ALNATHEERR Telegram 10780
استقرّ النّاس على أنّ الضّرب شيء مهين وغير مقبول، وأهمّ من ذلك أنّهم استقرّوا على أنّه غير مفيد في علاج النشوز أصلًا بل يزيده ولا تقبله الحرّة على نفْسها ولا أهلها، هكذا مطلقًا دون قيد أو شرط، مهما تكلّمتَ عن أنّه يكون غير مبرّح ولا مؤذ وأنّه يأتي في المرتبة الثّالثة بعد الوعظ والهجر ومهما قلتَ إنّه لا يكون إلا للمرأة النّاشز، ففكرة الضّرب نفْسها أصبحت غير مستساغة، يتّفق في ذلك عامّة النّاس على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم ومراتب تديّنهم إلا ما شذّ وندر.

فأنت الآن أمام مشكلة حقيقيّة تريد أن تطبّق قول الله ربّ العالمين: (واضربوهنّ) وتغار على أوامر الشّريعة وحدود الله تعالى ونحو ذلك من النّوايا الطّيبة الحسنة، لكنّك تغفل عن الغرض الذي نزلت من أجله الآية أصلًا وهو علاج النّشوز، فأنت بذلك تقود النّاس إلى ضدّ ما يريده الله عزّ وجلّ وتدفعهم إلى ما يضرّهم ولا يفيديهم، فأخبرني كيف بهذا التصوّر تكون قد طبّقتَ الشّرع؟! هل الشّريعة مجرّد تطبيق للأوامر واجتناب للنّواهي دون إدراك لحقيقة ما يترتّب على هذه الأوامر والنّواهي؟! هذا هو السّؤال الذي يجب أن يسأله كلّ إنسان لنفسه قبل أن يتبنّى رأيًا من الآراء سواء في هذه المسألة أو غيرها دون تشنّجات واستدعاء ساذج لغربة الدّين وضياع المفاهيم.

الغريب أنّ عددًا من المفسّرين والفقهاء أدركوا هذه الحقيقة مبكّرًا جدّا، فيقول عطاء بن أبي رباح المفسّر والفقيه التّابعي المشهور: لا يضربْها وإن أمرَها ونهاها فلمْ تطعْه، ولكن يغضب عليها. فهذا لا بدّ عند ضعيفي الفهم أن يكون ملحدًا، الله يقول: (واضربوهنّ) وهو يقول صراحة: لا يضربْها! ويقول الفقيه المالكي ابن العربي معلّقًا على قوْل عطاء: هذا من فقه عطاء، فإنّه من فهمه بالشّريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الضّرب هاهنا أمرُ إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّي لأكره للرّجل يضربُ أمتَه عند غضبه، ولعلّه أن يضاجعها مِن يومه.. والذي عندي أنّ الرّجال والنّساء لا يستوون في ذلك؛ فإنّ العبد يُقرَع بالعصا والحرّ تكفيه الإشارة.

دع عنك ما ورد عن بعض الصّحابة وخصوصًا ما ورد عن الزّبير بن العوّام رضي الله عنه في ضرْبه لزوجته، فهذا ليس موطن اقتداء، فأسماء رضي الله عنها وأرضاها لم تكن ناشزًا أصلًا وحاشاها أن تكون كذلك، ولكن الزبير كان يتصرّف وفْق ما علق به مِن تقاليد وما نشأ عليه. والاستدلال بمثل هذه المواقف عمومًا من إفرازات تقديس الصّحابة رضي الله عنهم تقديسًا مطلقًا وإهمال الجانب الإنساني فيهم من أنّهم بشرٌ لهم أخطاء وعادات جاهليّة استطاعوا أن يتخلّصوا من كثير منها وبقي ما لم يقدروا على تخطّيه، وهذا مبدأ إنساني عام لا يستطيع عاقلٌ أن ينكره أو يتجاهله.

وانطلاقًا مِن هذه البقايا الجاهليّة ألحّ بعض الصّحابة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأذن لهم في الضّرب بعد أن نهى عنه وقال: لا تضربنّ إماء الله، فقال عمَر رضي الله عنه: قد اجترأ النّساء على أزواجهنّ فأمُر بضربهنّ، فضرِبْن، فطاف بآل محمّد صلى الله عليه وسلم نساء كثير، فلمّا أصبح قال عليه الصّلاة والسّلام: لقد طاف الليلة بآل محمّد سبعون امرأة كلّ امرأة تشتكي زوجها فلا تجدون أولئك خياركم. فالأمر في غاية الوضوح كما ترى من هذا الأثر وهو أنّ قضيّة الضّرب تعتمد في تقريرها على كونها مجدية أو غير مجدية، فلم تكن واجبًا يجب الالتزام به، بل هي خاضعةٌ لما يترتّب عليها من منافع أو مضارّ.

ويحلّل الطّاهر بن عاشور رحمة الله عليه هذه الآية فيقول: وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار محمل الإباحة فيها أنّها قد رُوعي فيها عُرف بعض الطّبقات من النّاس أو بعض القبائل؛ فإنّ النّاس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعدّون ضرب المرأة اعتداء ولا تعدّه النّساء أيضًا اعتداء.

وتنبّه الطّاهر إلى أمر مهمّ جدّا في هذه المسألة أيضًا وهو أنّ أصول قواعد الشّريعة لا تسمح بأن يقضي أحدٌ لنفْسه لولا الضّرورة، والضّرب خطيرٌ وتحديده عسير، فلو أنّه أطلِق للأزواج أن يتولّوه وهم حينئذ يشفون غضبهم لكان ذلك مظنّة التّجاوز؛ إذ قلّ من يعاقب على قدْر الذّنب؛ ولذلك انتهى إلى أن يقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشّرعية مواضعها ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أنّ مَن ضرب امرأتَه عوقِب؛ كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيّما عند ضعف الوازع.

فهذا هو كلام أهل العلم بالشّريعة ليس من كلام العلمانيين ولا النّسويات ولا الملحدين، يمكنك أن تقلّده وأنت مطمئنّ بأنّ دينك لم يُخدش وأنّك لم تعطّل حكمًا من أحكام الله عزّ وجلّ، ويمكن أن تتبع هذا التّافه الإدريسي الذي يفسد ولا يصلح ويوغر صدور الرّجال على زوجاتهم ويدفع النّساء إلى كراهية الشّريعة والكفر بها، كلّ إنسان حسب الوازع الدّيني والأخلاقي في قلبه وما استطاع أن يهذّب ويربّي به نفْسه.



tgoop.com/alnatheerr/10780
Create:
Last Update:

استقرّ النّاس على أنّ الضّرب شيء مهين وغير مقبول، وأهمّ من ذلك أنّهم استقرّوا على أنّه غير مفيد في علاج النشوز أصلًا بل يزيده ولا تقبله الحرّة على نفْسها ولا أهلها، هكذا مطلقًا دون قيد أو شرط، مهما تكلّمتَ عن أنّه يكون غير مبرّح ولا مؤذ وأنّه يأتي في المرتبة الثّالثة بعد الوعظ والهجر ومهما قلتَ إنّه لا يكون إلا للمرأة النّاشز، ففكرة الضّرب نفْسها أصبحت غير مستساغة، يتّفق في ذلك عامّة النّاس على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم ومراتب تديّنهم إلا ما شذّ وندر.

فأنت الآن أمام مشكلة حقيقيّة تريد أن تطبّق قول الله ربّ العالمين: (واضربوهنّ) وتغار على أوامر الشّريعة وحدود الله تعالى ونحو ذلك من النّوايا الطّيبة الحسنة، لكنّك تغفل عن الغرض الذي نزلت من أجله الآية أصلًا وهو علاج النّشوز، فأنت بذلك تقود النّاس إلى ضدّ ما يريده الله عزّ وجلّ وتدفعهم إلى ما يضرّهم ولا يفيديهم، فأخبرني كيف بهذا التصوّر تكون قد طبّقتَ الشّرع؟! هل الشّريعة مجرّد تطبيق للأوامر واجتناب للنّواهي دون إدراك لحقيقة ما يترتّب على هذه الأوامر والنّواهي؟! هذا هو السّؤال الذي يجب أن يسأله كلّ إنسان لنفسه قبل أن يتبنّى رأيًا من الآراء سواء في هذه المسألة أو غيرها دون تشنّجات واستدعاء ساذج لغربة الدّين وضياع المفاهيم.

الغريب أنّ عددًا من المفسّرين والفقهاء أدركوا هذه الحقيقة مبكّرًا جدّا، فيقول عطاء بن أبي رباح المفسّر والفقيه التّابعي المشهور: لا يضربْها وإن أمرَها ونهاها فلمْ تطعْه، ولكن يغضب عليها. فهذا لا بدّ عند ضعيفي الفهم أن يكون ملحدًا، الله يقول: (واضربوهنّ) وهو يقول صراحة: لا يضربْها! ويقول الفقيه المالكي ابن العربي معلّقًا على قوْل عطاء: هذا من فقه عطاء، فإنّه من فهمه بالشّريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الضّرب هاهنا أمرُ إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّي لأكره للرّجل يضربُ أمتَه عند غضبه، ولعلّه أن يضاجعها مِن يومه.. والذي عندي أنّ الرّجال والنّساء لا يستوون في ذلك؛ فإنّ العبد يُقرَع بالعصا والحرّ تكفيه الإشارة.

دع عنك ما ورد عن بعض الصّحابة وخصوصًا ما ورد عن الزّبير بن العوّام رضي الله عنه في ضرْبه لزوجته، فهذا ليس موطن اقتداء، فأسماء رضي الله عنها وأرضاها لم تكن ناشزًا أصلًا وحاشاها أن تكون كذلك، ولكن الزبير كان يتصرّف وفْق ما علق به مِن تقاليد وما نشأ عليه. والاستدلال بمثل هذه المواقف عمومًا من إفرازات تقديس الصّحابة رضي الله عنهم تقديسًا مطلقًا وإهمال الجانب الإنساني فيهم من أنّهم بشرٌ لهم أخطاء وعادات جاهليّة استطاعوا أن يتخلّصوا من كثير منها وبقي ما لم يقدروا على تخطّيه، وهذا مبدأ إنساني عام لا يستطيع عاقلٌ أن ينكره أو يتجاهله.

وانطلاقًا مِن هذه البقايا الجاهليّة ألحّ بعض الصّحابة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأذن لهم في الضّرب بعد أن نهى عنه وقال: لا تضربنّ إماء الله، فقال عمَر رضي الله عنه: قد اجترأ النّساء على أزواجهنّ فأمُر بضربهنّ، فضرِبْن، فطاف بآل محمّد صلى الله عليه وسلم نساء كثير، فلمّا أصبح قال عليه الصّلاة والسّلام: لقد طاف الليلة بآل محمّد سبعون امرأة كلّ امرأة تشتكي زوجها فلا تجدون أولئك خياركم. فالأمر في غاية الوضوح كما ترى من هذا الأثر وهو أنّ قضيّة الضّرب تعتمد في تقريرها على كونها مجدية أو غير مجدية، فلم تكن واجبًا يجب الالتزام به، بل هي خاضعةٌ لما يترتّب عليها من منافع أو مضارّ.

ويحلّل الطّاهر بن عاشور رحمة الله عليه هذه الآية فيقول: وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار محمل الإباحة فيها أنّها قد رُوعي فيها عُرف بعض الطّبقات من النّاس أو بعض القبائل؛ فإنّ النّاس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعدّون ضرب المرأة اعتداء ولا تعدّه النّساء أيضًا اعتداء.

وتنبّه الطّاهر إلى أمر مهمّ جدّا في هذه المسألة أيضًا وهو أنّ أصول قواعد الشّريعة لا تسمح بأن يقضي أحدٌ لنفْسه لولا الضّرورة، والضّرب خطيرٌ وتحديده عسير، فلو أنّه أطلِق للأزواج أن يتولّوه وهم حينئذ يشفون غضبهم لكان ذلك مظنّة التّجاوز؛ إذ قلّ من يعاقب على قدْر الذّنب؛ ولذلك انتهى إلى أن يقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشّرعية مواضعها ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أنّ مَن ضرب امرأتَه عوقِب؛ كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيّما عند ضعف الوازع.

فهذا هو كلام أهل العلم بالشّريعة ليس من كلام العلمانيين ولا النّسويات ولا الملحدين، يمكنك أن تقلّده وأنت مطمئنّ بأنّ دينك لم يُخدش وأنّك لم تعطّل حكمًا من أحكام الله عزّ وجلّ، ويمكن أن تتبع هذا التّافه الإدريسي الذي يفسد ولا يصلح ويوغر صدور الرّجال على زوجاتهم ويدفع النّساء إلى كراهية الشّريعة والكفر بها، كلّ إنسان حسب الوازع الدّيني والأخلاقي في قلبه وما استطاع أن يهذّب ويربّي به نفْسه.

BY الدُّرّ النَّثِير


Share with your friend now:
tgoop.com/alnatheerr/10780

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

There have been several contributions to the group with members posting voice notes of screaming, yelling, groaning, and wailing in different rhythms and pitches. Calling out the “degenerate” community or the crypto obsessives that engage in high-risk trading, Co-founder of NFT renting protocol Rentable World emiliano.eth shared this group on his Twitter. He wrote: “hey degen, are you stressed? Just let it out all out. Voice only tg channel for screaming”. Step-by-step tutorial on desktop: Activate up to 20 bots Judge Hui described Ng as inciting others to “commit a massacre” with three posts teaching people to make “toxic chlorine gas bombs,” target police stations, police quarters and the city’s metro stations. This offence was “rather serious,” the court said. 6How to manage your Telegram channel?
from us


Telegram الدُّرّ النَّثِير
FROM American