tgoop.com/ansarmagazine/3721
Last Update:
يقول البعض هذا ويقولون إن المهلة كانت كافية أمام السيد طه لينفذ هذه التعليمات، ويؤولون عدم تنفيذها بأسباب كثيرة لا تشرف أحد الرجلين. ولست أجد وسيلة تضع حداً لهذه الاتهامات وتقضي على هذه البلبلة الفكرية إلا أن يتكلم أحدهما ويحدد التهمة، أو أن تفتح وزارة الحربية فمها وترسل شعاعاً ضئيلاً على هذه الظلمات، أم تراها لا تريد الكلام ليظل الشعب جاهلاً بحقائق الأمور، وحتى لا يتعرض لرد الفعل السيء بعد شعوره بالهزيمة المنكرة التي مُني بها في حرب فلسطين؟
وليست التهمة مقصورة على بقاء قوة معطلة في قرية الفالوجا وقت أن كان الجيش في حاجة إلى جندي واحد، ولا لتعريض قرابة خمسة آلاف للإفناء والأسر. لكن التهمة أكبر من ذلك بكثير، لأن بقاء هذه القوات الكبيرة في الفالوجا ترتب عليه ضياع مدينة بئر السبع، وإعطاء اليهود فرصة التجمع في مستعمرات النقب، وما أعقب ذلك من انهيار القطاع الجنوبي عسلوج-العوجا، ثم اقتحام اليهود لحدود مصر الشرقية والزحف حتى مشارف مدينة العريش.
والتهمة كما ترى كبيرة جداً لو وقعت في أي جيش من جيوش الأرض لشكلت لها المحاكمات العسكرية، ولصدرت فيها العقوبات القاسية، أو على الأقل لتحددت المسؤوليات والتبعات، حتى يمكن استخلاص العبر والعظات. هذا في أي جيش، أما في جيشنا فإن هذه الأمور تعتبر تافهة صغيرة لا تستحق التفكير فيها فضلاً عن تشكيل المحاكمات من أجلها!
أما قوة الفالوجا فقد أحكم اليهود حولها الحصار، وأخذوا يوجهون لها الضربات القاسية من الجو والأرض، وظنوا أن الصيد الدسم قد وقع في أيديهم، وأن هذه القوات لا تلبث أن تستسلم، غير أن القوات الباسلة خيبت ظنهم ومضت تدافع عن مراكزها بعناد واستبسال، وإذا ذكرت هذه الفترة من الحرب فلا يسعني إلا أن أسجل فخراً للأميرلاي السيد طه قائد هذه القوة، إذ كان لروحه العالية وإيمانه القوي أبعد الأثر في ثبات جنوده ووقوفهم هذا الموقف الرائع، ومما يذكر أيضاً أن فرصاً كثيرة تهيأت له للإفلات والنجاة، ولكنه كان يركلها بقدمه لشعوره أن في قبولها مساساً بكرامة الجيش والأمة، وظل يكافح بجنوده كفاح الأبطال حتى منّ الله عليهم بالنجاة الكريمة بعد انتهاء الحرب وإعلان الهدنة، وغادروا أرض الفالوجا بأسلحتهم ومعداتهم في 11 مارس سنة 1948.
وهكذا أخليت أهم المناطق وحوصرت الفالوجا وعزلت قوات المتطوعين المصريين والإخوان المسلمين في "جبال الخليل" ووقعت القيادة المصرية في مأزق حرج لم تستطع معه السيطرة على الموقف ومواجهته بما يحتاجه من حكمة وحزم، ولم يضيع اليهود الفرص، فشددوا النكير على حامية مدينة "بئر السبع" -مفتاح فلسطين الشرقي وحاضرة النقب- وقذفوها بمئات الأطنان من القنابل من الجو دون أن تملك أي وسيلة لمقاومة هذه الغارات الوحشية، ثم هاجموها بشدة مما اضطرها للتسليم في 27 أكتوبر سنة 1948.
ولقد استنجدت هذه الحامية بقيادتها العامة، وتوسلت إليها أن ترسل إليها بعض الجنود والسلاح حتى يمكنها الثبات أمام هذه الهجمات المنكرة، ولكن القيادة العامة كانت في شغل شاغل في ذلك الحين، فهي تحاول تثبيت أقدامها في منطقة غزة وجمع قواتها المبعثرة بعد الانسحاب، والعدو الماكر يأبى إعطاءها فرصة للتفكير في أمرها بما يقوم به من هجمات وهمية على غزة، ومن غارات جبارة على مراكز الجيش بها ويزيد في إشغالها بالمناورات البحرية التي تقوم بها قِطع أسطوله وتحاول قَطع الطريق الساحلي الذي تسلكه القوات في انسحابها من المجدل.
وهكذا تُركت بئر السبع لتواجه مصيرها المحزن في أيدي حامية صغيرة من الجيش، ومجموعات مفككة من المتطوعين الليبيين والمناضلين العرب. وبسقوط بئر السبع أصبح لليهود السيطرة الفعلية على أجزاء النقب الشمالية، وأصبح في مقدورهم التنقل بحرية بين أرجائها المختلفة. في تلك اللحظات الحرجة كانت الفرصة سانحة أمام اليهود للهجوم على المناطق الجنوبية وإعادة مأساة الفالوجا في غزة ولم تكن هناك خطة منظمة للدفاع عن هذه المنطقة، إذ كان الجيش -كما ذكرت- مشغولاً في عمليات الانسحاب، ولم يكن في هذه المنطقة كلها حتى ذلك الحين غير عدة سرايا من الإخوان المسلمين، ووجد هؤلاء الإخوان أنفسهم أمام حقيقة واقعة هي عبء المحافظة على جيش مصر وحمايته من أي عدوان يحركه اليهود من هذه المنطقة، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بفداحة الكارثة التي كانت وشيكة الوقوع، لولا وجود هذه الفئة المؤمنة المجاهدة في ذلك الحين.
شعرنا بخطورة الموقف، فقدمت مشروعاً إلى القيادة العامة بينت فيه الأخطار الكبيرة التي يمكن أن تقع لو فكر اليهود في مهاجمة هذه المناطق وقطع خط الرجعة على الجيش، وطالبت في ختام التقرير بإطلاق يد الإخوان وإعطائهم العتاد اللازم والترخيص لهم لإحضار قوات أخرى من مصر، حتى يمكنهم تنفيذ ذلك المشروع.
وكان المشروع الجديد يقضي باحتلال مواقع حاكمة حول كل مستعمرة من المستعمرات الكبيرة ومحاصرتها، وعدم إعطائها أية فرصة للتكتل حتى يفرغ الجيش من تنظيم خطوطه الدفاعية.
BY مجلة أنصار النبي ﷺ
Share with your friend now:
tgoop.com/ansarmagazine/3721