FAHADALAJLAN Telegram 358
يتردَّد عند عددٍ من المعاصرين نقد موقف السلف في مسألة خلق القرآن، فالقضية في نظرهم كان فيها إغراق في نزاعٍ لفظي، أو تكلُّف ما أنزل الله به من سلطانٍ، أو أنَّ الموقف كان فيه مبالغة أو تضخيم عن حقيقته، ويأتي توجيه النقد في هذا بصورة أكبر للإمام أحمد رحمه الله.

وهذا النقد في الحقيقة عند المعاصرين مسبوق بكلام بعض المتأخرين.

وهذا النقد لا يوجه إلى بعض المواقف الخاصة أو الجزئيات المتعلقة بهذه المسألة، وإنما يأتي على أصل هذه المسألة.

والحق أنَّ هذا تصور ساذج وقاصر جدًا، فالموقف في هذه القضية لم يكن رأيًا خاصًا لأحمد أو لفئةٍ معينةٍ تابعة له، أو تأثر بها بحيث يمكن أن يقال فيها مثل هذا الكلام، وإنما هو موقف طبقات متتابعة من أئمة السلف، في عصر الإمام أحمد، وقبله بكثيرٍ، فهو إجماع متوارث سائر على مسلك واحد، فالتعامل معه بهذه الطريقة هو تسذيج وتسطيح لموقف هؤلاء الأئمة في المسائل الكبار.

فإذا جئت إلى مسائل مما أجمع عليها أكابر هذه الأمة فلم تفهم وجه ذلك، فإنَّ العاقل يجعل هذا سببًا لأن يراجع نفسه ويفحص موقفه حتى يصحح فهمه، لا أن يبحث عن تفسيرٍ لما لم يفهمه، بل الواجب عليه أن يفهم الأمر على حقيقته، فهو كمن ينظر في حادثة قتال الردة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فلا يفهم وجه ما حدث، ويرى أنه مخالف لأصول الشريعة، ثم يبحث عن تفسير ذلك، فالعقل يقول له لا تبحث عن تفسيرٍ لفهمك الخاطئ، وإنما ارجع فحاول تصحيح فهمك.

ولهذا فموقف السلف الشديد من هذه المسألة كاشف عن علمٍ بالشرع، وبصيرةٍ وعقلٍ وفهم، فهذا الموقف له عدة دوافع، من أهم هذه الدوافع: صيانة الفهم الصحيح لخطاب الوحي، وضمان معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فالخلل في هذا الباب خطر جدًا لأنه يؤثر على أصل الفهم عن الله وعن رسوله، ويعبث بمفاتيح الوصول إلى الحق.

فالقول بخلق القرآن ليس نزاعًا لفظيًا في عبارةٍ تطلق على القرآن أو تنفى عنه أو يتورَّع الشخص فيسكت عن الأمرين، وإنما هو ثمرة ونتيجة للموقف من صفة الكلام لله تعالى، والموقف من هذه الصفة هو في سياق الموقف من أسماء الله وصفاته، وهذا الموقف مستفاد من آيات كثيرةٍ في القرآن الكريم، ومن أحاديث متواترة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتحريف هذه النصوص كلها، وتأويلها على غير ظاهرها المقصود يحفر إشكالًا عظيمًا في كيفية فهم خطاب الوحي، ومعرفة مراد الله، ويضع العوائق ويعمق الصوارف الصادة عن الحق.

ويزيد من تعميق الإشكال أكثر ويوسع ضرره أنه مبني على أصول عقلية مسبقة تحاكم إليها دلائل الوحي، فلا يكون خطاب الوحي هو الأساس الذي يحتكم إليه عند الاختلاف، وإنما هو خاضع لهذا المنهج المحدث.

ولهذا يشيع في آثار السلف تأكيد هذا المعنى كثيرًا، والتعبير عنه بمعانٍ مختلفة، من ذلك ما قاله الإمام أحمد: (ما أحدٌ على أهل الإسلام أضرّ من الجهميّة، ما يريدون إلّا إبطال القرآن وأحاديث رسول الله).

وحين نذهب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من أخبر الناس بهذه المسألة، ومن أعلم الناس بالخلاف الكلامي مع مذهب السلف وآثاره، فإنك تجده يكرر هذا المعنى كثيرًا، ويثبته في مفصَّل المسائل، فيقول مثلاً في بعض آثار هذا الخلل في الفهم: (فإنه بهذا الطريق تمكنت القرامطة الزنادقة الملاحدة من إفساد دين الإسلام؛ حيث احتجوا على كل مبتدع بما وافقهم عليه من البدعة من النفي والتعطيل، وألزموه لازم قوله، حتى قرروا التعطيل المحض).            

ويذكر الشيخ من أمثلة ذلك استطالة الفلاسفة على المتكلمين، فألزموهم بتأويل ما جاء من نصوص الجنة والنار والبعث الحقيقي للأجساد كما تأولوا آيات الصفات، فإذا فتحت باب التأويل على غير هدى، وسوغت تحريف الدلائل القطعية في بابٍ معين، فإنَّ هذا يضرب أصل باب الفهم، ويكسر قاعدة الاستدلال، ويجعل تمسكك بالقطع في بابٍ دون بابٍ لا معنى له، فما معنى أن تشدد في الآيات الواردة في الجنة والنار والبعث وتكفر من ينكرها، وأنت تتأول نفس النصوص القطعية في بابٍ آخر؟

ويقال مثل هذا مع بعض المعاصرين، فإذا هونت من المنهج الذي يتأول النصوص في باب الاعتقاد عن الله بناءً على أصوله العقلية المحدثة، فكيف يستقيم لك الرد على التأويل الحداثي المعاصر الذي يتأول كافة الأحكام والشرائع بناءً على منهج عقلي محدث؟!

فلا معنى لأن تتمسَّك بالقطعية في هذا الباب، وتشدد النكير على من يخالفه إلا بعد أن يستقر عندك وجود فهم قطعي، ودلائل ظاهرة،  وإجماعٍ للأمة، قائم على منهج التسليم لله ورسوله، والاحتكام لخطاب الوحي عند الاختلاف، والخلاف في مسألة خلق القرآن يعبث بهذه المنطلقات كلها.

ولهذا شدد السلف في هذا الباب لأنهم يريدون حفظ الدين كله، بخلاف غيرهم ممن يدرك أهمية حفظ الدين في باب دون بابٍ، فهو يشدد على التحريف في الباب الذي يدرك خطورته، ويستهين بما عداه، أو لا يتفطن للخلل فيه.



tgoop.com/fahadalajlan/358
Create:
Last Update:

يتردَّد عند عددٍ من المعاصرين نقد موقف السلف في مسألة خلق القرآن، فالقضية في نظرهم كان فيها إغراق في نزاعٍ لفظي، أو تكلُّف ما أنزل الله به من سلطانٍ، أو أنَّ الموقف كان فيه مبالغة أو تضخيم عن حقيقته، ويأتي توجيه النقد في هذا بصورة أكبر للإمام أحمد رحمه الله.

وهذا النقد في الحقيقة عند المعاصرين مسبوق بكلام بعض المتأخرين.

وهذا النقد لا يوجه إلى بعض المواقف الخاصة أو الجزئيات المتعلقة بهذه المسألة، وإنما يأتي على أصل هذه المسألة.

والحق أنَّ هذا تصور ساذج وقاصر جدًا، فالموقف في هذه القضية لم يكن رأيًا خاصًا لأحمد أو لفئةٍ معينةٍ تابعة له، أو تأثر بها بحيث يمكن أن يقال فيها مثل هذا الكلام، وإنما هو موقف طبقات متتابعة من أئمة السلف، في عصر الإمام أحمد، وقبله بكثيرٍ، فهو إجماع متوارث سائر على مسلك واحد، فالتعامل معه بهذه الطريقة هو تسذيج وتسطيح لموقف هؤلاء الأئمة في المسائل الكبار.

فإذا جئت إلى مسائل مما أجمع عليها أكابر هذه الأمة فلم تفهم وجه ذلك، فإنَّ العاقل يجعل هذا سببًا لأن يراجع نفسه ويفحص موقفه حتى يصحح فهمه، لا أن يبحث عن تفسيرٍ لما لم يفهمه، بل الواجب عليه أن يفهم الأمر على حقيقته، فهو كمن ينظر في حادثة قتال الردة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فلا يفهم وجه ما حدث، ويرى أنه مخالف لأصول الشريعة، ثم يبحث عن تفسير ذلك، فالعقل يقول له لا تبحث عن تفسيرٍ لفهمك الخاطئ، وإنما ارجع فحاول تصحيح فهمك.

ولهذا فموقف السلف الشديد من هذه المسألة كاشف عن علمٍ بالشرع، وبصيرةٍ وعقلٍ وفهم، فهذا الموقف له عدة دوافع، من أهم هذه الدوافع: صيانة الفهم الصحيح لخطاب الوحي، وضمان معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فالخلل في هذا الباب خطر جدًا لأنه يؤثر على أصل الفهم عن الله وعن رسوله، ويعبث بمفاتيح الوصول إلى الحق.

فالقول بخلق القرآن ليس نزاعًا لفظيًا في عبارةٍ تطلق على القرآن أو تنفى عنه أو يتورَّع الشخص فيسكت عن الأمرين، وإنما هو ثمرة ونتيجة للموقف من صفة الكلام لله تعالى، والموقف من هذه الصفة هو في سياق الموقف من أسماء الله وصفاته، وهذا الموقف مستفاد من آيات كثيرةٍ في القرآن الكريم، ومن أحاديث متواترة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتحريف هذه النصوص كلها، وتأويلها على غير ظاهرها المقصود يحفر إشكالًا عظيمًا في كيفية فهم خطاب الوحي، ومعرفة مراد الله، ويضع العوائق ويعمق الصوارف الصادة عن الحق.

ويزيد من تعميق الإشكال أكثر ويوسع ضرره أنه مبني على أصول عقلية مسبقة تحاكم إليها دلائل الوحي، فلا يكون خطاب الوحي هو الأساس الذي يحتكم إليه عند الاختلاف، وإنما هو خاضع لهذا المنهج المحدث.

ولهذا يشيع في آثار السلف تأكيد هذا المعنى كثيرًا، والتعبير عنه بمعانٍ مختلفة، من ذلك ما قاله الإمام أحمد: (ما أحدٌ على أهل الإسلام أضرّ من الجهميّة، ما يريدون إلّا إبطال القرآن وأحاديث رسول الله).

وحين نذهب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من أخبر الناس بهذه المسألة، ومن أعلم الناس بالخلاف الكلامي مع مذهب السلف وآثاره، فإنك تجده يكرر هذا المعنى كثيرًا، ويثبته في مفصَّل المسائل، فيقول مثلاً في بعض آثار هذا الخلل في الفهم: (فإنه بهذا الطريق تمكنت القرامطة الزنادقة الملاحدة من إفساد دين الإسلام؛ حيث احتجوا على كل مبتدع بما وافقهم عليه من البدعة من النفي والتعطيل، وألزموه لازم قوله، حتى قرروا التعطيل المحض).            

ويذكر الشيخ من أمثلة ذلك استطالة الفلاسفة على المتكلمين، فألزموهم بتأويل ما جاء من نصوص الجنة والنار والبعث الحقيقي للأجساد كما تأولوا آيات الصفات، فإذا فتحت باب التأويل على غير هدى، وسوغت تحريف الدلائل القطعية في بابٍ معين، فإنَّ هذا يضرب أصل باب الفهم، ويكسر قاعدة الاستدلال، ويجعل تمسكك بالقطع في بابٍ دون بابٍ لا معنى له، فما معنى أن تشدد في الآيات الواردة في الجنة والنار والبعث وتكفر من ينكرها، وأنت تتأول نفس النصوص القطعية في بابٍ آخر؟

ويقال مثل هذا مع بعض المعاصرين، فإذا هونت من المنهج الذي يتأول النصوص في باب الاعتقاد عن الله بناءً على أصوله العقلية المحدثة، فكيف يستقيم لك الرد على التأويل الحداثي المعاصر الذي يتأول كافة الأحكام والشرائع بناءً على منهج عقلي محدث؟!

فلا معنى لأن تتمسَّك بالقطعية في هذا الباب، وتشدد النكير على من يخالفه إلا بعد أن يستقر عندك وجود فهم قطعي، ودلائل ظاهرة،  وإجماعٍ للأمة، قائم على منهج التسليم لله ورسوله، والاحتكام لخطاب الوحي عند الاختلاف، والخلاف في مسألة خلق القرآن يعبث بهذه المنطلقات كلها.

ولهذا شدد السلف في هذا الباب لأنهم يريدون حفظ الدين كله، بخلاف غيرهم ممن يدرك أهمية حفظ الدين في باب دون بابٍ، فهو يشدد على التحريف في الباب الذي يدرك خطورته، ويستهين بما عداه، أو لا يتفطن للخلل فيه.

BY قناة د.فهد بن صالح العجلان


Share with your friend now:
tgoop.com/fahadalajlan/358

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

For crypto enthusiasts, there was the “gm” app, a self-described “meme app” which only allowed users to greet each other with “gm,” or “good morning,” a common acronym thrown around on Crypto Twitter and Discord. But the gm app was shut down back in September after a hacker reportedly gained access to user data. "Doxxing content is forbidden on Telegram and our moderators routinely remove such content from around the world," said a spokesman for the messaging app, Remi Vaughn. The court said the defendant had also incited people to commit public nuisance, with messages calling on them to take part in rallies and demonstrations including at Hong Kong International Airport, to block roads and to paralyse the public transportation system. Various forms of protest promoted on the messaging platform included general strikes, lunchtime protests and silent sit-ins. Done! Now you’re the proud owner of a Telegram channel. The next step is to set up and customize your channel. With the “Bear Market Screaming Therapy Group,” we’ve now transcended language.
from us


Telegram قناة د.فهد بن صالح العجلان
FROM American