tgoop.com/ab_saer/987
Last Update:
[العلم التام يستلزم العمل، والفقيه ليس من فهم المعنى أو حفظه فقط، وإنما هو في كلام السلف: من جمع بين العلم والعمل، أي عمل القلب والجوارح، وهذا هو خير من نفعه الله بالوحي والهُدَى]
قال ابن تيمية رحمه الله: "وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: (إنَّ مَثلَ ما بَعثنَي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماءَ فأنبتت الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء، فشربَ الناس وسَقَوا وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مثلُ مَن فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهَدى والعلم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به)…
فجعل قبول القلوب بشربها وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن انتفع به… فالماء أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، والثانية لم تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير، وهذه حال من يحفظ العلم ويؤديه إلى من ينتفع به…
وبعض الناس قال: إن الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين.
والتحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول مالم يفهمه الثاني.
وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب قلبُه معناه فأثر في قلبه، كما أثّر الماء في الأرض التي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان التي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولا بد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب.
قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب).
والسلف كانوا يجعلون «الفقيه» اسمًا لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه «خطيبًا»، كما قال ابن مسعود: إنكم في زمنٍ كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، كثير معطوه قليل سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليل فقهاؤُه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ مُعطوه.
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجَّةِ طَعْمها طيّبٌ وريحُها طيّبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريحَ لها).
فهذا قارىء القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالمًا بتفسيره وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تَصُدُّ القلب عن اتباع الحق…
وقد بُسِطَ الكلامُ على هذا في مواضع، وبُيِّن أن مثل هذا العلم والفهم الذي لا يقترن به العمل بموجبه لا يكون تاما، ولو كان تاما لاستلزَم العمل، فإن التصور التام للمحبوب يستلزم حبه قطعا، والتصور التام للمخوف يوجب خوفه قطعا، فحيث حصل نوع من التصور ولم تحصل المحبة والخوف لم يكن التصور تاما.
…ولهذا قال السلف: كل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن مسعود: وغيره: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار به جهلا. وقيل للشعبي: أيها العالم! فقال: إنما العالم من يخشى الله."
BY أنفاس معرفية
Share with your friend now:
tgoop.com/ab_saer/987