BADRTH313 Telegram 297
التخصص الانتقالي:
————————-
تشيع في أوساط طلاب العلم أحاديث عن ثنائية "التخصص" و "التفنن"، وهذا تبسيط مخل.
ما أريد قوله هنا فكرة لطالما آمنتُ بها؛ ألا وهي تفكيك النظر للتخصص إلى مجموعة أجزاء.
التخصص -الأكاديمي- يعبر إدوارد سعيد بأنه "ضغط" على المثقف.
ومما قاله عن الضغوط الأربعة:
" أما أول هذه الضغوط فهو التخصص ، فكلما ارتقى المرء في مدارج النظام التعليمى اليوم، از داد انحصاره في النطاق الضيق نسبيًا لمجال من مجالات المعرفة.
ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يعترض على اكتساب المقدرة والكفاءة في ذاته، ولكنه إذا أدى إلى إغفال النظر إلى كل ما لا ينتمى إلى المجال المباشر للتخصص [أي: هنا يكمن الاعتراض] [1]
تقسيم العلوم إلى وسائل وغايات ليس حاصرًا، فتوظيف العلوم لا يكون بهذا التجريد الأولي.

في المعرفة التراثية إدراك خفي لرتبة "التخصص الانتقالي"، فسيدنا ابن عباس كان آية في معرفة الشعر وأيام العرب؛ لكنه بتعبير الأكاديميا "متخصص" في التفسير، والتخصص الانتقالي تراه عند الإمام الشافعي حين استفتح حياته بالتبصر في الشعر فأنتج لنا رسالته المؤسسة لحقل الأصول، أبو جعفر الطبري شيخ المفسرين له تخصصات انتقالية أهلته للتفسير، الطاهر ابن عاشور جعل من اهتمامه البلاغي تخصصًا انتقاليًا لتخرج لنا تحريراته وتنويراته.
أحب في هذا المقام فكرة مجاهد ابن جبر -تلميذ ابن عباس- حين قال:
"استفرغ علمي القرآن"[1]
وأفهم منه أن تفسيره كان مصبًا لتخصصات انتقالية مسبقة.
هل هناك فرق بين الكلام عن آلات العلوم وبين التخصصات الانتقالية؟
نعم؛ فآلة علم معين تكون جزءًا منه ولو بلون آخر، فالمتعلم يتعلمها وعينه على تخصصه، يرى الآلة هامشًا مؤقتًا.
أما التخصص الانتقالي فمعناه التوافر على علم وكأنك لن تتقن غيره، حتى إذا حصلت ذوق الفن، وصرت من أهله، اتخذت هذه الملكة جواز سفر لعلمٍ آخر.
أنت في التخصص الانتقالي تتعلم النحو كأهله؛ ولا تتعلم نحو الفقهاء.

انظر لهذين النصين لمتقدم ومتأخر؛ لكن سمت المعرفة الشرعية التراثية له بصمته الموحدة، بخلاف روح التخصص الأكاديمي المعاصر:

1- جاء في الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى هذا النص:

"وحكى بدر الدين القرافي إن الإمام الشافعي كان يقول ما معناه: دأبت فِي قراءة علم التّارِيخ كَذا وكَذا سنة وما قرأته إلّا لأستعين به على الفقه" [3]

هذه قراءة تخصص انتقالي، لا يراد منها المعلومات، وإنما الملكات.

2- كان العلامة عبدالحميد الفراهي [ت: 1349 هـ] يقول:
"كلما ازددت علمًا واحدًا ازددت علومًا فيما علمت" [4]

وهذه عبارة مشرقة تحمل من المعاني أضعاف ظاهرها اللفظي.

ما نتيجة ما أريد قوله؟
سأذكر رؤوس أقلام تحتاج بسطًا في ورقة:
1- طبيعة المعرفة الشرعية أوسع من ضيق التخصصات الأكاديمية ولو كانت شرعية.
2- الإبداع العلمي في العلوم الشرعية يكون بتفعيل "التخصص الانتقالي"؛ أما استجلاب أدوات العلوم الإنسانية في المباحث الشرعية فعصا الأعمى الذي يحس بوجود انسداد لكن لا يعرف المخرج.
3- التخصص -في الأصل- محطة عبور لا نقطة وصول.
4- التخصص الجامد بصيغته الأكاديمية لا يفني العمر فقط؛ ولكنه يعطل الملكات، ويضيق المدارك.
5- وصف من لا يحمل شهادة الأكاديميا المقدسة في الشريعة بأنه من هواة المجال لا متخصصيه يعرقل مسيرة الإحياء العلمي؛ فطبيعة العلوم الشرعية والعربية لا تحتمل قوالب الأكاديميا، وحصرها تضييق يساهم في الإضعاف أكثر.

وللحديث ذيول تبسط هذه الإشارات.

———
[1] المثقف والسلطة، إدوارد سعيد، ترجمة: محمد عنان ص133-134
[2]فضائل القرآن للقاسم بن سلام (1/ 101)
[3]الاستقصا (1/ 59)
[4] دلائل النظام ص46



tgoop.com/badrth313/297
Create:
Last Update:

التخصص الانتقالي:
————————-
تشيع في أوساط طلاب العلم أحاديث عن ثنائية "التخصص" و "التفنن"، وهذا تبسيط مخل.
ما أريد قوله هنا فكرة لطالما آمنتُ بها؛ ألا وهي تفكيك النظر للتخصص إلى مجموعة أجزاء.
التخصص -الأكاديمي- يعبر إدوارد سعيد بأنه "ضغط" على المثقف.
ومما قاله عن الضغوط الأربعة:
" أما أول هذه الضغوط فهو التخصص ، فكلما ارتقى المرء في مدارج النظام التعليمى اليوم، از داد انحصاره في النطاق الضيق نسبيًا لمجال من مجالات المعرفة.
ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يعترض على اكتساب المقدرة والكفاءة في ذاته، ولكنه إذا أدى إلى إغفال النظر إلى كل ما لا ينتمى إلى المجال المباشر للتخصص [أي: هنا يكمن الاعتراض] [1]
تقسيم العلوم إلى وسائل وغايات ليس حاصرًا، فتوظيف العلوم لا يكون بهذا التجريد الأولي.

في المعرفة التراثية إدراك خفي لرتبة "التخصص الانتقالي"، فسيدنا ابن عباس كان آية في معرفة الشعر وأيام العرب؛ لكنه بتعبير الأكاديميا "متخصص" في التفسير، والتخصص الانتقالي تراه عند الإمام الشافعي حين استفتح حياته بالتبصر في الشعر فأنتج لنا رسالته المؤسسة لحقل الأصول، أبو جعفر الطبري شيخ المفسرين له تخصصات انتقالية أهلته للتفسير، الطاهر ابن عاشور جعل من اهتمامه البلاغي تخصصًا انتقاليًا لتخرج لنا تحريراته وتنويراته.
أحب في هذا المقام فكرة مجاهد ابن جبر -تلميذ ابن عباس- حين قال:
"استفرغ علمي القرآن"[1]
وأفهم منه أن تفسيره كان مصبًا لتخصصات انتقالية مسبقة.
هل هناك فرق بين الكلام عن آلات العلوم وبين التخصصات الانتقالية؟
نعم؛ فآلة علم معين تكون جزءًا منه ولو بلون آخر، فالمتعلم يتعلمها وعينه على تخصصه، يرى الآلة هامشًا مؤقتًا.
أما التخصص الانتقالي فمعناه التوافر على علم وكأنك لن تتقن غيره، حتى إذا حصلت ذوق الفن، وصرت من أهله، اتخذت هذه الملكة جواز سفر لعلمٍ آخر.
أنت في التخصص الانتقالي تتعلم النحو كأهله؛ ولا تتعلم نحو الفقهاء.

انظر لهذين النصين لمتقدم ومتأخر؛ لكن سمت المعرفة الشرعية التراثية له بصمته الموحدة، بخلاف روح التخصص الأكاديمي المعاصر:

1- جاء في الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى هذا النص:

"وحكى بدر الدين القرافي إن الإمام الشافعي كان يقول ما معناه: دأبت فِي قراءة علم التّارِيخ كَذا وكَذا سنة وما قرأته إلّا لأستعين به على الفقه" [3]

هذه قراءة تخصص انتقالي، لا يراد منها المعلومات، وإنما الملكات.

2- كان العلامة عبدالحميد الفراهي [ت: 1349 هـ] يقول:
"كلما ازددت علمًا واحدًا ازددت علومًا فيما علمت" [4]

وهذه عبارة مشرقة تحمل من المعاني أضعاف ظاهرها اللفظي.

ما نتيجة ما أريد قوله؟
سأذكر رؤوس أقلام تحتاج بسطًا في ورقة:
1- طبيعة المعرفة الشرعية أوسع من ضيق التخصصات الأكاديمية ولو كانت شرعية.
2- الإبداع العلمي في العلوم الشرعية يكون بتفعيل "التخصص الانتقالي"؛ أما استجلاب أدوات العلوم الإنسانية في المباحث الشرعية فعصا الأعمى الذي يحس بوجود انسداد لكن لا يعرف المخرج.
3- التخصص -في الأصل- محطة عبور لا نقطة وصول.
4- التخصص الجامد بصيغته الأكاديمية لا يفني العمر فقط؛ ولكنه يعطل الملكات، ويضيق المدارك.
5- وصف من لا يحمل شهادة الأكاديميا المقدسة في الشريعة بأنه من هواة المجال لا متخصصيه يعرقل مسيرة الإحياء العلمي؛ فطبيعة العلوم الشرعية والعربية لا تحتمل قوالب الأكاديميا، وحصرها تضييق يساهم في الإضعاف أكثر.

وللحديث ذيول تبسط هذه الإشارات.

———
[1] المثقف والسلطة، إدوارد سعيد، ترجمة: محمد عنان ص133-134
[2]فضائل القرآن للقاسم بن سلام (1/ 101)
[3]الاستقصا (1/ 59)
[4] دلائل النظام ص46

BY قناة بدر آل مرعي


Share with your friend now:
tgoop.com/badrth313/297

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

With Bitcoin down 30% in the past week, some crypto traders have taken to Telegram to “voice” their feelings. Telegram iOS app: In the “Chats” tab, click the new message icon in the right upper corner. Select “New Channel.” But a Telegram statement also said: "Any requests related to political censorship or limiting human rights such as the rights to free speech or assembly are not and will not be considered." fire bomb molotov November 18 Dylan Hollingsworth yau ma tei Private channels are only accessible to subscribers and don’t appear in public searches. To join a private channel, you need to receive a link from the owner (administrator). A private channel is an excellent solution for companies and teams. You can also use this type of channel to write down personal notes, reflections, etc. By the way, you can make your private channel public at any moment.
from us


Telegram قناة بدر آل مرعي
FROM American