tgoop.com/alnatheerr/11178
Last Update:
«فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَیۡكَ»
حين باشر موسى عليه السّلام الحقيقةَ المُطلقة، بالوادي المقدّس، أمرَه ربُّه أن يخلع نعليه. أن يخلع عنه الدنيا والآخرة، العلمَ والجهل، النورَ والظلام، القلب والأعضاء؛ أمره بأن يخلع نعليْ نفسه، أن يمشي خفيفًا على الوادي المقدّس طوى، بلا ماضٍ ولا مستقبل، لأنّه كي يرى الله -وأنّى له ذلك- لا بدّ أن يخلع عن كتفيه كلّ شيءٍ مسبق.
لا يخلعُ الإنسان المعاصر نعليه. لا يستجيبُ لله بخلعِ النعل والإقدام مباشرة، لا لأنّه ضدّ الله، بل لأنّه يظنّ أنّه هو الله، وبالتالي يدهس الإنسان المعاصر بنعليه كلّ من هم أسفل منه، يدهسُ المقدّس والمدنّس، الأرض والفضاء.
في ظلال كلّ حقيقة كبرى، لا بدّ للإنسان أن يخلع نعليه: النّعلُ في الآية الكريمة ذات رمزيّة هائلة. فلن يتسنّى لك أن تمسّك نفحةٌ من الله ما لم تخلع كلّ أفكارك، كلّ حقائقك عن الله وعن نفسِك، أن تترك اللغة وحيدة في الوادي وراءك، لأنّ اللغة في حضرة الحقائق الكبرى حجاب. لكن، وهنا المفارقة الوجوديّة، أنت آدميّ عن بكرة أبيك؛ ملعون باللغة أبدًا، لا تفارقك حتى لو شئت طلاقَها والانصراف عنها لتلقي الأنوار. لا تقضي حاجتك اللغة، يكلّمك الله عبر كلّ شيء، بيد أن لا تفهم. لقد قطعت اللغةُ أذنيك، وأعمت قلبك، وضلّت بصيرتك.
يخسرُ الإنسان، لأنّه يلهو. دائمًا في حضرات الحقيقةِ، ينسى بأن يخلع نعليه. يأتي إلى التجربةِ ملعونًا بأفكاره عنها. تسرقه اللغة، تغمي عينيه، تدفعه خارج التجربة.
إنّ أوّل العرفان هو الصّمت عن اللغة. يطلبُ زكريا عليه السلام من ربّه أن يجعل له «آية».أن يجعل له دليلًا وبرهانًا. ويردّ الله عليه: آيتك ألّا تكلّم الناس ثلاث ليالٍ سويّا.
إنّ آيةَ عرفانِك عن الله أن تصمت. ألّا تتكلم. الكلامُ مؤذنٌ بخراب التجربة. لم يتواضع العارفون على شيء، متفقين عليه تمام الاتفاق، كتواضعهم على الصّمت: الصّمت كموقف وجوديّ لنيل المعرفة عن الله، والتخلّق بأخلاق الله، والتحلّي بعِظَم التجربة التي تنوءُ اللغة عن حملها.
«اخلع نعليك» تَنل بركة الأرض المقدّسة. اخلع نعليك بصمت. أَزِل عنك رداء الكِبر. الكِبر رداء الله. وأول الكبر -وأفحشه- أن تكون نرجسيًا، تظنّ أنّك حِزتَ معرفة الأوائل والأواخر. هرول بلا قدمين. «سقَوني وقالوا لا تغنّ». اشرب في صمت. اشرب النور الذي سينزاح عنك فور أن تترجمه إلى «لغة». طلِّق اللغةَ، اشطبها.
- كريم محمد -
BY الدُّرّ النَّثِير
Share with your friend now:
tgoop.com/alnatheerr/11178