ومع أن القدس أحب مدائن الأرض إلى نفسي، فقد تصاعد وجومي وذهولي حين سمعت الإذاعة الإسرائيلية تقول: استولت قواتنا على مدينة العريش التي تقع على بعد سبعين كيلومتراً داخل الأراضي المصرية في سيناء، هكذا بكل بساطة، وبلا مقدمات وبلا ضجيج ولا عجيج!! وكان خبر العريش أشد إيلاماً في نفسي من خبر القدس... فالجبهة الأردنية أمرها معروف عندي.. إنها لا تتحمل الصمود طويلاً.. ولكن سقوط العريش معناه اختراق الجبهة المصرية إلى عمق بعيد...
عمّان، 6 يونيو 1967
خرجت من الفندق، وهذه الهواجس تملك عليّ مشاعري، واجتازت سيارتي شوارع عمان لأرى الجماهير تطوف في تظاهرة كبرى، والشباب يحملون اللافتات، ويصيحون بالشعارات، وكانت تهتف مطالبة بالسلاح وتنادي بالزحف إلى الضفة الغربية لمشاركة الجيش الأردني في المعركة. وأيقنت أن هذه المسيرة لن تجد من يستجيب لها، فقد سارت مثلها تظاهرات وانعقدت اجتماعات قبل سنين تطالب بالتسليح والتدريب، ولكن من غير جدوى.
وكانت آخرها قبل ثلاثة أيام وأنا في أحد اجتماعاتنا في مدينة القدس حين طلب المحافظ أنور الخطيب من الشريف ناصر عشرة آلاف بندقية لتسلم إلى المقاومة الشعبية، فأجابه الشريف ناصر: أرجوك ألا تتكلم في هذه الأمور.. نحن رتبنا كل شيء.. نحن لدينا خمس فرق لحماية القدس. وهذه الخطة التي أمر بها سيدنا (الملك حسين)...
واصلنا سيرنا إلى القيادة الأردنية، إلى غرفة العمليات، ووجدت الملك حسين وقد سبقني ببضع خطوات.. وقال الملك حسين: الموقف غير حسن... أليس كذلك؟ فقال الشريف ناصر: والله يا سيدنا الطيران الإسرائيلي أهلكنا هذه الليلة... كان الليل كالنهار والطائرات الإسرائيلية تضرب مواقعنا بالصواريخ والنابالم... دباباتنا تذوب تحت القصف الإسرائيلي.
وقال الفريق عبد المنعم رياض: المعركة محتدمة على طول الجبهة.. هناك شكوى في جميع القطاعات من قلة الوقود والمؤن.. الدبابات في قطاع جنين أصبحت بلا وقود.. وأنا أعتبر أن قطاع جنين أصبح في حكم الساقط بيد القوات الإسرائيلية.. أظن أنه سقط فعلاً، فلم نتلق أية أخبار من قيادة القطاع منذ بضع ساعات...
بدأ الفريق رياض يشرح الموقف العسكري بتفاصيله، ورسم صورة قاتمة للحالة في الضفة الغربية، وكيف أن القوات الأردنية تتراجع أمام القوات الإسرائيلية...
وتناول الملك حسين من جانبه شرح الموقف، وقال إن جميع التقارير التي وصلته ليلاً وصباح اليوم تفيد بأن القوات الأردنية لم يعد باستطاعتها الصمود طويلاً أمام القوات الإسرائيلية، وأن الدفاع عن الضفة الغربية أصبح مستحيلاً ما لم تسترد القوات المصرية زمام المبادرة.
وأطرق الفريق رياض قليلاً، وقال وهو يتمالك أعصابه: إذا كانت القوات المصرية تستطيع أن تثبت أقدامها في سيناء، فذلك فضل من الله.. لمعلوماتكم الخاصة... لقد حلّت بالطيران المصري خسائر فادحة بالأمس، وأصبحت قواتنا تقاتل في سيناء من غير غطاء جوي بصورة فعالة، والطيران الإسرائيلي يكاد يكون مسيطراً على الجو... ولا يمكننا في الظروف الحاضرة أن نتوقع مساندة من مصر إذا تغير ميزان القوى بتدخل الاتحاد السوفياتي، وإن كان هذا في ظني يحتاج إلى وقت.. ولم يبق لنا في الجبهة الأردنية إلا الاعتماد على أنفسنا.
قلت: أليس هذا هو الوقت الملائم لتدخل القوات السورية من الجولان وتشنّ حرباً شاملة، وبهذا يخف الضغط عن الجبهة المصرية والجبهة الأردنية معا؟
فقال الفريق رياض: هذه بديهية عسكرية، لم يعد ينقذ الموقف إلا أن يقوم الجيش السوري بحملة شاملة.. وكان الأمل أن تبدأ سوريا بالالتحام منذ الصباح الباكر أمس.. ثم إننا طلبنا منهم ثلاث مرات أن يسندوا قطاع جنين فلم يفعلوا حتى الآن... كل ما قالوا إنهم فوجئوا بالحرب وإن قواتهم غير مستعدة للمعركة.
سألت: وما هو الموقف بالنسبة إلى القدس؟ قال الفريق رياض: القدس والضفة الغربية في حال واحد يسقطان معاً وينجوان معاً.
والتفت إلى الملك حسين وقلت: ألا يمكن إنقاذ القدس؟
قال: كيف؟
قلت: يظهر من التقارير العسكرية أن القدس مطوقة وقد أصبحت في خطر، وأنا لا أريد أن أعود إلى الماضي، لقد طلبت إلى جلالتكم قبل أيام أن تتمركز قوات جيش التحرير الفلسطيني في داخل بيت المقدس حيث تقاتل قتال الشوارع وإلى آخر رجل.. والآن، وإن كان الأمر قد أصبح متأخراً.. لعلنا نستطيع أن ننقذ القدس، في خلال بضع ساعات نستطيع أن نوجه قوات جيش التحرير الفلسطيني من درعا إلى القدس.
فقال الملك حسين: القدس مطوقة ولم يعد ممكناً أن ندخل عليها جنوداً أو سلاحاً.
قلت (برفق ولطف): سيدنا.. فلنحاول أن تقوم قوات التحرير مع الجيش الأردني بتطويق التطويق الإسرائيلي.. ما رأي الأخ الفريق رياض؟
فقال الفريق رياض: ممكن.. ولكن الوقت أصبح متأخراً.. وأظن أن القدس إن لم تسقط الليلة فهي ساقطة غداً على أكثر تقدير.
عمّان، 6 يونيو 1967
خرجت من الفندق، وهذه الهواجس تملك عليّ مشاعري، واجتازت سيارتي شوارع عمان لأرى الجماهير تطوف في تظاهرة كبرى، والشباب يحملون اللافتات، ويصيحون بالشعارات، وكانت تهتف مطالبة بالسلاح وتنادي بالزحف إلى الضفة الغربية لمشاركة الجيش الأردني في المعركة. وأيقنت أن هذه المسيرة لن تجد من يستجيب لها، فقد سارت مثلها تظاهرات وانعقدت اجتماعات قبل سنين تطالب بالتسليح والتدريب، ولكن من غير جدوى.
وكانت آخرها قبل ثلاثة أيام وأنا في أحد اجتماعاتنا في مدينة القدس حين طلب المحافظ أنور الخطيب من الشريف ناصر عشرة آلاف بندقية لتسلم إلى المقاومة الشعبية، فأجابه الشريف ناصر: أرجوك ألا تتكلم في هذه الأمور.. نحن رتبنا كل شيء.. نحن لدينا خمس فرق لحماية القدس. وهذه الخطة التي أمر بها سيدنا (الملك حسين)...
واصلنا سيرنا إلى القيادة الأردنية، إلى غرفة العمليات، ووجدت الملك حسين وقد سبقني ببضع خطوات.. وقال الملك حسين: الموقف غير حسن... أليس كذلك؟ فقال الشريف ناصر: والله يا سيدنا الطيران الإسرائيلي أهلكنا هذه الليلة... كان الليل كالنهار والطائرات الإسرائيلية تضرب مواقعنا بالصواريخ والنابالم... دباباتنا تذوب تحت القصف الإسرائيلي.
وقال الفريق عبد المنعم رياض: المعركة محتدمة على طول الجبهة.. هناك شكوى في جميع القطاعات من قلة الوقود والمؤن.. الدبابات في قطاع جنين أصبحت بلا وقود.. وأنا أعتبر أن قطاع جنين أصبح في حكم الساقط بيد القوات الإسرائيلية.. أظن أنه سقط فعلاً، فلم نتلق أية أخبار من قيادة القطاع منذ بضع ساعات...
بدأ الفريق رياض يشرح الموقف العسكري بتفاصيله، ورسم صورة قاتمة للحالة في الضفة الغربية، وكيف أن القوات الأردنية تتراجع أمام القوات الإسرائيلية...
وتناول الملك حسين من جانبه شرح الموقف، وقال إن جميع التقارير التي وصلته ليلاً وصباح اليوم تفيد بأن القوات الأردنية لم يعد باستطاعتها الصمود طويلاً أمام القوات الإسرائيلية، وأن الدفاع عن الضفة الغربية أصبح مستحيلاً ما لم تسترد القوات المصرية زمام المبادرة.
وأطرق الفريق رياض قليلاً، وقال وهو يتمالك أعصابه: إذا كانت القوات المصرية تستطيع أن تثبت أقدامها في سيناء، فذلك فضل من الله.. لمعلوماتكم الخاصة... لقد حلّت بالطيران المصري خسائر فادحة بالأمس، وأصبحت قواتنا تقاتل في سيناء من غير غطاء جوي بصورة فعالة، والطيران الإسرائيلي يكاد يكون مسيطراً على الجو... ولا يمكننا في الظروف الحاضرة أن نتوقع مساندة من مصر إذا تغير ميزان القوى بتدخل الاتحاد السوفياتي، وإن كان هذا في ظني يحتاج إلى وقت.. ولم يبق لنا في الجبهة الأردنية إلا الاعتماد على أنفسنا.
قلت: أليس هذا هو الوقت الملائم لتدخل القوات السورية من الجولان وتشنّ حرباً شاملة، وبهذا يخف الضغط عن الجبهة المصرية والجبهة الأردنية معا؟
فقال الفريق رياض: هذه بديهية عسكرية، لم يعد ينقذ الموقف إلا أن يقوم الجيش السوري بحملة شاملة.. وكان الأمل أن تبدأ سوريا بالالتحام منذ الصباح الباكر أمس.. ثم إننا طلبنا منهم ثلاث مرات أن يسندوا قطاع جنين فلم يفعلوا حتى الآن... كل ما قالوا إنهم فوجئوا بالحرب وإن قواتهم غير مستعدة للمعركة.
سألت: وما هو الموقف بالنسبة إلى القدس؟ قال الفريق رياض: القدس والضفة الغربية في حال واحد يسقطان معاً وينجوان معاً.
والتفت إلى الملك حسين وقلت: ألا يمكن إنقاذ القدس؟
قال: كيف؟
قلت: يظهر من التقارير العسكرية أن القدس مطوقة وقد أصبحت في خطر، وأنا لا أريد أن أعود إلى الماضي، لقد طلبت إلى جلالتكم قبل أيام أن تتمركز قوات جيش التحرير الفلسطيني في داخل بيت المقدس حيث تقاتل قتال الشوارع وإلى آخر رجل.. والآن، وإن كان الأمر قد أصبح متأخراً.. لعلنا نستطيع أن ننقذ القدس، في خلال بضع ساعات نستطيع أن نوجه قوات جيش التحرير الفلسطيني من درعا إلى القدس.
فقال الملك حسين: القدس مطوقة ولم يعد ممكناً أن ندخل عليها جنوداً أو سلاحاً.
قلت (برفق ولطف): سيدنا.. فلنحاول أن تقوم قوات التحرير مع الجيش الأردني بتطويق التطويق الإسرائيلي.. ما رأي الأخ الفريق رياض؟
فقال الفريق رياض: ممكن.. ولكن الوقت أصبح متأخراً.. وأظن أن القدس إن لم تسقط الليلة فهي ساقطة غداً على أكثر تقدير.
نهضت واقفاً، ومن غير وعي، وقلت: الله أكبر، كيف تسقط القدس؟ يا أخي.. يا أخي.. اتصل بعبد الناصر حتى يناشد الجيش السوري أن يبادر لإنقاذ الموقف. أنا أعلم أن الجيش السوري، ومعه الشعب السوري، مستعد أن يفنى عن آخره من أجل الدفاع عن القدس.. القدس أغلى عليه من دمشق.
وضع الملك حسين يده على كتف الفريق رياض وأخذه إلى غرفة أخرى، وبقينا وحدنا اللواء خماش وأنا، في غرفتنا، في صمت كصمت أهل الكهف. وبعد برهة، عاد الملك حسين والفريق رياض... وبدأ الملك حسين يتحدث بلهجة صارمة كأنه يصدر أمراً عسكرياً وقال: نحن أمام خطر داهم يتطلب منا أن نتحمل مسؤولياتنا... الموقف العسكري سيئ للغاية، ولم يعد بالاستطاعة الدفاع عن الضفة الغربية والقدس... وإذا استمرت الحرب فنحن نعرض الجيش للإبادة، وأرى أن نسحب الجيش إلى الضفة الشرقية.
قلت: بدلاً من الانسحاب إلى الضفة الشرقية أرجو أن تقوموا بتجميع الجيش حول القدس وداخل القدس، وإذا أمكن الصمود بضعة أيام، لعل مجلس الأمن يوقف القتال ونحن في القدس، وإن إسرائيل لا تحارب داخل القدس لأن ذلك يؤدي إلى الدمار الشامل.. ولا أظن إسرائيل تغامر بتدمير المدينة بكاملها.. إنها تريد الاستيلاء عليها سالمة بقدر الإمكان.
قال الملك حسين: سأتحمل المسؤولية وحدي.. إنها مسؤوليتي وحدي.
عند المساء وصلت برقية من المشير عبد الحكيم عامر جواباً عن برقية عبد المنعم رياض تقول: لا مانع من انسحاب الجيش النظامي بعد بذل آخر مجهود مع المبادرة لتوزيع السلاح على الأهالي للقيام بمقاومة شعبية.
أرسل الملك حسين إلى المشير عامر البرقية التالية: سنحاول الاستماتة في الصمود ولن نتراجع إلا إذا كان بقاء القوات الباقية عرضة للتدمير التام. الأسلحة أساساً موزعة على الأهالي.
وناولني الملك حسين البرقية، ووقفت عند عبارة "الأسلحة أساساً موزعة على الأهالي"، وقلت للملك حسين: بالأمس كانت المسيرات الشعبية في شوارع عمان تطالب بالسلاح لنجدة الضفة الغربية. وأردت أن أسترسل في هذا الموضوع، ولكني كظمت نفسي، فليس هذا وقت الحساب، وتركت للتاريخ أن يحاسب.. إذا لم يقع التاريخ تحت وطأة الزور والبهتان.
وفي ثنايا البلاغات التي كانت تنهمر على القاعة جاء جواب الرئيس عبد الناصر، نواجه على جبهتنا موقفاً متدهوراً نتيجة للضربة الجوية القاصمة التي جرت أمس... إن القرار الذي أراه هو إخلاء الضفة الغربية الليلة.
صعقت وأنا أقرأ برقية الرئيس عبد الناصر، فقد تجسدت أمامي الهزيمة وعلى لسان الرئيس عبد الناصر وفي اليوم الثاني من المعركة. ولمعت في ذهني أسئلة صارخة:
أبهذه السرعة الخاطفة حلت بنا الهزيمة؟
هل أصبحنا نطالب بوقف القتال في اليوم الثاني من القتال؟
هل نخلي الضفة الغربية لتتسلمها إسرائيل ومعها بيت المقدس، قدس أقداس الإسلام بعد مكة والمدينة؟
هل تحطم الجيش المصري أمل الأمة العربية، بدباباته ومدرعاته وطائراته.. هل تحطم في يوم واحد، بعد خمسة عشر عاماً من التدريب والتسلح؟
ما الذي جرى؟ أهي صاعقة ماحقة من السماء، أم زلزلة ساحقة من جوف الأرض؟
وتساءلت وتساءلت.. ثم جمدت أحاسيسي وتلبدت جوارحي، فقد كانت الصدمة فوق إحساسي وجوارحي. وكذبت سمعي وتناولت برقية الرئيس عبد الناصر بيدي لأقراها بعيني... فقرأت تماماً كما سمعت يا لهول ما سمعت وما قرأت!
عمان، 7 يونيو 1967
وضع الملك حسين يده على كتف الفريق رياض وأخذه إلى غرفة أخرى، وبقينا وحدنا اللواء خماش وأنا، في غرفتنا، في صمت كصمت أهل الكهف. وبعد برهة، عاد الملك حسين والفريق رياض... وبدأ الملك حسين يتحدث بلهجة صارمة كأنه يصدر أمراً عسكرياً وقال: نحن أمام خطر داهم يتطلب منا أن نتحمل مسؤولياتنا... الموقف العسكري سيئ للغاية، ولم يعد بالاستطاعة الدفاع عن الضفة الغربية والقدس... وإذا استمرت الحرب فنحن نعرض الجيش للإبادة، وأرى أن نسحب الجيش إلى الضفة الشرقية.
قلت: بدلاً من الانسحاب إلى الضفة الشرقية أرجو أن تقوموا بتجميع الجيش حول القدس وداخل القدس، وإذا أمكن الصمود بضعة أيام، لعل مجلس الأمن يوقف القتال ونحن في القدس، وإن إسرائيل لا تحارب داخل القدس لأن ذلك يؤدي إلى الدمار الشامل.. ولا أظن إسرائيل تغامر بتدمير المدينة بكاملها.. إنها تريد الاستيلاء عليها سالمة بقدر الإمكان.
قال الملك حسين: سأتحمل المسؤولية وحدي.. إنها مسؤوليتي وحدي.
عند المساء وصلت برقية من المشير عبد الحكيم عامر جواباً عن برقية عبد المنعم رياض تقول: لا مانع من انسحاب الجيش النظامي بعد بذل آخر مجهود مع المبادرة لتوزيع السلاح على الأهالي للقيام بمقاومة شعبية.
أرسل الملك حسين إلى المشير عامر البرقية التالية: سنحاول الاستماتة في الصمود ولن نتراجع إلا إذا كان بقاء القوات الباقية عرضة للتدمير التام. الأسلحة أساساً موزعة على الأهالي.
وناولني الملك حسين البرقية، ووقفت عند عبارة "الأسلحة أساساً موزعة على الأهالي"، وقلت للملك حسين: بالأمس كانت المسيرات الشعبية في شوارع عمان تطالب بالسلاح لنجدة الضفة الغربية. وأردت أن أسترسل في هذا الموضوع، ولكني كظمت نفسي، فليس هذا وقت الحساب، وتركت للتاريخ أن يحاسب.. إذا لم يقع التاريخ تحت وطأة الزور والبهتان.
وفي ثنايا البلاغات التي كانت تنهمر على القاعة جاء جواب الرئيس عبد الناصر، نواجه على جبهتنا موقفاً متدهوراً نتيجة للضربة الجوية القاصمة التي جرت أمس... إن القرار الذي أراه هو إخلاء الضفة الغربية الليلة.
صعقت وأنا أقرأ برقية الرئيس عبد الناصر، فقد تجسدت أمامي الهزيمة وعلى لسان الرئيس عبد الناصر وفي اليوم الثاني من المعركة. ولمعت في ذهني أسئلة صارخة:
أبهذه السرعة الخاطفة حلت بنا الهزيمة؟
هل أصبحنا نطالب بوقف القتال في اليوم الثاني من القتال؟
هل نخلي الضفة الغربية لتتسلمها إسرائيل ومعها بيت المقدس، قدس أقداس الإسلام بعد مكة والمدينة؟
هل تحطم الجيش المصري أمل الأمة العربية، بدباباته ومدرعاته وطائراته.. هل تحطم في يوم واحد، بعد خمسة عشر عاماً من التدريب والتسلح؟
ما الذي جرى؟ أهي صاعقة ماحقة من السماء، أم زلزلة ساحقة من جوف الأرض؟
وتساءلت وتساءلت.. ثم جمدت أحاسيسي وتلبدت جوارحي، فقد كانت الصدمة فوق إحساسي وجوارحي. وكذبت سمعي وتناولت برقية الرئيس عبد الناصر بيدي لأقراها بعيني... فقرأت تماماً كما سمعت يا لهول ما سمعت وما قرأت!
عمان، 7 يونيو 1967
استيقظت على جرس التلفون، وإذا بأحد رجال منظمة التحرير يكلمني من قاعة الفندق... ودخل علي عبد الكريم العلمي، وهو يحمل على كتفيه وجهاً مكفهراً، كأنه كان مطموراً تحت الردم لبضعة أيام.. جلس يلهث وهو يقول: أنا موفد من قبل الإخوان في القدس.. لقد خرجت بأعجوبة.. المعركة رهيبة.. الطيران الإسرائيلي أحرق الأخضر واليابس والقوات الإسرائيلية اخترقت الخطوط الأردنية في كل القطاعات الأهالي فروا من القرى الأمامية، المصفحات الإسرائيلية تطارد اللاجئين وتسوقهم كقطعان الماشية.. القوات الأردنية تقاتل بشجاعة، ولكن نفدت مؤنهم وذخائرهم... كبار الضباط يقولون إنهم سيصفون حسابهم مع الملك حسين بعد انتهاء المعركة.
قلت: والقدس؟
قال: القوات الإسرائيلية احتلت جبل المكبر وجبل الزيتون.. ليس في المدينة القديمة أكثر من ثمان وثلاثين بندقية.. طالبنا بسلاح من غير جدوى... والناس الآن في هم وغم، لقد وصل إلى علمهم أن الجيش الأردني يعتزم الانسحاب من القدس، وقد اجتمع رجال المقاومة وأوفدوني لأبلغكم مطالبهم:
أولاً: إلغاء أوامر الانسحاب، والاحتفاظ بأكبر قوة ممكنة من الجيش الأردني في داخل القدس، فإن أهالي المدينة مصممون على حرب الشوارع.
ثانياً: مطالبة الدول العربية، وبخاصة مصر، بأن يشن السلاح الجوي العربي هجمات على الأهداف الحيوية في إسرائيل لتخفيف الضغط عن القدس ومناطق الضفة الغربية.
ثالثاً: مطالبة الاتحاد السوفياتي بتحديد موقفه، فإنه لا يكفي تأييد بالبيانات. إذا انكسرنا في هذه المعركة فالناس يعتبرون الاتحاد السوفياتي شريكاً في التواطؤ على الأمة العربية.
لم أدر ماذا أقول؟ وبماذا أجيب؟ وكلما حاولت أن أتكلم أحسست أن حجراً يملأ فمي.. لقد كانت مطالب أهل القدس سديدة ورشيدة.. ولكنهم لا يعلمون إلا ما تبثه إذاعات القاهرة ودمشق وعمان من أن المعركة مستمرة، وأن العدو تكبد خسائر فادحة بالمعدات والرجال.
وغادر العلمي عمان إلى القدس، ليسقط شهيداً بين القدس ورام الله بعد يومين، وينضم إلى قوافل الأبرار...
انتقلت إلى إذاعة إسرائيل، فإذا بها تنقل تصريحاً على لسان الجنرال إسحق رابين رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يقول فيه إن: القوات الإسرائيلية تتجه نحو أبو عجيلة بعد أن استولت على العريش، وإنها احتلت خان يونس في قطاع غزة.
وجاء بعده تصريح للجنرال مردخاي هود قائد سلاح الجو الإسرائيلي: حطمنا 374 طائرة عربية أخرى. ولقد هالني هذا الخبر الأخير، وكدت اعتبره من باب المبالغات التي تلجأ إليها البلاغات العسكرية في زمن الحرب، ولكني تذكرت برقية الرئيس عبد الناصر إلى الملك حسين وازددت فهماً لموضوعها.. وازددت فهماً للابتهالات الإلهية التي وردت في ختام كلام الرئيس عبد الناصر. وأحسست بهول الفاجعة على قلب الرئيس عبد الناصر، وبالأمس كانت تتطلع إليه الأمة العربية بأكبر آمالها وأقدس أهدافها.
أحسست بهول الفاجعة أيضاً وأنا أستمع إلى الإذاعة الإسرائيلية وهي تذيع سقوط خان يونس وغزة، وأن اللواء عبد المنعم حسني قائد قطاع غزة قد وقع وثيقة استسلام في حفل رسمي قال فيها: أستسلم للقوات الإسرائيلية من غير قيد ولا شرط.
ثم تبع ذلك بلاغ عسكري يقول إن: إسرائيل قد أصبحت سيدة الجو في الشرق الأوسط وإن القوة الجوية المصرية قد أبيدت...
تلقيت مكالمة من الفريق رياض من غرفة العمليات يطلب مني أوافيه، وغادرت الفندق إلى سيارتي.. فإذا بالشوارع مكتظة بالجماهير في مسيرات شعبية وكلها تطالب بالتسليح والتدريب.. نريد السلاح نريد الالتحاق بالمعركة.. نريد حماية القدس... نريد مساندة الجيش الأردنى. وأمام دار الحكومة، وقف أحد الموظفين يخاطبهم: أحييكم باسم جلالة الملك، وأحيي حماستكم، أرجو المحافظة على الهدوء والنظام، لقد أمر جلالة الملك بفتح معسكرات التدريب وتسليمكم السلاح لتشتركوا بالمعركة. وتركت الجماهير تطوف في الشوارع وهي لا تدري أن زمن التسليح والتدريب قد فات، وأن المعركة تقترب من النهاية.
وصلت القيادة، ووجدت الملك حسين والفريق رياض والقادة الأردنيين مجتمعين، وقد اتفقت كلمتهم أن الجبهة المصرية قد انهارت وأن القوات الإسرائيلية في طريقها إلى القاهرة غداً أو بعد غد.
وانتقلوا بعد ذلك إلى تقدير الموقف على الجبهة السورية، فقال الفريق عبد المنعم رياض: لا يوجد معركة بالمعنى الصحيح على الجبهة السورية حتى صباح اليوم، المناوشات تخف وتشتد، ولكن لا يوجد هجوم من الطرف السوري، ولا من الطرف الإسرائيلي.
وعن الجبهة الأردنية، تكلم اللواء عامر خماش قال: الانسحاب يجري بصورة منتظمة.. ونحن نأمل البقاء غربي النهر أقصى مدة ممكنة، إلى أن يستطيع مجلس الأمن تنفيذ قراره بوقف إطلاق النار، وقواتنا تتكبد خسائر فادحة.
وانتفض الملك حسين غاضباً وقال: خسارة فادحة.. هه.. الخسارة تتجاوز عشرين ألف قتيل، خسرنا كذلك معظم دباباتنا. الأرض يمكن أن تعوّض.. يمكن أن نستردها، لكن الجيش لا يعوض. وخرج الملك حسين وهو يردّد: خسرنا نصف الجيش، والنصف الثاني يعتبر في حكم الهالك.
قلت: والقدس؟
قال: القوات الإسرائيلية احتلت جبل المكبر وجبل الزيتون.. ليس في المدينة القديمة أكثر من ثمان وثلاثين بندقية.. طالبنا بسلاح من غير جدوى... والناس الآن في هم وغم، لقد وصل إلى علمهم أن الجيش الأردني يعتزم الانسحاب من القدس، وقد اجتمع رجال المقاومة وأوفدوني لأبلغكم مطالبهم:
أولاً: إلغاء أوامر الانسحاب، والاحتفاظ بأكبر قوة ممكنة من الجيش الأردني في داخل القدس، فإن أهالي المدينة مصممون على حرب الشوارع.
ثانياً: مطالبة الدول العربية، وبخاصة مصر، بأن يشن السلاح الجوي العربي هجمات على الأهداف الحيوية في إسرائيل لتخفيف الضغط عن القدس ومناطق الضفة الغربية.
ثالثاً: مطالبة الاتحاد السوفياتي بتحديد موقفه، فإنه لا يكفي تأييد بالبيانات. إذا انكسرنا في هذه المعركة فالناس يعتبرون الاتحاد السوفياتي شريكاً في التواطؤ على الأمة العربية.
لم أدر ماذا أقول؟ وبماذا أجيب؟ وكلما حاولت أن أتكلم أحسست أن حجراً يملأ فمي.. لقد كانت مطالب أهل القدس سديدة ورشيدة.. ولكنهم لا يعلمون إلا ما تبثه إذاعات القاهرة ودمشق وعمان من أن المعركة مستمرة، وأن العدو تكبد خسائر فادحة بالمعدات والرجال.
وغادر العلمي عمان إلى القدس، ليسقط شهيداً بين القدس ورام الله بعد يومين، وينضم إلى قوافل الأبرار...
انتقلت إلى إذاعة إسرائيل، فإذا بها تنقل تصريحاً على لسان الجنرال إسحق رابين رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يقول فيه إن: القوات الإسرائيلية تتجه نحو أبو عجيلة بعد أن استولت على العريش، وإنها احتلت خان يونس في قطاع غزة.
وجاء بعده تصريح للجنرال مردخاي هود قائد سلاح الجو الإسرائيلي: حطمنا 374 طائرة عربية أخرى. ولقد هالني هذا الخبر الأخير، وكدت اعتبره من باب المبالغات التي تلجأ إليها البلاغات العسكرية في زمن الحرب، ولكني تذكرت برقية الرئيس عبد الناصر إلى الملك حسين وازددت فهماً لموضوعها.. وازددت فهماً للابتهالات الإلهية التي وردت في ختام كلام الرئيس عبد الناصر. وأحسست بهول الفاجعة على قلب الرئيس عبد الناصر، وبالأمس كانت تتطلع إليه الأمة العربية بأكبر آمالها وأقدس أهدافها.
أحسست بهول الفاجعة أيضاً وأنا أستمع إلى الإذاعة الإسرائيلية وهي تذيع سقوط خان يونس وغزة، وأن اللواء عبد المنعم حسني قائد قطاع غزة قد وقع وثيقة استسلام في حفل رسمي قال فيها: أستسلم للقوات الإسرائيلية من غير قيد ولا شرط.
ثم تبع ذلك بلاغ عسكري يقول إن: إسرائيل قد أصبحت سيدة الجو في الشرق الأوسط وإن القوة الجوية المصرية قد أبيدت...
تلقيت مكالمة من الفريق رياض من غرفة العمليات يطلب مني أوافيه، وغادرت الفندق إلى سيارتي.. فإذا بالشوارع مكتظة بالجماهير في مسيرات شعبية وكلها تطالب بالتسليح والتدريب.. نريد السلاح نريد الالتحاق بالمعركة.. نريد حماية القدس... نريد مساندة الجيش الأردنى. وأمام دار الحكومة، وقف أحد الموظفين يخاطبهم: أحييكم باسم جلالة الملك، وأحيي حماستكم، أرجو المحافظة على الهدوء والنظام، لقد أمر جلالة الملك بفتح معسكرات التدريب وتسليمكم السلاح لتشتركوا بالمعركة. وتركت الجماهير تطوف في الشوارع وهي لا تدري أن زمن التسليح والتدريب قد فات، وأن المعركة تقترب من النهاية.
وصلت القيادة، ووجدت الملك حسين والفريق رياض والقادة الأردنيين مجتمعين، وقد اتفقت كلمتهم أن الجبهة المصرية قد انهارت وأن القوات الإسرائيلية في طريقها إلى القاهرة غداً أو بعد غد.
وانتقلوا بعد ذلك إلى تقدير الموقف على الجبهة السورية، فقال الفريق عبد المنعم رياض: لا يوجد معركة بالمعنى الصحيح على الجبهة السورية حتى صباح اليوم، المناوشات تخف وتشتد، ولكن لا يوجد هجوم من الطرف السوري، ولا من الطرف الإسرائيلي.
وعن الجبهة الأردنية، تكلم اللواء عامر خماش قال: الانسحاب يجري بصورة منتظمة.. ونحن نأمل البقاء غربي النهر أقصى مدة ممكنة، إلى أن يستطيع مجلس الأمن تنفيذ قراره بوقف إطلاق النار، وقواتنا تتكبد خسائر فادحة.
وانتفض الملك حسين غاضباً وقال: خسارة فادحة.. هه.. الخسارة تتجاوز عشرين ألف قتيل، خسرنا كذلك معظم دباباتنا. الأرض يمكن أن تعوّض.. يمكن أن نستردها، لكن الجيش لا يعوض. وخرج الملك حسين وهو يردّد: خسرنا نصف الجيش، والنصف الثاني يعتبر في حكم الهالك.
وانفض القادة العسكريون كل إلى شأنه. وعدت إلى الفندق، فلم يعد لي مكان في غرفة العمليات بعد أن أصبح الانسحاب هو رأس العمليات... وكانت الجماهير لا تزال تطوف الشوارع كما تركتها في الصباح، وهي تطالب بالتدريب والسلاح والالتحاق بالمعركة.. والمعركة تقترب من النهاية...
فتحت إذاعة إسرائيل وكان العار، كان بركاناً من العار. قالت الإذاعة: لقد سقطت القدس القديمة بأيدي قواتنا، واستولينا على بيت لحم وأريحا ومعظم الضفة الغربية.. وكان أول ما فعله جنودنا حين دخلوا المدينة بعد الظهر أنهم صلوا عند حائط المبكى... وقد استغرق الهجوم 90 دقيقة اشتركت فيه المشاة والمدرعات والمدفعية.
وبعد ساعات قليلة وصل الجنرال موشى ديان إلى حائط المبكى وقال: لقد رجعنا ولن نتخلى عن القدس.. لقد حررت قواتنا المدينة المقسمة عاصمة إسرائيل، لقد رجعنا إلى مدينتنا، أقدس مقدساتنا ولن نتركها أبداً.
وتابعت الإذاعة الإسرائيلية كلامها قائلة: وجاء بعده ليفي أشكول رئيس الحكومة.. وبعد أن صلى عند الحائط وجه كلامه إلى المصلين معلناً: أن هذا يوم عظيم في التاريخ اليهودي، وإني أعتبر نفسي الآن وفي هذا المكان ممثلاً للشعب اليهودي بأجمعه ولأجيال كثيرة من اليهود الذين كانت تحن أرواحهم نحو القدس ومقدساتها.
الله، الله، لقد سقط بيت المقدس وحكام العرب متثاقلون عن القتال!
الله، الله، لقد سقط بيت المقدس وحكام العرب والمسلمون متشاغلون عن الجهاد!
ورحت أبحث عن النكبات الكبرى في تاريخ العروبة والإسلام لأستعير كلاماً يخفف المصاب.. فلم أجد.
هل أقول وإسلاماه؟ لا، إن المصاب أعظم.
هل أقول وامعتصماه؟ لا، إن الكارثة أدهى.
لم أستطع أن أتكلم، فقد تعطلت ملكة الكلام. لم أستطع أن أبكي، فقد تجمدت عيناي عن البكاء.
لم أستطع أن أستذكر شعر المراثي في دواوين العرب، فقد تبلدت ذاكرتي.. كل مشاعري تعطلت.. كل أحاسيسي تجمدت، كل جوارحي تحجّرت. فقد كانت الكارثة فوق قدرة الشعور على الشعور، وفوق طاقة الإحساس على الإحساس.
وانثنيت إلى الإذاعة الأردنية لأسمع ماذا تقول، فانقلبت أضحك كالأبله.. وشر البلية ما يضحك. كانت الإذاعة الأردنية تذيع برقية بعث بها جلالة الملك فيصل إلى جلالة الملك حسين، يعرب فيها عن: إعجاب العرب والمسلمين وتقديرهم للموقف الذي يقفه الشعب والجيش في الأردن... وأن السعودية تضع كل إمكاناتها في خدمة المعركة.. إلى آخر الكلام... وأورام الكلام.
ولكن أورام الكلام تكاثرت بعد المعركة؛ فقد انطلقت الخطب الرسمية في الوطن العربي، تقول: لقد انتصرت إسرائيل في الحرب، ولكن عجزت عن تحقيق أهدافها السياسية. كانت إسرائيل تريد إسقاط النظم التقدمية، ولكنها فشلت في تحقيق ذلك... لقد احتلت الأرض، ولكن الحكومات الثورية باقية...
ولقد ضجت الأمة العربية وهي تسمع هذا الكلام... وتمنت لو سقطت كل الأنظمة الثورية والتقدمية، ومعها جميع الملوك والرؤساء، قبل أن يسقط حجر واحد في بيت المقدس، أو تهتز حبة رمل في سيناء، أو تقصف قشة في الجولان.
فتحت إذاعة إسرائيل وكان العار، كان بركاناً من العار. قالت الإذاعة: لقد سقطت القدس القديمة بأيدي قواتنا، واستولينا على بيت لحم وأريحا ومعظم الضفة الغربية.. وكان أول ما فعله جنودنا حين دخلوا المدينة بعد الظهر أنهم صلوا عند حائط المبكى... وقد استغرق الهجوم 90 دقيقة اشتركت فيه المشاة والمدرعات والمدفعية.
وبعد ساعات قليلة وصل الجنرال موشى ديان إلى حائط المبكى وقال: لقد رجعنا ولن نتخلى عن القدس.. لقد حررت قواتنا المدينة المقسمة عاصمة إسرائيل، لقد رجعنا إلى مدينتنا، أقدس مقدساتنا ولن نتركها أبداً.
وتابعت الإذاعة الإسرائيلية كلامها قائلة: وجاء بعده ليفي أشكول رئيس الحكومة.. وبعد أن صلى عند الحائط وجه كلامه إلى المصلين معلناً: أن هذا يوم عظيم في التاريخ اليهودي، وإني أعتبر نفسي الآن وفي هذا المكان ممثلاً للشعب اليهودي بأجمعه ولأجيال كثيرة من اليهود الذين كانت تحن أرواحهم نحو القدس ومقدساتها.
الله، الله، لقد سقط بيت المقدس وحكام العرب متثاقلون عن القتال!
الله، الله، لقد سقط بيت المقدس وحكام العرب والمسلمون متشاغلون عن الجهاد!
ورحت أبحث عن النكبات الكبرى في تاريخ العروبة والإسلام لأستعير كلاماً يخفف المصاب.. فلم أجد.
هل أقول وإسلاماه؟ لا، إن المصاب أعظم.
هل أقول وامعتصماه؟ لا، إن الكارثة أدهى.
لم أستطع أن أتكلم، فقد تعطلت ملكة الكلام. لم أستطع أن أبكي، فقد تجمدت عيناي عن البكاء.
لم أستطع أن أستذكر شعر المراثي في دواوين العرب، فقد تبلدت ذاكرتي.. كل مشاعري تعطلت.. كل أحاسيسي تجمدت، كل جوارحي تحجّرت. فقد كانت الكارثة فوق قدرة الشعور على الشعور، وفوق طاقة الإحساس على الإحساس.
وانثنيت إلى الإذاعة الأردنية لأسمع ماذا تقول، فانقلبت أضحك كالأبله.. وشر البلية ما يضحك. كانت الإذاعة الأردنية تذيع برقية بعث بها جلالة الملك فيصل إلى جلالة الملك حسين، يعرب فيها عن: إعجاب العرب والمسلمين وتقديرهم للموقف الذي يقفه الشعب والجيش في الأردن... وأن السعودية تضع كل إمكاناتها في خدمة المعركة.. إلى آخر الكلام... وأورام الكلام.
ولكن أورام الكلام تكاثرت بعد المعركة؛ فقد انطلقت الخطب الرسمية في الوطن العربي، تقول: لقد انتصرت إسرائيل في الحرب، ولكن عجزت عن تحقيق أهدافها السياسية. كانت إسرائيل تريد إسقاط النظم التقدمية، ولكنها فشلت في تحقيق ذلك... لقد احتلت الأرض، ولكن الحكومات الثورية باقية...
ولقد ضجت الأمة العربية وهي تسمع هذا الكلام... وتمنت لو سقطت كل الأنظمة الثورية والتقدمية، ومعها جميع الملوك والرؤساء، قبل أن يسقط حجر واحد في بيت المقدس، أو تهتز حبة رمل في سيناء، أو تقصف قشة في الجولان.
لم تكن الجيوش العربية تتصرف بموجب خطة مرسومة وقيادة موحدة، مما جعل اليهود يركزون هجماتهم على كل جيش على حدة، ولقد رأينا كيف ركزوا اهتمامهم في الجيش المصري أقوى جيوش العرب وأفضلها نظاماً وتسليحاً دون أن يخف زملاؤه لنجدته في الجبهات الأخرى .
من مقال: كيف ضاعت #فلسطين؟.. (قصة الجبهة المصرية)
بقلم: كامل الشريف -رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/41PSVam
من مقال: كيف ضاعت #فلسطين؟.. (قصة الجبهة المصرية)
بقلم: كامل الشريف -رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/41PSVam
التزام الجيش لخطة الدفاع بعد الهدنة الأولى حطم روح جنودنا المعنوية وأعطى اليهود سيطرة تامة على الموقف الحربي، والاشتغال بعد ذلك بالأعمال الهجومية، خاصة إذا علمنا أن قوات العدو الرئيسية البالماخ لم تكن تشغل نفسها إطلاقاً بالدفاع.
من مقال: كيف ضاعت #فلسطين؟.. (قصة الجبهة المصرية)
بقلم: كامل الشريف -رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/41PSVam
من مقال: كيف ضاعت #فلسطين؟.. (قصة الجبهة المصرية)
بقلم: كامل الشريف -رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/41PSVam
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
كم في كتاب الله من الحقائق التي إذا تدبرها المؤمن في هذا الزمن وأمام مثل هذه الملمّات أصبحت ركنًا شديدًا يأوي إليه؛ فحقائق القرآن من أجلّ المثبتات
﴿إنّ النَّاسَ قدْ جَمَعوا لَكمْ﴾ (2/3)
بقلم: الشيخ إبراهيم السكران - فك الله أسره
استمع الآن إلى المقال كاملاً 🎧
﴿إنّ النَّاسَ قدْ جَمَعوا لَكمْ﴾ (2/3)
بقلم: الشيخ إبراهيم السكران - فك الله أسره
استمع الآن إلى المقال كاملاً 🎧
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 246]، وقال: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة: 246].
في الآيةِ: ذِكْرٌ لشريعةِ الجهادِ وقِدَمِها في بني إسرائيلَ، وأنَّ اللهَ كتَبَها على أنبياءَ وأُمَمٍ قبلَ محمَّدٍ ﷺ، واللهُ لم يُوجِبْ على كلِّ نبيٍّ جهادَ الطَّلَبِ، ولكنَّه أَوْجَبَ جهادَ الدَّفْعِ على كلِّ أُمَّةٍ، بل لو لم يَنزِلْ به نقلٌ، لوجَبَ بالعقلِ؛ فلا يُسلمُ الإنسانُ عِرْضَهُ ودَمَهُ ومالَهُ لِمَنْ أرادَهُ؛ وهذا لا يَصِحُّ مِن حيوانٍ بَهِيمْ، فضلاً عن إنسانٍ كريمْ.
وقِيلَ: إنَّ النبيَّ المذكورَ في الآيةِ شمويلُ بنُ بالي بنِ عَلْقمةَ؛ قاله وَهْبُ بنُ منبِّهٍ.
وقيل: شَمْعُونُ؛ قاله مجاهدٌ والسُّدِّيُّ وغيرُهما.
وقال قتادةُ: هو يُوشَعُ بنُ نُونٍ.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى كثرةِ الأنبياءِ مِن بعدِ موسى وقبلَ عيسى، وكانت الأنبياءُ بينَهما تجدِّدُ ما في التوراةِ ممَّا أَمَاتَهُ الناسُ ونَسُوهُ وحَرَّفُوهُ، حتى جاءَ عيسى فغَيَّرَ اللهُ له مِن شِرْعةِ موسى أحكامًا؛ كما في قولِه: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50].
حكمُ القتالِ والحكمةُ منه
وفي الآيةِ: وجوبُ القتالِ في سبيلِ اللهِ جماعةً، وألاَّ يتفرَّقَ الناسُ مع إمكانِهِمْ إلى الجمعِ، وقد طلَبَ الملأُ مِن بني إسرائيلَ مِن نبيِّهم مَلِكًا ـ أيْ: خليفةً وأميرًا ـ يأتَمِرُونَ بأمرِه، ويَجْتمِعونَ عليه، وكان في بني إسرائيلَ ملوكٌ، والملوكُ تأتمِرُ بأمرِ الأنبياءِ، وقد كان في زمانِهم جَبَابِرةٌ وعَمَالِقةٌ يتسلَّطونَ عليهم بإخراجِهِمْ مِن ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ وأموالِهِمْ؛ كما قاله ابنُ عبَّاسٍ والسدِّيُّ وغيرُهما.
وفي الآيةِ: رحمةُ النبيِّ بأُمَّتِهِ أنْ خَشِيَ إنْ كُتِبَ عليهِمُ القتالُ ألاَّ يُقاتِلوا فيأثَمُوا، وهم في سَعَةٍ قبلَ فَرْضِهِ عليهِم؛ وذلك لِمَا عَلِمَهُ مِن سابقِ حالِهِمْ مِن تفريطٍ وعدمِ وفاءٍ، وفي هذا ألا يقدِّمَ الأميرُ للقتالِ إلا أهلَ العزمِ والشِّدَّةِ والثَّبَاتِ؛ حتى لا يُخذَلَ المسلِمونَ، وإنْ أخرَجَهُمْ إلى الجهادِ لِطَلَبِهم أو لأَمْنِ مَكْرِهم؛ ألاَّ يَخْلُفُوهُ في بلدِهِ بِسُوءٍ، فلا يَجْعَلْهم محلَّ اعتمادِهِ فيَنفرِدُوا بحمايةِ ثَغْرٍ، فيتسلَّلَ عدوٌّ مِن جِهَتِهِم.
وقد كان المنافِقونَ يخرُجُونَ مع النبيِّ ﷺ وهو يَعْلَمُهم؛ تأليفًا لهم، أو طمَعًا في مَغْنَمٍ، وأَمْنًا مِن أنْ يَخْلُفُوهُ بشرٍّ، وإذا دخَلَتِ الدُّنيا في قلبِ المجاهِدينَ، وقَعَ التنازُعُ في صورةِ الانتصارِ للحقِّ، ونزَلَ الافتراقُ وتَبِعَهُ الفَشَلُ، وكلَّما كانَ الإنسانُ أقربَ إلى الآخرةِ، فالقليلُ مِن الدُّنيا ثَقيلٌ عليه، فالمقاتِلُ أقرَبُ للموتِ مِن المسالِمِ، فوجَبَ عليه أن يدَعَ الدُّنيا وطَمَعَ النفسِ؛ حتى لا يُفسِدَ عليه ذلك جهادَهُ وجهادَ الأُمَّةِ، وإذا وقَعَ في الأُمَّةِ فشلٌ، فلْيُفتَّشْ عن طمعِ الدُّنيا؛ فإنَّ المجاهِدِينَ يُهْزَمُونَ بسببِ أطماعِ القلوبِ، وخفايا الذنوبِ؛ ففي أُحُدٍ قال ابنُ مسعودٍ: "لَوْ حَلفْتُ يَوْمَ أُحُدٍ، رَجَوْتُ أنْ أَبرَّ: إِنَّهُ ليسَ أَحدٌ مِنَّا يُرِيدُ الدُّنيا، حتى أَنزَلَ اللهُ عزّ وجل: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾" [آل عمران: 152].
وكلَّما كان العبدُ في مكانٍ أعظَمَ، فالمؤاخَذَةُ عليه أكبَرُ؛ فالمجاهِدُ في موضِعٍ عظيمٍ، وأمَلُهُ قصيرٌ يقتضي التجرُّدَ؛ فمِلْءُ الكفِّ مِن الهَوَى يُفسِدُ عليه ما يُفسِدُهُ مثاقيلُ الهَوَى على غيرِ المجاهِدِ.
الاجتماعُ في القتالِ
وفي الآيةِ: مسألتانِ مُهِمَّتانِ هما المَقْصُودتانِ مِن ذِكْرِ الآية هُنا:
أُولاَهما: في قولِهِ تعالى: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقولِهِ تعالى بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ [البقرة: 247]؛ وذلك لوجوبِ التأميرِ في الجهادِ، أميرًا تجتمِعُ عليه الكلمةُ، ويَقْوَى على مقابَلةِ العدوِّ؛ وذلك أنَّ الجِهادَ يحتاجُ إلى تعاضُدٍ بينهم وتآمُرٍ على العدوِّ؛ وهذا لا يكونُ إلا باجتماعٍ؛ وهذا يدلُّ عليه العقلُ والنقلُ، وكان النبيُّ ﷺ لا يَبْعَثُ جيشًا ولا سَرِيَّةً إلا أمَّرَ عليهِم أميرًا، وفي الحديثِ: كان النبيُّ ﷺ إذا بعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أو جَيْشٍ، أَوْصَاهُ بتَقْوَى اللهِ.
التأميرُ وأهميَّتُهُ
بل كان النبيُّ ﷺ يَحُثُّ على التأميرِ في كلِّ سَفَرٍ ولو في أَمْنٍ؛ كما في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ؛ قال ﷺ: "إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ"7، وجاء مِن حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ".
في الآيةِ: ذِكْرٌ لشريعةِ الجهادِ وقِدَمِها في بني إسرائيلَ، وأنَّ اللهَ كتَبَها على أنبياءَ وأُمَمٍ قبلَ محمَّدٍ ﷺ، واللهُ لم يُوجِبْ على كلِّ نبيٍّ جهادَ الطَّلَبِ، ولكنَّه أَوْجَبَ جهادَ الدَّفْعِ على كلِّ أُمَّةٍ، بل لو لم يَنزِلْ به نقلٌ، لوجَبَ بالعقلِ؛ فلا يُسلمُ الإنسانُ عِرْضَهُ ودَمَهُ ومالَهُ لِمَنْ أرادَهُ؛ وهذا لا يَصِحُّ مِن حيوانٍ بَهِيمْ، فضلاً عن إنسانٍ كريمْ.
وقِيلَ: إنَّ النبيَّ المذكورَ في الآيةِ شمويلُ بنُ بالي بنِ عَلْقمةَ؛ قاله وَهْبُ بنُ منبِّهٍ.
وقيل: شَمْعُونُ؛ قاله مجاهدٌ والسُّدِّيُّ وغيرُهما.
وقال قتادةُ: هو يُوشَعُ بنُ نُونٍ.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى كثرةِ الأنبياءِ مِن بعدِ موسى وقبلَ عيسى، وكانت الأنبياءُ بينَهما تجدِّدُ ما في التوراةِ ممَّا أَمَاتَهُ الناسُ ونَسُوهُ وحَرَّفُوهُ، حتى جاءَ عيسى فغَيَّرَ اللهُ له مِن شِرْعةِ موسى أحكامًا؛ كما في قولِه: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50].
حكمُ القتالِ والحكمةُ منه
وفي الآيةِ: وجوبُ القتالِ في سبيلِ اللهِ جماعةً، وألاَّ يتفرَّقَ الناسُ مع إمكانِهِمْ إلى الجمعِ، وقد طلَبَ الملأُ مِن بني إسرائيلَ مِن نبيِّهم مَلِكًا ـ أيْ: خليفةً وأميرًا ـ يأتَمِرُونَ بأمرِه، ويَجْتمِعونَ عليه، وكان في بني إسرائيلَ ملوكٌ، والملوكُ تأتمِرُ بأمرِ الأنبياءِ، وقد كان في زمانِهم جَبَابِرةٌ وعَمَالِقةٌ يتسلَّطونَ عليهم بإخراجِهِمْ مِن ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ وأموالِهِمْ؛ كما قاله ابنُ عبَّاسٍ والسدِّيُّ وغيرُهما.
وفي الآيةِ: رحمةُ النبيِّ بأُمَّتِهِ أنْ خَشِيَ إنْ كُتِبَ عليهِمُ القتالُ ألاَّ يُقاتِلوا فيأثَمُوا، وهم في سَعَةٍ قبلَ فَرْضِهِ عليهِم؛ وذلك لِمَا عَلِمَهُ مِن سابقِ حالِهِمْ مِن تفريطٍ وعدمِ وفاءٍ، وفي هذا ألا يقدِّمَ الأميرُ للقتالِ إلا أهلَ العزمِ والشِّدَّةِ والثَّبَاتِ؛ حتى لا يُخذَلَ المسلِمونَ، وإنْ أخرَجَهُمْ إلى الجهادِ لِطَلَبِهم أو لأَمْنِ مَكْرِهم؛ ألاَّ يَخْلُفُوهُ في بلدِهِ بِسُوءٍ، فلا يَجْعَلْهم محلَّ اعتمادِهِ فيَنفرِدُوا بحمايةِ ثَغْرٍ، فيتسلَّلَ عدوٌّ مِن جِهَتِهِم.
وقد كان المنافِقونَ يخرُجُونَ مع النبيِّ ﷺ وهو يَعْلَمُهم؛ تأليفًا لهم، أو طمَعًا في مَغْنَمٍ، وأَمْنًا مِن أنْ يَخْلُفُوهُ بشرٍّ، وإذا دخَلَتِ الدُّنيا في قلبِ المجاهِدينَ، وقَعَ التنازُعُ في صورةِ الانتصارِ للحقِّ، ونزَلَ الافتراقُ وتَبِعَهُ الفَشَلُ، وكلَّما كانَ الإنسانُ أقربَ إلى الآخرةِ، فالقليلُ مِن الدُّنيا ثَقيلٌ عليه، فالمقاتِلُ أقرَبُ للموتِ مِن المسالِمِ، فوجَبَ عليه أن يدَعَ الدُّنيا وطَمَعَ النفسِ؛ حتى لا يُفسِدَ عليه ذلك جهادَهُ وجهادَ الأُمَّةِ، وإذا وقَعَ في الأُمَّةِ فشلٌ، فلْيُفتَّشْ عن طمعِ الدُّنيا؛ فإنَّ المجاهِدِينَ يُهْزَمُونَ بسببِ أطماعِ القلوبِ، وخفايا الذنوبِ؛ ففي أُحُدٍ قال ابنُ مسعودٍ: "لَوْ حَلفْتُ يَوْمَ أُحُدٍ، رَجَوْتُ أنْ أَبرَّ: إِنَّهُ ليسَ أَحدٌ مِنَّا يُرِيدُ الدُّنيا، حتى أَنزَلَ اللهُ عزّ وجل: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾" [آل عمران: 152].
وكلَّما كان العبدُ في مكانٍ أعظَمَ، فالمؤاخَذَةُ عليه أكبَرُ؛ فالمجاهِدُ في موضِعٍ عظيمٍ، وأمَلُهُ قصيرٌ يقتضي التجرُّدَ؛ فمِلْءُ الكفِّ مِن الهَوَى يُفسِدُ عليه ما يُفسِدُهُ مثاقيلُ الهَوَى على غيرِ المجاهِدِ.
الاجتماعُ في القتالِ
وفي الآيةِ: مسألتانِ مُهِمَّتانِ هما المَقْصُودتانِ مِن ذِكْرِ الآية هُنا:
أُولاَهما: في قولِهِ تعالى: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقولِهِ تعالى بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ [البقرة: 247]؛ وذلك لوجوبِ التأميرِ في الجهادِ، أميرًا تجتمِعُ عليه الكلمةُ، ويَقْوَى على مقابَلةِ العدوِّ؛ وذلك أنَّ الجِهادَ يحتاجُ إلى تعاضُدٍ بينهم وتآمُرٍ على العدوِّ؛ وهذا لا يكونُ إلا باجتماعٍ؛ وهذا يدلُّ عليه العقلُ والنقلُ، وكان النبيُّ ﷺ لا يَبْعَثُ جيشًا ولا سَرِيَّةً إلا أمَّرَ عليهِم أميرًا، وفي الحديثِ: كان النبيُّ ﷺ إذا بعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أو جَيْشٍ، أَوْصَاهُ بتَقْوَى اللهِ.
التأميرُ وأهميَّتُهُ
بل كان النبيُّ ﷺ يَحُثُّ على التأميرِ في كلِّ سَفَرٍ ولو في أَمْنٍ؛ كما في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ؛ قال ﷺ: "إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ"7، وجاء مِن حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ".
وهذا اجتماعٌ قليلٌ أمَرَ بالإمارةِ فيهِ؛ فكيف بما هو أكثَرُ منه؟! وكلَّما كَثُرَ الناسُ وضَعُفَتِ الإمامةُ فيهم، وَهَنُوا؛ فالإمامُ يُقِيمُ الحدودَ، وينصُرُ المظلومَ، ويُهِيبُ مَنْ يتربَّصُ الفسادَ، وكثيرًا ما يَظُنُّ العامَّةُ أنَّ أَمْرَهُمْ مستقيمٌ تحتَ إمامٍ صالِحٍ، فيَظُنُّونَ أنَّ استقامةَ أمرِهِم لصلاحِهِم، فلا يَرَوْنَ لإمامِهِمْ حاجةً، فإذا زالَ الإمامُ، أفسَدَ بعضُهُمْ بعضًا، وقتَلَ بعضُهُمْ بَعضًا، وظهَرَتِ الأطماعُ ومكامِنُ الأهواءِ التي يَدفِنُها الإمامُ فيهم بِهيْبَتِهِ.
والجهادُ أحوَجُ إِلى الجماعةِ؛ لأنَّ مصلحتَهُ عامَّةٌ؛ نُصْرةً وعِزَّةً وتمكينًا، ومفسدتَهُ عامَّةٌ؛ خِذْلانًا وهَوَانًا وشَتَاتًا، تُحفَظُ بالجهادِ الضروريَّاتُ الخمسُ، وبفسادِهِ تَضِيعُ؛ لذا فالجهادُ موكولٌ إلى الإمامِ يرفَعُ رايتَهُ، ويسالِمُ ويعاهِدُ، ولا تتحقَّقُ مصالحُ الدِّينِ وتكتمِلُ مصالحُ الدُّنيا إلا بالإمامةِ والاجتماعِ عليها؛ فالناسُ بلا إمامٍ صالِحٍ كالجَسَدِ بلا رأسٍ صحيحٍ.
وإذا صحَّ الجهادُ وقامَ سببُهُ المشروعُ، فهل يَجِبُ في ذلك إذنُ الإمامِ؟ للعلماءِ في ذلك أقوالٌ ثلاثةٌ:
ذهَبَ الجمهورُ: إلى وجوبِهِ؛ وهو قولُ المالكيَّةِ والحنفيَّةِ، وقولٌ للحنابلةِ، وهو الأصحُّ إذا كان الإمامُ مِمَّنْ يُقِيمُ الجهادَ ويُعِدُّ له العُدَّةَ ولو تَرَبَّصَ وتَمَهَّلَ.
وذهَبَ الشافعيَّةُ: إلى الكراهةِ مع الجوازِ.
وذهَبَ الظاهريَّةُ: إلى الجوازِ بلا كراهةٍ.
وأصولُ العلماءِ تَتَّفِقُ على أنَّ مَنْ لا يُقِرُّ بشِرْعةِ الجهادِ أصلاً لا يُشتَرَطُ إذنُ الجهادِ منه؛ لأنَّه لا يُقِرُّ بأصلٍ؛ فكيف يُؤتَمَنُ على فَرْعٍ؟!
فالإذنُ إنَّما رُبِطَ بالإمامِ لأنَّه يَعرِفُ مواضعَ الثغورِ، وأَزْمِنةَ الغَزْوِ، والفاضلَ مِن المفضولِ مِنها، وأماكنَ الحاجةِ، وقُوَّةَ العدوِّ وضَعْفَهُ، وإذا كان الإمامُ لا يُؤمِنُ بشِرْعةِ الجهادِ، فلا تُشرَعُ له لوازِمُهُ.
وإذا تعدَّدتْ بُلْدانُ الإسلامِ، فلكُلِّ بَلَدٍ إمامُهُ؛ يُقِيمُ جهادَهُ، ويَرفَعُ لواءَهُ، وله حقوقُهُ ولوازِمُه، وعليه تَبِعَاتُه، ولا يُطلَبُ مِن إمامٍ إذنٌ لجهادٍ في غيرِ وِلاَيتِه؛ لأنَّ إذنَهُ حقٌّ له فيما تقَعُ عليه يدُه، فهو يُبصِرُ مصلحتَه، ويَرَى مفسدتَه، ولغيرِهِ على أرضِه يدٌ، وله عَيْنٌ، يُبصِرُ ما لا يُبصِرُهُ غيرُه، ويَشْهَدُ ما لا يَشْهَدُه.
وقد قاتَلَ أبو بَصِيرٍ بمَنْ معَهُ المشرِكِينَ، وتربَّصَ بِعِيرِهِمْ وقَوَافِلِهم، فلم يكُنْ تحتَ رايةِ النبيِّ ﷺ؛ لأنَّه لم يكنْ في أرضِهِ ولا تحتَ أمرِهِ سياسةً، وإنْ كان تحتَ أمرِه شِرْعةً، فلم يأمُرْهُ النبيُّ ﷺ ولم يَنْهَهُ، بل مدَحَهُ وقال: "مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ"9، ولم يطلُبْ هو مِن النبيِّ ﷺ إذنًا مع نزولِ الوحيِ وعِصْمةِ المُوحَى إليه.
شروطُ جهاد الدفعِ
وأمَّا جهادُ الدفعِ، فليس له شرطٌ؛ فإذا دهَمَ العَدُوُّ بَلَدًا، وجَبَ على أهلِها الدفعُ عن حِمَاهُم؛ كلٌّ بما يستطِيعُهُ، جماعةً أو فُرادى، رجالاً أو نساءً، وإنْ تعذَّرَ اجتماعُهُمْ، فيسقُطُ شرطُ الاجتماعِ، فيقاتِلُونَ فُرادى، وإنْ تعذَّرَ الإمامُ، فيقاتِلُونَ بلا إمامٍ.
وهؤلاءِ المَلَأُ مِن بني إسرائيلَ إنَّما طلَبُوا مِن نبيِّهم مَلِكًا يقاتِلُونَ معه، وجهادُهُمْ جهادُ دفعٍ، كما في قولِه: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة: 246]؛ لأنَّهم أُخرِجُوا مِنْ أَرْضِهم، فلم يتمكَّنوا مِن الدفعِ، فاجتمَعُوا في غيرِ أرضِهم بعدَ إخراجِهِمْ، فأرادُوا القتالَ بإمامٍ لتمكُّنِهِمْ مِن تحقيقِ ذلك.
وإذا تمكَّنَ أهلُ البلدِ مِن الاجتماعِ على إمامٍ يقاتِلُونَ معه عن أرضِهِمْ وعِرْضِهِمْ ودَمِهِمْ، وجَبَ عليهم ذلك ولو كان جهادَ دفعٍ، وإنَّما سقَطَ وجوبُ الإمامِ عن جهادِ الدفعِ؛ لأنَّ الغالِبَ العجزُ عن تحقُّقِهِ والتمكُّنِ منه، وإذا اتَّسَعَتِ البلدُ، وعجَزُوا عن الاجتماعِ على إمامٍ واحدٍ، فيجتمِعونَ جماعاتٍ ما أمكَنَهُمْ، وإذا مُكِّنُوا اجتمَعُوا على جماعةٍ واحدةٍ.
والجهادُ أحوَجُ إِلى الجماعةِ؛ لأنَّ مصلحتَهُ عامَّةٌ؛ نُصْرةً وعِزَّةً وتمكينًا، ومفسدتَهُ عامَّةٌ؛ خِذْلانًا وهَوَانًا وشَتَاتًا، تُحفَظُ بالجهادِ الضروريَّاتُ الخمسُ، وبفسادِهِ تَضِيعُ؛ لذا فالجهادُ موكولٌ إلى الإمامِ يرفَعُ رايتَهُ، ويسالِمُ ويعاهِدُ، ولا تتحقَّقُ مصالحُ الدِّينِ وتكتمِلُ مصالحُ الدُّنيا إلا بالإمامةِ والاجتماعِ عليها؛ فالناسُ بلا إمامٍ صالِحٍ كالجَسَدِ بلا رأسٍ صحيحٍ.
وإذا صحَّ الجهادُ وقامَ سببُهُ المشروعُ، فهل يَجِبُ في ذلك إذنُ الإمامِ؟ للعلماءِ في ذلك أقوالٌ ثلاثةٌ:
ذهَبَ الجمهورُ: إلى وجوبِهِ؛ وهو قولُ المالكيَّةِ والحنفيَّةِ، وقولٌ للحنابلةِ، وهو الأصحُّ إذا كان الإمامُ مِمَّنْ يُقِيمُ الجهادَ ويُعِدُّ له العُدَّةَ ولو تَرَبَّصَ وتَمَهَّلَ.
وذهَبَ الشافعيَّةُ: إلى الكراهةِ مع الجوازِ.
وذهَبَ الظاهريَّةُ: إلى الجوازِ بلا كراهةٍ.
وأصولُ العلماءِ تَتَّفِقُ على أنَّ مَنْ لا يُقِرُّ بشِرْعةِ الجهادِ أصلاً لا يُشتَرَطُ إذنُ الجهادِ منه؛ لأنَّه لا يُقِرُّ بأصلٍ؛ فكيف يُؤتَمَنُ على فَرْعٍ؟!
فالإذنُ إنَّما رُبِطَ بالإمامِ لأنَّه يَعرِفُ مواضعَ الثغورِ، وأَزْمِنةَ الغَزْوِ، والفاضلَ مِن المفضولِ مِنها، وأماكنَ الحاجةِ، وقُوَّةَ العدوِّ وضَعْفَهُ، وإذا كان الإمامُ لا يُؤمِنُ بشِرْعةِ الجهادِ، فلا تُشرَعُ له لوازِمُهُ.
وإذا تعدَّدتْ بُلْدانُ الإسلامِ، فلكُلِّ بَلَدٍ إمامُهُ؛ يُقِيمُ جهادَهُ، ويَرفَعُ لواءَهُ، وله حقوقُهُ ولوازِمُه، وعليه تَبِعَاتُه، ولا يُطلَبُ مِن إمامٍ إذنٌ لجهادٍ في غيرِ وِلاَيتِه؛ لأنَّ إذنَهُ حقٌّ له فيما تقَعُ عليه يدُه، فهو يُبصِرُ مصلحتَه، ويَرَى مفسدتَه، ولغيرِهِ على أرضِه يدٌ، وله عَيْنٌ، يُبصِرُ ما لا يُبصِرُهُ غيرُه، ويَشْهَدُ ما لا يَشْهَدُه.
وقد قاتَلَ أبو بَصِيرٍ بمَنْ معَهُ المشرِكِينَ، وتربَّصَ بِعِيرِهِمْ وقَوَافِلِهم، فلم يكُنْ تحتَ رايةِ النبيِّ ﷺ؛ لأنَّه لم يكنْ في أرضِهِ ولا تحتَ أمرِهِ سياسةً، وإنْ كان تحتَ أمرِه شِرْعةً، فلم يأمُرْهُ النبيُّ ﷺ ولم يَنْهَهُ، بل مدَحَهُ وقال: "مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ"9، ولم يطلُبْ هو مِن النبيِّ ﷺ إذنًا مع نزولِ الوحيِ وعِصْمةِ المُوحَى إليه.
شروطُ جهاد الدفعِ
وأمَّا جهادُ الدفعِ، فليس له شرطٌ؛ فإذا دهَمَ العَدُوُّ بَلَدًا، وجَبَ على أهلِها الدفعُ عن حِمَاهُم؛ كلٌّ بما يستطِيعُهُ، جماعةً أو فُرادى، رجالاً أو نساءً، وإنْ تعذَّرَ اجتماعُهُمْ، فيسقُطُ شرطُ الاجتماعِ، فيقاتِلُونَ فُرادى، وإنْ تعذَّرَ الإمامُ، فيقاتِلُونَ بلا إمامٍ.
وهؤلاءِ المَلَأُ مِن بني إسرائيلَ إنَّما طلَبُوا مِن نبيِّهم مَلِكًا يقاتِلُونَ معه، وجهادُهُمْ جهادُ دفعٍ، كما في قولِه: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة: 246]؛ لأنَّهم أُخرِجُوا مِنْ أَرْضِهم، فلم يتمكَّنوا مِن الدفعِ، فاجتمَعُوا في غيرِ أرضِهم بعدَ إخراجِهِمْ، فأرادُوا القتالَ بإمامٍ لتمكُّنِهِمْ مِن تحقيقِ ذلك.
وإذا تمكَّنَ أهلُ البلدِ مِن الاجتماعِ على إمامٍ يقاتِلُونَ معه عن أرضِهِمْ وعِرْضِهِمْ ودَمِهِمْ، وجَبَ عليهم ذلك ولو كان جهادَ دفعٍ، وإنَّما سقَطَ وجوبُ الإمامِ عن جهادِ الدفعِ؛ لأنَّ الغالِبَ العجزُ عن تحقُّقِهِ والتمكُّنِ منه، وإذا اتَّسَعَتِ البلدُ، وعجَزُوا عن الاجتماعِ على إمامٍ واحدٍ، فيجتمِعونَ جماعاتٍ ما أمكَنَهُمْ، وإذا مُكِّنُوا اجتمَعُوا على جماعةٍ واحدةٍ.
المسألةُ الثانيةُ: سُمِّيَ القتالَ في الآيةِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، مع كونِهِم يقاتِلُونَ بسببِ إِخراجِهم مِن ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ، لا لإعلاءِ كلمةِ اللهِ وإقامةِ حُكْمِه؛ وذلك لأنَّ جِهادَ الدفعِ عنِ النفسِ والعِرْضِ والمالِ لا تُشترَطُ له نِيَّةٌ؛ لما جاءَ في «الصحيحَيْنِ»؛ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو؛ قالَ: قالَ ﷺ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، وفي «السننِ»؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ مرفوعًا: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ، فَهُوَ شَهِيد".
قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 247].
جعَلَ اللهُ لبني إِسرائيلَ طَالُوتَ مَلِكًا يقاتِلُ بهم، ويقاتِلُونَ معه، وذكَرَ اللهُ نزاعَهُم بعد طلبِهم منه الملِكَ، فرَأَوْا أنَّهم أَحَقُّ منه بالوِلاَيةِ؛ وذلك لأنَّهم رأَوْا مِن أمرِ دنياه ما لا يستحسِنُونَهُ بنفوسِهِم، فاستنقَصُوهُ نَسَبًا؛ فكانَ مِن سِبْطِ بِنْيامِينَ، ولم يَكُنْ فيهم مَمْلَكةٌ ولا نُبُوَّةٌ؛ قالَهُ قتادةُ وغيرُه.
وروى عمرُو بنُ دِينَارٍ، عن عِكْرِمةَ؛ قال: كان طالوتُ سَقَّاءً يَبِيعُ الماءَ. أخرجَهُ ابنُ جريرٍ؛ ولذا قالُوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾.
وهذه المآخِذُ ليست محلَّ تفضيلِهِ عليهم في القتالِ؛ ولذا قالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، وشروطُ الوِلاَياتِ تختلِفُ بحَسَبِ منازلِها؛ فوِلاَيةُ الجهادِ تختلِفُ عن ولايةِ الإمامِ في الصلاةِ، ووِلاَيةِ المالِ، وولايةِ القضاءِ والحدودِ، وولايةِ الأيتامِ والأعراضِ.
والمقصودُ بالعلمِ هنا هو: العِلْمُ بالقتالِ والحربِ، والكَرِّ والفَرِّ، وأَحكامِ العدوِّ رجالاً ونساءً وشيوخًا، وأحكامِ المهادَنةِ والمسالَمةِ؛ حتَّى لا يقَعَ الظلمُ.
قال وهبُ بنُ منبِّهٍ وغيرُهُ في عِلْمِ طالوتَ: هو العِلْمُ بالحربِ.
اشتراطُ العلمِ للوالي بما يلي:
وإنَّما يُشترَطُ لكلِّ والٍ عِلْمُهُ بأحكامِ ولايتِهِ، لا مطلَقُ العِلْمِ أو العِلْمُ المطلَقُ؛ فوِلاَيةُ أميرِ الجَيْشِ في غزوٍ غيرُ ولايةِ أميرِ الناسِ في الحجِّ؛ فالأولُ: يجبُ أن يكونَ بصيرًا بعِلْمِ الجهادِ، والثاني: يجبُ أنْ يكونَ بصيرًا بعِلْمِ المناسكِ، وأميرُ القضاءِ: يجبُ فيه عِلْمُ العقوباتِ حدودًا وتعزيراتٍ، وفقهُ النكاحِ والطلاقِ والعِدَدِ والمواريثِ، وكلِّ ما يتعلَّقُ بفصلِ النِّزاعِ؛ كالبيوعِ، والتجارةِ، وغيرِها، ولا يجبُ عليه الفِقْهُ بمسائلِ ودقائقِ العباداتِ كالطَّهارةِ والصِّيامِ والصَّلاةِ والمناسكِ، إلا ما يُقِيمُ به دِينَهُ منها؛ لأنَّ هذا واجبٌ على المُفْتِي لا على القاضي.
وكلَّما تلبَّسَ الإنسانُ بعملٍ، وجَبَ عليه التفقُّهُ فيه؛ ولذا قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: «لاَ يَبِعْ فِي سُوقِنَا إِلاَّ مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ»، فيتفقَّهُ في البيعِ ولو لم يَفْقَهْ تفاصيلَ الصلاةِ والصيامِ والحَجِّ، ويكتفي بما يُقِيمُ دِينَهُ منها.
وإذا وُجِدَ اثنانِ لولايةِ الجهادِ: قويُّ الجَسَدِ شجاعٌ ضعيفُ الإيمانِ، وقَوِيُّ الإيمانِ ضعيفُ الجَسَدِ جَبَانٌ، فيُقدَّمُ الأولُ؛ لأنَّ الوِلاَيةَ ولايةُ جهادٍ، فتحتاجُ قُوَّةَ القلبِ والبدنِ مع أصلِ الإيمانِ؛ وبذلك يتحقَّقُ المقصدُ الشرعيُّ مِن تلك الولايةِ؛ وبهذا يقولُ أحمدُ وغيرُه، وهذا هو المقصودُ مِن بَسْطةِ الجِسمِ في الآيةِ.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 247].
جعَلَ اللهُ لبني إِسرائيلَ طَالُوتَ مَلِكًا يقاتِلُ بهم، ويقاتِلُونَ معه، وذكَرَ اللهُ نزاعَهُم بعد طلبِهم منه الملِكَ، فرَأَوْا أنَّهم أَحَقُّ منه بالوِلاَيةِ؛ وذلك لأنَّهم رأَوْا مِن أمرِ دنياه ما لا يستحسِنُونَهُ بنفوسِهِم، فاستنقَصُوهُ نَسَبًا؛ فكانَ مِن سِبْطِ بِنْيامِينَ، ولم يَكُنْ فيهم مَمْلَكةٌ ولا نُبُوَّةٌ؛ قالَهُ قتادةُ وغيرُه.
وروى عمرُو بنُ دِينَارٍ، عن عِكْرِمةَ؛ قال: كان طالوتُ سَقَّاءً يَبِيعُ الماءَ. أخرجَهُ ابنُ جريرٍ؛ ولذا قالُوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾.
وهذه المآخِذُ ليست محلَّ تفضيلِهِ عليهم في القتالِ؛ ولذا قالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، وشروطُ الوِلاَياتِ تختلِفُ بحَسَبِ منازلِها؛ فوِلاَيةُ الجهادِ تختلِفُ عن ولايةِ الإمامِ في الصلاةِ، ووِلاَيةِ المالِ، وولايةِ القضاءِ والحدودِ، وولايةِ الأيتامِ والأعراضِ.
والمقصودُ بالعلمِ هنا هو: العِلْمُ بالقتالِ والحربِ، والكَرِّ والفَرِّ، وأَحكامِ العدوِّ رجالاً ونساءً وشيوخًا، وأحكامِ المهادَنةِ والمسالَمةِ؛ حتَّى لا يقَعَ الظلمُ.
قال وهبُ بنُ منبِّهٍ وغيرُهُ في عِلْمِ طالوتَ: هو العِلْمُ بالحربِ.
اشتراطُ العلمِ للوالي بما يلي:
وإنَّما يُشترَطُ لكلِّ والٍ عِلْمُهُ بأحكامِ ولايتِهِ، لا مطلَقُ العِلْمِ أو العِلْمُ المطلَقُ؛ فوِلاَيةُ أميرِ الجَيْشِ في غزوٍ غيرُ ولايةِ أميرِ الناسِ في الحجِّ؛ فالأولُ: يجبُ أن يكونَ بصيرًا بعِلْمِ الجهادِ، والثاني: يجبُ أنْ يكونَ بصيرًا بعِلْمِ المناسكِ، وأميرُ القضاءِ: يجبُ فيه عِلْمُ العقوباتِ حدودًا وتعزيراتٍ، وفقهُ النكاحِ والطلاقِ والعِدَدِ والمواريثِ، وكلِّ ما يتعلَّقُ بفصلِ النِّزاعِ؛ كالبيوعِ، والتجارةِ، وغيرِها، ولا يجبُ عليه الفِقْهُ بمسائلِ ودقائقِ العباداتِ كالطَّهارةِ والصِّيامِ والصَّلاةِ والمناسكِ، إلا ما يُقِيمُ به دِينَهُ منها؛ لأنَّ هذا واجبٌ على المُفْتِي لا على القاضي.
وكلَّما تلبَّسَ الإنسانُ بعملٍ، وجَبَ عليه التفقُّهُ فيه؛ ولذا قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: «لاَ يَبِعْ فِي سُوقِنَا إِلاَّ مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ»، فيتفقَّهُ في البيعِ ولو لم يَفْقَهْ تفاصيلَ الصلاةِ والصيامِ والحَجِّ، ويكتفي بما يُقِيمُ دِينَهُ منها.
وإذا وُجِدَ اثنانِ لولايةِ الجهادِ: قويُّ الجَسَدِ شجاعٌ ضعيفُ الإيمانِ، وقَوِيُّ الإيمانِ ضعيفُ الجَسَدِ جَبَانٌ، فيُقدَّمُ الأولُ؛ لأنَّ الوِلاَيةَ ولايةُ جهادٍ، فتحتاجُ قُوَّةَ القلبِ والبدنِ مع أصلِ الإيمانِ؛ وبذلك يتحقَّقُ المقصدُ الشرعيُّ مِن تلك الولايةِ؛ وبهذا يقولُ أحمدُ وغيرُه، وهذا هو المقصودُ مِن بَسْطةِ الجِسمِ في الآيةِ.
بلغت أزمة فلسطين أوج شدتها في أواسط مايس -مايو- وقبيل انتهاء الانتداب ببضعة أيام. وأراد اليهود أن يطمئنوا إلى محافظة الملك عبد الله على وعوده التي قطعها لهم بتأييد مشروع التقسيم .. فجرى الاتصال... وتبودلت الآراء والرغبات لعقد اجتماع بين اليهود وجلالته.
من مقال: الملك الأردني عبد الله الأول واتفاقات تسليم #فلسطين لليهود
بقلم: عبدالله التل - رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4kR0whs
من مقال: الملك الأردني عبد الله الأول واتفاقات تسليم #فلسطين لليهود
بقلم: عبدالله التل - رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4kR0whs
ومن عجائب القلوب أنها إذا تعلقت بالمقاييس المادية ضمرت حدود الرؤية فيها وضاق أفقها، برغم ظنها أنها أكثر حداثة ورُقيّاً، وإذا تعلقت بالله انفسحت لها أمداء الرؤية. وخذ مثالًا من أسباب النصر، فإن المقاتل المادي لا يفكر إلا في وسائل المواجهة التقليدية المعروفة، أما المؤمن فهو يعلم أن "جنود الله" لا يقدر عددها ونوعها وقوتها إلا هو، وما أكثر ما تكون مفاجئة للعدو، كما قال الله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]، وقال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الفتح: 4].
ومن أجلّ جنود الله الملائكة العظام كما قال الله: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة:26]، وقال سبحانه: ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة: 40].
بل ومن جنود الله العجيبة في نصر المؤمنين ما يسمونه اليوم: الكوارث الطبيعية، مثل الأعاصير والرياح والعواصف والزلازل والفيضانات، كما قال الله عن نبيه محمد ﷺ يوم الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾ [الأحزاب: 9]، وقال عن الفيضانات والمياه في قصة قوم نوح: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً﴾ [الفرقان: 37]، وقال عن فرعون في قصة موسى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ [الأعراف:136]، وقال سبحانه عن جنس ذلك: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [العنكبوت: 40]، وقال سبحانه: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ [الإسراء: 68-69].
وهذا باب معروف إن شاء الله، ولكن المقصود التذكير بسعة وتنوع وقوى جنود الله، وسعة أفق المجاهد المتوكل وضيق أفق المقاتل المادي.
الاستعانة بالحقائق
كم في كتاب الله من الحقائق التي إذا تدبرها المؤمن في هذا الزمن وأمام مثل هذه الملمّات أصبحت ركنًا شديدًا يأوي إليه؛ فحقائق القرآن من أجلّ المثبتات، ومن أعظم هذه المثبتات القرآنية أن لا ينحبس التفكير على جراحات المسلمين، فإن هذا قد يورث الفتور والتقاعس، بل نبّه القرآن على أمر هو في غاية العجب من الإرشادات النفسية، وهو أن يستحضر المؤمن أيضًا المآزق التي يعيشها الأعداء أيضًا، فإن هذا مما يقوي القلوب.
وقد جاء هذا الإرشاد النفسي في مواضع من كتاب الله، كقوله سبحانه: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: 140]، وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ [النساء: 104].
والذي يظهر –والله تعالى أعلم- أن هذا المعنى المذكور في هذه الآيات هو المغزى من ذكر التضعيف في قول الله: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ [آل عمران: 165]، فإنه وإن كان السياق سياق عتب، إلا أن ذكر تضعيف ما غرمه الكفار من قبل يراد به التعزية والتسلية والتصبير لرسول الله ﷺ وصحبه على ما أصابهم من المصيبة الحالية بأنكم قد أصبتم من الكفار ضعف ما أصابوا منكم، وهذا من جنس ما سبق في آيتي ذكر الاشتراك في القرح والألم.
وكل هذا يؤكد عناية القرآن بهذا الإرشاد النفسي في استحضار الاشتراك في التحديات وعدم الاستسلام لدعاية العدو في تهويل قوته والمبالغة في تقزيم قدرة المسلمين على التصدي لهم.
ولذلك فإنك ترى في كتاب الله أنه برغم ذكره لشدة كيد الكفار ومكرهم كقوله سبحانه: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم: 46]، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [سبأ: 33]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [نوح: 22]، إلا أن الله سبحانه يقوي قلوب المؤمنين ببيان هشاشة كل هذه الأحابيل والمكر والكيد الذي فتلوه، كما قال الله: ﴿فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].
ومن أجلّ جنود الله الملائكة العظام كما قال الله: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة:26]، وقال سبحانه: ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة: 40].
بل ومن جنود الله العجيبة في نصر المؤمنين ما يسمونه اليوم: الكوارث الطبيعية، مثل الأعاصير والرياح والعواصف والزلازل والفيضانات، كما قال الله عن نبيه محمد ﷺ يوم الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾ [الأحزاب: 9]، وقال عن الفيضانات والمياه في قصة قوم نوح: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً﴾ [الفرقان: 37]، وقال عن فرعون في قصة موسى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ [الأعراف:136]، وقال سبحانه عن جنس ذلك: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [العنكبوت: 40]، وقال سبحانه: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ [الإسراء: 68-69].
وهذا باب معروف إن شاء الله، ولكن المقصود التذكير بسعة وتنوع وقوى جنود الله، وسعة أفق المجاهد المتوكل وضيق أفق المقاتل المادي.
الاستعانة بالحقائق
كم في كتاب الله من الحقائق التي إذا تدبرها المؤمن في هذا الزمن وأمام مثل هذه الملمّات أصبحت ركنًا شديدًا يأوي إليه؛ فحقائق القرآن من أجلّ المثبتات، ومن أعظم هذه المثبتات القرآنية أن لا ينحبس التفكير على جراحات المسلمين، فإن هذا قد يورث الفتور والتقاعس، بل نبّه القرآن على أمر هو في غاية العجب من الإرشادات النفسية، وهو أن يستحضر المؤمن أيضًا المآزق التي يعيشها الأعداء أيضًا، فإن هذا مما يقوي القلوب.
وقد جاء هذا الإرشاد النفسي في مواضع من كتاب الله، كقوله سبحانه: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: 140]، وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ [النساء: 104].
والذي يظهر –والله تعالى أعلم- أن هذا المعنى المذكور في هذه الآيات هو المغزى من ذكر التضعيف في قول الله: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ [آل عمران: 165]، فإنه وإن كان السياق سياق عتب، إلا أن ذكر تضعيف ما غرمه الكفار من قبل يراد به التعزية والتسلية والتصبير لرسول الله ﷺ وصحبه على ما أصابهم من المصيبة الحالية بأنكم قد أصبتم من الكفار ضعف ما أصابوا منكم، وهذا من جنس ما سبق في آيتي ذكر الاشتراك في القرح والألم.
وكل هذا يؤكد عناية القرآن بهذا الإرشاد النفسي في استحضار الاشتراك في التحديات وعدم الاستسلام لدعاية العدو في تهويل قوته والمبالغة في تقزيم قدرة المسلمين على التصدي لهم.
ولذلك فإنك ترى في كتاب الله أنه برغم ذكره لشدة كيد الكفار ومكرهم كقوله سبحانه: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم: 46]، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [سبأ: 33]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [نوح: 22]، إلا أن الله سبحانه يقوي قلوب المؤمنين ببيان هشاشة كل هذه الأحابيل والمكر والكيد الذي فتلوه، كما قال الله: ﴿فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].
وبيّن أن هذا المكر مآله الإخفاق: ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر: 10] وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ [غافر: 25]، بل وذكّرهم بمكر سلفهم ونتائجه الخائبة فقال سبحانه: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 26]، ويجعلها سبحانه سنة من سننه: ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر:43 ]، وقال سبحانه: ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال:18 ].
والعاقل الذي يسبر التاريخ ويعرف أخبار الناس وأيامهم يعلم حتى ولو لم يبلغه الوحي أن كيد الخونة لا يثمر، ولذلك حكى الله سبحانه: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف: 52]، بل إن الذي يعلمه أهل الخبرة بأيام الناس ليس أن كيد الخونة لا يفلح فقط، بل كثيرًا ما ينقلب عليهم، كما قال الله: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ [الطور: 42]، وقال سبحانه: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النمل: 51].
وهذه التنبيهات المتكررة عن سقوط كيد الكفار مقصود بها تصفية شعور المؤمن قطعًا كما قال الله: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: 127]، وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النمل: 70]، لأنه كلما صفى باطن السلاح كان أنفذ لطلقاته. والأهم في هذا كله أن يعرف المؤمن طريق بطلان الكيد والمكر الكفري الكبّار، وهو مرةً أخرى: التعلق بالله وتقواه، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 120].
ومن حقائق القرآن: التي تشد أفئدة المؤمنين المستضعفين أن فتح أبواب الإمكانيات على عتاة الكفار هي اللحظات التي تسبق الأخذ الإلهي المباغت؛ كما قال الله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44]، وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: 95].
ومن أعظم المثبتات القرآنية: أن يستحضر المؤمن أن الله جل وعلا ينصر أولياءه بحسب ولايتهم بنوع رعب يلقيه فيه قلوب أعدائهم، كما قال الله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال: 12]، ولكن ما سبب هذا الرعب؟
الحقيقة أنه كما أن إفراد الله بالتعلق والتوكل عليه وتفويض الأمور إليه سبب لقوة القلب، فإن الشرك الذي مادته وينبوعه التعلق بغير الله هو سبب الرعب الذي يقع في قلوب الكفار، كما قال الله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 151]، ولذلك قال أبو العباس ابن تيمية عن مركزية قوة القلب: "الشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته".
ولذلك كثيرًا ما يتساؤل المتابعون: ما سبب شيوع الضعف المعنوي في مقاتلي الكفار؟
والحقيقة أن من أعظم ذلك هو هذا الكفر الذي في قلوبهم، فصار تعلقهم بغير الله سبحانه، وكل من تعلّق بغير الله لحقه من الخور والوهن بقدر ذلك، وقد نبّه القرآن على كثرة فرار الكفار في قتالهم في مواضع متعددة، منها قول الله: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: 111]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الفتح:22]، وقال سبحانه: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: 12].
والعاقل الذي يسبر التاريخ ويعرف أخبار الناس وأيامهم يعلم حتى ولو لم يبلغه الوحي أن كيد الخونة لا يثمر، ولذلك حكى الله سبحانه: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف: 52]، بل إن الذي يعلمه أهل الخبرة بأيام الناس ليس أن كيد الخونة لا يفلح فقط، بل كثيرًا ما ينقلب عليهم، كما قال الله: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ [الطور: 42]، وقال سبحانه: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النمل: 51].
وهذه التنبيهات المتكررة عن سقوط كيد الكفار مقصود بها تصفية شعور المؤمن قطعًا كما قال الله: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: 127]، وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النمل: 70]، لأنه كلما صفى باطن السلاح كان أنفذ لطلقاته. والأهم في هذا كله أن يعرف المؤمن طريق بطلان الكيد والمكر الكفري الكبّار، وهو مرةً أخرى: التعلق بالله وتقواه، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 120].
ومن حقائق القرآن: التي تشد أفئدة المؤمنين المستضعفين أن فتح أبواب الإمكانيات على عتاة الكفار هي اللحظات التي تسبق الأخذ الإلهي المباغت؛ كما قال الله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44]، وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: 95].
ومن أعظم المثبتات القرآنية: أن يستحضر المؤمن أن الله جل وعلا ينصر أولياءه بحسب ولايتهم بنوع رعب يلقيه فيه قلوب أعدائهم، كما قال الله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال: 12]، ولكن ما سبب هذا الرعب؟
الحقيقة أنه كما أن إفراد الله بالتعلق والتوكل عليه وتفويض الأمور إليه سبب لقوة القلب، فإن الشرك الذي مادته وينبوعه التعلق بغير الله هو سبب الرعب الذي يقع في قلوب الكفار، كما قال الله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 151]، ولذلك قال أبو العباس ابن تيمية عن مركزية قوة القلب: "الشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته".
ولذلك كثيرًا ما يتساؤل المتابعون: ما سبب شيوع الضعف المعنوي في مقاتلي الكفار؟
والحقيقة أن من أعظم ذلك هو هذا الكفر الذي في قلوبهم، فصار تعلقهم بغير الله سبحانه، وكل من تعلّق بغير الله لحقه من الخور والوهن بقدر ذلك، وقد نبّه القرآن على كثرة فرار الكفار في قتالهم في مواضع متعددة، منها قول الله: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: 111]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الفتح:22]، وقال سبحانه: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: 12].
ومن أسباب هذا أن القلب إذا خلا من التعلق بالله تعلّق بالدنيا، كما قال الله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: 96]. فكلما شمخ المؤمن في أفلاك التعلق بالله زادت طمأنينته وسكينته وقوة قلبه، وكلما شَرَكَ الكفار وشاطرهم شيئًا من التعلق بغير الله اعتراه من الرعب على قدر ما شاركهم، وهذا فرع عن قاعدة: "تبعيض الجزاء بقدر العمل"، وهي قاعدة نافعة عظيمة في تدبر الأعمال والجزاءات في القرآن، في باب الثواب وباب العقاب كليهما، وجوهر هذا الأصل هو "التحذير من مشابهة الفعل بالفعل، لا إلحاق الفاعل بالفاعل"، وسبق نشر شيء عنها، وسأنشر لاحقًا المزيد بإذن الله من تطبيقات النبي ﷺ وأصحابه فيها.
ومن أعظم المثبّتات: أن يوقن المؤمن أن هذه التحالفات الفاسدة، وهذه الخيانات التي يتذلل فيها الضعفاء للمستمكنين، سيأتي يوم قريب يتنصل فيها بعضهم من بعض، كما قال الله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 166-167].
ومن معاني القرآن في مثل هذه الساعات أن يستحضر المؤمن أن الله جل وعلا حين ذكر في كتابه آية (حياة الشهداء): ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾ [البقرة: 154]، أعقبها فورًا بذكر صنوف الابتلاء: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: 155]، فيرتفع ثواب الشهادة بقدر مصابرة المجاهد على لأواء طريقها، إنه أوان البأس الذي رفع الله شأن الصبر فيه حين قال: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، وحين البأس: هو أوان شدة القتال في سبيل الله كما قال أهل التفسير، وقارن مدح الله المؤمنين بالصبر أوان البأس بذمه فرار المنافقين منه في قوله: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 18].
ومن أعظم المثبتات القرآنية حال ملاحم أهل الإسلام: أن يستحضر المؤمن أن إخوانه الذين سبقوه على طريق سنام الإسلام ورأوا بإذن الله من كرامة الله لهم ما صاروا به.. يستبشرون بمن ما زال على الطريق، كما قال الله: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 170]، ومن أعظم المثبّتات القرآنية أن يوقن المؤمن أن ما يعتري قلبه بين فينة وأخرى من التخويف والترهيب من تحزب أمم الكفر إنما هو من الشيطان الذي يخوّف المسلمين بأوليائه الكفار كما قال الله: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، أي: "يخوفكم أولياءَه الكفار" كما قال أهل التفسير.
ومن أعظم المثبّتات القرآنية أن يتدبر المؤمن في كتاب الله أغراض الإملاء للكفار؛ كقول الله سبحانه: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، وقوله سبحانه: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 183]، وقوله سبحانه: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55-56].
وهذه مجرد أمثال ونماذج، وليس المقصود طبعًا الاستقصاء والتتبع، وهي حقائق قرآنية إذا تدبرها المؤمن وعَقَلها وعاش معناها كانت له من أعظم العون في مواجهة مثل هذه الدواهي العظام التي تطوّق أهل الإسلام، فكم في تدبر القرآن من ظهير وسند!
ومن أعظم المثبّتات: أن يوقن المؤمن أن هذه التحالفات الفاسدة، وهذه الخيانات التي يتذلل فيها الضعفاء للمستمكنين، سيأتي يوم قريب يتنصل فيها بعضهم من بعض، كما قال الله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 166-167].
ومن معاني القرآن في مثل هذه الساعات أن يستحضر المؤمن أن الله جل وعلا حين ذكر في كتابه آية (حياة الشهداء): ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾ [البقرة: 154]، أعقبها فورًا بذكر صنوف الابتلاء: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: 155]، فيرتفع ثواب الشهادة بقدر مصابرة المجاهد على لأواء طريقها، إنه أوان البأس الذي رفع الله شأن الصبر فيه حين قال: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، وحين البأس: هو أوان شدة القتال في سبيل الله كما قال أهل التفسير، وقارن مدح الله المؤمنين بالصبر أوان البأس بذمه فرار المنافقين منه في قوله: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 18].
ومن أعظم المثبتات القرآنية حال ملاحم أهل الإسلام: أن يستحضر المؤمن أن إخوانه الذين سبقوه على طريق سنام الإسلام ورأوا بإذن الله من كرامة الله لهم ما صاروا به.. يستبشرون بمن ما زال على الطريق، كما قال الله: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 170]، ومن أعظم المثبّتات القرآنية أن يوقن المؤمن أن ما يعتري قلبه بين فينة وأخرى من التخويف والترهيب من تحزب أمم الكفر إنما هو من الشيطان الذي يخوّف المسلمين بأوليائه الكفار كما قال الله: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، أي: "يخوفكم أولياءَه الكفار" كما قال أهل التفسير.
ومن أعظم المثبّتات القرآنية أن يتدبر المؤمن في كتاب الله أغراض الإملاء للكفار؛ كقول الله سبحانه: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، وقوله سبحانه: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 183]، وقوله سبحانه: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55-56].
وهذه مجرد أمثال ونماذج، وليس المقصود طبعًا الاستقصاء والتتبع، وهي حقائق قرآنية إذا تدبرها المؤمن وعَقَلها وعاش معناها كانت له من أعظم العون في مواجهة مثل هذه الدواهي العظام التي تطوّق أهل الإسلام، فكم في تدبر القرآن من ظهير وسند!
كانت اتصالات الملك عبد الله باليهود مستمرة، ويعلم بها أهل عمان وخاصة الذين يترددون على قصره. وقد كان جلالته يحضر اليهود إلى القصر عن طريق مطار عمان حيث تنزل بهم الطائرة وكأنها طائرة بريطانية فلا يجرؤ أحد على التعرض لها.
من مقال: الملك الأردني عبد الله الأول واتفاقات تسليم #فلسطين لليهود
بقلم: عبدالله التل - رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4kR0whs
من مقال: الملك الأردني عبد الله الأول واتفاقات تسليم #فلسطين لليهود
بقلم: عبدالله التل - رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4kR0whs
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
إن رمضان مدرسة مغبون مَن خرج منها كأن لم يكن دخلها، #رمضان مدرسة ربى رسول الله ﷺ أصحابه فيها فكانوا خير الناس من بعده وتربى التابعون ومن بعدهم فيها
من مقال: رمضان مدرسة الأجيال
بقلم: د. ناصر العمر - فك الله أسره
استمع الآن إلى المقال كاملاً 🎧
من مقال: رمضان مدرسة الأجيال
بقلم: د. ناصر العمر - فك الله أسره
استمع الآن إلى المقال كاملاً 🎧
لقد ضجت الأمة العربية وهي تسمع هذا الكلام... وتمنت لو سقطت كل الأنظمة الثورية والتقدمية، ومعها جميع الملوك والرؤساء، قبل أن يسقط حجر واحد في بيت المقدس، أو تهتز حبة رمل في #سيناء، أو تقصف قشة في الجولان.
من مقال: ليت الحكام والملوك سقطوا ولم تسقط القدس
بقلم: أحمد الشقيري - رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4bXZH2p
من مقال: ليت الحكام والملوك سقطوا ولم تسقط القدس
بقلم: أحمد الشقيري - رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4bXZH2p
لقد سقط بيت المقدس وحكام العرب والمسلمون متشاغلون عن الجهاد!
ورحت أبحث عن النكبات الكبرى في تاريخ العروبة والإسلام لأستعير كلاماً يخفف المصاب.. فلم أجد.
هل أقول وإسلاماه؟ لا، إن المصاب أعظم.
هل أقول وامعتصماه؟ لا، إن الكارثة أدهى. لم أستطع أن أتكلم.
من مقال: ليت الحكام والملوك سقطوا ولم تسقط القدس
بقلم: أحمد الشقيري - رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4bXZH2p
ورحت أبحث عن النكبات الكبرى في تاريخ العروبة والإسلام لأستعير كلاماً يخفف المصاب.. فلم أجد.
هل أقول وإسلاماه؟ لا، إن المصاب أعظم.
هل أقول وامعتصماه؟ لا، إن الكارثة أدهى. لم أستطع أن أتكلم.
من مقال: ليت الحكام والملوك سقطوا ولم تسقط القدس
بقلم: أحمد الشقيري - رحمه الله
اقرأ المقال كاملاً: https://bit.ly/4bXZH2p