PSYCHOANALYSIS_2021 Telegram 3317
معنى علم النفس للإنسان الحديث
كارل غوستاف يونغ



كنت دائمًا أواجه صعوبة شديدة في جعل معنى علم النفس مفهومًا لدى الجمهور الواسع. وترجع هذه الصعوبة إلى زمن كنت فيه طبيبًا في مشفًى للأمراض العقلية. وقعتُ يومئذٍ، شأن كل طبيب نفسي، على اكتشاف مدهش هو أننا لسنا نحن الذين نحمل آراءً صحيحة عن الصحة والمرض العقلي، بل جمهور العامة الذي يعلم دائمًا خيرًا مما نعلم بكثير. فهم يُنبِّئوننا أنَّ المريض لا يتسلق الجدران، ويعلم أين هو، ويتعرف على أقربائه، ولم ينسَ اسمه، وبالتالي ليس مريضًا؛ بل كل ما هنالك أنه يعاني من كآبة قليلًا، أو أنه مهتاج قليلًا، وأن تشخيص طبيب النفس أن الرجل يشكو هذه العلة أو تلك غير صحيح بالمرة.

هذه الخبرة الكثيرة الشيوع تُدخِلنا في ميدان علم النفس بالمعنى المخصوص للكلمة، حيث تكون الأشياء أدهى وأمر. كل أحد يظن أن علم النفس هو ما يَعلمه عن نفسه، وما يعلمه عن نفسه يعلمه خيرًا مما يعلمه عن كل شيء آخر، فعلم النفس هو دائمًا علمه هو بنفسه التي لا يعلمها أحد غيره، وفي نفس الوقت أن علمه بنفس كل شخص آخر. فهو يحسب أن تكوينه النفسي الخاص به هو التكوين العام، وإن كل شخص هو جوهريًّا مثل كل شخص آخر، أي مثل نفسه؛ فالأزواج يحسبون هذا في زوجاتهم، والأبناء في الآباء. هكذا يبدو الأمر كما لو أن كل أحد يستطيع الوصول مباشرة إلى ما يجري في داخله، وأنه على معرفة صميمية ووافية به تسمح له بإصدار رأي فيه، كما لو أن نفسَه الخاصة به نوعٌ من نفس رئيسية Master-psyche تُقَاس عليها النفوس جملة وتفصيلًا، وتخوله أن يحسب وضعه الخاص هو القاعدة العامة. والناس تعروهم دهشة بل حتى ليرتاعون عندما لا تصلح هذه القاعدة البادية الوضوح — يكتشفون أن شخصًا آخر يختلف عنهم فعلًا. عمومًا، لا يشعرون أن هذه الفروقات غريبة على كل حال، ناهيك عن جاذبيتها، بل هي في نظرهم إخفاقات ممقوتة يصعب احتمالها، أو أخطاء لا تطاق يجب شجبها. ويبدو الفرق الواضح باعثًا على الألم كما يبعث على الألم خرق نظام طبيعي، أو غلطة صادمة يجب تصحيحها في أسرع ما يمكن، أو مخالفة تستوجب ما تستحقه من قصاص.
هناك فعلًا نظريات نفسية مقبولة على نطاق واسع تبدأ من مُسَلمة أن النفس البشرية هي نفسها في كل مكان، وأنه يمكن تفسيرها تبعًا لذلك على نفس النحو بصرف النظر عن الظروف المحيطة. غير أنَّ الرتابة المروِّعة التي تفترضها هذه النظريات يَنقُضها أن الفروقات النفسية الفردية موجودة فعلًا وأنها قابلة لما يكاد لا يُحصى من المباينات. أضف إلى هذا أن إحدى النظريات تفسر عالم الظاهرات النفسية في صيغة الغريزة الجنسية، والأخرى في غريزة السيطرة. وكان من نتيجة هذا التضاد بين النظريتَين أن تمسَّكت كلٌّ منهما أشدَّ التمسُّك بمبدئها وأبدَت ميلًا واضحًا إلى إقامة نفسها مصدرًا وحيدًا للخلاص ولا شيء غيرها. لكن على الرغم من أن أتباع هاتين النظرتين يبذلون أقصى ما في وسعهم في تجاهل وجود إحداهما للأخرى، فإن هذه المواقف المتطرِّفة لا تفعل شيئًا من أجل حلِّ التناقض القائم بينهما. ومع ذلك فإن الجواب على اللغز بسيط إلى حدِّ السخافة. والجواب هو أن كلتا النظريتَين صحيحة بمقدار ما تصف كل منهما السيكولوجيا التي تشابه سيكولوجية أتباع كل منهما. بل لعلنا يمكننا القول مع غوتيه واثقين: «إنما يباري الروحَ مَن يفهمها».

عَودًا إلى موضوعنا. لننظر عن كثب في الانحياز الذي يستولي على ذوي العقول البسيطة، القائم على فكرة أن كل شخص سواهم هو مثلهم. فعلى الرغم من أن الفروقات النفسية مُسَلم بها عمومًا من حيث هي إمكانية نظرية، إلا أننا في التطبيق العملي ننسى دائمًا أن الشخص الآخر يختلف عنَّا وأن له فكرًا مغايرًا، وشعورًا مغايرًا، ورؤية مغايرة، وأنه يحتاج إلى أشياء مغايرة كل المغايَرة. حتى النظريات العلمية — كما رأينا — تبدأ من مُسَلمة أن الحذاء يقرص كل أحد في نفس المكان. بالإضافة إلى هذا الخصام المسلي الذي يجري فيما بين علماء النفس، هناك مُسَلمات أخرى تنادي بالمساواة، وهي مُسَلمات ذات طابع اجتماعي وسياسي، وهي أشد خطرًا؛ لأنها تنسى وجود النفس الفردية من الأساس.

بدلًا من أن أضيِّق على نفسي، في غير ما هدف، بهذه الآراء التي تدل على عقل ضيِّق ونظر قصير، رحت أتساءل لماذا كان وجودها أصلًا، وحاولت أن أكتشف أسبابَها. وقادني البحث إلى درس سيكولوجية الأقوام البدائية. وقد دُهِشتُ مدةً طويلة عندما وجدت في الذين ينحازون كثيرًا إلى مذهب التماثُل النفسي عند جميع الناس سذاجةً وطفولية. في المجتمع البدائي نجد هذا المذهب لا يقف عند الكائنات البشرية، بل يمتد حتى يشمل جميع أشياء الطبيعة من حيوان ونبات، وأنهار وجبال، وهلم جرًّا. في هذه الأشياء جميعًا شيء من سيكولوجية الإنسان، حتى الشجر والحجر يستطيع النطق.

1



tgoop.com/psychoanalysis_2021/3317
Create:
Last Update:

معنى علم النفس للإنسان الحديث
كارل غوستاف يونغ



كنت دائمًا أواجه صعوبة شديدة في جعل معنى علم النفس مفهومًا لدى الجمهور الواسع. وترجع هذه الصعوبة إلى زمن كنت فيه طبيبًا في مشفًى للأمراض العقلية. وقعتُ يومئذٍ، شأن كل طبيب نفسي، على اكتشاف مدهش هو أننا لسنا نحن الذين نحمل آراءً صحيحة عن الصحة والمرض العقلي، بل جمهور العامة الذي يعلم دائمًا خيرًا مما نعلم بكثير. فهم يُنبِّئوننا أنَّ المريض لا يتسلق الجدران، ويعلم أين هو، ويتعرف على أقربائه، ولم ينسَ اسمه، وبالتالي ليس مريضًا؛ بل كل ما هنالك أنه يعاني من كآبة قليلًا، أو أنه مهتاج قليلًا، وأن تشخيص طبيب النفس أن الرجل يشكو هذه العلة أو تلك غير صحيح بالمرة.

هذه الخبرة الكثيرة الشيوع تُدخِلنا في ميدان علم النفس بالمعنى المخصوص للكلمة، حيث تكون الأشياء أدهى وأمر. كل أحد يظن أن علم النفس هو ما يَعلمه عن نفسه، وما يعلمه عن نفسه يعلمه خيرًا مما يعلمه عن كل شيء آخر، فعلم النفس هو دائمًا علمه هو بنفسه التي لا يعلمها أحد غيره، وفي نفس الوقت أن علمه بنفس كل شخص آخر. فهو يحسب أن تكوينه النفسي الخاص به هو التكوين العام، وإن كل شخص هو جوهريًّا مثل كل شخص آخر، أي مثل نفسه؛ فالأزواج يحسبون هذا في زوجاتهم، والأبناء في الآباء. هكذا يبدو الأمر كما لو أن كل أحد يستطيع الوصول مباشرة إلى ما يجري في داخله، وأنه على معرفة صميمية ووافية به تسمح له بإصدار رأي فيه، كما لو أن نفسَه الخاصة به نوعٌ من نفس رئيسية Master-psyche تُقَاس عليها النفوس جملة وتفصيلًا، وتخوله أن يحسب وضعه الخاص هو القاعدة العامة. والناس تعروهم دهشة بل حتى ليرتاعون عندما لا تصلح هذه القاعدة البادية الوضوح — يكتشفون أن شخصًا آخر يختلف عنهم فعلًا. عمومًا، لا يشعرون أن هذه الفروقات غريبة على كل حال، ناهيك عن جاذبيتها، بل هي في نظرهم إخفاقات ممقوتة يصعب احتمالها، أو أخطاء لا تطاق يجب شجبها. ويبدو الفرق الواضح باعثًا على الألم كما يبعث على الألم خرق نظام طبيعي، أو غلطة صادمة يجب تصحيحها في أسرع ما يمكن، أو مخالفة تستوجب ما تستحقه من قصاص.
هناك فعلًا نظريات نفسية مقبولة على نطاق واسع تبدأ من مُسَلمة أن النفس البشرية هي نفسها في كل مكان، وأنه يمكن تفسيرها تبعًا لذلك على نفس النحو بصرف النظر عن الظروف المحيطة. غير أنَّ الرتابة المروِّعة التي تفترضها هذه النظريات يَنقُضها أن الفروقات النفسية الفردية موجودة فعلًا وأنها قابلة لما يكاد لا يُحصى من المباينات. أضف إلى هذا أن إحدى النظريات تفسر عالم الظاهرات النفسية في صيغة الغريزة الجنسية، والأخرى في غريزة السيطرة. وكان من نتيجة هذا التضاد بين النظريتَين أن تمسَّكت كلٌّ منهما أشدَّ التمسُّك بمبدئها وأبدَت ميلًا واضحًا إلى إقامة نفسها مصدرًا وحيدًا للخلاص ولا شيء غيرها. لكن على الرغم من أن أتباع هاتين النظرتين يبذلون أقصى ما في وسعهم في تجاهل وجود إحداهما للأخرى، فإن هذه المواقف المتطرِّفة لا تفعل شيئًا من أجل حلِّ التناقض القائم بينهما. ومع ذلك فإن الجواب على اللغز بسيط إلى حدِّ السخافة. والجواب هو أن كلتا النظريتَين صحيحة بمقدار ما تصف كل منهما السيكولوجيا التي تشابه سيكولوجية أتباع كل منهما. بل لعلنا يمكننا القول مع غوتيه واثقين: «إنما يباري الروحَ مَن يفهمها».

عَودًا إلى موضوعنا. لننظر عن كثب في الانحياز الذي يستولي على ذوي العقول البسيطة، القائم على فكرة أن كل شخص سواهم هو مثلهم. فعلى الرغم من أن الفروقات النفسية مُسَلم بها عمومًا من حيث هي إمكانية نظرية، إلا أننا في التطبيق العملي ننسى دائمًا أن الشخص الآخر يختلف عنَّا وأن له فكرًا مغايرًا، وشعورًا مغايرًا، ورؤية مغايرة، وأنه يحتاج إلى أشياء مغايرة كل المغايَرة. حتى النظريات العلمية — كما رأينا — تبدأ من مُسَلمة أن الحذاء يقرص كل أحد في نفس المكان. بالإضافة إلى هذا الخصام المسلي الذي يجري فيما بين علماء النفس، هناك مُسَلمات أخرى تنادي بالمساواة، وهي مُسَلمات ذات طابع اجتماعي وسياسي، وهي أشد خطرًا؛ لأنها تنسى وجود النفس الفردية من الأساس.

بدلًا من أن أضيِّق على نفسي، في غير ما هدف، بهذه الآراء التي تدل على عقل ضيِّق ونظر قصير، رحت أتساءل لماذا كان وجودها أصلًا، وحاولت أن أكتشف أسبابَها. وقادني البحث إلى درس سيكولوجية الأقوام البدائية. وقد دُهِشتُ مدةً طويلة عندما وجدت في الذين ينحازون كثيرًا إلى مذهب التماثُل النفسي عند جميع الناس سذاجةً وطفولية. في المجتمع البدائي نجد هذا المذهب لا يقف عند الكائنات البشرية، بل يمتد حتى يشمل جميع أشياء الطبيعة من حيوان ونبات، وأنهار وجبال، وهلم جرًّا. في هذه الأشياء جميعًا شيء من سيكولوجية الإنسان، حتى الشجر والحجر يستطيع النطق.

1

BY علم النفس (مقالات وأبحاث)


Share with your friend now:
tgoop.com/psychoanalysis_2021/3317

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

On June 7, Perekopsky met with Brazilian President Jair Bolsonaro, an avid user of the platform. According to the firm's VP, the main subject of the meeting was "freedom of expression." It’s easy to create a Telegram channel via desktop app or mobile app (for Android and iOS): Don’t publish new content at nighttime. Since not all users disable notifications for the night, you risk inadvertently disturbing them. 5Telegram Channel avatar size/dimensions Just at this time, Bitcoin and the broader crypto market have dropped to new 2022 lows. The Bitcoin price has tanked 10 percent dropping to $20,000. On the other hand, the altcoin space is witnessing even more brutal correction. Bitcoin has dropped nearly 60 percent year-to-date and more than 70 percent since its all-time high in November 2021.
from us


Telegram علم النفس (مقالات وأبحاث)
FROM American