tgoop.com/HS_SLM/2238
Last Update:
عندما قتل جساس كليب، فرح بذلك كثير من قومه من بني شيبان، لأن كليبًا أذلهم وضيّق عليهم معيشتهم إلى حد تجويعهم. لكن ذلك أدى إلى نشوب حرب دامت 40 سنة، أسرف فيها المهلهل في القتل حتى كاد يُبيد بني شيبان وأحلافهم من بكر، الأمر الذي جعل كثيرًا ممن ابتهجوا بقتل كليب في البداية ينقلبون على فعل جساس، ويضعون كل اللوم عليه بوصفه السبب في مآسيهم، لا على ما فعله كليب ثم أخوه المهلهل ببني شيبان وبني بكر عمومًا. وتناسوا بذلك أنهم فرحوا أشد الفرح بفعل جساس يوم وقوعه، وأي واحد منهم كان يمكن أن يكون هو جساس، لأنهم كانوا متفقين على أن ذلك هو المخرج الوحيد وفق المعطيات المتوفرة آنذاك، بعد أن أغلق كليب كل باب للحل وأصر على رأيه. ولا أحد منهم كان يتصور أو يخطر على باله أن المهلهل سيشترط بعد ذلك عودة أخيه حيًا.
لكن أن يأتي شيباني مكلوم بعد زمن، مدفوعًا بعواطفه التي يمكن تفهمها من خلال العواطف أيضًا، لجعل قرار جساس يبدو غير عقلاني في لحظته، وهو كان موافقًا له، فهذا حكم بأثر رجعي يستطيع حتى الأطفال استنتاجه. وحتى جساس كان سيفكر ألف مرة قبل الإقدام على ذلك لو كانت لديه كرة سحرية تخبره بالمستقبل، خاصة وأنه هو نفسه قُتل في بدايات الحرب. وهناك طبعًا المتذاكي الذي سيتظاهر وكأنه لم يكن سعيدًا وموافقًا يوم مقتل كليب. وللأسف، لم تكن توجد وقتها مواقع تواصل تسجل ما قاله الجميع في ذلك اليوم ما لم يحذفوه. بالإضافة طبعًا إلى البكري الذي كان ضد جساس منذ البداية، ليس لأنه كان يخشى العواقب كما يحب أن يُظهر نفسه، بل لأنه كان راضيًا بحياة قومه وضد قتل كليب في حد ذاته مهما كانت التبعات.
بعد 40 سنة، انتصر البكريون وانتهت الحرب بتفرق التغلبيين ورحيلهم عن الديار (كان يمكن ألا يحدث هذا وتكون النهاية مأساوية لبكر). السؤال هنا: ما هي النتيجة الحقيقية في هذه القصة، وما هو رأي الأجيال التي وُلدت بعد الحرب؟ هل سيكون: يا ليت جساسًا لم يفعل فعلته، أم من الجيد أنه فعل ذلك وإلا كنا الآن نعيش في ذل وجوع تحت حكم التغلبيين؟
إذًا، هناك دائمًا معضلة في تعامل البشر مع الماضي، إذ يحكمون على أحداث وقرارات معينة من خلال نتائجها فقط (وقد تكون النتائج غير نهائية) لا من خلال سياقها أيضًا، وكأن أحدهم كان يقينًا سيفعل غير الذي تم فعله. وإذا كان موافقًا في الأساس ثم انقلب (تغيير الرأي والاعتراف بالخطأ ليس عيبًا، العيب في التنصل منه)، فهو إما مكلوم يفضفض أو ثرثار يستسهل التذاكي. وفي كل الأحوال، لا جدوى من رأيهما لأن الذي حدث قد حدث ولا يمكن العودة عنه.
هذا لا يعني أنه لا توجد قرارات خاطئة في التاريخ أو لا ينبغي الحكم عليها بالخطأ، لكن يجب الاعتدال في الحكم وفهم الظروف. وإلا، فإنه من السهل على أي أحد القول بأن نابليون والرسام الألماني مغامران أحمقان قد أخطآ في غزو روسيا بعد أن تبينت النتائج، ومن السهل الحكم على مديري إنتل ونوكيا وكوداك بأنهم حمقى غير مغامرين لأنهم رفضوا تبني أفكار كانت تبدو مخاطرها عالية.
BY حسّ سليم
Share with your friend now:
tgoop.com/HS_SLM/2238