ANDALUSIAN1 Telegram 5218
لا تخلو الساحة الإعلامية من وقت لآخر في وطننا العربي عموما والمصرى خصوصا من دعوات مُستميثة لتجاوز الوحي بُحجة أن ما أنتجه العقل من مبادئ كونية هو أجدى وأنفع، ولا يجب الأخذ من الوحي إلا ما توافق مع هذه المبادئ، وما عدا ذلك فهو نتاج سياق تاريخي لا يلزم اتباعه في شيء.

إن مثل هذا الكلام لا ينبثق إلا من سطحية في الطرح وعدم إطلاع على السياقات السوسيوثقافية التي أنتجت هذه المبادئ المزعوم أنها كونية. وقد عرفت الساحة العربية مقالات عديدة وكتب مُتنوعة تناولت إشكالية هذه المبادئ من الناحية التاريخية والاجتماعية، وأيضا من منظور الوحي. ليس في الساحة العربية فقط، بل حتى في بعض كتابات الغربيين الذين شككوا في كونية هذه المبادئ، وردوها إلى سياقاتها الحقيقية، مُمسكين لجام الأنا الغربي الذي ما انفك يُعلن في خُيلاء أنه سيد الحضارات ومُنتهى العلم ومركز الإنسانية. غير أن العلمانيين العرب في حالة شرود مُستمر مقصود، غاضين الطرف عن النقد المُوجع، مُقتفين نتاج الغرب في بلاهة قل لها نظير بين الحضارات والأمم، حتى أن بعضهم قال في هذه المبادئ الكونية أنها لا تقبل التأويل ولا يجوز ذلك في حقها، ولا تقبل التحريف أو التلاعب بدلالاتها وأبعادها. فهذا حال العلمانيين العرب، نزعوا القُدسية عن النص الديني وألبسوها للغرب.

وأحببت في هذا الموضوع أن أقف على بعض الإشكاليات التي تحف كل قائل بضرورة اقتفاء هذه المبادئ الكونية:

1- لا يخلو ترديد مُصطلح المبادئ الكونية من التمركز الغربي حول أناه، واعتبار نفسه وصيا على باقي الحضارات، وأرقى منها منزلة وشأنا، فتصدير هذا المُصطلح باعتباره كونياً هو إعلاء للغرب من جهة، وتذويب لماهية باقي الثقافات والحضارات والشعوب في هذه الكونية الغربية. وقد سبق أن عرجت في مقال سابق على هذه الإشكالية عند الحديث عن نقد برتراند راسل للدين، ومعلوم مكانة المؤرخ والفيلسوف راسل في الفكر الغربي، وكيف اعتنوا بمؤلفاته لما بلغت من غُلو في التمركز حول الأنا الأوربي الغربي، حتى قال في إحدى مؤلفاته "حكمة الغرب": "الفلسفة والعلم، كما نعرفهما، اختراعان يونانيان"، وامتد هذا الاستعلاء إلى أن وصل العرق نفسه، فكان الأوربيين هم العرق البشري الذي امتاز بالتفكير المنطقي دونا عن باقي الأعراق، كما قال "T. Heath": "إن الإغريق كانوا جنس المفكرين". فهذا الزهو بالذات جعلهم يُلصقون "ماركة" الكونية على أي من مُنتجاتهم الفكرية، ويُصدرونها لباقي الشعوب باعتبار أنها مُطلقة شمولية، فإما أن يقبلوها بإرادتهم، أو يقبلوها بالغزو والتفجير والترهيب والاستعمار، كما حصل مع العراق وأفغانستان وفي حملات الاستعمار في القرن 19 و 20.

2- مُصطلح المبادئ الكونية لا يخلو أيضا من أخطاء في جانبه الاصطلاحي، بالإضافة إلى ما ذكرته في النقطة الأولى. فمُصطلح كوني، يجعل المُتلقي يتلقفه باعتباره نتاج كل الحضارات والشعوب، وهو في الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك، وكل مُروج لهذا المُصطلح جاهل بالسياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي أفرزته. إن هذه المبادئ التي يُزعم أنها كونية، هي نتاج أوربي محظ، نتاج لتفاعلات الفلسفة الهيلينية مع الدين المسيحي منذ القرن الأول ميلادي إلى القرن السابع عشر، ثم نتاج لتفاعل الدين المسيحي المُشبع بالهيلينية مع فلسفة عصر الأنوار التي ضاقت ضرعا بجبروت رجال الدين والطبقة الحاكمة من النبلاء والفرسان، فثارت عليهم وأطاحت بحُكمهم، لتُنتج بعدها مفاهيم جديدة تُنظم العلاقات فيما بينها، فجاء بعض من تلك المبادئ كالحرية والمؤاخاة والمساوات، وما فتئ أن تتابعت المبادئ بعض اكتمال بناء صرح فلسفة الحداثة، والتي سُرعان ما تصدعت جُدرانها وعانت من العدمية والتشاؤمية والوجودية، وكل ما من شأنه أن يهدم صرح هذه المبادئ التي صُدرت لنا على أنها كونية شمولية.

3- تصدير هذه المبادئ لشعوب أخرى لم تعش نفس السياق التاريخي والاجتماعي، هو مُحاولة لطمس هُويتها، وهذه لوحدها جريمة نكراء يجب التنبيه لخطرها على التاريخ وعلى المُجتمع.

4- ما يقوم به العلمانيون العرب من تنحية للوحي بحُجة أنه أصبح مُتجاوزا إذا ما قورن بالمبادئ الكونية، هو فعل يقوم على مجموعة من المُغالطات، أولها أن حُجة العلمانيين العرب تتركز بالأساس أن الأخلاق في الإسلام هي نتاج تاريخ وثقافة مُعينة، لذلك وجب تجاوزها، وإنهم إذ يفعلون هذا بالوحي فإنهم يُجيزونه عند الحديث عن نتاج الغرب ومبادئه، وهو تناقض صارخ يُبرز عداءهم لكل ما له علاقة بالقرآن والسنة. فالحجة التي بها أزاحوا الوحي، هي نفسها موجودة في المبادئ الغربية المزعوم أنها كونية، فهي أيضا نتاج بيئة تاريخية وثقافية مُعينة. المُغالطة الثانية تتجلى في الخطأ الشنيع عند مُحاولة مُقارنة التطبيقات الأخلاقية لأمة من الأمم بأخلاق أمة أخرى، أو جعل نُظم وتطبيقات والمبادئ العملية لحضارة من الحضارات هي المعيار الذي يجب أن يُقاس عليه نتاج باقي الأمم، وهذا موضوع طويل وشائك لعله يُفرد في مقال مُستقل.



tgoop.com/Andalusian1/5218
Create:
Last Update:

لا تخلو الساحة الإعلامية من وقت لآخر في وطننا العربي عموما والمصرى خصوصا من دعوات مُستميثة لتجاوز الوحي بُحجة أن ما أنتجه العقل من مبادئ كونية هو أجدى وأنفع، ولا يجب الأخذ من الوحي إلا ما توافق مع هذه المبادئ، وما عدا ذلك فهو نتاج سياق تاريخي لا يلزم اتباعه في شيء.

إن مثل هذا الكلام لا ينبثق إلا من سطحية في الطرح وعدم إطلاع على السياقات السوسيوثقافية التي أنتجت هذه المبادئ المزعوم أنها كونية. وقد عرفت الساحة العربية مقالات عديدة وكتب مُتنوعة تناولت إشكالية هذه المبادئ من الناحية التاريخية والاجتماعية، وأيضا من منظور الوحي. ليس في الساحة العربية فقط، بل حتى في بعض كتابات الغربيين الذين شككوا في كونية هذه المبادئ، وردوها إلى سياقاتها الحقيقية، مُمسكين لجام الأنا الغربي الذي ما انفك يُعلن في خُيلاء أنه سيد الحضارات ومُنتهى العلم ومركز الإنسانية. غير أن العلمانيين العرب في حالة شرود مُستمر مقصود، غاضين الطرف عن النقد المُوجع، مُقتفين نتاج الغرب في بلاهة قل لها نظير بين الحضارات والأمم، حتى أن بعضهم قال في هذه المبادئ الكونية أنها لا تقبل التأويل ولا يجوز ذلك في حقها، ولا تقبل التحريف أو التلاعب بدلالاتها وأبعادها. فهذا حال العلمانيين العرب، نزعوا القُدسية عن النص الديني وألبسوها للغرب.

وأحببت في هذا الموضوع أن أقف على بعض الإشكاليات التي تحف كل قائل بضرورة اقتفاء هذه المبادئ الكونية:

1- لا يخلو ترديد مُصطلح المبادئ الكونية من التمركز الغربي حول أناه، واعتبار نفسه وصيا على باقي الحضارات، وأرقى منها منزلة وشأنا، فتصدير هذا المُصطلح باعتباره كونياً هو إعلاء للغرب من جهة، وتذويب لماهية باقي الثقافات والحضارات والشعوب في هذه الكونية الغربية. وقد سبق أن عرجت في مقال سابق على هذه الإشكالية عند الحديث عن نقد برتراند راسل للدين، ومعلوم مكانة المؤرخ والفيلسوف راسل في الفكر الغربي، وكيف اعتنوا بمؤلفاته لما بلغت من غُلو في التمركز حول الأنا الأوربي الغربي، حتى قال في إحدى مؤلفاته "حكمة الغرب": "الفلسفة والعلم، كما نعرفهما، اختراعان يونانيان"، وامتد هذا الاستعلاء إلى أن وصل العرق نفسه، فكان الأوربيين هم العرق البشري الذي امتاز بالتفكير المنطقي دونا عن باقي الأعراق، كما قال "T. Heath": "إن الإغريق كانوا جنس المفكرين". فهذا الزهو بالذات جعلهم يُلصقون "ماركة" الكونية على أي من مُنتجاتهم الفكرية، ويُصدرونها لباقي الشعوب باعتبار أنها مُطلقة شمولية، فإما أن يقبلوها بإرادتهم، أو يقبلوها بالغزو والتفجير والترهيب والاستعمار، كما حصل مع العراق وأفغانستان وفي حملات الاستعمار في القرن 19 و 20.

2- مُصطلح المبادئ الكونية لا يخلو أيضا من أخطاء في جانبه الاصطلاحي، بالإضافة إلى ما ذكرته في النقطة الأولى. فمُصطلح كوني، يجعل المُتلقي يتلقفه باعتباره نتاج كل الحضارات والشعوب، وهو في الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك، وكل مُروج لهذا المُصطلح جاهل بالسياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي أفرزته. إن هذه المبادئ التي يُزعم أنها كونية، هي نتاج أوربي محظ، نتاج لتفاعلات الفلسفة الهيلينية مع الدين المسيحي منذ القرن الأول ميلادي إلى القرن السابع عشر، ثم نتاج لتفاعل الدين المسيحي المُشبع بالهيلينية مع فلسفة عصر الأنوار التي ضاقت ضرعا بجبروت رجال الدين والطبقة الحاكمة من النبلاء والفرسان، فثارت عليهم وأطاحت بحُكمهم، لتُنتج بعدها مفاهيم جديدة تُنظم العلاقات فيما بينها، فجاء بعض من تلك المبادئ كالحرية والمؤاخاة والمساوات، وما فتئ أن تتابعت المبادئ بعض اكتمال بناء صرح فلسفة الحداثة، والتي سُرعان ما تصدعت جُدرانها وعانت من العدمية والتشاؤمية والوجودية، وكل ما من شأنه أن يهدم صرح هذه المبادئ التي صُدرت لنا على أنها كونية شمولية.

3- تصدير هذه المبادئ لشعوب أخرى لم تعش نفس السياق التاريخي والاجتماعي، هو مُحاولة لطمس هُويتها، وهذه لوحدها جريمة نكراء يجب التنبيه لخطرها على التاريخ وعلى المُجتمع.

4- ما يقوم به العلمانيون العرب من تنحية للوحي بحُجة أنه أصبح مُتجاوزا إذا ما قورن بالمبادئ الكونية، هو فعل يقوم على مجموعة من المُغالطات، أولها أن حُجة العلمانيين العرب تتركز بالأساس أن الأخلاق في الإسلام هي نتاج تاريخ وثقافة مُعينة، لذلك وجب تجاوزها، وإنهم إذ يفعلون هذا بالوحي فإنهم يُجيزونه عند الحديث عن نتاج الغرب ومبادئه، وهو تناقض صارخ يُبرز عداءهم لكل ما له علاقة بالقرآن والسنة. فالحجة التي بها أزاحوا الوحي، هي نفسها موجودة في المبادئ الغربية المزعوم أنها كونية، فهي أيضا نتاج بيئة تاريخية وثقافية مُعينة. المُغالطة الثانية تتجلى في الخطأ الشنيع عند مُحاولة مُقارنة التطبيقات الأخلاقية لأمة من الأمم بأخلاق أمة أخرى، أو جعل نُظم وتطبيقات والمبادئ العملية لحضارة من الحضارات هي المعيار الذي يجب أن يُقاس عليه نتاج باقي الأمم، وهذا موضوع طويل وشائك لعله يُفرد في مقال مُستقل.

BY شُذُورُ المَعْرِفَةِ


Share with your friend now:
tgoop.com/Andalusian1/5218

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

Write your hashtags in the language of your target audience. Although some crypto traders have moved toward screaming as a coping mechanism, several mental health experts call this therapy a pseudoscience. The crypto community finds its way to engage in one or the other way and share its feelings with other fellow members. With Bitcoin down 30% in the past week, some crypto traders have taken to Telegram to “voice” their feelings. Unlimited number of subscribers per channel 3How to create a Telegram channel?
from us


Telegram شُذُورُ المَعْرِفَةِ
FROM American