tgoop.com/psychoanalysis_2021/3324
Last Update:
والمستقبل كله، كل تاريخ العالم، ينبع في النهاية كمجموع هائل من هذه المنابع الخبيئة في الأفراد إننا، في أكثر حيواتنا خصوصية وذاتية، لسنا شهودًا سلبيين على عصرنا ومعذبين فيه وحسب، وإنما صانعوه أيضًا. إننا نحن الذين نصنع عصرنا.
لذلك عندما أنصح مريضي بأن يُعِير أحلامه انتباهًا، فإنما أريد أن أقول له: «عد إلى أكثر الأشياء ذاتية من نفسك، عد إلى منبع وجودك، إلى تلك النقطة التي تصنع فيها تاريخ العالم وأنت لا تعلم. إن مشكلتَك التي لا حل ظاهريًّا لها واضحٌ أنها يجب أن تبقى بلا حل، وإلا أرهقت نفسك بحثًا عن الأدوية التي أنت مقتنع منذ البدء بعدم جدواها. إن أحلامك تعبير عن حياتك الداخلية، ويمكنُها أن تُظهِرك على الموقف الخاطئ الذي من خلاله وطَّنت نفسك في هذا المسلك الأعمى.»
الأحلام نواتج حيادية، عفوية، من نواتج النفس الباطنة، خارجة عن سيطرة الإرادة؛ طبيعية محضة؛ تُطلِعنا على الحقيقة الطبيعية بلا تزويق. ولذلك هي مؤهَّلة، كما لم يُؤهَّل شيءٌ آخر، لأنْ تُعيدَ لنا موقفًا يتفق مع طبيعتنا البشرية الأساسية، عندما تضل واعيتنا بعيدًا جدًّا عن أساساتها وتسلك في طريق مسدود.
الاهتمام بالأحلام هو طريق للتفكير في أنفسنا؛ طريق للتفكير بالذات. إنها ليست أنيتنا الواعية تفكر في نفسها؛ بل هي تلفت انتباه الواعية إلى الواقع الموضوعي من الحلم كبلاغ أو رسالة من الروح البشري التوحيدي الباطن. الأحلام ليست تفكيرًا قائمًا في الأنية بل في كلية النفس أو الذات The self. تُذكرنا بتلك النفس الغربية، عن الأنية، التي كانت نَفَسَنا منذ البداية، الجذع الذي نبتت منه الأنية. لقد أضحت غريبة عنَّا، لأننا غرَّبنا أنفسنا عنها من خلال الواعية.
لكننا حتى لو قبلنا بالطرح الذي يقول إن الأحلام ليست اختراعات اعتباطية بل نواتج طبيعية نتجت عن الفاعلية النفسية الباطنة، لسوف نظل كلما واجهنا حلمًا حقيقيًّا نفتقر إلى الشجاعة اللازمة لكي نرى فيه رسالة ذات أهمية. لقد كان تفسير الأحلام أحد إنجازات فن السحر، ولذلك كان في جملة الفنون السوداء التي كانت تقف لها الكنيسة بالمرصاد. لكن، حتى ولو كنا، نحن أبناء القرن العشرين، أرحب عقلًا وصدرًا من هذه الناحية، إلا أننا لا يزال عندنا الكثير من الانحياز التاريخي المرتبط بالتحامل على فكرة تفسير الأحلام بحيث يجعلنا لا نتعامل معها باللطف الواجب لها. ولعلنا نتساءل عن وجود منهج لتفسير الأحلام يمكن الركون إليه. هل نستطيع أن نُولِي ثقتنا أيًّا من هذه المذاهب الظنية؟ أسلم بأن لي نصيبي الكامل من هذه الشكوك، وإني لمقتنع بأنه لا يوجد منهج لتفسير الأحلام يركن إليه بصورة مطلقة. حتى الثقة المطلقة في تفسير الحوادث الطبيعية لا نجدها إلا في أضيق الحدود؛ أي عندما لا يأتي من التفسير أكثر مما نضع فيه. كل محاولة لتفسير الطبيعة فهي مخاطرة. والمنهج الذي يمكننا الاعتماد عليه لا يظهر إلى حيِّز الوجود إلا بعد انقضاء زمن على إنجاز عمل رائد. نحن نعلم أن فرويد قد ألف كتابًا في تفسير الأحلام، لكن تفسيره ليس إلا مثالًا على ما قلناه للتو: لا يأتي منه أكثر مما تسمح نظريته بأن تضعه في الحلم. طبعًا، إن هذه النظرية لا تُنصِف حرية حياة الحلم التي لا تُحَد، الأمر الذي يترتب عليه اختفاء الحلم دون جلائه. أيضًا، عندما ننظر في تنوُّعية الأحلام غير المحدودة، يغدو من الصعب علينا الاعتقاد بأن من الممكن أن يوجد أصلًا منهج أو إجراء من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة لا تخطئ. والحق أنه لمن الأمور الحسنة ألا يوجد منهج صالح من كل وجه؛ لأنه بخلاف ذلك قد يكون معنى الحلم محدودًا سلفًا، ولعله عندئذٍ يفقد بالتحديد تلك الفضيلة التي تجعل الأحلام بالغة القيمة للأغراض الشفائية؛ أي قدرتها على تقديم وجهات نظر جديدة.
لذلك نحن نُحسِن صُنعًا لو عاملنا كل حلم كما لو أنه موضوع نجهله كليًّا. ننظر إليه من جميع جوانبه، نأخذه بيدنا، ننقله معنا إلى حيث نذهب، ندع خيالنا يدور حوله، نتكلم عنه مع غيرنا من الناس. البدائيون يقصون أحلامهم المؤثرة بعضهم على بعض في جلسة مسامرة عامة، وقد كانت هذه العادة متبعة في العصور القديمة المتأخرة؛ لأن جميع الأقوام كانت تنسب للأحلام أهمية عظمى. لو عاملنا الحلم بهذه الطريقة، لأوحى لنا بكل الأفكار والتداعيات التي تُدنِينا قُربًا من معناه. لا حاجة بنا إلى تبيان أن هذا التحقق من معنى الحلم، شأن اعتباطي كليًّا، وهنا تبدأ المخاطرة. لسوف تُوضَع حدودٌ ضيقة أو واسعة لمعنى الحلم على حسب خِبرتنا ومزاجنا وذوقنا. بعض الناس يكتفي بالقليل، وبعضهم الآخر يرون الكثير غير كافٍ. كذلك إن معنى الحلم، أو تفسيرنا له، يتوقف إلى حد كبير على مرامي المفسِّر، على ما يتوقع أن يكون معناه أو يقتضي منه أن يفعل. لسوف يعمل المفسر، في سياق تَجلِيَته للمعنى، عن غير إرادة منه، على هدي من افتراضات سابقة معينة، ويتوقف المعنى كثيرًا على تدقيق الباحث وإخلاصه، إن كان يكسب شيئًا من تفسيره أو لعله يظل مغلولًا إلى أخطائه.
8
BY علم النفس (مقالات وأبحاث)
Share with your friend now:
tgoop.com/psychoanalysis_2021/3324