخلاقَ المرء” أعمقُ مما تبدو عليه، فهي ناظرة إلى الإرجاء الأبديّ للخلاص سواء أكان هذا الخلاص تحققاً للـ”حقيقة” التي هي في أفق انتظار دائم، أو تحققاً للحقّ المعبَّر عنه في المدوّنات الدينية بالرؤى القيامية، وفي حكمها القيامات الصغرى كظهور المُسحاء أو المهديين، والكبرى كيوم الحساب والدينونة.
الانتظار ممضّ ومضنٍ وهو لا يفسد الأخلاقَ وحدها بل يفسد القلوب والعقول. في الآية القرآنية “فطال عليهم الأمد فقستْ قلوبهم” تبيانُ أنّ الإنسان المتروك لانتظار الخلاص انتظاراً طويل الأمد سيكون عرضة للكفر بخلاصه ذاته. ولذا فإن المخلِّص يموت قبل الأوان، نحن نقتله تحت وطأة ألم انتظارنا الذي لا يُحتمَل. لأنّ مَرّ الايام والليالي من دونه مشعرٌ لنا بأنه إن أتى فسيأتي بعد الأوان، أيْ بعد أن نكون قد اندثرنا، وخلاصٌ من دوننا هو أقلّ من أن يُسمى خلاصاً. نحن نقتل المخلِّص قبل الأوان لئلا يأتي بعدنا!
نيتشه قتل إلهه لهذا السبب. مقولته “مات الله ونحن مَنْ قتلناه” هذا هو مغزاها الأوفى. انتظاره لله “انتظاره للحق والحقيقة” مؤلماً كان وبلا أمل، وكان قتله لله نوعاً من الخلاص الأصغر الذي يشفي من مرض انتظار الخلاص الأكبر.
في الأمر نزوع انتحاريّ. المنتحرون شديدو الإيمان “الانتحاريون ـ الاستشهاديون” لا يفعلون سوى هذا: إنهم يستعجلون القيامة التي تأخرتْ عليهم طويلاً. ولم يعودوا يطيقون مسكن الانتظار الذي هم فيه يقضون وقتهم سدى، فلا مخلّص يكلمهم ولا خلاص يبعث لهم ما يخفف عنهم ثقل انتظارهم الممضّ. إذا لم تأت القيامة فسنذهب لها نحن. في الأمرين كسر للانتظار، مرة بقتل الإله وأخرى بقتل النفس.
المدوّنات الإسلامية أشارتْ في مواضع عدّة إلى أن الانتظار عبادة، بل هو خير العبادات: “انتظار الفرج أفضل العبادة” “أفضل عبادة أمتي الانتظار”، وهو لم يصبح كذلك إلا لأنه شاقّ، إنه مختبر للقلوب والعقول، منزلٌ يخرج منه الناس على اصناف شتى: قساةَ القلوب “كما يقول القرآن” فاسدي الأخلاق بتعبير نيتشه، منتحرين مستعجلي القيامة، أو متعبدين مسلّمين.
كتب بورخس عن طفولته هذه الحكاية الصغيرة المؤسية “أمضيت طفولتي من دون الخروج من البيت. ولعدم وجود أصدقاء لنا، اخترعنا، أنا وأختي، رفيقين متخيلين، وعندما شعرنا بالملل منهما قلنا لأمنا إنهما ماتا”.
لا أحد بمقدوره الانتظار طويلاً ريثما يحضر المتخيّل ليكون حقيقة، لأن الوقت المؤلم الذي يفصل بين التوهّم وتحقق المتوَّهم وقت ثقيل لا تطيقه النفوس. منتظر “الحقيقة” مديداً سيكفر بها أو سيتخذ له حقائق صغرى تلهيه عن انتظارها، ومنتظر الخلاص سيقتل مخلصه لئلا يظهر بعده، ومنتظر القيامة سيقتل نفسه ليلاقيها بدلاً من التعبّد المؤلم وهو ينتظرها، ومنتظر الله يضيق ذرعاً به في انتظاره الألفيّ الطويل فيعلن موته.
غير أن الحقيقة لا تُبلَغ إلا بالانتظار، انتظار مؤلم وطويل وممضّ تُختَبَر فيه النفوس والعقول والقلوب..
مقولةُ نيتشه: “الانتظار يفسدُ أخلاقَ المرء” أعمقُ مما تبدو عليه، فهي ناظرة إلى الإرجاء الأبديّ للخلاص سواء أكان هذا الخلاص تحققاً للـ”حقيقة” التي هي في أفق انتظار دائم، أو تحققاً للحقّ المعبَّر عنه في المدوّنات الدينية بالرؤى القيامية، وفي حكمها القيامات الصغرى كظهور المُسحاء أو المهديين، والكبرى كيوم الحساب والدينونة.
الانتظار ممضّ ومضنٍ وهو لا يفسد الأخلاقَ وحدها بل يفسد القلوب والعقول. في الآية القرآنية “فطال عليهم الأمد فقستْ قلوبهم” تبيانُ أنّ الإنسان المتروك لانتظار الخلاص انتظاراً طويل الأمد سيكون عرضة للكفر بخلاصه ذاته. ولذا فإن المخلِّص يموت قبل الأوان، نحن نقتله تحت وطأة ألم انتظارنا الذي لا يُحتمَل. لأنّ مَرّ الايام والليالي من دونه مشعرٌ لنا بأنه إن أتى فسيأتي بعد الأوان، أيْ بعد أن نكون قد اندثرنا، وخلاصٌ من دوننا هو أقلّ من أن يُسمى خلاصاً. نحن نقتل المخلِّص قبل الأوان لئلا يأتي بعدنا!
نيتشه قتل إلهه لهذا السبب. مقولته “مات الله ونحن مَنْ قتلناه” هذا هو مغزاها الأوفى. انتظاره لله “انتظاره للحق والحقيقة” مؤلماً كان وبلا أمل، وكان قتله لله نوعاً من الخلاص الأصغر الذي يشفي من مرض انتظار الخلاص الأكبر.
في الأمر نزوع انتحاريّ. المنتحرون شديدو الإيمان “الانتحاريون ـ الاستشهاديون” لا يفعلون سوى هذا: إنهم يستعجلون القيامة التي تأخرتْ عليهم طويلاً. ولم يعودوا يطيقون مسكن الانتظار الذي هم فيه يقضون وقتهم سدى، فلا مخلّص يكلمهم ولا خلاص يبعث لهم ما يخفف عنهم ثقل انتظارهم الممضّ. إذا لم تأت القيامة فسنذهب لها نحن. في الأمرين كسر للانتظار، مرة بقتل الإله وأخرى بقتل النفس.
المدوّنات الإسلامية أشارتْ في مواضع عدّة إلى أن الانتظار عبادة، بل هو خير العبادات: “انتظار الفرج أفضل العبادة” “أفضل عبادة أمتي الانتظار”، وهو لم يصبح كذلك إلا لأنه شاقّ، إنه مختبر للقلوب والعقول، منزلٌ يخرج منه الناس على اصناف شتى: قساةَ القلوب “كما يقول القرآن” فاسدي الأخلاق بتعبير نيتشه، منتحرين مستعجلي القيامة، أو متعبدين مسلّمين.
كتب بورخس عن طفولته هذه الحكاية الصغيرة المؤسية “أمضيت طفولتي من دون الخروج من البيت. ولعدم وجود أصدقاء لنا، اخترعنا، أنا وأختي، رفيقين متخيلين، وعندما شعرنا بالملل منهما قلنا لأمنا إنهما ماتا”.
لا أحد بمقدوره الانتظار طويلاً ريثما يحضر المتخيّل ليكون حقيقة، لأن الوقت المؤلم الذي يفصل بين التوهّم وتحقق المتوَّهم وقت ثقيل لا تطيقه النفوس. منتظر “الحقيقة” مديداً سيكفر بها أو سيتخذ له حقائق صغرى تلهيه عن انتظارها، ومنتظر الخلاص سيقتل مخلصه لئلا يظهر بعده، ومنتظر القيامة سيقتل نفسه ليلاقيها بدلاً من التعبّد المؤلم وهو ينتظرها، ومنتظر الله يضيق ذرعاً به في انتظاره الألفيّ الطويل فيعلن موته.
غير أن الحقيقة لا تُبلَغ إلا بالانتظار، انتظار مؤلم وطويل وممضّ تُختَبَر فيه النفوس والعقول والقلوب..
إن التسليم لله هو الطريقة الأنسانية الوحيدة للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي لا حل لها و لا معنى، إنه طريق للخروج بدون تمرد و لا قنوط و لا عدمية
و لا انتحار..
إنه شعور بطولي(لا شعور بطل) بل شعور إنسان عادي قام بأداء واجبه و تقبّل قدره.
- علي عزّت بيجوفيتش
و لا انتحار..
إنه شعور بطولي(لا شعور بطل) بل شعور إنسان عادي قام بأداء واجبه و تقبّل قدره.
- علي عزّت بيجوفيتش
هؤلاء الّذين يتوقون العودة
وليس لهم قطار
ولا نجمة
ولا حتّى صرصار في طريقهم يغنّي،
الّذين كّرتْ كنزةُ أحلامهم
ولحياتِهم صوتُ ارتطامِ المرآة على الحجر،
مرّات كثيرة سيعرفون موتَ المسافات
ويكتشفون العالم
بلا طريق.
وديع سعادة، ليس للمساء إخوة
وليس لهم قطار
ولا نجمة
ولا حتّى صرصار في طريقهم يغنّي،
الّذين كّرتْ كنزةُ أحلامهم
ولحياتِهم صوتُ ارتطامِ المرآة على الحجر،
مرّات كثيرة سيعرفون موتَ المسافات
ويكتشفون العالم
بلا طريق.
وديع سعادة، ليس للمساء إخوة
إن ما يُجرحُ في هذه الساعات هو طعم الحياة، وحُبنا للحياة. الحبّ الذي في دواخلنا هو الذي يُجرح دوما. الحب هو جرحنا الأبدي الذي يؤلمنا حتى في اللحظات التي نعتقد فيها أنه لم يعد ثمة شيء يؤلمنا.
لقد علّمني التأمّل المتجهم في أيام الطفولة المبكرة، لسقف غرفة أو حجارة في الرصيف، أشياء عن الجحيم أكثر مما تعلمته كتب الحكمة التي قرأتها لاحقا كلّها. الجحيم هو هذه الحياة عندما نتوقف عن حبها. إن الحياة بدون حبّ هي حياة مهجورة، بل إنها مهجورة أكثر بكثير من شخص ميت.
لكن حتى في هذه الساعات لا أفقد تماما. إنك، يا حبيبتي، الفرح الذي يتبقى لي عندما لا يبقى أي فرح.
سأخبرك يومًا مدى السرعة التي أنساك بها مع أوّل وجه يعترضني، ومدى السرعة التي أجدك بها فيه بمجرد مواصلة النظر إليه.
إنني أبتسم بينما أكتب هذه الرسالة، وربّما لم أكتبها إلا من أجل هذه الابتسامة التي تمنحينني إياها. ماتزال لدي أشياء كثيرة لأخبرك بها. ربّما سأضعها في الكتب القادمة: لم أكتب في حياتي شيئا واحدًا لم يكن إليكِ. وها أنا أواصل الكتابة على أمل أن تنقذني حماقة الحب من غباء الأدب.
كرستيان بوبان، اللامأمول
لقد علّمني التأمّل المتجهم في أيام الطفولة المبكرة، لسقف غرفة أو حجارة في الرصيف، أشياء عن الجحيم أكثر مما تعلمته كتب الحكمة التي قرأتها لاحقا كلّها. الجحيم هو هذه الحياة عندما نتوقف عن حبها. إن الحياة بدون حبّ هي حياة مهجورة، بل إنها مهجورة أكثر بكثير من شخص ميت.
لكن حتى في هذه الساعات لا أفقد تماما. إنك، يا حبيبتي، الفرح الذي يتبقى لي عندما لا يبقى أي فرح.
سأخبرك يومًا مدى السرعة التي أنساك بها مع أوّل وجه يعترضني، ومدى السرعة التي أجدك بها فيه بمجرد مواصلة النظر إليه.
إنني أبتسم بينما أكتب هذه الرسالة، وربّما لم أكتبها إلا من أجل هذه الابتسامة التي تمنحينني إياها. ماتزال لدي أشياء كثيرة لأخبرك بها. ربّما سأضعها في الكتب القادمة: لم أكتب في حياتي شيئا واحدًا لم يكن إليكِ. وها أنا أواصل الكتابة على أمل أن تنقذني حماقة الحب من غباء الأدب.
كرستيان بوبان، اللامأمول
يحدث أحيانًا أن تمّحي شخصيتكَ لصالح الموضوعية التي تمثل اساس كل عمل أدبيّ، بالنسبة إلى شعراء الطبيعيّة، و التي تكبر بشكل غير طبيعيّ إلى أن ينسيك تأملك الأشياء من حولك، وجودك الخاص، و تتداخل الاشياء في ذهنك. ستُثبَّتُ نظرتك على شجرة، تتلاعب الريح بأورقها، و في ثوانٍ قليلة، يصبح ما يمكن أن يكون تشبيهًا بليغًا في ذهن شاعر، حقيقة بالنسبة إليك. ستضع في الشجرة أهواءك و رغبتك و حزنك، و تصبح تنهّداتها و تهادي اوراقها في داخلك، و بعد قليل، ستصبح أنتَ الشجرة. الأمر نفسه سيحدثُ مع ذاك الطائر الذي يمثل بتحليقه في السماء رغبتك اللانهائية في الأرتفاع عن الأشياء البشرية، دون أن تنتبه إلى انك صرت الطائر نفسه.
الفراديس المصطنعة، شارل بودلير
الفراديس المصطنعة، شارل بودلير