tgoop.com/ttangawi/266
Last Update:
#إضاءة_منهجية (١٤): منهجية الشك!
ناقشنا في الإضاءة المنهجية (١١) والتي كانت بعنوان (أنت صاحب موقف مسبق! https://www.tgoop.com/ttangawi/247 ) دعوى ضرورة الشك للتيقن والعقلانية في التفكير، وكان النقاش يتركز على كشف مغالطة الدعوى في ناحية قطعيات العقل وأصل الإسلام.
وفي هذه الإضاءة سنسلط الضوء بصورة أوسع على تبني الشك كمنهجية للنظر في غير القطعيات من مسائل الدين، حيث يدعى البعض أن جعل الشك هو الأصل في غير القطعيات وحين يحتمل النص تعدد التفسيرات مفيد في التخلص من تأثيرات الذاتية، ولنا مع ذلك عدة وقفات:
أولا: لا بد من التنبه إلى فرق مهم بين علوم الشرع وغيرها، وهو أن اتخاذ الشك منهجا أمر يأخذ حجما كبيراً في بعض مجالات العلوم بسبب صغر مساحة القطع فيها, ولقلة المسلمات والمنطلقات المرجعية الثابتة التي ينطلق منها, فكل شيء عندهم قابل للتخطئة والمناقشة, ولذلك هم يرجعون إلى كل ما يمكن صدقه فيضعونه أمام التشكيك. أما بالنسبة لنا كمسلمين فمساحة المنطلقات المرجعية الثابتة لدينا كبيرة جداً, لأننا نستمد اليقين من الوحي, وقد أنزل الله علينا نظاما عقديا وأخلاقيا وتشريعيا كاملاً، وأصوله وكلياته قطعية ثابتة, وهذا ما يجعل هذا النظام متناسقا شمولياً , ويجعل المجتهد في نظره في الجزئيات الظنية مستنداً إلى أساسات وقواعد يتمكن من خلالها من بناء اجتهاده بشكل رصين.
ثانيا: يتضح مما سبق أن المساحة القابلة للشك منحصرة فيما بني على فهم في أمر يحتمل خطأ الفهم، ومع الإقرار بوجود مساحة الاجتهاد تلك, إلا أن جعل الأصل هو الشك لا يتفق مع المساحة القطعية الكبيرة عندنا كمسلمين, فالذي يجعل الأصل هو الشك هو من يغلب عنده الشك ويتطرق عنده للأصول، أما نحن فلا يستحق موضوع التشكيك عندنا أن يكون هو الأصل.
ثالثا: غاية التشكيك عندنا أن يستعمل في النظر في النواحي الاجتهادية التفريعية الجزئية, لكن التعبير الأقرب والممارسة الأصيلة في منهجنا الإسلامي هي الإخلاص لا التشكيك, فالأخلاص يقتضي أن نتجرد من الهوى ومن أي تفضيل غير علمي لرأي بني بشكل غير منهجي, وهذا الإخلاص يقتضي مراجعة النصوص والتفقه فيها والتأمل الطويل, وهذه العملية لا تسمى بالضرورة تشكيكاً, وإن كانت قد تتضمن في ثنايها الشك كنتيجة لعدم اكتمال بعض المقدمات التي بنيت عليها النتائج محل النظر.
رابعا: دلت نصوص الشريعة على منهجية مخالفة للمنهجية التي تجعل الشك أصلا، فالشريعة تعتبر ما ثبت باليقين أو الظن المعتبر هو الأصل، وتهدر الشك الطارئ عليه حتى يقوى ويكون معتبرا في الانتقال عن الأصل السابق، ومما أفاد ذلك حديث النهي عن الانصراف عن الصلاة بمجرد الإحساس بخروج شئ, وكذلك النصوص التي تذم اتباع الظن والتخرص، كقوله تعالى: { إن الظنّ لا يغني من الحق شيئا}، وهذا الظن الضعيف الذي لا مستند له من دليل أو قرينة، بخلاف الظن الراجح المعتبر شرعا كالظن المستفاد من الشهادات في القضاء مثلا، وقد عبر الفقهاء في هذا الباب بقاعدة فقهية كبرى نصها: "اليقين لا يزول بالشك", وكذلك قولهم "لا عبرة بالتوهم" أو "لا عبرة بالظن البيّن خطؤه"، في حين قالوا في الظنون الراجحة: "الغالب كالمحقق"
خامسا: أما تطبيق التشكيك على الأحكام غير القطعية بناء على احتمال النصّ للتفسيرات المتعدّدة, فهنا لا بد من التنبه إلى أنّ احتمال النص أو عدم احتماله يرجع إلى قواعد منهجية لغوية وأصولية تجعل معالجة الاحتمالات منضبطا لا مفتوحا على مصراعيه, ومن ذلك أنّ وجود الاحتمال لا يمنع أن يكون للنص ظاهر يفهم منه, فإنّ اللغة وإن كانت تحتمل المعاني المتنوعة باللفظ, فإنّها تفيد ظاهراً يتبادر للذهن, وهذا هو المراد إلا إذا وجدت قرينة تدل على أن المعنى المرجوح هو المراد, وبناء على ذلك نستطيع أن نقرأ القرآن والأحاديث بطمأنينة ونفهم منها ما هو ظاهر منها, ولا نلتفت للاحتمالات المرجوحة إلا إذا وجدت أدلة أو قرائن على أنّها المرادة، كما أنّ فهم النص يتعلّق بمراعاة النصوص الأخرى ذات الصلة, وأسباب النزول, والإجماع وغير ذلك.
وهنا لا بد من ملاحظة أنّ هذه التكاملية والانضباط المنهجي ليس موجوداً عند اليهود والنصارى, لأنّ شرائعهم لم تحفظ، ولم تنزل عامة صالحة لكل زمان ومكان, ولهذا يتحدثون كثيرا عن التفسير وإعادة التفسير, لأنّ مساحة التقعيد والأساسات والكليات الضابطة للجزئيات ضعيفة عندهم وغير متماسكة, فيركنون لعملية تفسير تخضع كثيرا للأهواء والتخرصات والتحكمات التي يفرضونها ويضفون عليها العصمة, وهذا ما عابه القرآن عليهم حين ذكر تحريفهم للكلم واتخاذهم بعضهم أربابا لبعض يحلون الحرام ويحرمون الحلال. أما في الإسلام فلا عصمة لفرد بعد النبي ﷺ ، والمرجع هو الوحي, وعملية الاجتهاد ليست تفسيرات نسبية غير منضبطة، بل هي محكومة بمسالك ترجيحية معلومة, ولذلك لا يصح أن نسقط نفس واقعهم على واقعنا ونستعمل نفس المفردات التي تنقل لنا ثقافتهم هذه.
ولنا في إضاءة قادمة وقفات أخرى مع موضوع تعدد التفسير.
BY رسائل..
Share with your friend now:
tgoop.com/ttangawi/266