tgoop.com/arte_iq/3778
Last Update:
لقد عشتُ الحُلمَ. هكذا بدأتُ عامي الخامس والعشرين، معَ الشَّاعِرِ العربيِّ المغربيِّ، الشاعرِ الأبهى والأحبِّ، الأندلسيّ القرطبيّ، الهاجر لكلِّ وزارةٍ وسلطَان: محمَّد بنِّيس. في جولةٍ أو تنقُّلٍ حُلميٍّ في بغدادَ ممتزجٍ بإشراقِ فاسَ وسطوةِ الشِّعرِ الرقيقَةِ يُسَوِّرُنا شذَى الحُلمِ. مأخُوذًا ببهاءِ حضورِه وجمَالِ كلامِهِ كنتُ أُنصِتُ إِليهِ يحدِّثُنا عَن فاس والشِّعْر والترجمَة. عن (ما قبلَ الكلامِ). عن مواسمِ الشَّرق وكتاب الحب. عن مالارمي وَالأزرق، أزرقِهِ، الكامن في كلِّ شيءٍ ومكان، وأزرق مالارمي. عن رامبو وبودلير وباطاي وهولدرلين والسيَّاب. قُلتُ أحبُّ قصائدَك التي أسميتَها (إليك) في كِتاب الحبِّ فتفضَّلَ عليَّ حدَّدَ لِي دلالةَ الاسمِ وزَادَ المكَانَ ألقًا بعدَ أن قرأ بصوتِهِ الهَادِئ سطورًا منها، وكأنَّه يُلقِي تعويذةً ما سحر الكلماتِ أو سحر الصوت: هُبوبُ يدٍ منَ النِّسيانِ. تبسِطُ لي وداعتَها. (فَلَا تخشَ أن تكونَ. أنت.)عثرتُ عليَّ فيكِ. أنتِ وحدكِ. عَطَشِي. هذهِ مضايقُ أفضَت بِي. إِلَى مَا لَا تَعرِفُ عَنْهُ شيئاً. أيُّهَا العَابِثُ بِي.
الأقواسُ من عندي.
مشينا في شارعِ المتنبِّي، وذهبنا إلى جامع الخلفاءِ، وزرنا كنيسةَ اللاتين حيث قَبرُ الأب أنستاس ماري الكرملي. في الكنيسةِ، كان لي، وأنا بقربهِ، حظُّ أَن أسمَعَه يتكلَّم بالفرنسيَّةِ حينَ قرأ: Que ta volonté soit faite sur la terre comme au ciel. ثمَّ ترجمهَا. وفي اليوم التالي، يوم المتصوفةِ في قسمهِ الأوّل، ذهبنا إلى الحلَّاجِ وإلى معروف الكرخيِّ. ربما كنَّا في حالةٍ من النشْوةِ الروحيةِ. قرأ من شعرِ الحلَّاج وحدَّثنا عن الصوفية والمسيحية. وبالطبع، لم تخلو هذه الزيارات من ملاحظاتهِ الممتزجةِ بالمرارةِ عن المعمارِ والحالِ الذي كانت عليهِ هذه المعالم. ثمَّ دخلنا مقهى حسن عجمي. وهناك حدَّثنِي عنِ المغامرةِ في الشِّعر والكلمة، وكيفَ أن للمغامرةِ نصيبها من النجاحِ والإخفاقِ، وحينَ سألتُهُ هل كانتِ الرِّحلَةُ تستحقُّ، قالَ لِي: كلُّ مَا قمتُ بهِ كانَ من أجلِ القصيدَةِ، حتَّى ما فعلتُهُ خارجَ الشِّعر.
وفي نهاية اليوم، كانت له أمسيةٌ، قرأ فيها واحدة من أحبِّ القصائد، كأنّه يختَتِمُ الجمال:
أنا الأندلسيّ المقيم بين لذائذ الوصل
وحشرجات البين
أنا الظاهريّ
القرطبيّ
الهاجرُ لكلّ وزارةٍ وسلطان
أنا الذي ربّيت بين حجور النساء
بين أيديهنّ نشأت
وهنّ اللواتي علمنني الشعر والخطّ والقرآن
ومن أسرارهنّ علمتُ ما لا يكاد يعلمه غيري
أنا الذي يقول: الموت أسهل من الفراق
هذه شريعتي
نعم، كنتُ أمشي في شوارِع بغدادَ معَ إِنسانٍ يحيا في الشِّعر، في الكلماتِ وإيقاعاتِها، في القصيدةِ، في عذُوبةِ الأزرقِ. التقطنا الصُّورَ. وتبادلنَا الضَّحكات. أيُّ شرفٍ وبهاء. عبَّرتُ عن أمنية أمامَه: أن لا ينتهي هذا الحلم.
في الصورة: الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمَّد بنِّيس، المجلَّد الأوَّل، بإهداءٍ شخصيٍّ مِنه.
في النهاية لا بُد من شكر الحبيب الشاعر علي العطّار والذي لولاه لما حظيت بهذا الجمال كلّه.
BY ياسر هدايت
Share with your friend now:
tgoop.com/arte_iq/3778