tgoop.com/AhmadNalSwailem/1877
Last Update:
أبو عاصم، والغرس الباقي
يؤمِّلُ دنيًا لتبقى له ... فوافى المنية قبل الأمل
حثيثًا يُروّي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل.!
لما بلغني نعي أستاذنا المربي أبي عاصم الفايز تذكرت هذين البيتين اللَّذَيْنِ كان يتمثّلهما سيبويه لمّا حضرته الوفاة؛ ذلك أن الشيخ أبا عاصم كان مذ عرفته قبل نحو ٣٠ عاما -بل وقبل ذلك- مهموما ببذر الأعمال الصالحة، وغرس المشاريع الباقية، وكأنه كان يُبادر المنية بالعمل، ويعمل لآخرته كأنه سيموت غدا، على نحو ما وصّى به ابن عمر رضي الله عنهما.
وهو في هذا السبيل -أعني سبيل ملء صحيفته بالأعمال الصالحة والآثار الباقية- يُجاهد نفسه، ويحملها على المشاقّ؛ طمعًا في نيل الأجر العظيم والثواب الجزيل من الكريم الوهاب.
وأذكر في هذا أن الشيخ -رحمه الله- كان يلقي بعض الكلمات والدروس في المسجد الذي كنت أتولى إمامته، وكانت بعض تلك الكلمات في عصر رمضان، فربما عرض له شيء من التعب والإرهاق -لاجتماع الصيام والمرض-، فكان لا يعتذر عن شيء من ذلك إلا إذا كان طريح الفراش.
ومما يستوقفك في حياة أبي عاصم: التنويع في أبواب البر التي يطرقها، ومجالات الخير التي يُساهم فيها؛ فأنت تراه في وسط الأسبوع أستاذا ومربيا، ومعالجا لأدواء الشباب في المدارس وغيرها، وفي يوم الأربعاء أو الخميس تراه واعظا ومزكّيًا في المجامع الشبابية، وفي يوم الجمعة أو السبت تراه يخرج لبعض قرى المحتاجين البعيدة يحمل لهم الأطعمة والألبسة في شاحنة يقودها بنفسه .. هذا ديدنه على مدى سنوات، حتى حال المرض بينه وبين بعض ذلك.
ثم هو مع ذلك مفتوح الباب، موطّأ الأكناف، لين الجانب، دمث الخلق، طيّب المعشر.
تراه إذا ما جئته متهللًا .. كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وكم مرةً أرهقته الأمراض التي ألمّت به، وأقعدته في المشفى أو البيت أياما، فإذا جئته وجدت أبا عاصم هو أبو عاصم، لا تفارقه الابتسامة، ولا ينفكّ عنه اللطف، ولا يبرح عنه الكرم.
وإن وافقتَ عنده والده -متّع الله به على الطاعة- أو أحدا من إخوته الكرام فأنت على موعد مع مجلس زاخر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فتعامله مع والده وإخوته، وتعامل إخوته وأولادهم معه؛ كل ذلك على الوجه الأتم والمسلك الأقوم.
وهكذا الموفقون من عباد الله؛ كلما اقتربت منهم تكشّفت لك جوانب التوفيق والتيسير في حياتهم، والتي يجمعها: العبودية لله في سائر الأحوال، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الباذل في سبيل الله (إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) .. فهو في أهله وداره الكريمُ البشوش المعطاء، وفي مدرسته المربي الباذل الناصح، وفي مسجده العابدُ المخبت المتبتّل، وفي درسه الواعظ المزكّي المؤثر، وفي ميدانه الإداري النزيهُ الأمين، وذلك أنه -كما يقول الحافظ ابن حجر- "لا يزهد فى قليل من الخير يأتيه، ولا يستقل قليلا من الشر يجتنبه .. فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا يعلم السيئة التى يسخط الله عليه بها".!
وفقيدنا -يرحمه الله- وإن لم يُرزق الأبوّة "الطينية" فقد رُزق الأبوّة "الدينية"، فكم من فتى كانت هدايته على يديه، وكم من شاب كان صلاحه وسلامته من آفات الشباب ببركة صحبة أبي عاصم ومجالسته.
ومن حضر جنازته رأى أثر ذلك جليًّا في أعداد كبيرة من الشباب والكهول قد أثّرت فيهم المصيبة ودَهَشتهم الفاجعة، حتى إنك لا تدري من المعزِّي من المعزَّى. والحمد لله الذي جعل عامتهم ممن عليهم سيماء الصلاح، فالناس شهود الله في أرضه.
وإنّ في مكث أولئك الشباب عند قبره طويلا داعين له ومستغفرين -مع أن عامتهم ليسوا من أقاربه وذوي رحمه- لعبرةً وأي عبرة، فيا لهناء من رحل وخلّف وراءه غرسا باقيا، وأثرا ممتدا.
هذا، ولو قُدّر لسيرة أبي عاصم أن تتكلم لقالت:
قد عرفتم الطريق فاسلكوه، وأبصرتم الجادة فالْزموها، حتى تلقوا ربكم غير مغيّرين ولا مبدلين، فتفوزوا برضوانه وجناته.
وإني لأرجو أن يكون لشيخنا نصيب من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده، وماله، وولده، حتى يلقى الله عز وجل وما عليه من خطيئة ".
اللهم اغفر لعبدك أبي عاصم، وارحمه، وأدخله مدخلا كريما .. اللهم إنه كان مكرما لعبادك فأكرمه، حريصا على بلوغهم معرفتك ورضوانك فأحلِلْ عليه مغفرتك ورضوانك وسوابغ رحماتك، واجعله من أهل الفردوس الأعلى، هو وزوجه وأهله ووالديه. اللهم آمين.
كتبها
أبو خلاد، يونس بن عبدالله السلامة
عصر الجمعة عاشر ربيع الأول ١٤٤٦
BY قناة •| أحمد السويلم |•
Share with your friend now:
tgoop.com/AhmadNalSwailem/1877