tgoop.com/psychoanalysis_2021/3320
Last Update:
إن كلمة «أزمة» (= كْريزا)، وكثيرًا ما نسمعها، لهي تعبير طِبي يُنبئنا دائمًا بأن المرض قد بلغ ذروة خَطِرة.
عندما وعى الإنسان نفسه والعالم، انغرست في روحه بذرة مرض الفصام؛ لأن الوعي هو أعظم الخير وأعظم الشر في وقت واحد. من الصعب أن نقدِّر مرض العصر الذي نعيش فيه. لكن لو عدنا إلى تاريخ الإنسان المَرَضي لوجدنا أن البشرية قد تعرَّضت لنوبات مَرَضية من اليسير رصدُها. لقد كان من أسوأ الوافدات التي أصابت الإنسان ذلك التفتيت الذي انتشر في جميع أنحاء العالم الروماني في القرون الأولى التي تلت ميلاد المسيح. الفصام الذي حل بإنسان ذلك العصر عبَّر عن نفسه في انقسام لا مثيل له، طال الشروط السياسية والاجتماعية، وأحدث شِقاقًا في الدين والفلسفة، وانهيارًا للفنون والعلوم يبعث على الرثاء. ولو نظرنا إلى بشرية يومئذٍ نظرَتَنا إلى إنسان واحد، لألفَيْنا أمامنا شخصًا عالي التمايُز بعد أن سيطر على بيئته في ثقة شديدة بالنفس، انقسمت نفسه في سعيها وراء مشاغلها ومصالحها المتفرقة، فنسي أصوله ومأثوراته، حتى فقد كل ذكرى له عن نفسه السابقة، بحيث أضحت تبدو له آنًا شيئًا وآنًا شيئًا آخر. وبذلك يقع في خصام مع نفسه لا شفاء منه. ثم يُفضِي به الخصام إلى حالة من الضعف والهزال تحمل العالم الذي كان سيطر عليه من قبل على اختراق دفاعاته بحيث يجتاحه كالطوفان المدمِّر ويأتي على البقية الباقية من كيانه.
بعد أن أنفقت السنين الطوال في الأبحاث النفسية، تَشَكل تدريجيًّا في نفسي شيء، كما قد تَشَكل في أذهان غيري من الباحثين، هو البديهية الأساسية التي تفيد أن ظاهرة نفسية ما يجب ألا يُنظر إليها أبدًا من جانب واحد فقط، وإنما من الجانب الآخر أيضًا. فقد أظهرت الخبرة أنَّ لكل شيء جانبَين على الأقل، وأحيانًا جوانب كثيرة. وحكمة دزرائيلي القائلة بأنه يجب ألا نُفرِط في إيلاء الأهمية للأشياء الهامة، وأن الأشياء غير الهامة ليست غير هامة جدًّا كما قد تبدو لنا — إن هذه الحكمة هي صياغة أخرى لنفس الحقيقة. وقد تكون صياغةً ثالثة لهذه الحقيقة تلك الفرضية القائلة بأن كل ظاهرة نفسية فإنما يعوضها ضدُّها، وفقًا للمثل القائل «الأطراف تَتَماس»، أو «ما من شقاءٍ بلغ من الشدة مبلغًا عظيمًا ليس يأتي منه خير.»
بذلك يكون مرض الفصام الذي نزل بعالمنا هو في نفس سياق معافاة، بل هو ذروة مدة الحمل التي تنذر بآلام المخاض. إن زمنًا فصاميًّا كالذي ساد أيام الإمبراطورية الرومانية لهو في نفس الوقت زمن انبعاث. ليس من غير سبب نؤرِّخ عهدنا منذ عصر أوغسطس؛ لأنَّ هذا العصر رأى ميلاد الشخص الرمزي للمسيح الذي كان المسيحيون الأوائل يتوسلون إليه بواسطة «السمك»، و«الحاكم» الذي يسود «دهر الحوت» الذي كان يومئذٍ في بدايته. مثل معلم الحكمة في الأسطورة البابلية، أوانِّس Oannes (ولعله: يونس)،٤ طلع المسيح من عباب اليم، من الظلمات الأولى، بادئًا حقبةً من تاريخ العالم ومُنهِيًا حقبةً أخرى. صحيحٌ أنه قال: «ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا». لكن الذي يحدث الانقسام يخلق الاتحاد في نهاية المطاف. لذلك كان تعليمه تعليم حب يُوحِّد الكل.
الفجوة الزمانية التي تفصلنا عن ذلك العصر تجعلنا في الموقع الملائم الذي يتيح لنا رؤية هذه الحوادث التاريخية بوضوح شديد. فلو كنا نعيش في تلك الأيام، لربَّما كنَّا من جملة الكثيرين الذين لم يأبهوا لها. الإنجيل والأمداد البهيجة لم يكن يعرفها إلا القلة القليلة؛ كان كل شيء على السطح يتخذ هيئة السياسة والاقتصاد والرياضة. لقد حاوَل الدين والفلسفة تمثل الثروات الروحية التي كانت تتدفق على العالم الروحاني آتيةً إليه من الشرق الحديث العهد بالغزو الروماني. والذين لاحظوا حبة الخردل التي كان مُقدَّرًا لها أن تغدو شجرةً عظيمة كانوا قلة قليلة.
في الفلسفة الصينية الكلاسيكية مبدآن متضادان، «يانغ» الساطع النور، «ين» المُظلِم. وتُقرِّر هذه الفلسفة أنه كلما بلغ أحد المبدأين أعلى قوته، يكون المبدأ المضاد يضطرب كالجرثوم في داخله. هذا القول صياغة أخرى للقانون السيكولوجي الذي يقوم على مبدأ التعويض بالضد الداخلي. وكلما بلغت حضارة أعلى ذروة لها، بدأت حقبة من الانحلال، إن عاجلًا أم آجلًا. لكن السقوط الذي لا معنى له ولا رجاء منه بحسب الظاهر، ويبدو في حالة من الفوضى بلا غرض ولا هدف، يملأ المراقب بالمقت واليأس، لكنه ينطوي مع ذلك على جرثومة نور جديد تنبثق من قلب الظلمة. لكن، لنرجع لحظةً إلى محاولتنا الأولى التي أنشأنا فيها فردًا واحدًا من حقبة الانحلال الكلاسيكية. لقد حاولت أن أبين كيف حصل تفككه سيكولوجيًّا، وكيف فقد في نوبة فاجعة من الضعف سيطرته على البيئة، ثم وقع تحت رحمة القوى التدميرية. ولنفترضْ أن هذا الإنسان جاءني يلتمس المشورة، عندئذٍ يكون تشخيصي لحالته كما يلي: «إنك تعاني من فرط توتُّر ناتج عن فعالياتك الكثيرة وعن توجُّهك الانبساطي غير المحدود. لقد أضعت رأسك في كثرةِ وتعقيدِ التزاماتك الإنسانية والشخصية والمهنية.
4
BY علم النفس (مقالات وأبحاث)
Share with your friend now:
tgoop.com/psychoanalysis_2021/3320