tgoop.com/Bidayat1444/3575
Last Update:
«أنتَ الأخيرُ قُبَيلَ النّومِ أذكُرُهُ
وأنتَ تَفتحُ أبوابَ الصَّباحاتِ».
وفي هذا البيت معاني تدل على صِدق المحبة وتوطنها أرض القلب، فالمحب الصادق في حبه لا يغيب عنه محبوبه في أخص مواطن الغفلة، فمن يأتي متعبًا بعد يومٍ شاق عصيب، يجد أن الدقائق الأخيرة التي قبل النوم لا تتحمل ذِكرا لأمرٍ أو لأحد، وكذلك في ساعات استيقاظه لا بد له من استعداد وتأهب قبل مباشرة مهامه وأعماله وتواصلاته.
ولكن المُحب الصادق لا يدع ما سبق من أعذار -واهية- تحول بينه وبين من ذِكره فرحٌ وبهجةٌ لقلبه.
ولِما سبق شواهدٌ في يوميات الناس.. فمن نعرفهم ممن في قلبهم حُبٌ تجاه أحدٍ ما = يستفتحون صباحهم بسماع صوته، إذ للقلب وحشة تزول بمن يُحيلها أُنسًا وبهجة. ولليوم همومٌ وغموم لا تنكشف وتنقشع عنه سحائبها إلا بعد إقبال وفود السرور والأفراح من قِبلِ ذلك الصوت الشجي الأخاذ، فلذلك يختتمون ليلهم ويستشرقون صباحهم = بهؤلاء.
الذين هم صباحهم وليلهم، وأملهم ومفاتيح حياتهم الطيبة.
وهذا المعنى ينبغي أن يلتفت إليه المُريد السائر إلى ربه، فالحياة بصعوباتها وآلامها وأحزانها ميدانٌ صاخبٌ مقلق، لا يهدأ فيه للإنسان بالٌ إلا وتتوالى مضايقات الناس، ومشاق الحياة، ومكائد الأعداء وتعريات الضعف والعجز الكامنين في النفس، فلا تطيب الحياة للسائر إلا بذكر محبوبه، وقد ثبت بالأدلة والمشاهدة = أن الإنسان قد يكون في محنة الجسد ولكنه في منحة الروح!
قد تجده مُكبلا بالأثقال، مطروحا تعلوه الأحجار، وثرثراة البغاة الأشرار، ولكن روحه تطالع عوالم ومعالم تذوب أمامها الجبال، وتضمحل دونها مكائد السموات والأرض! ولك في مشهد بلال خير شاهد.
وانظر للشيخ الإمام القدوة ابن القيم رحمه الله ورضي عنه يُمثِّل هذا المشهد إذ يقول:
"وبالجملة فقلب المحب دائماً فى سفر لا ينقضى نحو محبوبه، كلما قطع مرحلة له ومنزلة تبدّت له أُخرى كما قيل: "إذا قطعت علماً بدا علم"، فهو مسافر بين أهله، وظاعن وهو فى داره، وغريب وهو بين إخوانه وعشيرته، ويرى كل أحد عنده ولا يرى نفسه عند أحد. فقوة تعلق المحب [بمحبوبه] توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه، وكلما هدأَت حركاته وقلت شواغله اجتمعت عليه شئون قلبه، بل قوى سيره إلى محبوبه".
وذكر بعدها رحمه ما ذكرته أولا في مفتتح الكلام شعرا:
«أنتَ الأخيرُ قُبَيلَ النّومِ أذكُرُهُ
وأنتَ تَفتحُ أبوابَ الصَّباحاتِ»
ذكر أن هناك مواطن تتحقق فيها هذه المحبة، وتكون كشَّافًا يضيء لك ما في قلبك من تعلق وإقبال، فذكر أربعا كاشفات، يهمنا منها الآن اثنان ذكرهما القائل في البيت السابق، ولنبدأ أولا بكلامه عن (قُبيلَ النوم) قال رحمه الله ورضي عنه:
"ومحك هذا الحال يظهر فى مواطن أربعة، أحدها: عند أخذ مضجعه وتفرغ حواسه وجوارحه الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه. فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه وشغل قلبه به".
أما الموطن الثاني، موطن (الصباحات) قال فيه:
"الموطن الثانى: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه. فإنه إذا استيقظ وردت إليه روحه رد معها إليه ذكر محبوبه الذى كان قد غاب عنه فى النوم. ولكن كان قد خالط روحه وقلبه، فلما ردت إليه الروح أسرع من الطرف رد إليه ذكر محبوبه متصلاً بها، مصاحباً لها".
وقال بعدها جامعا لما سبق:
"فورد عليه قبل كل وارد، وهجم عليه قبل كل طارق. فإذا وردت عليه الشواغل والقواطع وردت على محل ممتليء بمحبة ما يحبه فوردت على ساحته من ظاهرها، فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما فى قلبه من الحب.
فإنه قد لزمه ملازمة الغريم لغريمه ولذلك يسمى غراماً، وهو الحب اللازم الذى لا يفارق: فسمع بمحبوه وأبصر به وبطش به ومشى به، فصار محبوبه فى وجوده في محل سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها". انتهى.
فسبحان من فوات بين النفوس، وأفاض على خلقه نعمه!
كم بين مشهد من حرم نفسه وجعلها في وحشة ونفار وبين من قرنها بأُنسٍ وحلاوة وطمأنينة.. فلم يحجبها عن ذوق مشاعر الحب الأعلى والصِلة الأسمى = بالرب سبحانه وبحمده.
وقد رأيت من كثير من أهل العلم والإيمان تلك الانتقالات العلوية، التي لا تحصر نفسها بين مشاهدِ نسل التراب وحطامية الدنيا، بل يرتقون بك إلى ما يجدد إيمانك ويُحيي قلبك، فلا تكون طينيًا بل علويًا متطلبا متطلعا للملأ الأعلى.
فرضي الله عنهم، ونفعنا الله بهم.. وغفر الله لنا ولهم.
ونسأله أن يجعلنا ممن يبصرون آثر ربهم في خلقه، ويأخذون بها مثالًا يزيدون من خلاله الصلة به، ممن يرون له في كل شيء آية = تدلهم وتقودهم إلى الإقبال والإنابة إليه..
آمين.
الأحد، ١٤ صفر(٢)، ١٤٤٦ هجريا
١٨ أغسطس(٨)، ٢٠٢٤م.
#مشاركات_معرفية
https://www.tgoop.com/Bidayat1444/2976
BY بدايات معرفية️
Share with your friend now:
tgoop.com/Bidayat1444/3575